مراجعات

منى سالم

فيلم «الطفيلي» .. يا عزيزي كلنا طفيليون

2019.07.01

الفيلم الكوري «الطفيلي» الحائز على السعفة الذهبية في مهرجان كان 2019

المخرج: بونج جون

يسير أمامك رجل انتحاري مرتديًا حزامًا ناسفًا، وهو طول الطريق إلى تفجير نفسه لا يكف عن الضحك، ولكن لن ينطلي عليك ضحكه لأنك لمحت منذ اللحظة الأولى وجود مفرقعات؛ هذه إحدى المشاعر التي ربما تنتابك عند مشاهدتك فيلم «الطفيلي». لربما تتمثل أمامك الرأسمالية التي تمنح وتخدع، ونتاجها من صراع الطبقات الاجتماعية الذي يعتصر أبطال الفيلم كالانتحاري مسلوب العقل والروح والذي يسير بخطى وثيقة نحو تفجير نفسه والآخرين بينما يخدعك بابتسامته. 

في الفيلم، لربما تخدعك المفارقات الكوميدية في تحديدك لنوع الفيلم، وقد يلتبس عليك الأمر كيف انتقل الفيلم من الكوميديا السوداء إلى مأساة تراجيدية دمرت جميع الأطراف، ولكنك ستفطن منذ اللحظة الأولى إلى وجود الحزام الناسف. 

ظهر ذلك منذ اللحظة الأولى عندما يبدأ الفيلم بكادر لجوارب مغسولة ومُعلقة لتجف في أعلى منطقة في منزل أشبه بالقبو، تعيش به أسرة كيم كي تايك، وتحمل إحدى هذه الجوارب رمزًا للعلامة التجارية اليابانية «آسيكس»، تتصدر الجوارب كرمز للرأسمالية الكادر في أعلى جزء منه، وتدريجيًّا تنزل الكاميرا وكأنها تخطفنا لترينا شيئًا سقط من تلك الجوارب التي تملأ المكان، شيئًا من مخلفاتها لنرى من يجلس أسفلها؛ لنجد كي وو الطفيلي الأول في أسرة كيم وهو يحاول سرقة الواي فاي من أحد الجيران، إذن نحن أمام طفيلي قد نشأ طفيليًّا، أثرًا من آثار منظومة الرأسمالية المتوحشة، الرأسمالية التي تعلوه في الكادر وتعلو موضعه في القبو وتتصدر العالم أيضًا، إذن لم يخدعنا بونج جون مخرج الفيلم بنوع فيلمه فهو من أول لحظة بالفيلم يشير نحو تسيد الرأسمالية وما قد يترتب عليه من بشر مهمشين طفيلين والذي قطعًا ينذر بتراجيديا قادمة.

يتناول  الفيلم الفوارق  الاجتماعية  في كوريا الجنوبية من خلال أسرتين مختلفتين طبقيًّا؛ أولاهما أسرة كيم كي تايك؛ العاطلين عن العمل ويعيشون في منزل بائس أشبه بالقبو، والأخرى أسرة السيد بارك؛ رجل الأعمال التي تسكن قصر شديد الجمال.

تبدأ الأحداث بفرصة عمل لابن الأسرة الفقيرة؛ مدرسًا لابنة عائلة بارك، وبعد قبوله للعمل لديهم يقوم هو وأسرته ببعض الحيل غير النزيهة لشغل وظائف لدى السيد بارك، وتنجح مكائدهم، ويعملون في خدمة العائلة الغنية حتى تحدث مفاجأة تهدد استقرار وظائفهم وينتهي الأمر بجريمة بشعة.

تسود الرأسمالية العالم، ولكن ذلك لا يمر دون تلميح ماكر بغرض السخرية، فقد وضع بونج جون الجوارب «الرأسمالية» في أعلى نقطة في القبو، التي سنكتشف بعد لحظات أنها المرحاض! لقد انتقم من الرأسمالية بخبث ومكر شديدين عندما ساوى في المكانة بين جوارب الرأسمالية والمرحاض، وكأنهما على الدرجة نفسها من القبح والقذارة، ولم يكتف بذلك، لكنه بتعليقها هكذا يصورها كشخص مشنوق. لقد سخر وقدم للمحاكمة وكأنه ينفس قليلاً عن غضبه وينتصر انتصارًا صغيرًا للمهمشين. 

فأعلى مرمى بصر الأسرة في يومهم هو المرحاض والجوارب ذات الماركة اليابانية والسكارى المتبولون أمام نافذة القبو، وبدلاً من رفع رؤوسهم ليروا السماء، يرفعون رؤوسهم ليروا القبح، كل هذا القبح منذ اللحظات الأولى ينبئ بحدوث كارثة، وإن غُلِّف بإطار كوميدي ساخر، يجعلك تفطن من البداية أن الفيلم لن يستمر في دغدغتك، وإنما سيصفعك عما قريب.

بونج إذن جعلك تشاهد الانتحاري وتستشعر عبواته الناسفة طول الفيلم ومنذ اللحظة الأولى أضحكك عليه وعلى مفارقاته، ولكنه بين الحين والآخر بحرفية ومكر كان ينتقم انتقامات صغيرة بالسخرية وكأنها حيلة الفنان العاجز الواعي بالكارثة والذي لا يملك حيلة لتغيير الواقع سوى النذير بأن الانتحاري سيدمر الجميع. 

