ثقافات
محمد عبد النبيثِمار من بساتين الجوع
2022.01.01
ثِمار من بساتين الجوع
رسمَ الإنسان الأوّل طعامه منذ أن عرف الصيد والألوان وجدران الكهوف، رسم رحلة الحصول على هذا الطعام الحي ومخاطرها الجسيمة، لكنَّ الشَبح المهدد والأكثر إفزاعًا من الدواب البرية لم يجد سبيلًا لرسمه؛ الجوع، رُبمَّا لأنه مرادف العَدم والفراغ. لكنه مع الوقت وجد سبيله للتَعبير بالكلمة ثم عبر الفن الحديث بتصوير الإنسان الجائع.
مِن بين أول ما يتبادر للذهن في هذا لوحة الفنان المصري الكبير عبد الهادي الجزار (1925-1966)، والتي تختلف المصادر حول عنوانها، فمرة هي لوحة الجوع، ومرَّة الوجبة، أو مسرح الحياة، أو الكورس الشعبي، ولعلها العمل الفني الوحيد، في تاريخ الفن التشكيلي المصري، الذي ألقى بمبدعه في السجن. لم يُسجن وحده، بل مع أستاذه الفنان حسين يوسف أمين، بتهمة العَيب في الذات المَلكية، حين ظهرت اللوحة للمرة الأولى في المعرض الدولي للفنون سنة 1949، فأثارت استياء بعض السياسين والمعلقين، وتذهب بعض الروايات إلى أنه أهداها رمزيًا إلى الملك فاروق بعبارة: (هؤلاء هم رعاياك يا مولاي!). ولم يُفرَج عن الجزَّار إلا بعد تدخل بعض الفنانين المرموقين آنذاك مثل محمود سعيد ومحمد ناجي.
تصوّر لوحته مجموعة مِن النساء المختلفات مِن حيث المظهر، ففيهن العجوز المستندة على عُكاز وفيهن المرتدية البُرقع والملاءة ومعها طفلتها الصغيرة، وإحداهن عارية تمامًا تخفي عورتها بكفيها وتبدو كأنها جارية معروضة في سوق النخاسين، وأخريات طويلات الشَعر دميمات أقرب إلى مجذوبات ودوريشات، ما يعكس أبرز سِمات الجزَّار المعهودة من الحس الشَعبي الصوفي شديد المصرية الذي أصبحَ علامة على فنه. إنهن واقفات في طابور مستوٍ جنبًا إلى جنب، وأمامهن أطباق وإبريق مِن الفخَّار، كأنهن في انتظار الوَجبة أو الصَدقة أو الطعام.
ليس غريبًا أن الجزار درس الطبّ لفترة، قبل أن يهجره ويتفرّغ للفن، واطلع بلا شك على الحالة الصحية المتدهورة لغالبية الشعب المصري خلال أربعينيات القرن العشرين، والتي شهدت ذورتها في تفشي وباء الكوليرا في أسوان وبعض مدن الصعيد، سنة 1944، وشهدت الفترة نفسها نقصًا حادًا في الغذاء نظرًا إلى مضاعفة حصص الجنود البريطانيين من المؤونة خلال خوضهم الحرب العالمية الثانية، واستخدمت الحكومة القوة العسكرية لفرض إجراءات العَزل الصارمة لحصر الوباء في إطار الصعيد وأغلقت طرق السفر وشهدت تلك المناطق مواجهات مباشرة بين الأهالي وقوات الحكومة.
نستطيع أن نتخيّل إذَن مِن أين أتى طابور جائعات عبد الهادي الجزَّار، غير أن الفن الذي يثبت اللحظة ويفضح تناقضاتها ويضعها في أيقونات تتجاوز الزمن والمكان يبقى شاهدًا ونذيرًا. لا يزال طابور الجائعات ماثلًا أمامَ أعيننا، سواء في لوحة الجزَّار أو في نشرات الأخبار، ولم تزل الآنية الفارغة موضوعة أمامهم في اتهام صامت لهذا الواقع وأنظمته السياسية.
