هموم

عماد أحمد هلال

الحوار مع السلطة.. وثائق «العرضحال» في مصر القرن التاسع عشر

2021.03.01

الحوار مع السلطة.. وثائق «العرضحال» في مصر القرن التاسع عشر

أولًا: لمحة تاريخية:

ليس العرضحال مجرد وثيقة يمكن دراستها أو استخلاص المعلومات التاريخية منها؛ بل هو ظاهرة ميَّزت تاريخ مصر الحديث، فقد كان العرضحال هو لغة الحوار الدائم بين المصريين والسلطة الحاكمة خلال القرنين الماضيين، لم يقطعه إلا القليل من حركات التمرد والنادر من الثورات، فلم يكن المصريون يلجؤون إلى العنف أو الثورة إلا إذا يأسوا من جدوى العرضحال. وعلى ذلك فالعرضحال هو أهم وثيقة لدراسة تطور الدولة الحديثة في القرن التاسع عشر، فهو الوسيلة الأولى لتبع مراحل تسرب فكرة الحقوق والواجبات-التي هي أُسُّ فكرة الدولة الحديثة-إلى فئات المجتمع من الفلاحين والحرفيين والتجار؛ ولذلك فإن العرضحال-الذي هو الآن مجرد مصدر تاريخي مجهول-يجب أن يوضع في بؤرة اهتمام المؤرخين كوثيقةٍ وكظاهرةٍ.

والعرضحال هو الورقة التي يقدمها الشاكي يَعْرِض فيها مَظْلمته، ويرفع من خلالها صوته. وقد شاعت هذه التسمية في مصر في القرن التاسع عشر، وتأتي هذه التسمية من خلال دمج كلمتي "عرض" و "حال"، بمعنى أن يعرض صاحب المظلمة حاله ويصور مظلمته. وفي النصف الأول من القرن العشرين شاعت تسمية "الالتماس"، وأخيرًا استقر الأمر على تسميتها "شكوى".

والجذور التاريخية للعرضحال قديمةٌ قِدَم التاريخ، فمنذ العصر الفرعوني كانت هناك الشكاوى تقدم إلى الملك ويتم البت فيها، وليس فينا من يجهل "شكاوى الفلاح الفصيح"، التي ترجع إلى نهاية الألف الثالثة قبل الميلاد والتي تعتبر من أهم أدبيات العصر الفرعوني. وفي العصر الإسلامي وُجد "ديوان المظالم" الذي كان يختص بنظر الشكاوى التي يقدمها الناس ضد رجال الإدارة في دواوين وولايات الدولة الإسلامية. وفي العصر العثماني ضعفت آلية الشكوى بضعف الدولة المركزية؛ مما أدى إلى بحث الناس عن طرقٍ أخرى لرفع الظلم عنهم، أو رضوخهم للأمر الواقع أحيانًا، ولكن الأمر لا يخلو من وجود بعض العرضحالات التي كانت تقدم إلى الولاة، كما شقَّ بعضُ الفلاحين طريقهم إلى الآستانة وقدموا عرضحالاتهم إلى السلطان نفسه الذي كان يصدر فرمانًا برفع الظلم عن مقدمي العرضحال.