حياة مختلفة.. نهاية واحدة:

الشيء الوحيد الذي تتشاركه الأسرتان، الفقيرة والغنية، هو تشابه هيكليهما التكويني؛ فكل أسرة تتكون من أربعة أفراد أب وأم وولد وفتاة مع اختلاف طفيف أو «غير طفيف»؛ أن الأسرة الغنية لديها ثلاثة كلاب!

عند تحليل عائلة كيم لن تجد صفات فردية تمكنك أن تمسك كل شخصية منهم على حدة، فيتم التعامل معهم ككتلة واحدة جمعية تحمل الصفات نفسها التطفل والطموح والذكاء والاستغلال. أسرة كيم تعرف كل شيء عن بعضها، ولا مجال لوجود الأسرار، وهم شركاء حياة حقيقيون، وأيضًا شركاء جريمة حقيقيون، فالأب فخور بمهارات ابنته في التزوير والاحتيال والتمثيل، ويردد أنها تشبهه، ويفرح بابنه عندما يعلم أنه من الممكن أن يصبح نسيبًا للسيد بارك، بعد أن أوقع الفتاة الصغيرة ذات الستة عشر عامًا في حبه، وهو الرجل المحب لزوجته، وأول شيء ينقذه من فيضان مياه الصرف كان ميدالية فوز زوجته. هي إذن أسرة داعمة لبعضها في أوقات الضعف والهزيمة، فلن تجد الأبناء يلومون الأب على فشله، ويستخدم بونج الكادرات الضيقة مع أسرة كيم، والتي تُظهرهم في شكل ملتحم طول الوقت. 

على النقيض نجد أسرة بارك التي يعاني أفرادها من فراغ نفسي وعاطفي، وبعض الاختلال؛ الأم الساذجة الجاهلة المختلة بعض الشيء، والمهووسة بقدرات ابنها الفنية غير الموجودة، والطفل الصغير المهووس بلفت الانتباه، والمراهقة الصغيرة التي تنتقل من حب مدرس للآخر تعويضًا عن النقص العاطفي داخل المنزل، والأب الساذج والذي تنطلي عليه خطط عائلة كيم. وهم لا يعرفون شيئًا حقيقيًّا عن بعضهم؛ يعيش كل منهم منعزلاً داخل قوقعته، ودائمًا ما يستخدم بونج الكادرات الواسعة لتوضح مدى التباعد بين أفراد عائلة بارك، ونادرًا ما نجد أربعتهم داخل كادر واحد، بارك كان يشكو من إدارة زوجته السيئة للمنزل في غياب الطبقة العاملة، وتشعر طول الوقت أن هناك غيابًا للمصارحة بينهما، فعند نصب عائلة كيم للمكائد كانت الزوجة تخفي عن زوجها بعض الأمور التي علمت بها، كمرض المدبرة السابقة بالسل وخوفها أن ينتهي أمرها إذا علم الزوج.

يعيش آل كيم في قبو سيء التهوية تحت الأرض، لا يتمتعون بالخصوصية، يتبول السكارى أمام نافذتهم. القبو غير محصن بالمرة فمياه المطر تغرق محتوياته بسهولة، ولكنه يظل مفتوحًا لساكنيه، وتعود إليه الأم والابن بعد وقوع الجريمة، بينما يعيش آل بارك في قصر يعتبر تحفة معمارية، نظيف وجيد التهوية في أعلى المدينة، منعزل، ويتمتع بكامل الخصوصية، محصن بأسوار عالية وسميكة، ومع كل استحكاماته المنيعة إلا أن جريمة بشعة ستقع بين أرجائه، وسيتركه ساكنوه ويرفض الناس تأجيره بعد ذلك.

ومع هذا الاختلاف الرهيب بين الأسرتين إلا أن المصائر واحدة، فكلتا الطبقتين خسرتا؛ زوج قتيل غير موجود فـ«بارك» مقتول، وكيم محبوس، والابنتان مطعونتان في قلبيهما، والولدان يعانيان من صدمات، وكلتا الزوجتين مكلومتين. هذا ما يفعله الصراع الطبقي كأثر سيء للرأسمالية التي تكتسح كالطوفان، وتتشابه المصائر أيضًا؛ كيم مثل شبح السرداب حين يحبس نفسه في سرداب القصر، ويصبح شبح القصر الجديد، الذي ربما يجلب الثراء لعائلة غنية أخرى كما أشارت زوجة بارك لقول مأثور بأن المكان المسكون بالأشباح يجلب الثراء، وتؤكد أن ثروتهم زادت فعلاً بعد أن سكنوا قصرًا.

طفيليات مرئية .. طفيليات غير مرئية:

الطفيليات كائنات حية صغيرة وضعيفة، تتطلب خلال مراحل من حياتها بعض العوامل الحيوية التي لا تستطيع الحصول عليها إلا من كائن حي آخر كالغذاء والحماية، كائنات حية صغيرة وضعيفة ولهذا لن تجد في هذا الفيلم متهمين أو ضحايا، بل ستجد نفسك متورطًا بمشاعرك مع الجميع، متورطًا مع ذكاء وحميمة الأسرة الفقيرة، ومع لطف وسذاجة الأسرة الغنية، الجميع بشر حتى النخاع، فلا يوجد ذلك التنميط للخير المطلق الذي يصور الفقير المعدم بالطيبة والسذاجة ولا الشر المطلق الذي يصور الغني بالمتسلط المرعب، هنا الفقير ذكي، ومشاعر الأسرة عظيمة تجاه بعضها، ولكنهم يلجأون للاستغلال والحيل الوضيعة، والغني لطيف ولكنه لا يطيق تخطي الطبقة الأدنى لحدودها معه، ولا يطيق رائحتها.