في جزء من مذكراته بعنوان الجَوع، يعرض الشاعر الكبير بيرم التونسي تجربته مع هذا الوحش، خلال عَيشه شِبه شريد في ليون بمنفاه الفرنسي، بعد أن تباعدَ وصول الشيكات من الصحيفة التي يكتب لها في القاهرة، حتى صار الشيك الأسبوعي يصل مرة كل شهر تقريبًا، كتب "وقد تناولتُ الطعام في هذا الأسبوع مرتين أو ثلاثًا. وقبل الليلة التي أدوّن فيها هذه الكلمات رقدتُ بلا عشاء وفي مِثل تلك الحال يشعر الإنسان أن النوم يغني عن الطعام بعض الغَناء. فبقيت في الفراش أنظر إلى السماء المكفهرة ولا أعرف إن كان الوقت ضُحى أو مساء"(1)
ثم يشم روائح تسييح الزبدة وتحمير قطع البفتيك تنبعث إليه من شقق الجيران فيعرف أن النهار انتصف وحانت حصة الغداء، فَيخرج للتسكّع علّه يلتقي بعض طلاب العلم الشرقيين فيقرضونه أو يدعونه إلى شيء، أحدهم يدير وجهه منه، ويقابل آخرين فيسري بعض الدفء إلى يده من مصافحتهم ولا يرد بكلمة غير رد التحية. وفي الرابعة تضاء المصابيح وهو يواصل تسكعه: "وما هي التسلية التي يجدها مِن يجوع ثلاثة أيام إلى أن تحين ساعة النوم. كان منظر (المرقاز) [السُجق] والأجبان والخبز في الحوانيت أجمل وأشهى مِن منظر المجوهرات والفِراء والمنسوجات الفاخرة. لقد كنت أجد نفسي واقفًا أمام واجهة الحلواني أتفرج على الفطائر المنقوشة في ذهول ثم أنتبه وأحسب أن الناس تراني وتعلم حقيقة أمري فأنصرف خجلًا".
ثم يعمد إلى تحليل المراحل المختلفة للجوع: "للجوع ثلاثة أدوار:
الأول يشتهي فيه الجائع كل شيء حتَّى الحشائش وأوراق الشجر.
والثاني مغصٌ والتواء في الأمعاء.
والثالث غيبوبة وأحلام وهذيان".
ثم يوحي له الهذيان بأنَّ حشوة الفراش الطرية قد تصلح غذاء، أو أن يبيع بطّانيته، لكن الوقت تأخر، فينبش كل ركن في غرفته ويرفع الوسائد علَّه يعثر على كسرة خبز، وبحركة عنيفة يقلب الكنبة فيلمح تحتها بصلة، ولأنه لا يملك ما يشوي عليه البصلة يشعل النار في قاموس عربي فرنسي وديوان أبي العتاهية وأيضًا (الأدهى والأمر) عدة خطابات من الأصدقاء والأقارب، بينها خطابات مِن سيد درويش وعباس العقاد. ورغم ذلك وبعد أن صعدَ اللهب من الكانون المرتجَل، اكتشف أنَّ البصلة قد سقطعت منذ أن بدأ اشتعال النار ولم ينضج منها إلا غلافها الخارجي، لكن على الأقل تدفأت الغرفة وسوف يساعده هذا على النوم من جديد.
هنا عينة صغيرة لقرصة الجوع الكافر التي طالت ولم تزل تطول ملايين الناس، أغلبهم لا تتوفّر لهم فرصة تسجيل تجاربهم، سواء كانوا سجناء أو في ظروف تشرد ومجاعة وفقر. وقد يقضي بعضهم نحبه جوعًا، وخاصة النساء والأطفال، ولا تتبقى منهم إلَّا أرقام فقط في السجلات والتقارير، أرقام عارية من أية أحاسيس وخبرات حية وأفكار تفترس الجائع بنفس القسوة.
