هوامش
كريستوف فاندرايروجهة نظر اشتراكية في الإبادة والحرب العالمية
2025.09.28
مصدر الصورة : AFP
وجهة نظر اشتراكية في الإبادة والحرب العالمية
تُظهر مظاهرة اليوم [i] حجم المعارضة الهائل ضد الإبادة المروعة في غزة. ملايين البشر مذهولون من الوحشية الصارخة التي تمارسها إسرائيل وحلفاؤها في برلين وواشنطن من أجل فرض مصالحهم الاقتصادية والجيوسياسية في المنطقة. لكن بعد عامين من الاحتجاجات الجماهيرية المتواصلة حول العالم، حان الوقت لاستخلاص حصيلة سياسية: ما الخلفية السياسية والتاريخية والاقتصادية للإبادة؟ وما الإستراتيجية والرؤية القادرة على إيقافها؟
المنظمون لمظاهرة اليوم، بقيادة حزب اليسار، يروجون لوهم أن الأمر لا يعدو كونه سياسة مضللة من جانب الحكومة الألمانية يمكن تصحيحها ببعض الضغط الشعبي. وينحصر نداؤهم -بعيدًا عن تصوير الفظائع في غزة- في قائمة مطالب موجهة إلى البوندستاج (البرلمان الاتحادي) والحكومة، تشمل تقديم مساعدات إنسانية لغزة، ووقف تسليم الأسلحة، والإفراج عن الرهائن من الجانبين.
لكن الحكومة الألمانية لم تتخذ ببساطة «الجانب الخطأ»، بل هي قوة دافعة وراء الإبادة. فإسرائيل تدين بوجودها بالأساس لتحالفها الوثيق أولًا مع الإمبريالية البريطانية ثم الأمريكية والألمانية. منذ البداية، كان طرد الفلسطينيين واضطهادهم وسيلة لإنشاء جسر عسكري في الشرق الأوسط لخدمة المصالح الجيوسياسية والاقتصادية.
إعادة تقسيم العالم
ترى القوى الإمبريالية أن الإبادة الجارية في غزة وقمع أي مقاومة فلسطينية يمثلان شرطًا أساسيًّا لإعادة تنظيم الشرق الأوسط كله، بما له من أهمية قصوى بموارده الطبيعية وموقعه الإستراتيجي المركزي. إن الإبادة في غزة ليست سوى جبهة أخرى في الصراع العالمي على إعادة تقسيم العالم. ولا يمكن فصل دعم الحكومة الألمانية لها عن خططها الحربية ضد روسيا وعن سباق التسلح المروع الذي تنفذه. وإذا لم يُوقف، فإن ما يحدث في غزة يهدد بالانتشار إلى العالم كله.
لكن حزب اليسار يلتزم الصمت حيال ذلك. فالبيان لا يتضمن كلمة واحدة عن أكبر سباق تسلح منذ هتلر، ولا عن التصعيد المستمر للحرب ضد روسيا، ولا عن إعادة التجنيد والعسكرة الكاملة للمجتمع. بدلًا من ذلك، يصوغ الحزب مطالب «ودية» للحكومة الاتحادية، لا تخدم إلا في تخدير الحركة.
السبب أن حزب اليسار في جوهره يؤيد سياسات الحكومة. فبعد أن أعيد إدخاله إلى البوندستاج على موجة الاحتجاجات ضد حزب «البديل من أجل ألمانيا (AfD)»، عمل فورًا على إضعاف التظاهرات وتحالف مع المستشار فريدريش ميرتس، الذي فجّر الاحتجاجات أساسًا حين عقد اتفاقًا مع الفاشيين. استخدم حزب اليسار أصواته البرلمانية لتمكين انتخاب ميرتس بسرعة مستشارًا، بل وأقر قروض حرب تزيد عن تريليون يورو في البوندسرات، الغرفة الثانية للبرلمان الألماني.
بين النضال والإبادة
اليوم، يدعم حزب اليسار علنًا إعادة التسلح، ويطالب فقط بتغليفها ببعض العبارات الاجتماعية. فقد قالت زعيمة الكتلة البرلمانية هايدي رايشينيك لـ«تاجسشاو» الأربعاء إن فلاديمير بوتين «بالطبع يشكل تهديدًا لأمننا»، في دعم واضح للرواية الحربية للحكومة. ورفضت تقليص الميزانية العسكرية المروعة، بل انتقدت أن الجيش الألماني لم يصبح بعد، رغم الأموال الخاصة، قادرًا على «الدفاع عن ألمانيا». وأضافت: «علينا أن نتحدث عمّا يجب شراؤه فعلًا».
