مراجعات
أحمد ليثي"السياسة الثقافية في عهد ثروت عكاشة"
2019.03.01
مصدر الصورة : آخرون
"السياسة الثقافية في عهد ثروت عكاشة"
الكاتب: محمد سيد ريان
الناشر: دار العين
سنة النشر: 2019
يهتم كتاب «السياسة الثقافية في عهد ثروت عكاشة» للباحث محمد سيد ريّان، الصادر مؤخرًا عن دار العين في 225 صفحة، كما يظهر من عنوانه، بمحاولة ثروت عكاشة الأولى لإرساء سياسة ثقافية في مصر، والكتاب مزوَّد بالصور والوثائق النادرة التي تخص تلك المرحلة، كمضابط اجتماعات وزارة الثقافة، أو المؤتمرات التي عقدت مثل المؤتمر العام الأول للثقافة والفنون.
والسياسة الثقافية هي مجمل الخطط والأفعال والممارسات الثقافية التي تهدف إلى سد الحاجات الثقافية لبلد أو مجتمع ما، عبر الاستثمار الأقصى لكل الموارد المادية والبشرية المتوفرة لهذا البلد أو المجتمع، يتخطى ذلك السياسة المتعلقة بالفن والتراث إلى سياسة أوسع وأشمل تتطلب تضافرًا وتكاملًا بين قطاعات المجتمع.
يرتكز الباحث في كتابه إلى أربع نقاط، الأولى تناقش فكرة السياسة الثقافية وليس جانب المشروعات والبرامج المنفذة، لأن الفكرة أهم من التطبيق، وهو هنا لا يناقش إلا تجربة ثروت عكاشة وزيرًا للثقافة فقط، وهذا على الرغم من أن الهدف الثاني الذي وضعه الكتاب لنفسه، هو البدء بموضوع حاضر غائب في أذهان كل من يهمه حل الأزمة الثقافية للمصريين ووضع حلول واقعية، بالإضافة إلى سعيه للخروج من النفق المظلم وتمهيد طريق للخلاص بالثقافة والمعرفة الحقيقية.
ومع ذلك لا نجد في الكتاب أى محاولة لوضع حلول واقعية، سوى خاتمة من خمس صفحات فقط تهتم بضرورة إدخال منصات التواصل الاجتماعي في حسابات من يضطلع بدور وضع سياسة ثقافية جديد لمصر، لأن من أهم سمات عصر الثقافة الرقمية هو نشر المعلومات والتطبيقات والمواد النصية والسمعية والبصرية على شبكة الإنترنت، وضرورة الاهتمام بالهوية الثقافية والابداع والابتكار، والتخطيط الثقافي، والتكاملية والشمول في اتخاذ القرار.
وعلى سبيل المثال، يخصص الباحث فصلًا في كتابه عن مؤتمر الكتاب العربي الأول عام 1967، لكنه لا يقدم فيه أى إضافة سوى أنه جمع وثائق المؤتمر وعرض كلمات المشاركين من مفكرين ومؤلفين، وذيَّل الفصل بكلمه تقليدية عن ضرورة رجوع كل المشتغلين والمهتمين بالكتاب إلى ذلك المؤتمر ومحاولة الاستفادة منه في ضوء المتغيرات الجديدة.
ثروت عكاشة.. أضغاث أحلام
ما الحلم إلا سلسلة غير مترابطة وغير منطقية من الأحداث التي تلجأ إليها النفس لإشباع رغبات ودوافع مكبوتة يصعب إشباعها في الواقع، وبالنسبة لضابط عسكري صغير في الجيش المصري قبل عام 52 مثل ثروت عكاشة، ظل يحلم بنشر الثقافة بين أبناء الشعب، يضيف ذلك إلى عدم منطقية الحلم طبقات، لم تتحطم إلا بعد توليه موقع المسؤولية.
في أحد الحوارات التي دارت بين جمال عبد الناصر وثروت عكاشة، حين كانا مجرد ضابطين في الجيش المصري، ذكر عكاشة أن أكثر ما يؤرقه هو انحصار المتعة الثقافية والفنون الراقية لعدد قليل جدًا من الشعب المصري، هم الأثرياء بالطبع. وذلك على عكس ما كان يأمل أن يراه؛ أن تمتد الثقافة والفنون لجميع طبقات الشعب.