حكاية بيرم مع بصلته وأيام الجوع والتسكّع قريبة للغاية مِن أجواء رواية النرويجي كنوت هامسون، صاحب نوبل 1920، بعنوان "جوع". هامسون الذي عمل في صباه لدى إسكافي، وادخر طويلاً لكي يطبع لنفسه قصيدة طويلة وقصة قصيرة، هو ابن الفلاحين البسطاء، الذي اشتغلَ حمالاً ومعلمًا وفي تعبيد الطرق وملاحِظ مساحة وعاملاً زراعيًا ومُحصلاً وصحفيًّا بالقطعة، وحين سافر إلى أمريكا اشتغلَ في أقسى الأعمال كذلك في سهول داكوتا أو شوارع شيكاغو. لا يَخفى اعتماده، في روايته هذه، على فترةٍ من شبابه قاسى فيها حرمانًا وفقرًا هائلين: "حدث ذلك خلال الأيام التي كنتُ أهيم فيها وأنا أتضوّر جوعًا في كريستيانا [الاسم القديم لمدينة أوسلو]..."(2)
إنها حكاية كاتب شاب مُعدَم، يسكن غرفة على السطح، ويرتزق بكتابة مقالات هنا وهناك إذا تسنى له ذلك، ويرهن تباعًا جميع ممتلكاته حتَّى لم يبق معه مشط ولا كتاب يقرأه ، بل رهنَ صداره الصوفي الذي يقيه البرد والقلم الرصاص الذي يكتب به مقالاته، ويعاني البرد والجوع والوحشة ويلعن العالَم ويسائل الرب لمَ اختاره هو من بين جميع الناس ليعيش هذا العذاب. نتتبعه في جولات التسكع والتشرد ونرى من يلتقي بهم، وبعضهم أشد منه بؤسًا فيرأف هو بهم ويعطيهم ولو رهن شيئًا آخر. وكيف يحلم بروايته الفريدة التي ستغير مجرى حياته وكيف يقع في غرام إحدى السيدات بالرغم مِن كل ما يقاسيه، وصولاً إلى قراره بالرحيل بعيدًا عن المدينة التي أنهكته وجوَّعته، كَعامِل على متن سفينة.
بأثر رجعي نالَ هامسون الاعتراف كأحد أوائل أقطاب تيار الوعي في الكتابة الأدبية، وبتأثيره العميق والواضح على بعض أهم وأشهر كتَّاب القرن العشرين في الغرب. لا تقدم روايته هذه الجوعَ بوصفه قضية إنسانية عامة، بل ترسم صورة للجوع الشخصي؛ ذلك الجوع الخاص المنطوي على نفسه في خجل وكبرياء، ويشتعل في أحشاء الفنان وقودًا لإلهامه ونضاله في مواجهة الحياة، راصدًا ما يطرأ على جسده من تغيرات بسبب الحرمان جنبًا إلى جنب ما يعتري روحه من تلوثٍ ولوثات.
للروائي المصري الراحل محمد البساطي رواية مُهمة تشترك في عنوانها وموضوعها مع رواية هامسون، لكن إذا كان جوع هامسون ألمًا جوانيًا شخصيًّا وله سَمت فني نبيل، فإن جوع البساطي عَلني وجماعي، ليس فقط لأنّ أبطاله أسرة ريفية فقيرة مِن زوجين وولدين، بل لأن هذه الأسرة نموذج معبر عن آلاف وربما ملايين غيرهم، في مصر وفي دول أخرى كثيرة، أصبح جوعهم اليومي أليفًا وداجنًا مثل ضيف مُقيم؛ جوع مُجرد من الفن والنبل الذي قد يضفيه عليه كاتب أو فنّان، بل مبتذل ووضيع ومخزٍ، يكاد يكون فضيحة مرئية لا سبيل لمداراتها شأن الرقع في ثوب الفقير.
لا يجد سكينة وزغلول وولداهما الخبز الحاف ليأكلوه، هكذا بمنتهى البساطة، ومَهمة تدبير الخبز ولو بلا غموس تكاد تستحوذ على وعي سكينة تمامًا، مع فترات البطالة المتواصلة لزوجها المتسكع بلا هدف والميال للثرثرة مع بعض الطلبة على المقهى أو مساعدة الناس في الأفراح والمآتِم. ثمة بيت كبير غير بعيد من بيتهم، بيت عائلة موسرة لها أبناء وبنات يعيشون في الحضر، بيت له أكثر من طابق وقطعة أرض خلاء حوله كأنما تصد عن أهله تطفل الفقراء المصطفين في بيوتهم غير بعيد، وهو ما تفعله سكينة بالفعل كلما وجدت باب البيت الكبير مفتوحًا، عسى أن يُنعموا عليها بشيء أو يطلبوا منها خدمة، لكنها لا تلقى غير الصَد، ولا نصيب لها هي وولدها من البيت الكبير إلَّا النبش في مخلفاته.