كما دعم حزب اليسار موقف الحكومة بشأن غزة. ففي 12 أكتوبر 2023، صوتت كتلته البرلمانية بالإجماع لصالح قرار «التضامن مع إسرائيل»، الذي اعتبر أن «أمن إسرائيل» هو «مصلحة عليا للدولة الألمانية». ونص القرار على أن ألمانيا عليها «أن تزود إسرائيل بكل ما تحتاجه وتطلبه للدفاع عن نفسها». إلى جانب ذلك، دعا القرار إلى اتخاذ «تدابير في قانون الإقامة»، أي ترحيل الناشطين المؤيدين لفلسطين.
واصل حزب اليسار هذا النهج في الأشهر التالية، متذرعًا مرارًا بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وكأن ذبح الأطفال له علاقة بالدفاع عن النفس. حتى الدعوة إلى التظاهر اليوم تضمنت العبارة: «ندين جميع جرائم الحرب وانتهاكات حقوق الإنسان، سواء ارتكبها الإسرائيليون أو الفلسطينيون»، ما يساوي بين نضال شعب مضطهد منذ عقود والإبادة التي يمارسها مضطهِد مدجج بالسلاح ومتحالف مع أقوى القوى الإمبريالية.
حين يحاول حزب اليسار الآن أن يتصدر التظاهرات ضد الإبادة، فإنه يفعل ذلك فقط للسيطرة على الحركة وخنقها. فهو يرى بوعي أن دوره هو الدفاع عن الرأسمالية. وباعتباره الحزب الستاليني الحاكم سابقًا في ألمانيا الشرقية، فقد أشرف بالفعل على استعادة الرأسمالية، وشارك لاحقًا في أسوأ إجراءات تقشف اجتماعي في حكومات الولايات. لطالما استخدم خطابًا يساريًّا لدفع هذه السياسات.
لكن الإبادة في غزة تُظهر أن الرأسمالية غير قابلة للتوافق مع حاجات الشعوب. فالقوى الإمبريالية، في سعيها وراء الأرباح، مستعدة مرة أخرى لاستخدام أقسى الوسائل. خلال الأزمة المالية والجائحة، أنفقت مئات المليارات لإنقاذ البنوك والشركات. واليوم تريد استرداد هذه الأموال، والأموال الطائلة التي تُنفق على التسلح، عبر تقليص الإنفاق الاجتماعي وإشعال الحروب. والطبقة الحاكمة لا تملك سوى إجابة واحدة على الأزمة العميقة للرأسمالية: الحرب في الداخل والخارج.
ولهذا الغرض، يؤسس دونالد ترامب لديكتاتورية رئاسية في الولايات المتحدة، يبني معسكرات اعتقال للعمال المهاجرين، وينشر الجيش في المدن الكبرى، ويحاول قمع أي معارضة لحكمه القائم على الأوليجاركية المالية. والحزب الديمقراطي يترك له الحبل على الغارب لأنه يمثل نفس الأوليجاركية. وفي فرنسا، يستخدم ماكرون الشرطة ضد الحركة الإضرابية المتصاعدة، وفي بريطانيا يصف ستارمر معارضي الإبادة في غزة بالإرهابيين ويأمر باعتقال المئات منهم.
في ألمانيا، يتجسد هذا المسار في حكومة «جميع الأحزاب» التي يحدد فيها حزب البديل (AfD) -بخطابه المعادي للاجئين ونزعته العسكرية- الإيقاع. ولا يُرفع في البوندستاج صوت ضد جنون الحرب على روسيا أو ضد إعادة التسلح والإبادة. لتمويل التسلح والهدايا المليارية للأثرياء، تُخفض ميزانيات التعليم والصحة والخدمات الاجتماعية، بينما تُفرض تسريحات جماعية في الصناعة لتهيئة ألمانيا للحرب وحروب التجارة.
