ثقافات
أمير الـصرّافموسم الحب المريمي.. تمشية في رحاب مولد العذراء
2025.08.31
مصدر الصورة : آخرون
موسم الحب المريمي.. تمشية في رحاب مولد العذراء
مع أن الطريق قصير بضع كيلومترات لا يستغرق قطعها بالسيارة سوى عشر دقائق، فإن الوصول إلى قلب قرية السلامية في أيام الموسم يتطلب سائقًا ماهرًا ليتخطى تكدس المركبات والزوار، في الأزقة الضيقة المؤدية إلى مقر «أم النور».
«السلامية الحائط» قرية أم، أو مجلس قروي يتبع مركز نجع حمادي شمال قنا، يضم عددًا من القرى الأخرى، واسمها مركب لا يعرف أحد من الأهالي سبب تسميته. وقد دلّني الباحث أيمن أبو الوفاء، مدير إدارة التسجيل الأثري بمنطقة آثار نجع حمادي الإسلامية والقبطية، على معلومات وصفها بالقليلة، وردت عن القرية في مرجعين اثنين. الأول، ما أورده محمد رمزي في كتابه «القاموس الجغرافي للبلاد المصرية من عهد القدماء المصريين إلى سنة 1945»، حيث ذكر أن أصلها من توابع ناحية القصر، ثم فُصلت عنها سنة 1245 هجرية، باسم السلمية بالقصر والصياد، كما وردت في جداول سنة 1881 باسم السلمية بالقصر، وفي إحصاء 1882 باسم السلّامية، ومن سنة 1892 باسمها الحالي.
أما المرجع الثاني فكتاب «تاريخ محافظة قنا من العصر الحجري للعصر الحديث»، الذي لم يضِف سوى أن القرية كانت في العصر العثماني من توابع ناحية القصر والصياد.
ربما ميزت كلمة «الحائط» القرية عن قرى أخرى تحمل الاسم نفسه في محافظات مختلفة، لكن مدخلها الحالي يبدو مناسبًا لهذه التسمية؛ ففي أول البلدة تصادفك عدة حوائط وتعريجات للطريق، حيث تحيط الأسوار بالأراضي الزراعية التي التهمها الزحف العمراني، ما أفقد المدخل طابعه المستقيم والمعتاد قديمًا للقرى، قبل أن يعتدل الطريق تدريجيًّا وصولًا إلى مقر البتول.
الطريق إلى «أم النور»
تتوقف سيارة الأجرة عند أول القرية، وسط صيحات متطوعي التنظيم من شباب البلدة على قائديها ليفسحوا الطريق سريعًا لغيرهم. الترحيب لا ينقطع إذا قرأت اللافتات المضيئة المعلقة على الجدران، أو مررت بالوحدات الخشبية الرمزية للكنائس المزدانة بأيقونات العذراء. قد تنال أيضًا قطعة من «المنون»، وهي المخبوزات التي تعدها ربات البيوت خصوصًا لصيام العذراء.
الأزقة تضيق وتتسع، حتى يجبرك الزحام على الاندماج فيه. هناك تظهر ثيمات المولد: باعة الحلوى والمكسرات الشعبية، والدمى ولعب الأطفال، ودقاقو الوشم، وأيقونات السيدة العذراء.
حاستان تنهكان في الطريق إلى «أم عيسى»: البصر والسمع. فمكبرات الصوت لا تكف عن بث المدائح المريمية، ولا تتوقف إلا لضرورة قصوى، مثل نداء على طفل ضائع عن أهله وسط الزحام. إلى جانبها تصدح أصوات الدفوف وأناشيد «حبك يا مريم»، بينما تمتزج النسمات بروائح المحاصيل من الزراعات القريبة. هنا تذوب الفوارق الاجتماعية وتتجاور كل الأعمار، في مشهد يفيض بالمحبة.
عذراء السلامية
لا تبوح البيوت بحالة سكانها الاقتصادية، إذ تذوب منازل العائلات المسيحية السبع الأساسية وسط الكتل العمرانية المتراصة بلا تنظيم. بعض البيوت القديمة ما زال قائمًا، مبنيّة من الطوب اللبن والخشب، بشرفات وشبابيك مشربية محتشمة، توصد بمزالج خشبية وتؤمن بمتاريس خلفية، لا يتجاوز ارتفاعها الطابقين. مغلقة معظم العام، لكنها تُفتح في أيام الموسم حين يعود أصحابها من المدن أو المحافظات.
تُضاء المداخل وتزين الشرفات بأيقونات مضيئة للعذراء، ويجلس ملاك البيوت مع أسرهم أمامها، بعضهم يفضل السكون واستضافة معارفه من الزوار، والبعض الآخر يقيم مظاهر احتفالية صاخبة.