في أحد أكثر مشاهد العمل قوة ودلالة يراقب سكينة وزغلول طقس (سفر الخزين)، وهو اليوم الذي يرسل فيه أهل الدار لأحد أولادهم المقيمين في المدينة خزين بيوتهم من خيرات الريف، وهي (فرجة) لا يجب أن تفوت الفقيرَين، إذ تتوقف سكينة عمَّا تفعل فورًا، وتنادي بسرعة على زوجها: "زغلول، الخزين يا زغلول"، تمامًا كما قد ينادي بعضنا بعضًا عند بداية بث برنامج تليفزيوني مهم أو مباراة حاسمة، وزغلول يأتي مهرولًا، ويقف مائلاً ليرى عربات النصف نقل الثلاث مصطفة أمام البيت الكبير، ويسحب رغيفين هما كل ما في الدار ليأكل وقد انفتحت نفسه، وتتساهل معه سكينة على غير عادتها، بل تدله على قطعة مخلل خيار مركونة على جنب ليتناولها مع الخبز، فيسرع ليأخذها ويجد معها فتات جُبن جاف فيأخذها أيضًا. يجلسان ويأكلان بأعينهما أجولة الحبوب وقفص البيض الملفوف في القش، وأقفاص الطيور وصفائح الجبن والعسل وقدور السمن والزبد، بينما يدور بينهما حوار حول أدق تفاصيل المكونات والمحتويات، وكيف يختلف ما يُرسَل للولد عمّا يرسل للبنتين. تعتريهما نشوة غلَّابة خلال المشاهدة، تقودهما تدريجيًا للتلامس والمداعبة، إذ يقول لها كلمة حلوة فتسقط رأسها على كتفه ويمد يده داخل جلبابها، وتتسلل يدها تحت جلبابه، وتمتدح فحولته بالإشارة إلى الخزين: (قال سِمّان قال، ييجوا يشوفوا)(3)، وسرعان ما يتساندان ويدخلان البيت.
مدهش تصوير هذا المشهد لحالة الشبع الوهمي أو استثارة الشهية بمجرد المشاهَدة، وضعٌ لا يختلف كثيرًا عن آلاف المتحلقين حول الوجبات الفقيرة والأرغفة الحزينة والغموس المُمل، يزدردون وأعينهم مُعلَّقة بشاشات ملونة تبث صورًا لكل ما لذَّ وطاب، في مسلسلات وبرامج وإعلانات، من مطعم ومَشرب وملبس، وصور لنجومٍ وعارضين مِن رجال نماذج للقوة والوسامة ونساء يتهادين مثل الحوريات، وأماكن سكنى ذات مساحات خضراء فسيحة يكاد يهب نسيمها العليل من خلف الشاشات على المحبوسين في عُلب الإسمنت والطوب الأحمر. بالمشاهدة فقط، وباستمرار المشاهدة لما لا نهاية، يتلهون عن حرمانهم وجوعهم، ويتصبرون عليه حتّى إن أنكروا وجوهًا تشبههم وهي تظهر خَطْفًا في الإعلانات التي تستدر التبرعات وتحض على إطعام المسكين.
في قصة فنان جُوع، لِفرانز كافكا (1883-1924)، شكل آخر للجوع قد يُذكّرنا في جانب منه بالصَوم كعبادة ووسيلة للارتقاء الروحي، غير أنه هنا ليس خالص النية بل مشوب بارتباكات الفنان الذي قد يضحي حتى بجسده ليحظى بإعجاب الآخرين وتقديرهم لقدرات يرونها خارقة ويعرف هو أنها أقرب إلى عاهة أو إعاقة.
يحكي الرواي العليم من البداية كيف انحسرت أضواء المجد عن هذا الفن القديم، فن الجوع، إذ يوضع فنان الجوع في قفص ويُترك هناك مع القش لأربعين يومًا ليشاهده المتفرجون ويرون كيف يواصل العيش بلا طعام، مع وجود بعض المراقبين الدائمين الذين كانوا يثيرون غيظَ الفنان لتراخيهم في مراقبته، بحيث يمكنه إذا شاء أن يختلس لقمة بسرعة، لكنه كان يحترم فنه ويستسخف فكرة أن يقطع صومه، وليثبت لهم إخلاصه كان يغني إذا ابتعد المراقبون في ركن ليلعبوا الورق فيتعجبون كيف له أن يغني وهو يأكل.