بل لا تتحفظ السيدة الغنية عندما كانوا بالمتجر يتسوقون هي والسائق كيم وهو يحمل مشتريات ثقيلة بالكاد تتحملها يداه، وتقوم الكاشيرة بعملها، والجميع في المتجر يقوم بعمله بينما هي تحادث صديقاتها على الهاتف وتغني بصوت عالٍ يملأ أرجاء المكان، ولم تجد غضاضة حينما انتهت من التسوق وذهبا إلى السيارة في رفع قدميها على الكرسي في وجه السائق كيم، ولكنها شخص ساذج مغلف بلطافة ورهافة تجعلها تُصدم كالطفلة حينما تعلم أن سائقهم السابق قد مارس الجنس في السيارة، وعندما تتناقش مع زوجها على طرده من العمل يتفقا ألا يخبراه بالسبب الحقيقي منعًا لإحراجه، وهذا أيضًا ما حدث عند طرد مدبرة المنزل السابقة، ذلك التناقض الذي يجعلك تقف متحيرًا وهذا ما يتمتع به البشر عمومًا؛ فالجميع يتأرجح بين الأبيض والأسود، الجميع هنا يحمل من الخير والشر ما يجعله هشًّا تلك الهشاشة البشرية الموجودة بداخل كل منا؛ هشاشة البحث عن الغذاء والحماية والدفاع عن البقاء. في ظل نظام رأسمالي متوحش قد نسج شبكة من العلاقات المرتبكة المعقدة تجعل علاقات البشر قائمة على الاستغلال فلا نستطيع تحديد من هنا العائل ومن الكائن المضيف؟

«توجد الكثير من الحشرات هذه الأيام»، جملة وردت على لسان زوجة كيم؛ شونج سوك، تعطي معنى ضمنيًّا للتأكيد على طفيلية الجميع، وتوضِّح الالتباس الذي يخلقه عنوان الفيلم «الطفيلي» والذي يدين الأسرة الفقيرة وحدها بالطفيلية؛ في التعريفات العلمية العلاقة بين كائنين أحدهما يتغذى على الآخر ويسمى العائل والآخر يسمى الكائن المضيف وتسمى العلاقة بينهما بالتطفل، فالجميع طفيلي في حياة الآخر، الجميع عائل ومضيف، وقد وردت كلمة الطفيلي مفردة لتكون أكثر شمولية، فالكل يستطيع أن يحمل تلك الصفة.

 فالأسرة الغنية متطفلة على الطبقة العاملة الكادحة كما ورد على لسان السيد بارك «البيت دون مدبرة منزل سيصبح مكبًّا للنفايات، وستفوح من ملابسي رائحة كريهة»، ويؤكد على مدى سوء إدارة زوجته للمنزل، وعلى بشاعة طبخها، وعلى اعتماد الأسرة بكاملها على مدبرة المنزل، كما جاء على لسان الزوجة الغنية يون كيو بحديثها عن مدبرة المنزل «إنها تعرف المنزل أكثر مني»، إنهم حتى متطفلون على أفكار الفقراء في ممارسة الجنس واختلاس اللحظات الحميمية؛ حين ظنوا أن السائق أقام علاقة حميمية على الأريكة الخلفية للسيارة، وقد حاكاه السيد بارك وزوجته حينما اختلسا لحظة حميمية فوق أريكة غير مريحة تشبه أريكة السيارة في بهو القصر، ونفهم من خلال حوارهما أن الزوجة قد ارتدت السروال الداخلي الرخيص لابنة كيم عدة مرات لإمتاع زوجها.

دائمًا تزداد ثروة الأغنياء على حساب الفقراء وإن قالها بونج بشكل ساخر.

الأسرة الغنية متطفلة على القصر الذي تسكنه، فهم يجهلون وجود أجزاء خفية به مثل السرداب الذي يسكنه رجل منذ أربع سنوات كاملة، وكأنهم ضيوف على منزلهم وليسوا مالكيه، ويذهب تطفلهم على القصر إلى نقطة أبعد وهي تطفلهم على مستواه الفني؛ فهم بعيدون فنيًّا وثقافيًّا كل البعد عن تقديره كتحفة فنية معمارية، هم فقط يتمتعون بكمالياته وإطلالته البديعة على المناظر الطبيعية، ويظل القصر أرقى من مستواهم الثقافي.

أما الأسرة الفقيرة فهي تحيا على التطفل، تتطفل على جيرانها بسرقة الواي فاي، وعلى عربة إبادة الحشرات والتي كاد دخانها أن يخنقهم، ولكنها ستطرد الحشرات مجانًا، يتطفلون على العائلة الغنية بالاحتيال عليهم واستغلال سذاجتهم وشغل وظائف لديهم، وباستغلال قصرهم حين ذهبت عائلة بارك للتخييم، متطفلون على من هم في مستواهم الاجتماعي حينما استولوا على وظائف السائق السابق ومدبرة المنزل السابقة. والمضحك في الأمر أن المكائد التي دبروها لهم لاحتلال وظائفهم قائمة على تصويرهم «طفيلين» في نظر السيد بارك وزوجته؛ السائق بتطفله على سيارة بارك بإقامة علاقة جنسية فيها، ومدبرة المنزل بتطفلها بمرضها على أسرة بارك.

