عدد 18-عن الفقد والافتقاد

محمد عبد النبي

عزيزتي دينا..

2020.11.01

..عزيزتي دينا

كنتُ أسمعُ ضحكتكِ، أقولُ دينا، ألتفتُ فأراكِ. 

أحيانًا يكون مجرد ذِكر اسم شخصٍ ما كفيلاً بإشاعة البهجة والدفء والطمأنينة والثقة، هكذا كان اسمكِ، هكذا لم يزل.

كلَّ مرَّة نكون قد نسينا وجودَ اللص، لكنه بيننا طول الوقت، خفيًّا ومتسللاً، وفي لحظة الغفلة ينهب منا قطعةً أخرى، قطعة عزيزة وغالية، قطعة مترعة بالحياة، وعندئذٍ فقط، ومثل كل مرة، ننتبه لوجوده ونتذكّره؛ الظِل الذي يعيشُ فينا وبيننا ويتغذّى علينا. 

نحنُ لا نحزن على مَن رحلَ، فَمَن يدري ربما يكون حاله أفضل مِن حال الأحياء، لكننا نحزن على مَن تبقَّى، نحزن على أنفسنا، يا دينا، على خسارتنا وعلى الفراغ المخيف الذي يتركه غياب الأحباب والأصدقاء، وعلى الأذن التي تسمع، واليد التي تربت والابتسامة التي تشجع، والضحكة الغالية التي حُرمنا منها فجأة بلا تحذير. 

عندك مشاوير، عندك مهام، عندك مواعيد، عندك مشاريع، عندك أصدقاء، عندك طموح، عندك صراحة، عندك جرأة، عندك استمتاع بالحياة، عندك رؤية واضحة، عندك قدرة على المحبة، عندك ألوان وابتسامات ومذاقات وروائح. عندك رحلة أخرى ليس بوسعنا الآن سوى أن نتخيلها وأن نتمنى أن تكون سلسة وهينة ومبدعة وجميلة المحطات. 

ليس مِن حقي أن أكتب عن عملك ونشاطك وتجربتك، يوجد مَن كانوا أقرب إليكِ منّي في العَمل وفي الكفاح، وهم أقدر مني على ذلك. وليس من حقي أن أكتب عن حياتك ومشوارك أو صداقتنا، فتلك أمور شخصية ليس مكانها هُنا، في ظني وقد أكون مخطئًا. لكن أليس مِن حقي أن أكتب عن ابتسامتك، وعن دهشة عينيكِ، وعن جلجلة ضحكتكِ الطليقة الصافية، وعن حضورك الطيب الهادئ؟

ربما قريبًا، هُنا، سوف أسمعُ ضحكتك، وأقول اسمكِ، وألتفتُ فلا أراكِ. 

الفَقدُ مُقدَّر ومكتوب، لا مهربَ منه، ولا حيلة لنا أمامَ ذلك اللص، إلَّا أن نراوغه وأن نجمع الموتى والأحياء معًا في الصورة، في المخيلة، في المستقبل حتَّى، يصطفون معًا، الكتف بالكتف، في مسيرة كبيرة نحو النور. 

لم أعد أخشى ظِلّي، يا دينا، أو هكذا أحب أن أعتقد الآن، سأحمله معي إلى النور، ولمَ لا؟ أليس مِن حقه هو أيضًا أن يسير ببطء معنا نحو ذلك النبع المنشود؟ ألم يكن جزءًا مني وسكنني وسكنتُه طول كل تلك السنين.

الفَقدُ قصتنا اليومية، ليست قصة بكاء وحسرة وتوجُّع، بل قصة تذكُّر واستعادة، قصة ضد المحو والطمس والنسيان، قصة تؤذي فقط مَن يسعون بكل وسيلة لأن نفقد ذاكرتنا، يسعون بكل وسيلة أن ننسى الحُلم وتفسيره، ننسى مَن رحلوا ومَن سُجنوا ومَن ضحّوا ومَن اعتزلوا ومَن هاجروا ومَن اختلّوا وفقدوا توازنهم فطاروا بلا أجنحة. 

لكنها ليست قصة تسكن في منازل الأمس، بل تغرس قدميها في الحاضر، أصلها ثابت وفرعها في السماء. قصة ترسم نفسها في مرآة الزَمن لكنها تنتصرُ عليه بتجاهله والتلاعب به، قصة المسيرة الطويلة المجهدة والممتعة أيضًا، قصة الأسماء التي تنضمَّ للصف الطويل مِن بدايات الزَمن وحتَّى لحظتنا هذه.

ومع ذلك، لا عزاء في ذلك، لا عزاء في الفقد يا دينا، لكن مَن يريدُ العزاء، أنا لا أنشد عزاء ولا سلوان، أنا أرعى الجُرح كأنه نبات ظِل، أو كأنه هو الظِل، كأنه ضَنايا المريض أحمله إلى الطبيب، إلى النور، لعلَّه عندئذٍ يطيب ويُشفى، ولا تعود بي حاجة للتذكر ولا خشية من النسيان. 

لا أريد أن أكتبَ لكِ مِن سُرادق عَزاء بل مِن حديقة، لا أريد أن أكتب لك بحِبر الحِداد بل بحُمرة الدَم الساخن الفوَّار، لا أريد أن أكتبَ كأنني أواسي أو أهوّن بل كأنني أفكّر فيكِ ومعكِ، في اللصوص والظلال والمسيرة الطيبة نحو النور، لا أريد أن أكتب عن خيبة الأمل والإحباط والانكسار، بل عن القصة التي نكتبها معًا، كل يوم، أحياء وأموات، على صفحة نصفها حُلم ونصفها يقظة، نصفها في الأرض ونصفها في السماء، نصفها الأمس ونصفها الغد، وتجري كتابتها وقراءتها في الحاضر، هُنا والآن، دائمًا وأبدًا هُنا والآن.

 أعرف أنني ذات يومٍ، قريبًا كان أو بعيدًا، سوف أسمعُ ضحكتكِ، وأقول اسمك، وألتفت فأراكِ أخيرًا، فإلى ذلك اليوم.