إذا كان الجوع هو عَرضه الأساسي فعروضه الجانبية المصاحِبة تُرجح كفّة الفَن على كفّة التضحية بمعناها الروحي والديني، فهو يغني ويحكي لبعض زواره حكايات ويسمع منهم حكاياتهم ويمد مِن بين القضبان يده العَظمية ليلمسوها. إنه ليس استشهاديًا يريد أن يموت في لحظة واحدة ويُحدث دويًا ويثبت صورته في صفوف أصحاب القضايا السامية، بل هو فنان استعراضي مِن نوعية ما، ولعل جوعه الحقيقي ليس إلى الطعام بقدر ما هو إلى التواصل، عبر هذه اللعبة، مع الجمهور والناس. غير أن هدف التواصل يُحبط باستمرار، بسبب التشكيك فيه وإساءة فهمه، حتَّى في أوج مجده وقبل انحسار الضوء عنه، يظل محاصَرًا بالإهمال والريبة وإساءة الفهم إلى أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، كومة عظام تتنفس تحت القش النتن وقد نسيه الجميع. قبل موته ينطق بكلمة أخيرة، حيث يُسر للمشرف على العرض بتناقضه الكبير وتمزقه بين أن رغبته الدائمة في أن ينال إعجابهم وبين إدركه لأن جوعه ليس بطولة واختيارًا بقدر ما كان قدرًا مفروضًا عليه: "لأنني لم أعثر على الطعام الذي أشتهيه، لو أني كنت عثرت عليه، صدقني، لما أحدثت ضجّة، ولأكلت منه حتَّى أشبع مثلك ومثل الباقين".(*)
لا تنحصر مأساة فنان الجوع في انفضاض الناس عن فنه، ولا في رفضهم أن يتركوه يواصل الجوع لما لا نهاية كما يشتهي وكما يستطيع، لكيلا يفسد فكرة العَرض وبهجة الختام، لكنَّ مأساته أيضًا في أنه لم يختر فنه، بل وجدَ نفسه مضطرًا إليه لعَدم عثوره على طعامٍ يشتهيه. كأنه برفضه الطعام ينبذ كل ذلك العَرْض الإنساني المبتذل والمتواصل خارج قفصه، ويصنع من رفضه الصلبي عرضه الخاص، عرضًا لا يثير اهتمامًا حتى ولو قدم جسده قربانًا له. تبرز المفارقة مع نهاية القصة حيث سرعان ما يُدفَن وسط قشه العفن، وبعد أيام يُملأ قفصه بنمرٍ فتي عفي يسحر ألباب المتفرجين بشهيته للطعام والحياة والحرية التي اكتنزها في جسده وإن كان أسيرًا. هذا ما يحتاج رواد السيرك رؤيته، القبول بأي غذاء والرغبة الإيجابية في الحياة ولو في قفص، التسامح مع الجانب الحيواني فيهم ومع الرضا والخنوع لجميع الأقفاص كذلك. أمَّا القديسون والشهداء وصائمو الدهر فلن ينالوا إلَّا نظرة عابرة، شفقة أو رهبة، وربما التشكيك في مقدار إخلاصهم وحقيقة نياتهم واحتمال أنهم مخدوعون.
كتب كافكا هذه القصة خلال السنتين الأخيرتين مِن حياته، بينما كان داءُ الُسل يفتك به، ما جعله غير قادرٍ على تناول أي طعام لفترات طويلة بسبب الآلام الشديدة في منطقة البلعوم، إلى درجة أنَّ التقرير الطبي بعد موته أرجع سبب الوفاة للجوع.
الأيقونة البصرية الأشهر والأجمل للصعلوك الذي يتميز بالطيبة والحرية وقدرة السخرية من الأغنياء والأقوياء ابتكرها فنان السينما الأهم شارلي شابلن، في شخصية شارلو الصعلوك. في مشهد مِن فيلمه (the Gold Rush) أو حُمَّى الذَهب (1924)، ، يضطره الجوع إلى طبخ فردة حذائه. يتذوق ويقلّب ثم يرفع الفردة من الماء الساخن (الحساء؟) ويضعها على المائدة فيأخذ زميله البدين الغضوب الجزء الأعلى الممتلئ بالجِلد (اللحم؟) ويترك لشارلو النعل المسطح المغروس بالمسامير والرباط، لكنَّ شارلو يندمج في الأكل، بالشوكة والسكين كأنه يتناول دجاجة، إذ يمصمص المسامير كأنها عظام صغيرة للغاية، ويلف رباط الحذاء على الشوكة كأنه يأكل مكرونة إسباجيتي. جانبٌ مِن الكوميديا، في هذا المشهد، يتصل بلعبة (كأن) تلك تحديدًا، أي المسافة بين ما نتخيله (الدجاج، الإسباجيتي) وما نراه أمامنا (نَعل الحذاء، ورباط الحذاء)، مسافة يقوم شارلي الصعلوك بملئها بأدائه وتعبيرات وجهه الشاحب والهالات الداكنة أسفل عينيه، مسافة يسكنها ملايين المحرومين أيضًا، بين ما يُضطرون لأكله وما يحلمون به.