والرجل المختبئ كالشبح في سرداب العائلة الغنية متطفل على العائلة الغنية وعلى القصر، أما الحشرات فهي طفيلية على الأسرة الفقيرة أو ربما العكس، فلا نعلم نظرة الحشرات إلينا نحن البشر، ربما يعتبرون العالم موطنهم ونحن الدخلاء عليهم، ولكن في ظني أن واحدة من تغفيلات البشر التي ترتقي إلى منزلة الخطايا الكبرى هي ظنهم أنهم أجسام مضيفة، ولكن الحقيقة أننا جميعًا عوائل على الكون الذي بإمكانه استبدال العوائل بعوائل أخرى، ويظل هو المضيف الغامض.

ماذا لو امتلك المتطفل سلطة؟

هناك مفارقة في بداية الفيلم مُنكهة بكثير من السخرية، فاللحظة التي يزيح الأب كيم بأصبعه حشرة نتنة -كما لقبها- هي اللحظة نفسها التي نجح فيها ابنه في التقاط إشارة جديدة مسروقة للواي فاي بإيعاز من الأب بأن يرفع هاتفه عاليًا لسرقة الإشارة من الجيران! كيم هنا يقوم بدورين في اللحظة نفسها، دور المتطفل والمتطفل عليه! هو نفسه كيم الذي يتطفل على عربة إبادة الحشرات لترش المنزل مجانًا لطرد الحشرات المتطفلة عليهم، هو يشعر بالقرف من الحشرات، والسيد بارك يراه كحشرة يتحسس أنفه منها. في نفس الوقت فالسيد بارك يتطفل على الطبقة العاملة باعتماده الكامل عليهم في تدبير حياته وحياة أسرته، ومع ذلك فهو لا يطيق تدخلهم أو تخطيهم للحدود. إذن هم جميعًا بالغو الهشاشة وضعفاء، ودائمًا في حاجة للآخرين، ويمارسون تطفلهم عليهم، ولم يتسامحوا مع باقي المتطفلين، فهم يمارسون التطفل ويحاربونه في آن واحد.

ماذا لو امتلكوا قليلاً من القوة والسلطة؟ في المرة الأولى التي رأينا السكير المتبول أمام نافذة الأسرة الفقيرة، والأسرة عاطلة عن العمل حينذاك لم يتحرك أحد منهم لطرده، أما حين حصلت الأسرة على الوظائف الجديدة، وجاء سكير ليتبول أمام النافذة انتفض الأب والابن وقاما برشه بالماء، وصورت الابنة هذا المشهد بينما يملؤها الفرح والفخر بما يحدث، وكأنها توثق لحظة قوة وحيدة تحظى بها الأسرة البائسة. عندما اكتشفت شونج سوك، زوجة كيم، مكان شبح السرداب وزوجته مدبرة المنزل السابقة التي أخذت تستعطف شونج سوك، وهي تردد "يا أختاه" وكأنها تذكرها بأنهم ينتمون للطبقة نفسها ويعانون الفقر نفسه والسجن، إحداهما في قبو والأخرى في سرداب، ويمتلكون الدور الثنائي للتطفل متطفلون ومتطفل عليهم ولكن شونج سوك صرخت فيها قائلة "لا تنادني بأختاه" وعندما تبدلت الأدوار وأصبحت مديرة المنزل السابقة هي من تملك سلطة اكتشاف أمر احتيال عائلة كيم رددت الجملة ذاتها "لا تناديني بأختاه"!

يبدو أن الجميع يمارس التطفل كحق مشروع، مشروعية البقاء، في ظل نظام اقتصادي متوحش ينقل بعضًا من خصائصه إلى البشر، ويصاب الجميع بالتوحش والعنف واللاتسامح فقط للبقاء، الجميع يتوحش ليصعد درجة أعلى من السلم، وحين يصل إليها يركل بقدمه من هم في الدرجة الأسفل، فلا يعلم البشر أنهم مجرد أشخاص يلعبون دورًا طفيليًّا في حياة شخص آخر، وهذا الشخص الآخر يلعب دورًا طفيليًّا في حياة آخر، وهكذا، حتى نكتشف أننا جميعًا طفيليات هشة على هذا الكون الذي نحارب للبقاء فيه مع أنه سيلفظنا يومًا ما.

الفقراء لا يرون الشمس..المطر لا يقصد الفقراء بالخير..

هل يرى بونج الطبيعة متواطئة ومتآمرة ضد الفقراء؟

عائلة كيم لم تعاقب الطبيعة على هجرها لهم طول الوقت؛ بل بالعكس كان لديها توق للطبيعة، فالابن بمجرد وصوله إلى القصر وقف تحت أشعة الشمس وكأنه يعوض ما فاته منها، وعندما جلسوا جميعًا في الحديقة لتمارس الأم رياضتها يشاهدها الجميع باستمتاع.