أما في القرن التاسع عشر، ومع تدعيم سلطة الدولة المركزية في عصر محمد علي، ومع القضاء على العصبيات التي كانت تلعب دور الوسيط بين الحكومة والشعب، أصبحت الدولة تتصل اتصالًا مباشرًا بالفلاحين، وتتدخل في كل كبيرةٍ وصغيرةٍ في حياتهم، ولم تكن حكومة محمد علي تقبل أن يشاركها أحدٌ في ظلم الفلاح، حتى لو كانوا رجالها أنفسهم، فوضعت اللوائح التي تحدد سلطات رجال الإدارة، وتفرض عليهم الرقابة الصارمة، كما سعت إلى فتح حوارٍ مع الفلاحين والحرفيين متجاوزةً رجال الإدارة من خلال فتح الباب أمامهم للشكوى في حالة خروج هؤلاء عن القانون. وكانت "لائحة زراعة الفلاح وتدبير أحكام السياسية بقصد النجاح" الصادرة سنة 1830 هي أول قانون يحمي الفلاح من سطوة رجال الإدارة، فأعطت الفلاحين حق الشكوى، وأوجبت على رجال الإدارة ضرورة النظر في شكاوى الفلاحين، وبخاصةٍ إذا كان قد صدر أمرٌ عالٍ بالتحقيق في الشكوى، وحتى إذا أكثر الفلاح من الشكوى بلا داعٍ، فلا يجب مُعاقبته على ذلك أو على حد تعبير اللائحة: "إذا كان أحد المشايخ أو الفلاحين قدَّم عرضحالًا إلى الأعتاب الكريمة، وصدر الأمر بأعالي العرضحال خطابا إلى من هو في جهته وتوجه به صاحبه، وسلّمه له وعمل دعوته بوجه الحق، وظهر أن صاحب العرض ليس له حق وأعطى له جواب، ثم وبعد مدة توجه ثانيا وقدم عرضحال آخر يستدعي فيه أن دعوته لم تمَّت، وقصد بذلك تعطيل شغله وعدم دفع الذي عليه وتعطيل أشغال الميري، فما يجب على الذي مثل ذلك؟ فمن حيث أن جناب ولي النعم أفندينا-أدام الله تعالى أيام دولته إلى آخر الدوران-بابه الأعلى ملجأ إلى الفقراء والضعفاء فحاشا أن يرتد أملهم خائبًا، فمن ذلك لا يجوز إلى فاعل ذلك من أنواع التأديبات شيئًا قط، الله سبحانه وتعالى أن يجعل الجميع في ظلاله أمين". فكان هذا الحق هو المفتاح الذي اعتمدنا عليه لتقييم حالة الرفض لدى المصريين بشكل عام والفلاح بشكل خاص، ومدى خضوعه واستسلامه لمظالم رجال الإدارة، ومدى إدراكه لحقوقه وواجباته.

وقد تدعم هذا الحق بصدور "لائحة ديوان المعاونة" في 13 ربيع الأول 1259هـ/ 13 إبريل 1843م التي أشارت إلى أن دعائم الحكومة تقوم على أساس هذا الحوار بين الحكومة والرعية، فقالت في افتتاحيتها: "إن انتظام حال الملك والدين منوط برؤية المصالح الخيرية ودعاوى الرعية على الوجه اللائق في وقتها وزمانها"؛ ولذلك وضعت تلك اللائحة عقوبات للموظفين الذين يهملون النظر في العرضحالات أو يضيعونها فنص البند السادس على أنه "يلزم أن العرضحالات التي ترد يومي يُوضع عليها تاريخ الورود وفي المغرب يصير مطالعة العرضحالات... ويُقرأ بالشورى في اليوم الثاني... وإذا ضاع أحد العرضحالات... فكل من ضيَّع عرضحالًا فلا يصير مجازاته بالجزاء الجاري في بقية الأقلام بل يُحبس في المرة الأولى ثمانية أيام، وفي المرة الثانية يصير تضعيف ذلك، وفي المرة الثالثة ثلاثة أضعاف...".

ثانيًا: أرشيف العرضحال:

وكانت النتيجة مئات الآلاف من الشكاوى التي انهالت على دواوين الدولة ومجالسها القضائية وعلى الباشا نفسه وديوانه الخديوي ومعيته السنية، ومع كثرتها ورغبة الدولة في ضبط حركتها ومراقبتها ألزمت المصالح والمؤسسات المختلفة بتخصيص سجلات خاصة بالعرضحالات، فأصدر الوالي سعيد باشا أمرًا إلى مجلس الأحكام في شهر ذي القعدة 1274هـ/ يونيو 1858م ينص على أن تقوم كل المصالح والدواوين والأقاليم "بتخصيص نمرة مخصوصة بقلم عرضحالات...؛ للزوم حصر صادراته ووارداته بدفاتر مختصة به". ولذلك لا توجد في دار الوثائق القومية مجموعة أرشيفية خاصة بالعرضحالات، فهي مبعثرة في كل الوحدات الأرشيفية تقريبًا، بحيث أصبح حصر عدد العرضحالات التي قدمها المصريون خلال القرن التاسع عشر أمرًا مستحيلًا، وإن كان العدد في تقديري يزيد على المليون عرضحال مسجلة في نحو عشرة آلاف سجل، تعتبر مصدرًا تاريخيًّا لا غنى عنه لكتابة تاريخ مصر في القرن التاسع عشر. فهو من ناحية مصدرٌ تاريخيٌ غير تقليدي؛ لأنه لا يُعبِّر عن وجهة نظر مؤسسةٍ حكوميةٍ، ولا جهةٍ رقابيةٍ، بل يعبر عن وجهة نظر عامة الناس من كل الطوائف والطبقات، والنص المكتوب في العرضحال لا يعبر فقط عن وجهة نظرهم، بل نسمع فيه صوتهم، ونشعر فيه بإحساسهم وخلجات نفوسهم؛ لأنهم هم الذين كتبوه أو على الأقل أملوه على من كتب. حتى إن العرضحالات تحتوي على مفرداتٍ لغويةٍ متنوعةٍ تعطي قاموسًا لغويًا مهمًا يساعد على دراسة تطور اللغة في ذلك العصر؛ وبذلك فهو من جميع الوجوه مصدرٌ صادقٌ وغنيٌ ومباشرٌ.