The Hunger Games (مبارايات الجوع)، ثلاثية روائية، للكاتبة الأمريكية سوزان كولينز، مِن نوع الخيال العلمي والدستوبيا الموجَّهة للشباب، حققت نجاحًا عالميا بعد تحويلها للسينما، وعُرض أولها سنة 2012، بعد سنة واحدة فقط مِن موجة انتفاضات الربيع العربي التي طالبت بالخُبز والحرية مِن ضمن ما طالبت به. نشاهد في الجزء الأول كيف انهزمت منذ سنوات عديدة انتفاضات شبيهة بها، وكيف حرصت الطبقة المنتصرة على تذكير المقهورين بانهزامها، بل وتحويل هذه الهزيمة إلى مناسبة قومية لإذلال الأجيال الجديدة مِن أبناء المنتفضين القدامى وأحفادهم، بأن يتم اختيار فتى وفتاة من كل مقاطعة، لخوض معركة مصيرية، يتقاتلون فيها حتى موتهم جميعًا ما عدا واحد هو الفائز الوحيد، في عَرضٍ يُبث على الهواء مباشرةً لتسلية القلة المتخمة والمحاطة برفاهية أسطورية. استعارة درامية، ببعض المباشَرة والمُبالَغة، لما يحدث بالفِعل في عالمنا الراهن، حيث يتقاتل المحرومون على فرص العَمل والظهور كما يتقاتلون على أكياس المعونات الغذائية والدواء والماء. استعارة مبارايات الجوع ربما تجد لها انعكاسًا كذلك في برامج اكتشاف المواهب والتلاعب بهم، في مسابقات للرقص والغناء والطبخ وأكل الصراصير والعبور من حلقات النيران، فقط للحصول على عرضٍ مُسلٍ وإلقاء شيء مِن الفتات للفائز الأخير الوحيد الذي عليه أن يبقى ولو سارَ على جثث جميع مَن حوله مِن الجوعى.
*
تظهر ثيمة الجوع بوضوح بين ثنايا أحداث فيلم كراكيب (1989- بهجت قمر وعمر عبد العزيز)، حتى مع شارة البداية حيث تظهر أخبار صحف ورسوم كاريكتير عن أزمات الغذاء والتقشف وغلاء الأسعار.
بعد متابعة محاولات التلاعب على حياة الفقر والحرمان التي يعيشها كل من سيد (صلاح السعدني) وعلوية (آثار الحكيم)، ولو بالانتحار بعد شراء بوليصة تأمين، يُرسَل سيد من طرف الوزارة التي يعمل موظفًا فيها إلى بور سعيد لحضور مؤتمر الإنسان والجوع في العالم الثالث. يستقبله مسؤول العلاقات العامة في ردهة الفندق ويأخذه بسرعة إلى غداء عمل للمؤتمر، وبسرعة ننتقل لمشهد يستغرق فيه ضيوف المؤتمر في الأكل والقَطع والنهش. بينما يكون سيد مضطرًا لإلقاء كلمته من مائدة صغيرة بعيدة قليلًا عن المائدة العامرة: (حضرات المحرومات والمحرومين وأبناء السبيل مِن أبناء العالم التالت النامي.. أيها الجعانين الأفاضل، أيها المساكين المحترمين، أحمل إليكم تحيات السيد الوزير وتمنياته القلبية لكم بمزيدٍ مِن الفقر والبؤس والجوع، أيها التعساء.. - بصفتنا مِن الجعانين القدماء لازم نُعلم أبناءنا من طلائع الجوع أنَّ الجوع الحقيقي يجب أن يكون للعقل لا للمعدة، أن يكون الجوع للمعرفة لا للمغرفة) ولم تزل تتوالي الصحون والأصناف والمشويات على مائدة المؤتمِرين، وصاحبنا يقرأ كلمته الهزلية التي يرتجلها غالبًا مِن وحي ما يرى، وعيناه تكاد تطلع، وسرعان ما تأخذه الجلالة ويدق المنصة في ثورة ويطيح بعيدًا بكوب الماء ويبدأ بالزحف فوق المائدة العامرة القريبة منه، مصارعًا الآخرين على ما تبقَّى.