ضد التسلح
في مواجهة هذه الهجمات وجنون الحرب العالمية، تتطور مقاومة واسعة في أنحاء العالم. في الأسابيع الأخيرة، أضرب مئات الآلاف في فرنسا ضد خطط ماكرون للتقشف والتسلح، وتظاهر عشرات الآلاف في إيطاليا ضد الإبادة في غزة. مظاهرة اليوم جزء من هذا الحراك.
لكن السؤال الحاسم هو الإستراتيجية والرؤية. إذا بقيت الحركة تحت قيادة تشكيلات زائفة يسارية، مؤيدة للرأسمالية، مثل حزب اليسار في ألمانيا، أو الجبهة الشعبية الجديدة لميلونشون في فرنسا، أو «بوديموس» في إسبانيا، فإنها محكومة بالفشل.
لا بد لحركة جادة مناهضة للحرب أن تربط النضال ضد الإبادة بالنضال ضد التسلح وتصعيد الحرب على روسيا، وأن تستهدف السبب الجذري لهذه الهمجية: الرأسمالية. وحده نزع ملكية البنوك الكبرى والشركات ووضعها تحت السيطرة الديمقراطية يمكن أن يمنع الكارثة. فالرأسمالية تقود -كما فعلت قبل الحربين العالميتين- مجددًا إلى الهمجية والحرب والفاشية.
ينبغي أن تقود هذه الحركة القوة الاجتماعية التي تنتج كل الثروات وتتحمل أعباء الحرب والأزمة: الطبقة العاملة الدولية، الغالبية العظمى من السكان. يدعو حزب المساواة الاشتراكية (SGP) إلى تشكيل لجان قاعدية في كل مصنع، ومكان عمل، ومدرسة، وحي. «يجب أن تصبح هذه اللجان مراكز مقاومة، توحد كل قطاعات الطبقة العاملة (في الصناعة، واللوجستيات، والنقل، والمطاعم والوجبات السريعة، والخدمات الاجتماعية، والدفاع القانوني، والتعليم، والفنون والثقافة، والترفيه، والطب والرعاية الصحية، والعلوم، وتكنولوجيا المعلومات، والبرمجة، وغيرها من المهن المتخصصة)» كما جاء في بيان الحزب الشقيق في الولايات المتحدة.
يجب أن تكسر اللجان القاعدية النفوذ المشلول للنقابات المؤيدة للأعمال، وأن تكون مستقلة تمامًا عن جميع الأحزاب الرأسمالية، التي -مثل حزب اليسار- تفعل كل ما بوسعها لإخراج الحركة عن مسارها وقمعها. وحدها تعبئة القوة المستقلة للعمال قادرة على إنهاء الرأسمالية وآلتها الحربية.
ولتحقيق ذلك، يجب على العمال أن يتوحدوا عبر كل الحدود الوطنية والعرقية والدينية، وأن يواجهوا القومية المتصاعدة والحرب بوحدة أممية في النضال ضد الرأسمالية. وهذا يتطلب، خصوصًا، الدفاع عن حقوق العمال المهاجرين.
«إن الإستراتيجية والتنظيم والعمل الضروري لهزيمة ترامب، والدفاع عن الحقوق الديمقراطية، ومنع الفاشية والحرب، لن تنشأ تلقائيًّا»، يواصل البيان. «يجب النضال من أجل هذا البرنامج. لكن العزم اللازم لخوض هذا النضال لا يتوافق مع التشاؤم والإحباط. فهذه المزاجات تقود إلى الشلل، ويرتبط التشاؤم دومًا بتقدير سطحي وزائف للواقع. يغذي الديمقراطيون والنقابات ووسائل الإعلام أسطورة الحكومة القادرة على كل شيء، ويصرون في الوقت ذاته على أنه لا يمكن فعل شيء. هذا كذب. ما ينقص ليس المعارضة الجماهيرية، بل الإستراتيجية السياسية التي تقود وتنظم النضال ضد هجوم ترامب على الحقوق الديمقراطية».
ندعو جميع العمال والشباب الذين يتفقون مع هذه الرؤية إلى الانضمام إلى حزب المساواة الاشتراكية لتعبئة قوة الطبقة العاملة، وهزيمة مؤامرة الأوليجاركية، وخوض النضال من أجل مستقبل اشتراكي خالٍ من الفاشية والإبادة والحرب.