لعل هذا هو ما رسم النقاط الأساسية لرؤية ثروت عكاشة الثقافية، يرى ريَّان أن تلك الرؤية كانت اللبنة لأول منهج متبع لسياسة ثقافية قادرة على توجيه المجتمع في شؤونه الثقافية. ويستلهم الكتاب المدعم بالصور والوثائق النادرة تجربة عكاشة في إرساء سياسة ثقافية كان لها أثر عظيم في إثراء الحياة الثقافية في مصر.
وفقًا للرؤية القديمة، لم تكن وزارة الثقافة (وزارة الإرشاد القومي) غير وزارة مشكوك فيها، ومكروهة، ورسالتها غير مفهومة للناس بحسب فتحي رضوان، أول وزير ثقافة بعد ثورة يوليو. وبغض النظر عن الأسباب التي أدت إلى فشل الوزارة بعد الثورة مباشرة. على أن ذلك قد تبدَّل تمامًا عندما أدركت القيادة السياسية، أن الثورة لن تتم إلا بمباشرة العمل الثقافي الذي يصل إلى الشعب.
أدرك عكاشة مبكرًا أن محاولة وضع سياسة ثقافية دون استشارة المثقفين هو حرث في البحر، لذا، حشد أكبر قدر ممكن من المفكرين والكتاب في مؤتمر عام بدار الأوبرا، تواصلت فيه الحوارات معهم طيلة أسبوع في اجتماعات عامة ومتخصصة، وتكشفت لعكاشة، بعد انتهاء المؤتمر الرؤية الثقافية العامة التي يمكن تطبيقها في مصر. مؤسسات مثل أكاديمية الفنون، والثقافة الجماهيرية، والهيئة العامة لقصور الثقافة، وغيرها، لم تكن إلا بذرة هذا المؤتمر.
ميزة هذه الخطة أنها كانت أول محاولة لوضع مباديء تصلح أساسًا لمخطط ثقافي، وهي كذلك تحدد أسلوب متابعة تنفيذ هذه التوصيات والقرارات، كي لا تقابل بالفتور والتراخي، وحرصًا من الوزير على تنفيذ الخطة التي نتجت عن المؤتمر العام الذي دعا إليه، أشرك عكاشة موظفي وزارة الثقافة في المؤتمر.
في عصر لم تعد الثقافة فيه تمثل قيمة، وتحولت لتصبح مجرد سلعة، يرى القائمون عليها أنها لا تعود بالربح، ثمة من كان يفكر في الثقافة كخدمة، ليس بعدد ما يباع من كتب، أو مجموع من حضر فيلمًا سينمائيًّا، غير أن ثروت عكاشة كان يرى أن هناك مقاييس أخرى تقاس بها فاعلية العمل الثقافي، وهو الحرص الدائم من قبل المؤسسة الثقافية الرسمية على تقديم الإنجازات الثقافية للجماهير على قدر طاقتها.
التمويل.. مشكلة دائمة
وعلى أن الوزير ثروت عكاشة قد تحدث في أثناء توليه المسؤولية عن ضعف التمويل الذي تتلقاه الوزارة من الدولة، ومحاولته توفير التمويل اللازم للمشروعات الطموحة التي خطط لها، لا يبدي كاتب الكتاب أى اهتمام بالحديث عن التمويل اللازم لوضع سياسة ثقافية دائمة، كما أغفل الكتاب إغفالًا تامًا دور المؤسسات الخاصة في المساعدات التي تقدمها لوضع سياسة ثقافية دائمة في معظم البلدان العربية.
وبالإضافة إلى غياب الحلول لمصادر التمويل الحكومي في الكتاب، لم يناقش الكتاب أيضًا فكرة التمويل الثقافي الخاص، أو تمويل المؤسسات الثقافية للأنشطة الفنية في مدن وقرى مصر، على الرغم من وجود العديد من المؤسسات المانحة الدولية.