والعرضحال بدار الوثائق القومية يوجد في إحدى صورتين: الأولى هي العرضحال بحالته الأصلية، وهي "العريضة" المكتوبة على "ورقة التمغة"، وهذه النوعية تحفظ في دار الوثائق في مجموعة محافظ مبعثرة في مجموعاتٍ أرشيفيةٍ مختلفةٍ أهمها ما يوجد في المجموعة الأرشيفية الخاصة بمحافظ ديوان الداخلية التي تحتوي على عرضحالات عديدة، وكل عرضحالٍ عليه شرحٌ من الجهة المقدَّم إليها إلى الجهة صاحبة الاختصاص. وكذلك الحال في مجموعة محافظ مجلس الأحكام.

أما الصورة الثانية للعرضحال فهي الأكثر انتشارًا، وهي تسجيل نص العرضحال أو مضمونه في السجلات الخاصة بالمكاتبات الصادرة والواردة للدواوين والمصالح المختلفة، حيث جرت العادة أنه عندما يتقدم أحد الأشخاص بعرضحال، أن يتم الشرح على أحد جوانب العرضحال لجهة الاختصاص لتقوم بالتحقيق، ويتم تسجيل نص أو مضمون العرضحال، وكذلك نص الشرح الموجه إلى جهة الاختصاص في سجل العرضحالات الصادرة، وعندما يأتي رد جهة الاختصاص الذي يكون عادة في شكل شرح على نفس ورقة العرضحال، يتم تسجيل الموضوع والشرح الصادر والرد الوارد في سجل العرضحالات الواردة. وكانت النتيجة أن أصبحت دار الوثائق تحتفظ بمجموعة ضخمة من سجلات العرضحالات يندر أن نجد لها مثيل في أي مكان في العالم، يزيد عددها على عشرة آلاف سجل مبعثرة في مجموعات أرشيفية مختلفة.

فإذا كان الشاكي من الأقاليم فسيتقدم بمظلمته إلى ديوان المديرية التي يتبعها، وفي هذه الحالة سنجد العرضحال مُسجلًا في أحد سجلات العرضحالات بتلك المديرية. ورغم ضخامة عدد هذه السجلات وأهميتها لدراسة التاريخ الإداري سواء ما يتصل بإدارة الأقاليم، أو العمد والمشايخ؛ إلا أن أحدًا لم يُعرها اهتمامًا، ومنها على سبيل المثال مجموعة سجلات العرضحالات الموجودة في أرشيف مديرية بني سويف، والتي تربو على مئتي سجل أهمها: مجموعة "صادر العرضحالات بمديرية بني سويف" التي تضم 126 سجلًا، ومجموعة "وارد العرضحالات بمديرية بني سويف خارج المدينة" وتضم 41 سجلًا، بالإضافة إلى مجموعاتٍ أخرى أقل عددًا.

أما إذا كان الشاكي من المحافظات-وهي العاصمة والثغور-فسيعرض مظلمته على ديوان المحافظة أو الضبطية التي يتبعها، وتسجل في سجلاتها، وأهمها بالطبع "محافظة مصر" و"محافظة الإسكندرية"، وكذلك "ضبطية مصر"، و"ضبطية الإسكندرية"، والضبطية هي ما يشبه الآن "مديرية الأمن". فأرشيف "محافظة مصر" مثلًا يحتوي على أكثر من مئة سجل للعرضحالات أهمها مجموعة "صادر العرضحالات بمحافظة مصر" التي تضم وحدها 63 سجلًا. وأرشيف "ضبطية مصر" يحتوي على نحو من 150 سجلًا للعرضحالات.

