عربة التسوق

عربة التسوق فارغة.

هوامش

محمد حسني

«نتنياهو» يحتضر و«كهانا» يُبعَث من جديد

2025.08.30

مصدر الصورة : الجزيرة

«نتنياهو» يحتضر و«كهانا» يُبعَث من جديد

في مقابلة مع قناة «I24NEWS»، قدم المحاور «شارون جل» إلى بنيامين نتنياهو قلادة على شكل خريطة «أرض إسرائيل الكاملة»، وسأله: هل تتبنى الفكرة؟ فأجابه مقتضبًا: « نعم ».

 

أثار نتنياهو بتصريحه، الذي اختتم به اللقاء، موجة من الغضب والمخاوف، حيث تشمل «أرض إسرائيل الكاملة» التي تحدث عنها، علاوة على الحيز الذي تقوم عليه إسرائيل: الأردن، وأجزاء من مصر والسعودية والعراق وسوريا ولبنان، الأمر الذي ترتب عليه إدانات كثيرة ومطالبات بـ«التوضيح».

ولكن هل هناك حاجة -فعلًا- إلى «توضيح» أو إلى «الدهشة»؟

«أرض إسرائيل»، و«أرض إسرائيل الكاملة»، و«أرض إسرائيل الكبرى»، مصطلحات لم تحظَ بتعريف دقيق في التراث اليهودي، وظلت متوقفة على التأويل باختلافه، يتسع ويضيق وفق رؤية كل حاخام، وهي رؤى منبتة الصلة بالواقع السياسي، حيث لم تتعدَّ أوراق مخطوطة وأحاديث مغلقة، والأهم من ذلك أنها تعلقت بـ«ماضٍ» ولم تتعلق بحاضر أو مستقبل. بالتالي لم تتطرق التفاسير إلى «سيادة» على تلك الأرض، أيًّا كانت حدودها، بل اقتصرت على القدسية الدينية المتعلقة بأداء الطقوس، مثل الحج ومواقيت الأعياد... إلخ.

ومع ذلك ظلت مسألة أفضلية الإقامة في فلسطين أو حتى الدفن فيها محل جدال، وصل إلى اعتبار البعض أن الهجرة إليها ليست «غير واجبة» وحسب، بل «محرمة»، باعتبارها «استعجال آخرة الأيام». من هنا كانت التيارات الدينية رافضة للصهيونية، وتصنفها كحركة هرطقة تخرب اليهودية وتخاطر باليهود، إلى أن نجحت الصهيونية في تدجين دوائر من المتدينين في إطار «الصهيونية الدينية»، بينما بقي بعضها مناهضًا أو متحفظًا.

   

الحق التاريخي.. مبرر لا دافع

هل اعتقاد نتنياهو بفكرة «أرض إسرائيل الكاملة» يثير الخوف لأنه «دافع» للتوسع الاستعماري؟

إن فكرة الحق التاريخي تعد ركنا هامًّا في الحركة الصهيونية منذ نشأتها، يقل التركيز فيه أو يزيد حسب الظروف، لكنه في الواقع رُكن دعائي من الأساس، لم يرقَ أبدًا ليكون في أهمية الأركان الأساسية التي حددها تيودور هرتسل في كتابه «الدولة اليهودية»، وهي دعم دولة/ دول عظمى، ودعم مالي من أثرياء اليهود، واستيطان عملي على الأرض.

وما يؤكد ذلك هو تبني هرتسل لمشروعات بديلة، في أوغندا والأرجنتين وسيناء، وعدم معارضة الأوساط الدينية لتلك المشروعات، بينما عارضها التنقيحيين، السلف الأقدم لليمين القومي العلماني.

وما يثير الاستياء، أن نجد كثيرًا من الحبر والورق قد استنفد في الحديث عن المؤامرة اليهودية، المغرقة في القدم، للسيطرة على العالم واحتلال فلسطين، وهي محض ترديد لأراجيف يمينية أوروبية، وتدعم -عن غير وعي- المقولات الصهيونية.