كافأت الطبيعة عائلة بارك بقصر جميل على التلة العالية يُمكِّن ساكنيه من التمتع بالشمس طول اليوم، بينما هي محجوبة عن عائلة كيم في قبوهم المتعفن، والمطر الذي أنعم على عائلة بارك في الصباح التالي بسماء صافية وشديدة الزرقة حتى إنها شجعتهم على إقامة حفل عيد ميلاد ارتجالي لطفلهم كما جاء على لسان الأم وهي تحدث صديقتها "تلك الأمطار كانت نعمة" لتنتقل الكاميرا سريعًا على وجه كيم وهو يظهر مزيدًا من الأسى والحسرة، لأن الأمطار ببساطة دمرت منزله، أو إن صح القول "قبوه"، بينما استدعت تلك الليلة المطيرة الأجواء الرومانسية وحالة دفء بين السيد بارك وزوجته، إلى درجة أنهما أقاما علاقة جنسية على زخات المطر، وحظي طفلهما بتخييم رائع في حديقة المنزل تحت الأمطار، ولكن لم تجرؤ نقطة مطر واحدة على التسلل إلى خيمته الأمريكية بينما غرقت المنازل الكورية! لقد كان مُحصنًا تمامًا في خيمته التي احضرتها الأسرة من أمريكا، بينما قضى كيم وأبناؤه وباقي المنكوبين ليلتهم في صالة رياضية.

حتى الحجر الذي أهداه صديق ابن كيم له؛ المأخوذ من أحد الأنهار ويشبه في تكوينه تكوين جبل وكأنه نُحت منه، هذا الحجر الذي كان يمثل مصدر أمل للابن، إذ أخبره جد صديقه أنه سيجلب له الحظ، وبالفعل بمجرد وصول الحجر إليهم حصلوا على الوظائف، وكأن الطبيعة الأم تحنو عليهم للمرة الأولى، ولكنها تمنح وتمنع، فكان الحجر هو الأداة التي هشم بها شبح السرداب جمجمة الابن! تعودت أنوف عائلة بارك على ما تمنحه لهم حديقتهم البديعة من الروائح الجميلة فلا عجب من استنكار أنوفهم للعفونة التي يمنحها القبو لعائلة كيم، ربما للفقراء فرصة وحيدة للتمتع بالطبيعة ولكن وهم أموات كما حدث ودفن الأب مدبرة المنزل السابقة بجوار شجرة.

لقد وضع هونج خطة محكمة فنيًّا تضافرت جميع عناصرها الفنية البديعة من حبكة وسيناريو وكادرات ومونتاج وموسيقى ليكون نتاج تلك الخطة فيلمًا عظيمًا أهم رسائله "الخطط لا تنجح"!

"أتعرف أنواع الخطط التي لا تفشل؟ الخطط التي لا وجود لها"، جملة قالها الأب بعدما يأس من خططه، بعد يأسه من تطفله، بعد يأسه من نعت الأغنياء له بالطفيلي، وإن لم يكن قولاً بل تشممًا. خطط الأب دائمًا ما تفشل من بداية فشله في طي علب البيتزا، وخطتهم الكبيرة المتآمرة للحصول على الوظائف لم ُتؤت ثمارها، حتى ولو أشارت المؤشرات الأولية لنجاحهم وتوليهم الوظائف؛ فعندما تشاهد الأم وهي تصعد على السلم تحمل طبق الخوخ تعلم وقتها أن طفيليًّا آخر قد نجح في الانضمام إلى باقي القبيلة، وأنها استوطنت مكان مدبرة المنزل السابقة وحصلت على الوظيفة، حتى الرجل الشبح الذي يعيش في سرداب القصر لم تفلح خطته في إرسال رسالة عن طريق شفرة مورس كما تعلم في الكشافة أملاً في أن يلتقطها الطفل الصغير، ولم تنجح خطته في ترميز رسائل الشكر للسيد بارك. كلها باءت بالفشل، فلا التقط الصغير إشارة النجدة ولا التقط السيد بارك عبارات الامتنان.

 هل كان فشل الخطط يثني الأشخاص عن التشبث بالأمل؟ الإجابة قطعًا لا؛ فنحن ننتقل من أشخاص كانوا مفعمين بالأمل واثقين تمامًا من نجاح خططهم إلى أشخاص يائسين بالكامل. من أشخاص مؤمنين بالخطط إلى أشخاص نافرين منها، فبمجرد أن فتح ابن كيم الصندوق الذي يقبع الحجر بداخله نرى الكاميرا وقد اتخذت وضعية "اللقطة السفلية"؛ فيظهر الابن أكبر من حجمه الطبيعي والحقيقة أنها صورة ذاتية، صورة الابن عن نفسه في هذه اللحظة عندما امتلأ بالأمل فتضاعف إحساسه بقيمته التي سيكون عليها، وثقته بنفسه وبالحجر، فصورها المخرج بتضاعف الحجم، حتى إنه بعد ذلك وطول أحداث الفيلم كان شديد الالتصاق بالحجر، ويصحبه معه في كل مكان متبركًا به، ولكنه في نهاية الأحداث أراد التخلص من الحجر بإعطائه لأسرة السرداب، فتحول من شخص ملتصق بالأمل إلى شخص يتخلص من مسبباته. 