أما إذا لم يجد الشاكي استجابةً من المديرية أو المحافظة أو الضبطية فسوف يلجأ إلى تقديم مظلمةٍ أخرى إلى جهة أعلى، وهي في هذه الحالة المجلس القضائي للإقليم، وهي خمسة مجالس ابتدائية أنشئت في عهد عباس، وزاد عددها في عهد إسماعيل حتى وصلت إلى خمسة عشر مجلسًا، وبالتالي سنجد شكواه مسجلةً في سجلات ذلك المجلس، ومنها على سبيل المثال مجموعة "صادر عرضحالات مجلس بني سويف" التي تضم ثلاثة عشر سجلًا.

وعندما لا يُحرك المجلس المحلي ساكنًا سيلجأ الشاكي إلى هيئة أعلى ليشكو إليها إهمال المديرية والمجلس المحلي، وأهمها "مجلس الأحكام" الذي تحتوي مجموعته الأرشيفية على نحو مئة سجل مخصصة لقيد العرضحالات وما يتصل بها من مكاتبات، وهي مصنفة في مجموعات مختلفة أهمها: مجموعة "قيد العرضحالات الصادرة بمجلس الأحكام" وهي 35 سجلًا، ومجموعة "وارد عرضحالات دواوين وأقاليم" وهي 25 سجلًا. ومن تلك الهيئات التي يمكن أن يلجأ إليها الشاكي "ديوان الكتخدا" والذي تحتوي مجموعته الأرشيفية على نحو ثلاثين سجلًا، أهمها مجموعة "صادر الدواوين والأقاليم عرضحالات" وتشمل اثني عشر سجلًا.

وإذا لم يجد الشاكي مُغيثًا؛ لأنه سَلَك كل السُبُل وطرق كل الأبواب ولم يجد من يحقق في مظلمته، خاصة إذا كانت شكواه من كبير أو أمير، فسوف يضطر إلى طرق آخر الأبواب التي يمكنه أن يلجأ إليها وهو باب الخديو نفسه "الأعتاب السنية" حيث يرفع مظلمته إلى "المعية السنية" ليصدر عليها أمرٌ عالٍ بالتحقيق فيها، وعندئذ يُشمر رجال الإدارة عن سواعدهم، وتستيقظ فيهم الهمة التي كانت نائمة، وعندها يستطيع الشاكي أن يأخذ حقه؛ ومن هنا فإن أرشيف المعية السنية يحتوي على أهم مجموعة عرضحالات بدار الوثائق. وعدد السجلات الخاصة بالعرضحالات في أرشيف المعية السنية يبلغ 123 سجلًا: منها 73 سجلًا باللغة العربية، و50 سجلًا باللغة التركية. وأهم المجموعات العربية: مجموعة "صادر الأوامر العلية بنمر العرضحالات إلى الدواوين والأقاليم وغيرها" وتشمل 17 سجلًا"، ومجموعة "صادر العرضحالات للدواوين والمجالس والمحافظات" وتشمل 26 سجلًا. أما أهم المجموعات التركية فهي مجموعة "صادر إفادات وأوامر العرضحالات دواوين" وتشمل 32 سجلًا. ومع أن أرشيف المعية السنية هو أكثر الأرشيفات تداولًا في أيدي الباحثين في تاريخ القرن التاسع عشر إلا إن المجموعة الخاصة بالعرضحالات فيه أقلها تداولًا بينهم، أو بالأحرى فإن أحدًا منهم لم يفكر في إلقاء نظرة عليها.

جدير بالذكر أن هذا التسلسل لم يكن قاعدةً واجبة الاتباع، فهناك حالاتٌ تبدأ من أعلى السُّلم حيث يختصر الشاكي الطريق ويتقدم بعرضحاله إلى المعية مباشرةً، خاصة وإنه يعلم أن شرح المعية على العرضحال يعطي القضية دفعةً كبيرةً لا يحققها شرحٌ من أية جهةٍ كانت. كما حاول أحدهم تجاوز كل حدود البروتوكول وأراد أن يقدم شكواه شفاها إلى سعيد باشا عندما كان يزور القناطر الخيرية، عن طريق الصياح، "وكان هذا بحالة هَوْلٍ كبير... حتى إن كافة خدمة المعاونة وقتها اجتمعت عليه"، وطبعًا انتبه سعيد باشا له وسأل عن أمره فأجابه مدير القليوبية بأنه سيحقق في شكواه بنفسه. والأكثر من هذا أن البعض كان يسلك طريق التزوير وصولًا إلى سرعة النظر في شكواه، فقد كتب أحدهم عرضحالًا وكتب شرحًا عليه على لسان سعيد باشا وزوَّر ختمه، وقد تحرى مجلس الأحكام الأمر، واكتشف أن الختم مزورٌ.

