رؤى
راجي مهديحزب الله في العاصفة
2025.08.31
مصدر الصورة : آخرون
حزب الله في العاصفة
في السادس والعشرين من نوفمبر الماضي، وُقّع اتفاق لوقف إطلاق النار بين حزب الله وإسرائيل برعاية الولايات المتحدة وفرنسا. نص الاتفاق على انسحاب الحزب إلى ما وراء نهر الليطاني، وانتشار الجيش اللبناني في الجنوب، كما نص على انسحاب قوات الاحتلال الإسرائيلية من الأراضي التي احتلتها في مدة لا تتجاوز الشهرين. غير أن الالتزام اللبناني قوبل كالمعتاد بعربدة صهيونية مفتوحة تضمنت استمرار احتلال خمسة مواقع في جنوب لبنان، تتوزع بين قضاء صور وبنت جبيل ومرجعيون، حيث تتمركز قوات الاحتلال على تلال تتحكم ميدانيًّا في رميش وعلما الشعب وحولا وعيتارون ومارون الراس، بالإضافة إلى ذلك، لم تتوقف إسرائيل عن تنفيذ استهدافات بالطيران الحربي والمُسيَّر، ضد ما تقول إنه أهداف تابعة لحزب الله تحاول إعادة الانتشار.
وبينما كان من المفترض أن يكون الاتفاق ختامًا للجهود الصهيونية لتحييد حزب الله عن جبهة غزة، فإن ما تلاه كشف عن خطة إستراتيجية لتفكيك الحزب إلى الأبد، وهي خطة عبرت عنها مهمة المبعوث الأمريكي لشؤون سوريا ولبنان توم باراك، الذي افتتح مسيرة رحلات مكوكية على طريقة كيسنجر، حاملًا معه خطة ترامب لفرض الاستسلام على الحزب تحت عنوان "حصرية السلاح".
واقع جديد.. وفرصة تاريخية
في 7 أغسطس أقرت الحكومة اللبنانية خطة ترامب، وأوكلت إلى الجيش اللبناني مهمة وضع خطة لنزع سلاح حزب الله بحلول نهاية العام، الخطة التي من المقرر أن تُناقش في الاجتماع الوزاري في أوائل سبتمبر المقبل. حاولت الحكومة طوال العام أن تناور بين المطلب الأمريكي بنزع سلاح الحزب، قبل أي حديث عن انسحاب إسرائيل من المواقع التي تحتلها، وبين إصرار الحزب على رفض كل حديث عن نزع السلاح قبل انسحاب إسرائيل، فمن جهة، لا يستطيع التحالف الحاكم في لبنان إلا أن يخطب الود الأمريكي، بينما يتخوف، من جهة أخرى، من حدوث صدام داخلي مع حزب الله، يهدد بنسف لبنان من أساسه. غير أن ضغوط الإمبريالية الأمريكية وتهديداتها حسمت في النهاية خيارات عون–سلام، بدفع من العربية السعودية نحو صدور قرار نزع سلاح الحزب، ليعلن نعيم قاسم في خطابه يوم 25 أغسطس أن الحزب لن يتخلى عن سلاحه تحت أي ظرف.
بالتأكيد هناك واقع جديد تشكله الوحشية الإسرائيلية في المنطقة، بدعم كلي من الإمبريالية الأمريكية، فقبل زيارته الأخيرة إلى لبنان، رفقة مورجان أورتاجوس المبعوثة الأمريكية المساعدة للشرق الأوسط، كان براك في إسرائيل ومنها طار إلى لبنان برفض قاطع لسياسة الخطوة مقابل الخطوة، إن إسرائيل ترفض الحديث عن أي انسحاب ولو تدريجي من النقاط الخمس التي تحتلها في الجنوب، قبل أن يسلم حزب الله ما تبقى من مقدراته العسكرية، فالهدف الإستراتيجي ليس تحقيق حل سياسي متوازن نوعًا ما، بل إذعان حزب الله التام وتفككه، فالحزب يقع بين شقي رحى، من جهة تعرضت شبكة تحالفاته الإقليمية لزلازل مدمرة، كان أبرزها انهيار سلطة الأسد واستيلاء الجولاني وهيئة تحرير الشام على السلطة في دمشق، بما قطع طريق إمداد الحزب بالسلاح عبر البقاع، أي انقطعت الطريق البرية بين الحزب وبين إيران، في وقت هو في أمس الحاجة إلى إمداد عسكري يعوضه عمَّا خسر من عتاد، بالإضافة إلى أن الضربات التي تلقاها في سبتمبر الماضي كانت من الضراوة بحيث أفقدت الحزب توازنه الداخلي، ومن جهة أخرى كان مطلب نزع السلاح شعار كل خصوم الحزب في الداخل ومنذ سنوات طويلة، الشعار الذي تبدو فرصة تنفيذه اليوم سانحة تمامًا، ما أغرى اليمين المسيحي اللبناني برفع صوته عاليًا لخلق حالة من التوتر تشبه تلك التي سبقت الحرب الأهلية عام 1975.