ويظهر ذلك عندما نرى جيسيكا تشعل سيجارتها لمرتين خلال الفيلم؛ الأولى وهي تزور الوثائق التي ستتيح لأخيها الالتحاق بالوظيفة، وتشعلها بمنتهى الثقة وعدم الاكتراث بالمحيطين في مقهى الإنترنت، فلديها أمل في التغيير إلى الأفضل، وأنها يومًا ما ستغادر سلمها الاجتماعي، والثانية مشهدها في نهاية الفيلم والقبو غارق في مياه الأمطار والصرف الصحي وهي تجلس القرفصاء فوق المرحاض الذي يفرغ نفاياته في كل مكان وكأنها تحتمي به، وكأنها تخبر نفسها أن هذا هو مكانها الحقيقي، وتشعل سيجارتها في منتهى اليأس وعدم الاكتراث لما حولها، أيضًا نظرة التصميم في عين الأب في بداية الفيلم عندما أغرقتهم رائحة عربة إبادة الحشرات ولكنه في تصميم ولا مبالاة يواصل طيَّه لعلب البيتزا، ثم نظراته اليائسة المتوالية في النهايات، إن الفشل الوحيد الذي تمكن الأب من اجتنابه كان عند هروبه بعد جريمة القتل دون أي خطة!

 عندما تصبح الرائحة وطن

على الرغم من تشبعهم بالأمل إلا أنه كان هناك طنينًا يرن في آذان الأسرة الفقيرة يوسوس لهم طول الأحداث "هذا ليس مكانكم"، إن اعتبرنا أن السلم الاجتماعي ليس مجرد مصطلح وإنما هو سلم حقيقي فأنتم لستم فقط على الدرجة الأخيرة ولكنكم مدفونون بداخلها كجحور تحت الأرض مثل الفئران والصراصير.

حتى عند هروبهم في الليلة المطيرة من القصر فقد هبطوا الكثير من السلالم كي يصلوا إلى حيهم الفقير، وكأنها رحلة هبوط من السماء للأرض، العدد الكبير لهذه السلالم يوضح الفرق الشاسع بين الطبقتين ودلالة على صعوبة فكرة الهبوط بعد أن ظنوا لفترة قصيرة أنهم قد لمسوا السماء، ومن ضمن محطات نزولهم كانت محطة تحت الأرض التي قال عنها السيد بارك من قبل "إن لمستخدمي مترو الأنفاق رائحة واحدة كريهة تميزهم جميعًا"، وكأن الأسرة عادت إلى موطنها الأصلي؛ موطن رائحتها.

في أولى زياراتهم للقصر يظهر ابن وابنة عائلة كيم وعند وقوفهم بالباب في الكادر غاية في الصغر وسط هذا المكان العملاق، إنهم لا ينتمون إلى هذا المكان، وفي النهاية عندما أدرك مكانه الأصلي يوم حفلة عيد الميلاد حين نظر من النافذة إلى المدعوين وسأل ابنة بارك "هل أنا حقًا أنتمي إلى هذا المكان؟! ثم غادر. 

عندما استغلت الأسرة الفقيرة إجازة الأسرة الغنية وغيابها عن المنزل وضع بونج الكاميرا في الحديقة، لتبدو وكأنها تصورهم من الخارج، الكادر يظهرهم دومًا وكأنهم مراقبون من الخارج، لأنهم ليسوا أصحاب هذا المكان ولن يكونوا، في حين أنهم داخل قبوهم تكون الكاميرا عيونهم، نرى بعيونهم من خلال النافذة التي تشبه شاشة التليفزيون أو السينما اطلاعهم على السكارى المتبولين، وكأن هذا عالمهم الحقيقي الذي اعتادوا مشاهدته طول الوقت.

استخدم بونج تكوينين بصريين غاية في الدلالة، أولهما في بداية الفيلم حينما فشلت العائلة في الحصول على وظيفة طي علب البيتزا، فظهر خلف نافذة القبو وكأنه محبوس في هذا المكان القميء ليعطي إشارة بأن كيم سيظل حبيسًا طول حياته. وأيضًاعند هروب أسرة كيم ليلة المطر من القصر استخدم كادر تشابك أسلاك الكهرباء والإنترنت كأنها شبكة عنكبوت أحكمت شباكها عليهم، فتقيد الفقراء واختنقوا بداخلها ولا يمكنهم الفكاك منها. 

حريصون على النظافة، يغسلون جواربهم باستمرار، وهي ما ستلفت نظرك مُعلقة في القبو ومُعلقة في السرداب، وعندما علق طفل السيد بارك على تشابه رائحة عائلة كيم كل ما توارد إلى ذهن الأب هو أن تشابه رائحتهم يرجع لاستخدامهم نوع الصابون نفسه، وأنه يجب عليهم استخدام نوع صابون آخر، فهم أشخاص يتمتعون بالنظافة والرائحة الكريهة التي تنبعث منهم ما هي إلا رائحة الفقر، الرائحة التي وصموا بها، حتى إنها صارت جزءًا منهم ومن رائحة أجسادهم، على عكس الأغنياء الذين سيصبح منزلهم مكب نفايات ورائحة ملابسهم كريهة في غياب الطبقة العاملة، إذن يا مستر بارك فلولا الطبقة العاملة التي ينتمي إليها سائقك كيم لتساوت رائحتك مع رائحته التي تتأفف منها.