المفارقة بين عنوان المؤتمر المتخيَّل وبين ما يُغدقه على المشاركين فيه مِن طعام وشراب ونزهات وسهرات وتدليل، ربما تمتد خارج النطاق المحلي الضيق إلى الصعيد الدولي، حيث ترتفع درجة خطورة القضايا الموضوعة على موائد النقاش وموائد الطعام بالدرجة نفسها التي ترتفع معها جودة الولائم والتدليل والتنعُّم، إذ يتم استبعاد الجائع لصالح قضية الجوع وإخفاء المريض لمناقشة المَرَض، ولا بد أن يحدث ذلك في أجواء ناعمة وظروف مرفهة، قد تصل حد الإساءة المتعمّدة.
تنقلب عربة كارو محملة بالفاكهة بعد نحو خمس دقائق من بداية أحداث فيلم الجوع (علي بدرخان، 1986)، فَيندفع الحرافيش يتخاطفون الثمار من على الأرض، لولا أن يتصدى لهم فتوات الحارة في الحال. ومع تقدم أحداث الفيلم، يحدث ألا يفيض النيل وتخيب الزراعة وتشح الغلال والأرزاق ويفتك الجوع بالناس في بر مصر كله، تنتشر السرقة والسطو. ومن عنوان الفيلم ومن خلال أحداثه، تتكشَّف تدريجيًا ثيمة الجوع عن وجوهٍ عديدة، مِن بينها رحلة صعود الفتوة فرج الجبالي (محمود عبد العزيز)، مِن عربجي يعمل على عربة لا يملكها، يترحم على عز جده فضل الجبالي، الفتوة العادل النموذج الذي يتردد ذكره طوال الفيلم مثل حلم مثالي مفتقَد وعصر ذهبي يتمنى الجميع عودته، إلى أن يصبحَ هو نفسه الفتوة الطيب نصير الغلابة والمساكين، ثم يتغير شيئًا فشيئًا ويتزوج سيدة ثرية ويدير لها متجر الغلال الكبير ويجالس كبار التجار ويحيط نفسه برجال الفتوة السابق، وهكذا تتكرر الحكاية القديمة التي تردد صداها أكثر من مرة في رواية الحرافيش وفي التاريخ الحديث أيضًا.
يختلف فيلم الجوع عن أفلام الحرافيش الأخرى في عدم اعتماده على إحدى قصص رواية محفوظ بل استلهام الجو العام والرموز المتكررة فيها، كما يختلف من حيث الرسالة كذلك فقد أشارَ بوضوح إلى طريق الخلاص مِن الدائرة الجهنمية التي تعيشها الحارة مِن فتوة إلى آخر، حين وضعَ الحرافيش في قلب المُعادَلة، بكلمة واحدة هي الثورة ، إذ يشرعون، قرب نهاية الفيلم، في الحركة ولو بتحريض مِن جابر الجبالي (عبد العزيز مخيون) وزوجته زبيدة (سعاد حسني)، فَيجمعون قواهم ويهاجمون الفتوات وهم نيام ثُمَّ يرجمون الفتوة الأكبر بالحجارة حتى يهلك، وحين يشعر أثرياء الحارة بالتهديد يفكرون في اللجوء إلى فتوة حي آخر لكبح المتمردين، ثم نرى الحرافيش يجتمعون خارج الحارة، ربما في الخلاء الذي اعتاد جدهم الأسطوري أن يعتزل العالَم فيه، وهناك يصنعون أسلحتهم من فروع الأشجار، في مشاهد أقرب للحُلم والبشارة، لا شيء فيها يشي بما قد يأتي بعد ذلك، أو بالطريق التي عليهم أن يقطعونها، الطريق الطويلة الوعرة الملتوية والحافلة بالمنعطفات المفاجئة والفِخاخ المُربكة وشِراك الخيانة والعنف والتحوّلات. كأنَّ طائر الجوع كامن ينتظر الفرصة لكي ينقض على الناس مِن جديد، متخذًا في كل مرة صورة أقبح، وكأنهم لا يتوقفون، مدى تاريخهم، عن مطاردته واصطياده وتدجينه في بساتين الدين والفن والثورة.