لم يكن «الحق التاريخي» يومًا دافعًا حقيقيًّا للتوسع الاستعماري، لكنه كان مبررًا دعائيًّا لا أكثر، يتساوى في ذلك مع حروب الفرنجة -الحملات الصليبية- أو الاستعمار الحديث، والصهيونية جزء منه.

والأكثر من ذلك أن «الوعد الإلهي»، و«الرسالة الروحية»، بل واستخدام أسفار وآيات بعينها من العهد القديم، لم يكن اختراعًا صهيونيًّا، بل بدأ قبلها بقرون، عبر جماعات مسيحية متطرفة، لتبرير استعمار العالم الجديد. وهي الجماعات نفسها التي تؤيد الصهيونية، باعتبار أن تجمع اليهود -كخاطئين وعصاة للرب- في فلسطين، هو تمهيد لعودة يسوع المسيح.

جاءت الصهيونية كوسيط استعماري بامتياز، حتى في أكثر التفاصيل التي أشرنا إليها، أخذتها «على الجاهز» وروجتها حسب الحاجة، لكنها لم تكن أبدًا دافعًا عقائديًّا لجميع التيارات، خاصة التيارات العلمانية الحاكمة خلال الاستيطان والعقود الثلاثة الأولى للدولة.

لقد تضمنت وثيقة إعلان الدولة مقولات الحق التاريخي، لكن السياسات المعلنة والمطبقة التي تبنتها المؤسسة الصهيونية بقيادة بن جوريون، كانت تقوم من الأساس على «فرض الأمر الواقع»، فلم تكترث المنظمات المسلحة لا بخارطة التقسيم لتلتزم بها، ولا بالتصورات الدينية عن «أرض إسرائيل»، أو «أرض إسرائيل الكاملة/ الكبرى»، كخارطة تسعى إلى إرسائها. وقد عبر بن جوريون عن ذلك بقوله: «إذا لم ندافع عن النقب فلن تكون هناك تل أبيب»، لذلك قررت المؤسسة الصهيونية التوسع السريع في بؤر الاستيطان، وتوجيه النشاط العسكري إلى كل المناطق، خارج قرار التقسيم، الذي كان يمنحهم 56% من مساحة فلسطين، لينجحوا خلال الحرب في الاستيلاء على 87%، في حين لم يملكوا قبلها سوى 7% فقط من مساحة فلسطين.

 1967 سكرة القوة

بعد شهور من الترقب والخوف التي سبقت حرب 1967، انقلب الوضع بشكل فجائي عقب الحرب ، وفي غمرة النشوى التي انتابت الإسرائيليين، انتعش الخطاب المسيحاني والأحلام التوسعية في الأوساط الصهيونية، رغم تمتمة البعض بمساوئ الحكم العسكري، وتحذير آخرين من خطورة الوضع الجديد «عمليًّا» على المشروع الصهيوني نفسه.

وعندما اندلعت حرب 1973، لتحطم الصورة الذاتية للصهاينة عن أنفسهم، التي تضخمت خلال السنوات الست السابقة، كانت الهزيمة بيئة مناسبة لتنامي تيارات أكثر تطرفًا لتشق طريقها في الشارع الإسرائيلي، وتنشر خطابها وتدفع نحو مزيد من العنف الموجه نحو الخارج، ونحو الشعب الفلسطيني في الضفة وغزة وفي أراضي 48 أيضًا.

كهانا

كان مارتن (مئير) كهانا، قطبًا للتيار المعروف حاليًّا بـ«الكهانية Kahanism». وكانت بدايته مثيرة حقًّا، كمؤسس لمنظمة يهودية أمريكية مسلحة، وعميل للـFBI مزروع وسط منظمات مسيحية متطرفة، وصديق شخصي لعائلة المافيا الإيطالية جو كولومبو.

ورغم نجاحه، قرر كهانا، كما قرر نتنياهو أيضًا، أن يغادر أمريكا ويبحث عن مستقبل أفضل في إسرائيل. ومنذ هجرته، وحتى مصرعه في 1990، لم يكتفِ عميل الـFBI السابق بعدائه للمسلمين والعرب في الجوار وحسب، بل وجه عداءه نحو الفلسطينيين في الضفة والغزة، وفي أراضي 48، وكان يتوجه بنفسه مع مناصريه إلى البلدات العربية ويهدد سكانها داعيًا إياهم إلى الرحيل.