هذه الكنيسة ليست ككل كنائس «أم النور» المنتشرة في أسقفيات الطائفة الأرثوذكسية، بل تحمل خصوصية مميزة. ففي عام 1912، نشر عالم القبطيات البريطاني سومرز كلارك كتابه المرجعي «الآثار القبطية في وادي النيل.. دراسة في الكنائس القديمة»، وفيه ذكر كنيسة عذراء السلامية ذكرًا عابرًا فقط، مكتفيًا بإدراجها ضمن قائمة كنائس إيبارشية قنا التي زارها.
الروايات الشعبية تشير إلى أن الكنيسة بُنيت في أواخر القرن الثامن عشر، وجُددت في سبعينيات القرن الماضي، ما يجعلها أثرية في نظر الأهالي. غير أن تجاهل كلارك لدراسة مبناها يثير الشكوك حول هذه الصفة، فقد عُرفت كتاباته بدقة وصف الطرز ومواد البناء في الكنائس الأثرية. ولعل بساطة تخطيط الكنيسة وطرازها، المشيدة وقتها بالطوب اللبن، جعلتها لا تسترعي انتباهه.
عاصمة مريمية
لا تبعد السلامية سوى كيلومترات قليلة عن تجمعات رهبنة الشركة، التي أسسها الأب باخوميوس في القرن الخامس الميلادي بفاو والقصر وتخومهما. ربما كانت جزءًا من تجمعات رهبانية اندثرت بمرور الزمن أو بفعل حوادث عارضة. يجاور الكنيسة ديران: دير أنبا بلامون ببلدة القصر، وهو مفتوح للزيارة وما زالت كنيسته الأثرية قائمة، وأطلال دير باخوميوس بقرية فاو.
ومن خصوصيتها التاريخية، نسجت السلامية لنفسها دورًا آخر، إذ باتت بمثابة «عاصمة جنوبية للحب المريمي»، موازية لعذراء درنكة في جبال أسيوط. طول السنة -وتحديدًا في صيام العذراء الممتد 15 يومًا حتى ليلة الختام- يتوافد إليها محبو «أم عيسى»، ومن لا يستطيع الحج إلى درنكة يجد في السلامية ملاذًا وروحانيات لا تقل فيضًا.
موقعها على الطريق الزراعي الشرقي سهل الوصول إليه من القرى المجاورة بتكلفة وعناء أقل كثيرًا من الذهاب إلى درنكة البعيدة شمالًا.
الصورة الفريدة لبطرس عجايبي
على حائط مضيفة الكنيسة، بين صور رجال الدين والأساقفة، تبرز صورة لافتة لرجل مهيب بالجلباب البلدي والعمامة، هو بطرس عجايبي، أحد نظار الكنيسة. حضوره وحده في المضيفة، دون صور باقي النظار، يثير التساؤل.
تعاقب على نظارة الكنيسة خلال القرنين الماضيين ستة: مينا عجايبي، وبطرس عجايبي، ومكسيموس إلياس، ومينا المقري، وميخائيل بديع، وفتحي متري. أما اليوم فتدار الكنيسة بلجنة مشتركة من القساوسة وبعض الأهالي، تحت إشراف مطرانية دشنا للأقباط الأرثوذكس.
منصب النظارة شرفي لكنه محكوم بشروط: أن يكون الناظر من أصحاب الملكيات، ويتمتع بالأمانة والقبول بين الناس. يوضح فتحي صليب يسي (75 عامًا)، شيخ البلد الحالي، وهو منصب تتوارثه عائلته «البشايات» منذ قرنين، أن النظار كانوا يُختارون من ذوي الحيثية الاجتماعية باعتبارهم الأقدر على تحمل المسؤولية.
خلف بطرس عجايبي شقيقه «مينا» في النظارة، وهما من عائلة «الحقوق». ويروي الأهالي أن بطرس كان متيمًا بمريم العذراء وصاحب أيادٍ بيضاء: تبرع بجزء من أملاكه لصالح الكنيسة، بينها معصرة زيوت قديمة عند مدخل القرية وأراضٍ أخرى، وكذلك أنشأ مشغلًا لتعليم فتيات القرية -مسلمات ومسيحيات- فنون الحياكة والتطريز، وساهم مع عائلات القرية في إحلال وتجديد الكنيسة في سبعينيات القرن الماضي. هذه الأسباب تجعل صورته متفردة في مضيفة كبار الزوار.
وهكذا بين سيرة تاريخية وأخرى اجتماعية، أسست كنيسة العذراء في السلامية لنفسها حضورًا راسخًا في الذاكرة الشعبية، جنبًا إلى جنب مع عذراء درنكة في جبل أسيوط، حيث إحدى محطات العائلة المقدسة في مصر. وكأن «الحمامة الحسنة» اختارت أن تحط في السلامية أيضًا.