وليس ثمة شك في أن هذه المجموعات الأرشيفية بكل مستوياتها تقدم صورةً واضحةً عن حجم الرفض والاحتجاج الذي أظهره المصريون في ظل الدولة المركزية في القرن التاسع عشر، وكيف حاصر الفلاحُ المصري البسيط الدولةَ بوسائلها وقوانينها، وأرغمها على أن تعمل ألف حسابٍ لوجوده، فقد ارتفع صوته بكلمة "لا" أكثر من مليون مرة مسجلة وموثقة في مجموعات أرشيفية مختلفة. كما تُقدم هذه المجموعات مادة علمية مباشرة وصادقة تخدم جميع المجالات، ليس القطاع الريفي فقط الذي سنعرض له الآن، ولكن أيضًا جميع القطاعات والمجالات بلا استثناء، فهناك عرضحالات مقدمة من التجار والحرفيين والموظفين، من المدنيين والعسكريين، من الرجال والنساء، من المسلمين والأقباط واليهود والأجانب، وحتى من العرضحالجية أنفسهم. ولا شك أن دراسة كل هذا يحتاج إلى مجهودات فريق من الباحثين لسنين عديدة. ولعل هذه الدراسة تكون نقطة انطلاق في هذا المجال.

ثالثًا: العرضحالجية:

"العرضحالجي" هو من يبيع "ورق التمغة" الذي يُكتب عليه العرضحال، وغالبًا هو الذي يكتب نص الشكوى لمن يشتري الورق، ولم يكن العرضحالجية موظفين حكوميين، بل كانوا ينتظمون في طائفة حرفية لها شيخ يشرف عليهم، ويتمركز العرضحالجية عادة أمام الدواوين والمصالح الحكومية التي لها سلطة النظر في الشكاوى، فتذكر إحدى الوثائق التي ترجع لسنة 1864م عن أحد العرضحالجية أنه "مقيم أمام الضبطية-مديرية الأمن-لكتابة العرضحالات"، كما تشير الوثيقة إلى أن معه صندوق يضع فيه أوراق التمغة وأدوات الكتابة.

ويبدو أن هذه المهنة كانت مُربحةً، خاصةً مع إطلاق الحكومة العَنَان للأهالي للشكوى؛ لدرجة أن دَخْلَ العرضحالجي كان مَحَط أنظار رجال الإدارة، وبالتالي فلا نعدم وجود عرضحالات قدمها عرضحالجية بخصوص مظالم تعرضوا لها، فقد قدم أحد العرضحالجية-المقيم بالمحمودية أمام مصلحة حوض المحمودية-عرضحالًا إلى مجلس الأحكام يشكو من أن "باشكاتب الحوض أراد يُقاسمه في كل ما تحصل من كتابته العرضحالات، ولما امتنع في ذلك فاتحد مع القاضي وحرر إعلامًا بالافتراء بطرده من البلدة، والقاضي حلف عليه بالطلاق ثلاثًا بأنه لم يقيم في البر المذكور وتسببوا في قطع معاشه".

ومع ذلك فليس شرطًا أن يكون العرضحالجي هو كاتب العرضحال، فإذا كان الشاكي يستطيع القراءة والكتابة فيمكنه أن يكتب لنفسه، كما كان بعض الشاكين يذهبون إلى أقارب لهم يعرفون الكتابة ليكتبون لهم، ونجد مثلًا أحد الفلاحين من القليوبية يشتري ورقة العرضحال ويذهب إلى أحد "بلدياته" من المجاورين بالأزهر ليكتبه له.