الرأسمالية تقتل العفوية الإنسانية

"هي لطيفة لأنها ثرية"، هذا هو تعليق تشونج سوك البطلة الرياضية السابقة والزوجة والأم الجيدة التي تعيش في قبو متعفن، على زوجة بارك، يون كيو، والتي مع سذاجتها وضعف روابط الاتصال بينها وبين أبنائها إلا إنها تنعم بكل هذا البذخ. وقد أهداها النظام الاقتصادي غير العادل كل الامتيازات؛ بما فيها اللطف، عندما تكون الزاوية التي ينظر من خلالها الأفراد لبعضهم البعض قائمة على اعتبارات اجتماعية لا إنسانية، عندما ترى إنسانًا لطيف لأنه ثري فنحن أمام حالة من تفشي الحقد الطبقي وموت العفوية الإنسانية بين البشر.

"المال كالمكواة يكوي كل التجاعيد، لا يظهر للأغنياء تجاعيد"، هكذا تستمر تشونج سوك في طرح العديد من آرائها التي تكونت نتيجة لانقسام الطبقات الاجتماعية، وهي ليست آراء قائمة على تعاملات إنسانية بحتة، إن كان المال كالمكواة يفرد تجاعيد الأغنياء فإن نقصه كالمكواة الساخنة يحرق قلوب الفقراء ويظهر تجاعيدهم مبكرًا.

يهدد شبح السرداب أسرة كيم بإرسال الفيديو الذي يكشف احتيالهم إلى زوجة بارك في الوقت نفسه الذي تقلد فيه زوجته مدبرة المنزل السابقة مذيعي كوريا الشمالية التي تمثل تهديداتها قلقًا دائمًا لكوريا الجنوبية، كوريا الشمالية شقيقة كوريا الجنوبية، يتقاسمان وطنًا واحدًا، والأسرتان الفقيرتان تتقاسمان مأساة واحدة، فحتى وقت إنتاج الفيلم اكتفت كوريا الشمالية بالتهديد ولم نسمع عن وقوع حرب بين الكوريتين، ولكن خلال الفيلم لم يكتف شبح السرداب وزوجته بالتهديد، ولكن اشتعلت الحرب بين الأسرتين، وقضتا على بعضهما في نزاعهما حول فرصة البقاء في القصر.

ماء وحلم..

ألا يريد بونج لأبطاله الاستغراق في الحلم؟

بعد محاولات مضنية لإيقاظ شخص مستغرق تمامًا في نومه في حلمه، يرشه بعض الأشخاص بالماء ليفيق، بعد فشلك في عدة محاولات لطرد الحشرات من منزلك سترش دلوًا مملوءًا بالماء على الأرض لإغراقهم وإنزالهم في بالوعة الصرف الصحي؛ حيث مكانهم الطبيعي. ماذا لو أردت أن توقظ وتقتل في الوقت نفسه حشرات حالمة؟ هنا استخدم بونج عنصر الماء، بدلالته المعروفة ولكن بشكل مستتر لإيقاظ أبطاله من الاستغراق في أحلامهم وبعاصفة منه لإغراقهم لأن الحشرات لا تحلم، لا تأمل. بعد كل مشهد به حلم واقتراب الأبطال من هدفهم يظهر عنصر الماء بإشارة خفية صغيرة؛ عند قضاء أسرة كيم ليلتهم في القصر وتمتعهم بكل الرفاهيات المحرومين منها واتساع رقعة أحلامهم بأنه ربما يتزوج ابنهم من ابنة السيد بارك، لحظات وتتسلط الكاميرا على تدفق الماء من الصنبور لتغلي تشونج سوك الشعرية للسيد الصغير دا سونج.

مشهد المطر الشديد الذي ذكرته سابقًا وكيف أنه لم يوقظهم فقط من أحلامهم، بل أغرقهم وقتلهم، ولم يأخذ فقط أحلامهم ولكنه أغرق ذكرياتهم، فنجد صورهم وميدالية الزوجة وهي تطفو على سطح مياه الصرف الصحي، ونراهم وهم يسبحون في مياه الصرف؛ هذا هو الحل الأمثل للتخلص من حشرات حالمة، فهل تحلم الحشرات!

في نهاية الفيلم أعاد كي ووابن كيم الحجر الذي كان دائمًا رمزًا للأمل والحلم إلى مكانه في النهر وركزت الكاميرا على الماء، لكن الماء في هذه المرة هادئ وليس هائجًا كما سبق وأن رأينا ليلة المطر الشديدة، لأن الابن تعقل وفهم الأمور جيدًا، إنه الآن يعيد الأمور إلى نصابها، وينزل إلى درجته من السلم عندما خُدع بحلمه أنه غادرها. 

ينتهي الفيلم بكي وو وهو نائم ويحتضن خطاب خلاص أبيه والذي يخبره فيه أنه سيشتري القصر يومًا ما وسيحرره من محبسه، وترك بونج النهاية مفتوحة، تركنا لنتنبأ هل سيعاني الابن من بصمته التي تتأفف منها أنوف الأغنياء فيرديهم قتلى كما فعل والده وينضم للسرداب شبح جديد، أم سينجح الابن لمرة وحيدة في إنجاح حلمه؟ هل سيتدخل الماء مثل كل مرة ويوقظه؟ ربما في مشهد ما بعد النهاية نجد هذا الخطاب الحالم وهو يطفو في مياه الصرف الصحي.

الفنانين الغرقى..