مثّل كهانا أقصى درجات التطرف التي عرفتها إسرائيل، إلى درجة صدور أحكام قضائية لمنع ترشحه للكنيست، وقرارات بمنعه من الظهور الإعلامي، وتحفظ المؤسسة العسكرية من انتشار أفكاره. فهذه الأفكار التي كانت توصف بالخزعبلات المسيحانية، يتبناها الآن سياسيًّا وعسكريًّا التيار المتسيد للمؤسسة الصهيونية، راعي الاستيطان في الضفة وغزة، والحاضنة الروحية لآلاف العسكريين من كل الرتب والمناصب.

يصف البعض بنيامين نتنياهو، وحتى معارضيه يائير لا بيد وبني جينتس، بأنهم متذيلون لتيار كهانا، ويمكن إدراك حقيقة ذلك بوضعه في سياقه الصحيح، الكهانية تمثل بوقًا دعائيًّا قويًّا، ومحفزًا دائم النشاط للمشروع الصهيوني التوسعي منذ نشأته، يتساوى في ذلك مع رافعات أخرى بالتوازي، مثل فزاعة التهديد الأمني: فلسطيني، لبناني، إيراني... إلخ.

في انتظار مسخ جديد

في المقابلة سالفة الذكر، بدا نتنياهو شائخًا مهزوزًا، زائغ البصر، يكرر الكلام بشكل عشوائي، يبدأ كل جُملة بـ«أنا»، أو «نحن». «أنا» قلت.. وفعلت وهم كانوا معترضين، حتى ثبت أن رأيي «أنا» هو الصواب، «أنا» صاحب الفضل في تحييد إيران وحزب الله. أما عند الحديث عن الوضع في غزة، فلجأ لتوزيع المسؤولية: «نحن» سننتصر، «نحن» سنقضي على حماس، «نحن» سنحرر المختطفين أحياءً وأمواتًا.

ذلك المسخ مصاص دماء حرفيًّا، يحتاج إلى إزهاق مئة روح ليستمر يومًا آخر على عرش إسرائيل [i] ، ويعلم أن توقف الحرب منذ يومها الأول، وحتى بعدما تجاوزت الـ688 يومًا، تعني سقوطه إلى الأبد، بل وتقديمه إلى المحاكمة، وكلما طالت الحرب بدا المصير أكثر حتمية وأكثر بؤسًا، ما يجعله، للأسف، يتشبث أكثر ويزهق مزيدًا من الأرواح لتطول فترة احتضاره.

ما بعد نتنياهو، إما أن تحدث المعجزة وتتصاعد الحركة المناهضة للحرب في إسرائيل، بدعم من الحركة العالمية، وتنجح في صنع تغيير حقيقي في تاريخ المشروع الصهيوني، وإما أن يُبعث «كهانا» في جسد زعامة جديدة سكرى بالأحلام المسيحانية، وهو الاحتمال الأرجح.

وهكذا فإن تصريح نتنياهو بتبني فكرة «أرض إسرائيل الكاملة/الكبرى» يمثل المشروع الصهيوني بوجهه الديني، أو العلماني، وكلاهما استعماري وعنصري وتوسعي، بدون الحاجة إلى نبش في المخطوطات أو الكتب، أو تتبع للخطب والتصريحات.

يتحقق الشعار سواء بالسيطرة العسكرية المباشرة، أو بالهيمنة وعقد التحالفات، وتحويل الأنظمة العربية، من معادية إلى محايدة ومهادنة، ثم إلى حليفة وداعمة.

«أرض إسرائيل الكاملة/الكبرى» شعار لا يستدعي الدهشة ولا يحتاج إلى توضيح.


[i] حسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني ، في 24 أغسطس 2025، تجاوزت حصيلة ضحايا العدوان الإسرائيلي 63 ألف شهيد، و165 ألف مصاب، بمتوسط مئة قتيل و250 مصابًا يوميًّا، وتخريب ما يقرب من 193 ألف مبنى.