وفي البداية كان الشاكي يقدم شكواه على ورقة عادية، ولكن كثرة الشكاوى أربكت الحكومة، فعملت على تنظيم الشكاوى والاستفادة منها في الوقت نفسه، فألزمت الشاكين بكتابة شكاواهم على "ورق التمغة" وإلا لن يُنظر فيها. وبذلك أصبح "ورق التمغة" من مصادر الدخل الهامة للدولة. وكانت الدولة تعطي عملية بيع ورق التمغة التزامًا لأحد الأشخاص، ليقوم ببيعه للعرضحالجية في إقليم معين، لمدةٍ زمنيةٍ معينةٍ، مقابل حصوله عمولةٍ محددةٍ سلفًا، وكان إعطاء الالتزام يتم عن طريق "مناقصة" على العمولة، وإن كانت الوثائق تسميها "مزاد"، حيث تشير إحدى مضابط مجلس الأحكام إلى أن متعهد بيع ورق التمغة سنة 1266هـ/ 1850م قد التزم بها مقابل عمولة قرشين عن كل مئة قرش، وأنه عند انتهاء مدته تم عمل "المزاد" الذي رسا على شخصٍ آخر نزل بالعمولة إلى 44 فضة-القرش يساوي 40 فضة-عن كل مئة قرشٍ. كما نفهم من المضبطة أنه في حوالي عام 1270هـ/1854م تم إلغاء بيع ورق التمغة بالمزاد، وتم ترتيب عمولة ثابتة مقدارها ثلاثة قروش عن كل مئة قرش.

ومن حيث التصميم نجد أن ورقة التمغة التي يكتب عليها العرضحال كان طولها 30سم، وعرضها 25سم، مطبوع في أعلاها من اليمين كلمة عرضحال، وفي وسطها ختم عليه تاريخ طباعة الورقة، وفي أعلاها من اليسار مطبوع سعر الورقة، وهو ثلاثون فضة-أي ثلاثة أرباع القرش-وذلك في عام 1261هـ/ 1845م، ولكن زيادة عدد العرضحالات التي كان يقدمها المصريون جعلت الحكومة ترفع سعر ورق التمغة حتى أصبح سعر الورقة تسعين فضة سنة 1279هـ/ 1862م، ثم وصل في عام 1295هـ/ 1878م إلى ثلاثة قروش.

رابعًا: ثقافة الرفض:

كَثُرَ الحديث حول مسألة خضوع الفلاح المصري وسلبيته، وأجمع الرحَّالة وكثير من المؤرخين على أن خضوع الفلاح واستسلامه يُعد إحدى الظواهر الاجتماعية الأساسية في مصر، بل إن جون باورنج John Bowring يقول عنه: "إنه يفضل الموت على أن يثور ويتمرد"، وقد ناقش جابرييل بير Gabriel Baer هذه المسألة، واستعرض بعض الثورات والتمردات التي قام بها الفلاحون على مدار القرن التاسع عشر، ولكنه خلص في النهاية إلى أن مسألة خضوع الفلاح وتقبله "للقسمة والنصيب" كانت متأصلة فيه. كما ساعد على تدعيم فكرة سلبية الفلاح أن أول من روجوا لها هم من المدرسة الكولونيالية التي أن تُظهر المصريين بمظهر العجز وعدم القدرة على تطوير الذات، ويأتي كرومر على رأس هؤلاء. ولكن أحدًا ممن بحث هذه المسألة لم يبحث عن إجابة محتملة لمسألة خضوع الفلاح وثورته في "العرضحال"، فلا شك أن وجود أكثر من مليون عرضحال في دار الوثائق أمرٌ له دلالته!! فإذا وضعت إلى جانب دلائل أخرى كالأمثال الشعبية والأغاني التي تحضُّ على الرفض، والتسحب ورفض دفع الضرائب، والأنباء المتناثرة في الوثائق عن تمرُّداتٍ وثوراتٍ متتاليةٍ قام بها الفلاحون؛ لدلَّت دلالةً واضحةً على أن الفلاح كان يرفض، وأن الرفض كان مُكونًا أساسيًا من ثقافته.