هل للفنانين أيضًا ماء يوقظهم من أحلامهم؟

هل بونج هو رجل السرداب الذي يقدر فن معمار القصر والرجل الذي تملؤه روح الكشافة وفن الإشارات هو نفسه من كان يرجو كيم بلهجة المستسلم أن يتركه ليعيش في السرداب فهو يجد راحته به، هو نفسه ذلك الرجل الذي بدأ المذبحة الدموية في نهاية الفيلم؟ فبونج رجل يتأرجح بين موهبته الفنية العالية وتقديره للفن وبين استسلامه ويأسه من إصلاح الأمور وبين وضعه للراديكالية حلاً.

أم أنه كي وو عندما استفاق بعد الغيبوبة وتلقى صدمات ضياع الحلم فظل يضحك بشكل هيستيري غير مفهوم، هل بونج يأس من حلمه في الكون العادل وبعد عدة صدمات يرى أن الحل في السخرية والتهكم؟

سآخذك الآن في رحلة لحياة صرصار داخل المنزل، يبدأ الصرصار منذ البداية مسالمًا نسبيًّا، فهو يسرق فتات الطعام من ورائك ويومًا ما تمتلئ معدته بما لذ وطاب من فُتاتك، فيصدر أصواتًا تعبر عن انتشائه وهذه كبرى حماقاته، لأنك ستسمعه وستشعر بأن هناك دخيلاً على منزلك، طفيلي يهدد راحتك، فتبدأ لعبة الغميضة فهو لن يغادرك بسهولة بعد أن تنعم في خيراتك ويظهر وتجري وراءه وأنت تحمل حذائك في يدك ولكنه يختفي بسرعة فائقة فهي كبرى خصاله، وينتظر نومك حتى يتسلل لمطبخك لسرقة بعض الطعام، ويجري ويختفي، فتشتري بعض مواد الإبادة ولكن حاسة الشم تحذره ويقبع في الداخل لبعض الوقت حتى تنساه، ويأخذ في مراقبتك وينظر إليك وأن تتناول طعامك وأنت نائم في كل أوضاعك اليومية.

في الفقرة السابقة أخبرتك عن الصرصار؛ ربما يصيبك بعض التعاطف تجاهه لأنني أصبحت من مناصريه بعد مشاهدة هذا المشهد الذي قد آلمني نفسيًّا جدًا، عندما اختبأت أسرة كيم أسفل المنضدة كالصراصير حينما كان بارك وزوجته يقيمان علاقة حميمية ويرتديان لون ونوع البيجاما نفسه كأنها زي رسمي يميز البشر عن غيرهم من باقي الكائنات ممن يختفون أسفل المنضدة.  

ربما علينا الآن أن نمشي بحذر لربما داست أحذيتنا على صرصار يتحسس طريقه في الحياة، وأن نفتش أسفل منازلنا جيدًا لربما وجدنا سراديب مخفية نهرب إليها عند شن هجوم علينا أو يمكننا ألا ننتظر لحين شن الهجوم علينا ونستطيع أن نهرع إليها من الآن هربًا من فتك الرأسمالية، ونصبح أشباحًا للسراديب لنجهز أنفسنا فالسراديب كانت دائمًا مكانًا لخروج الثورات.

ساعتان و11 دقيقة من "تسقط الرأسمالية" دون لافتة واحدة تقول "لا للرأسمالية"، فلن يمر على نظرك خلال 131 دقيقة، هي مدة عرض فيلم"الطفيلي"، رفرفة لقطع الأقمشة المستطيلة أو الورق المقوى مربع الشكل مخطوطًا عليها "تسقط تسقط" بأحبار بلون دماء الثائرين ولون جلود الغارقين في البرد والجوع ولون حياة الفقراء، لكن بونج جون مخرج الفيلم استخدم لافتات من نوع آخر، كادرات بصرية شديدة الإيلام تشير بأصابع الاتهام نحو العدو الحقيقي وهو النظام الرأسمالي وما خلقه وغذَّاه من الانقسامات الطبقية.

في البداية ستجد نفسك محصورًا في زاوية إدراك التناقض بين طبقتين، طبقة الفقراء باسوداد حياتها وزرقة أظافرها وجلودها بسبب الجوع والبرد، وطبقة الأغنياء أصحاب الشركات الكبرى بفرشهم وقصرهم، ثم على حين غفلة تُصفع حينما يصل بك الفيلم نحو الثائرين بحمرة دمائهم عندها ستجد نفسك بإرادتك داخل تظاهرة ضد الرأسمالية، أصبحت جزءًا من الحدث، ستجد نفسك بين الحين والآخر ترفع مئات اللافتات من «لا» داخل عقلك.

ولكن جاء الوقت لأخبرك أنه بجميع كادراته البصرية لخلق تلك التظاهرة وبجميع لاءتك المئوية استجابة لتلك التظاهرة، فإن التظاهرة لن تجني ثمارها، كغيرها من آلاف التظاهرات وآلاف الكتب والمقالات التي كُتبت لتناهض الرأسمالية على مر السنين. ولم يُخف بونج يأسه، وظهر في عدة مناطق في الفيلم، فالفيلم يبدأ في قبو الأسرة الفقيرة أسرة كيم كي تايك بكادر للجوارب المُعلقة في لقطة نهارية وينتهي الفيلم في القبو بالكادر نفسه للجوارب المُعلقة في لقطة منغمسة في الظلام، مما يعني أن بداية الفيلم هي نهايته، وأن كل الأحداث لم تُغير من النهاية، بل ربما زادت كارثية الوضع، فقد بدأ فيلمه بالنهار لينتهي بانغماس في الظلام.