هي فرصة تاريخية فعلًا وهذا ما يدركه الحزب دون مكابرة، إدراكًا جعله يبحث عن حلفاء في البيئة السياسية اللبنانية خارج الثنائية الشيعية، ففي 11 أغسطس زار وفد من الحزب برئاسة محمود قماطي المركز الرئيسي للحزب الشيوعي اللبناني، وكذلك الحزب السوري القومي الاجتماعي، في محاولة لخلق تحالف مناوئ لمشروع نزع السلاح، كما قام في 27 أغسطس بزيارة مركز جبهة العمل الإسلامي في برجا، والتقى ممثلين عن حركة أمل والحزب السوري القومي وحزب المؤتمر الشعبي وحزب التوحيد العربي والحزب الديمقراطي اللبناني. ومن جهة أخرى سعى الحزب إلى التلويح بالشارع حيث جابت الضاحية الجنوبية مسيرات بالموتوسيكلات والأعلام، في أعقاب إقرار الحكومة خطة براك القاضية بنزع السلاح، بالإضافة إلى وقفات احتجاجية أدت ببراك إلى إلغاء زيارته لصور والخيام، التي كانت مقررة في 27 أغسطس.
لا تبدو تلك بالفعل إلا بروفات لحرب أهلية لبنانية، وهي الرسالة التي فهمها نواف سلام رئيس الوزراء اللبناني من الخطاب الأخير لنعيم قاسم. غير أن نواف سلام وجوزيف عون لن يعترفا أبدًا بأن الرصاصة الأولى في الحرب الأهلية اللبنانية الجديدة، أُطلقت في 7 أغسطس 2025 في باب البلاط، حين أقرت الحكومة قرار نزع سلاح الحزب، وبالتالي تجريد لبنان عمليًّا من السلاح، بينما تحتل إسرائيل مواقع في الجنوب، وتغتال بشكل شبه يومي مواطنين لبنانيين في الطرقات.
قوة لبنان في ضعفه
القرار الذي لم يكن استجابة لحاجة وطنية لبنانية بل لمطلب تاريخي رفعته قوى الرابع عشر من آذار، تعبيرًا عن مصالح موضوعية، تتمثل في ارتباط إستراتيجي بالمصالح الإمبريالية الصهيونية. إن نواف سلام وجوزيف عون لا يريدان فك ارتباط لبنان بإيران، بل ربط لبنان بالإمبريالية برباط لا ينفصم. ليست مسلكية حكومة سلام وعون مسلكية وطنية تستهدف بناء دولة مركزية، تتناقض بالطبع مع وجود ميليشيا غير نظامية، بل مسلكية تستهدف بالضبط وضع نتائج الحرب بين الحزب وإسرائيل في التطبيق العملي، إن نظرة إلى الأمور ستؤكد أن قطاعات مسيحية وسنية في البرجوازية اللبنانية كانت تنتظر هزيمة الحزب في الحرب، أي كانت تنتظر نجاح إسرائيل في كسر التوازن الداخلي في لبنان، بما يسمح بشطب واحدة من المستجدات التي رسختها الطائفية، الاعتراف بالبرجوازية الشيعية كطرف في الطبقة السياسية اللبنانية. ولعل الحزب يدرك ذلك جيدًا وعبَّر عنه أمينه العام بالقول: "هناك خطر وجودي على الشيعة في لبنان".
تؤمن البرجوازية اللبنانية بأن قوة لبنان في ضعفه، غير أن جناحها الشيعي الصاعد من قلب المحارق الصهيونية المتكررة في جنوب لبنان، إنما أمَّن لنفسه الاعتراف والبقاء بالقوة، هنا يكمن التناقض الرئيسي الذي لن يمكن تسويته إلا بالنار، ولهذا نقول إن لبنان محكوم بمجزرة قادمة على إيقاعات إسناد صهيوني من حكومات الإرهاب في سوريا وإسرائيل.
إن الجيش اللبناني لا قِبَل له بنزع سلاح الحزب عنوة، كما أن لا قبل له بمواجهة إسرائيل، وهو ما لم يفعله في تاريخه القصير، وهؤلاء الذين يطالبون بحصر السلاح في يد الدولة، هم يطلبون من الأساس نزع سلاح لبنان أي تدمير كل قدرة دفاعية له أمام إسرائيل، ناهيك عن التصدي للتهديدات المُذِلة بضم لبنان إلى سلطة الجولاني، أو على الأقل مناطق الشمال والبقاع، ومنح جبل لبنان للموارنة والجنوب كحزام أمني لإسرائيل.