وعند دراسة نماذج من العرضحالات التي قُدِّمت خلال سنوات معينة نجد أنه بعد أن تم تنظيم آلية الشكوى أقبل المصريون على الشكوى، فقدموا مثلًا 1705 عرضحالات إلى مجلس الأحكام-أعلى هيئة قضائية في البلاد-فقط خلال الفترة من 9 سبتمبر 1853م إلى 11 سبتمبر 1854م، بمتوسط 4.75 عرضحال يوميًا، وكان ثلاثة أرباع الشاكين من الفلاحين، بينما لم يمثل التجار والحرفيون أكثر من عشرة بالمئة من الشاكين. وهكذا حاصر الفلاح الحكومة بوسائلها، فعمدت إلى تقييد آلية تقديم العرضحالات ورفعت سعر ورقة التمغة؛ فتراجع عدد العرضحالات بشكل تدريجي، فوصل إلى 1675 عرضحال قُدمت إلى مجلس الأحكام وحده خلال الفترة من 24 أغسطس 1863م إلى 4 سبتمبر 1864م، بمعدل 4.65 عرضحال يوميًّا، وهو يقل قليلا عما كان عليه الحال قبل عشر سنوات، ثم نجد أن العدد قد تراجع بمعدلٍ كبيرٍ جدًّا فوصل عدد العرضحالات التي قدمها المصريون خلال الفترة من أول يناير 1877 إلى آخر ديسمبر من السنة نفسها 168 عرضحالٍ فقط .

والقاعدة العامة هي تراجع عدد العرضحالات بشكلٍ مستمر، ولا يكسر هذه القاعدة إلا مدينة القاهرة، التي نجد أن عدد العرضحالات يتزايد باستمرار، وليس معنى هذا أن المظالم قد خفت عن كاهل الفلاحين، ولكنه يعني أنه في الوقت الذي كان التجار والحرفيين قد بدأوا يدركون أهمية العرضحال، نجد أن الفلاحين قد كفروا بآلية العرضحال وجدواه، وبدأوا يبحثون عن البدائل التي كانت الثورة أهمها، فامتلأت فترة الستينيات والسبعينيات بكثير من حركات التمرد في الريف المصري، كان عددها وعنفها يزداد بالتزامن مع انخفاض عدد العرضحالات المقدمة من الفلاحين، حتى نصل إلى مطلع الثمانينيات لتشتعل مصر كلها بأحد الثورة العربية.

- سليم حسن: مصر القديمة، جـ17، الأدب المصري القديم، طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 2000، ص54- 70.

- حول شروط قاضي المظالم واختصاصاته انظر الباب السابع الخاص "بالولاية على المظالم" من كتاب أبي الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي: الأحكام السلطانية والولايات الدينية، تحقيق: محمد بدر الدين النعساني الحلبي، القاهرة، 1909م.

- محافظ الأبحاث، محفظة رقم 129، ملف ملخص الفرمانات من 1006هـ إلى 1257هـ، فرمان من السلطان عبد الحميد الأول إلى والي مصر في أواسط ذي القعدة 1191هـ، بخصوص رفع الظلم عن أهالي زفتى الذين يشكون من تعدي كاشف الغربية وإحداثه البدع والمظالم.

- انظر تفاصيل ذلك في لائحة زراعة الفلاح وتدبير أحكام السياسة بقصد النجاح، طبعت بمطبعة صاحب السعادة (بولاق) في سلخ رجب الفرد 1245هـ/ 25 يناير 1830م، ص.ص34- 60.

- لائحة ديوان المعاونة، طبعت بمطبعة بولاق في 13 ربيع الأول 1259هـ/ 13 إبريل 1843م، ص2.

- المصدر نفسه، ص11- 12.

- مجلس الأحكام، سجل رقم: س7/9/4، دفتر صادر العرضحالات دواوين وأقاليم، ص1، مكاتبة رقم 1، من مجلس الأحكام إلى الداخلية، في 10 ذي القعدة 1274هـ/ 23 يونيو 1858م.

- انظر على سبيل المثال: محافظ ديوان الداخلية، محفظة رقم 27 حيث تمتلئ بالعرضحالات المشروح عليها من جهات مختلفة، كما توجد حوالي11 محفظة تحتوي على أوراق قلم عرضحالات.

- انظر نماذج من هذا النوع في: محافظ مجلس الأحكام، محفظة رقم 1، ومحفظة رقم 2.

- انظر: أرشيف مديرية بني سويف، مجموعة "صادر العرضحالات بمديرية بني سويف، وهي تأخذ أرقام قديمة غير مرتبة، تبدأ من رقم 251 حتى رقم 1922 على غير ترتيب، ويصعب ذكرها تفصيليًا هنا، وهي تغطي الفترة من 1271هـ/ 1854م إلى 1297هـ/ 1880م.

- وهذه المجموعة تأخذ أرقام: لـ20/16/1- 41، وتغطي الفترة من 1271هـ/ 1854م إلى 1297هـ/ 1880م.

- منها على سبيل المثال: مجموعة "صادر عرضحالات مديرية بني سويف للمالية" وهي 4 سجلات؛ ومنها "صادر عرضحالات إدارة بني سويف" وهي ستة سجلات.

- محافظة مصر، السجلات أرقام: ل1/6/1- 63، صادر العرضحالات بمحافظة مصر، وتغطي الفترة من 1276هـ/ 1859م إلى 1296هـ/ 1879م.

- ضبطية مصر، السجلات أرقام: ل2/11/1- 54، وتغطي الفترة من 1275هـ/1858م إلى 1288هـ/ 1871م. وضبطية مصر، السجلات أرقام: لـ2ـ/12/1- 17، وتغطي الفترة من 1287هـ/ 1870 إلى 1297هـ/ 1880.

- وهي أيضا تأخذ أرقامًا قديمة داخل أرشيف مديرية بني سويف، وتغطي الفترة من 1279هـ/1862م إلى 1296هـ/ 1879م.

- مجلس الأحكام، السجلات أرقام: س7/9/1- 35، وتغطي الفترة 1269هـ/1853م إلى 1304هـ/ 1886م.

- مجلس الأحكام، السجلات أرقام: س7/15/1- 25، وتغطي الفترة من 1274هـ/ 1858م إلى 1300هـ/ 1883م.

- ديوان الكتخدا، السجلات أرقام: س4/8/1- 12. وانظر أيضا مجموعة "صادر عرضحالات" س4/9/1- 6؛ وكذلك مجموعة "وارد عرضحالات" س4/18/1- 3.

- المعية السنية، السجلات أرقام: س1/7/1- 17، وتغطي الفترة من غرة صفر 1250هـ/ 9 يونيو 1834م إلى 21 جمادى الآخرة 1296هـ/ 12 يونيو 1879م.

- المعية السنية، السجلات أرقام: س1/9/1- 26، وتغطي الفترة من 15 شعبان 1276هـ/ 8 مارس 1860م إلى 20 ربيع الأول 1304هـ/ 17 ديسمبر 1886م.

- المعية السنية، السجلات أرقام: س1/46/1- 32، وتغطي الفترة من 17 جمادى الآخرة 1252هـ/ 29 سبتمبر 1836 إلى 7 جمادى الآخرة 1284هـ/ 6 أكتوبر 1867م.

- مجلس الأحكام، س7/10/20، ص193، مضبطة 747، في 7 ذي القعدة 1280هـ/ 14 إبريل 1864م.

- مجلس الأحكام، س7/10/22، ص7، مضبطة رقم 774، في 11 ذي القعدة 1280هـ/ 18 إبريل 1864م.

- مجلس الأحكام، س7/10/19، ص78، مضبطة 401، في 29 رجب 1280هـ/ 9 يناير 1864م.

- مجلس الأحكام، س7/9/1، ص57، مكاتبة رقم 26 من مجلس الأحكام إلى ناظر الحوض بالمحمودية، في 26 ربيع الآخر 1270هـ/ 26 يناير 1854م.

- مجلس الأحكام، س7/10/5، ص59، مضبطة 811، في 14 شعبان 1275هـ/ 19 مارس 1859م.

- مجلس الأحكام، س7/29/3، قيد القرارات واللوائح الصادرة بمجلس الأحكام، ص68، مضبطة 263، في 8 شعبان 1271هـ/ 26 إبريل 1854م.

- محافظ مجلس الأحكام، محفظة رقم 1، وثيقة رقم 26، وهي عبارة عن عرضحال مقدم من مشايخ وعمد قرية شبين القناطر إلى عباس باشا بتاريخ 25 رجب 1265هـ/ 16 يونيو 1849م وفي أعلاه شرح بختم عباس باشا إلى مجلس الأحكام يكلفه بنظر الشكوى بتاريخ 20 رمضان 1265هـ/ 9 أغسطس 1849م.

- محافظ الداخلية، محفظة رقم 27، عرضحال مقدم من محمد بسيوني بتاريخ 18 رمضان 1295هـ/ 15 سبتمبر 1878م.

- انظر الفصل الذي يحمل عنوان" خضوع الفلاح وثورته" في كتاب جابرييل بير: المرجع السابق، ص217- 233.

- مجلس الأحكام، س7/7/1، دفتر صادر تحريرات عربي، وهو في حقيقته صادر عرضحالات وليس تحريرات.