بما إن الجيش اللبناني لن يستطيع نزع السلاح عنوة، فإنه سيتولى فقط فتح الحرب، غير أن إسنادًا سيأتيه من الميليشيا المارونية التي لم تتخلَّ عن تنظيمها العسكري، وعبر الحدود السورية ومن الجنوب، هذا سيناريو للحرب الأهلية متضافر مع الغزو الأجنبي للبنان، وصولًا إلى تقسيمه المحتمل، بما إن الغزو الأجنبي وحده لن يستطيع عمليًّا نزع السلاح، وبما إن ميزان القوى الداخلي وحده لن يحسم المسألة بالرغم من تشكل جبهة عريضة معادية للحزب.
بالطبع هناك تيار مناوئ لنزع السلاح، ليس بوصفه سلاحًا للحزب، بل بوصفه سلاحًا ضد إسرائيل، وليس بوصفه أداة استقواء في الداخل، لعل أبرز من عبر عن هذا الموقف كان الحزب الشيوعي اللبناني، على لسان أمينه العام حنا غريب، في المؤتمر الصحفي المشترك مع محمود قماطي، ممثل حزب الله، عقب زيارته للمركز الرئيسي للحزب الشيوعي اللبناني، حينها عبَّر غريب عن موقف مركَّب، شِقُّه الأول أن المقاومة حق تمارسه الشعوب، وأن الدولة إن أرادت حصر السلاح فعليها أن تقاوم الاحتلال وتصون سيادة لبنان، غير أنها كدولة طائفية عاجزة وغير راغبة في القيام بهذا الدور، وبالتالي فمن يريد حصر السلاح عليه أن يشيد دولة وطنية لا طائفية، بالضبط كما يجب أن تكون المقاومة وطنية لا طائفية. هذا الموقف بالإضافة إلى اعتباره قرارَ حصرِ السلاحِ استسلامًا، فإنه يشير إلى مسؤولية حزب الله عمّا وصلت إليه الأوضاع، لا بقتاله إسرائيل، بل باحتكاره حق المقاومة وتطييفها. وبالرغم من أن تصريحات غريب تبدو سابقة لأوانها، بمعنى أنها خرجت عن حيز السلاح وفقط باعتباره موضوع الساعة، فإن مشروعًا مقاومًا لا طائفيًّا يبدو هو المخرج الوحيد من الأزمة لكنه المخرج المستحيل.
كعب أخيل
لم يقدم حزب الله نقدًا أو مراجعة لمساره، لا كمراجعة لفكرة المقاومة، بل لبنية الفكرة ومضمونها، بالطبع ليست المشكلة تلاحُق الأحداث وضيق هامش المناورة لدى الحزب، بل في منظور الحزب نفسه وبنيته وتموضعه. وهذا ما نعتبره كعب أخيل في الموضوع كله.
إن حزب الله تصور إمكانية استمرار مشروع معاداته لإسرائيل من نفس الأرضية الطائفية للطبقة السياسية اللبنانية، وعليه كانت ممانعة إسرائيل جزءًا من أدوات قوته في الداخل اللبناني، غير أنه وهو يلعب تلك اللعبة المزدوجة كان مقيدًا بشروطها، مساهمًا عن وعي في إطالة عمر الطائفية في لبنان، الطائفية التي تعني تقويضًا لأي مشروع وطني يتخطى سطوة شيوخ الطوائف، هؤلاء الذين كان الحزب شريكهم ونقيضهم في آن. فالحقيقة أنه لم يكن الحزب يستطيع أن يطلق صواريخه على إسرائيل وهو يقتسم الحكم مع ورثة الجميل والحريري وشمعون مسلمًا بالقسمة الطائفية، حيث الرئاسة الأولى للمسيحيين والثانية للسنة ومجلس النواب للشيعة، هذا النمط الزبائني في السياسة جعل الحزب عرضة للابتزاز السياسي اللبناني والعسكري الصهيوني في آن معًا. فالحزب الذي لعب بمنطق القوة سابقًا، سعى إلى تحالفات جديدة حين صارت القوة مهددة ومحل شك، تحالفات سياسية لا طائفية ومن الصف المهمش في السياسة الرسمية اللبنانية.
وبالعودة إلى كلام حنا غريب، فإنه يبدو خطة طويلة الأمد، غير أنها المخرج النهائي لمشروع لبنان وطني ديمقراطي مقاوم، وهو مشروع يتجاوز منطق حزب الله الحالي، ويتجاوز الحزب نفسه، فالحزب سيتشبث بسلاحه بالفعل، وهو حق، لكن مخرجه الوحيد من السيناريوهات القادة هو أن ينفتح على أكبر جبهة وطنية ديمقراطية لبنانية، في مواجهة حلف التصفية الداخلي ورعاته في الخارج، وبانفتاحه هذا لو تحقق فإن الحزب سيتوقف عن الوجود بالصيغة القديمة. ولأن الأمر بهذه الصعوبة، فإن الحزب على الأرجح لن ينجو من المقتلة.