سياسة ثقافية دائمة أم ترويج للثورة؟
انتقل الحلم إلى مرحلة جديدة، ولَّى فيه الوقت الذي كانت طبقة واحدة سائدة تعبر يه عن ثقافة المجتمع، وغدت جميع الطبقات تشكل صورة كيان ثقافي جامع، لأن السياسة الثقافية التي وضعها عكاشة، تفيد بأن الثقافة إذا خلت من تأثير فئة من فئات المجتمع، فهي ثقافة ينقصها الشمول، لأنه لا يمكن تصور إمكان قيام نهضة ثقافية دون إزالة الحواجز الثقافية والفواصل بين طبقات المجتمع.
ثمة رأي شائع يفيد بأن الطبقات الشعبية الأدنى تأخذ نصيبها من الثقافة في صور من البهرجة الزائفة، تحتوي على شيء يسير من التثقيف، غير أن الوزارة في هذا العصر لجأت إلى التجربة، هل يمكن أن تتقبل الطبقات الشعبية الأدني فاصل باليه من أوبرا «الأمير إيجور» لبورودين، أو أوبريت «الأرملة الطروب» لفرانز ليهار؟ الحال أن تلك العروض قد عرضت بالفعل على العمال في دار الأوبرا، والعاملين في السد العالي، وتفيد تقارير الوزارة في ذلك الشأن أن العمال استقبلوا هذه الفرق الغنائية والأوبرالية بحماس شديد، لا يقل عن استقبال النخبة المثقفة من أهل القاهرة.
وهكذا، آثار ذلك حماس قيادات الوزارة لتجهيز قوافل ثقافة، تمتد من الإسكندرية حتى أسوان، تتكون من ثلاث عربات مجهزة بأحدث المعدات القادرة على بث عروض السينما ويمكن تجهيزها لتتحول مسرحًا يعرض في القرى والنجوع النائية. يذكر حافظ محمود الذي كان من أبرز الداعين إلى فكرة قوافل الثقافة، أن أبناء القرى، من رجال وسيدات كانوا يحضرون هذه القوافل دون أن يفقهوا كلمة ثقافة، لكنهم انبهروا بتلك العروض.
لا تخلو أي سياسة من عيوب، خصوصًا إن لم تُراجع بشكل دوري أو تولى أمرها موظفون أيديولوجيون، وهكذا، تحولت تلك الأجهزة الثقافية في لحظة ما إلى جهاز بيروقراطي ضخم، يضم موظفين مؤدلجين، معظمهم اجتذبتهم الدولة من متوسطي الموهبة وأشباه الفنانين. وبحسب شريف يونس، حوَّل نظام يوليو المثقفين من أشخاص يمكن أن يكونوا بتفاعلاتهم الحرة مصدر تجديد واحتجاج، إلى موظفين ذوي مناصب هيراركية، جعلت منهم حراسًا لأيديولوجيا النظام الناصري.
ظهر ذلك في السينما، حينما أدرك نظام يوليو أن السينما أداة رئيسية للسيطرة على فئات المجتمع، وهكذا، باتت السينما أحد أدوات النظام الجديد للترويج للثورة، وظلت العلاقة هادئة بين الثورة والسينما، ووصل الأمر لذروته مع فيلم «رد قلبي»، كما ساهمت أفلام إسماعيل ياسين في الجيش والبوليس والأسطول في الترويج للثورة وإن خففت الكوميديا وطأة التوجيه السياسي.
وعلى الرغم من أن السياسة الثقافية لوزارة ثروت عكاشة كانت تركز على الترويج لثورة 52، التي كانت تعادي النظم الإمبريالية، وكان هدفها بناء دولة قوية، وتحديث الصناعة، والتعليم. تخلو الخاتمة التي أعطاها الباحث محمد سيد ريان عنوان «نحو سياسة ثقافية جديدة لمصر» من أى نقاط تهتم بالتعدد الثقافي والاهتمام بالأقليات كالأقباط والنوبيون، أو أشار إلى القوانين التي تعود إلى أصول ثقافية وتؤدي إلى تفاقم الأوضاع الاجتماعية مثل قوانين تردع التحرش الجنسي في المجتمع المصري، أو القوانين التي تميز بين الرجل والمرأة.
ربما نجح الكتاب نجاحًا تامًا في هدفه الثالث، وهو إلقاء الضوء على واحدة من تلك التجارب المتفرقة من أجل صياغة مشروع وطني قومي للسياسة الثقافية يسهم في تحقيق مستقبل أفضل، عن طريق سرد إنجازات تجربة ثروت عكاشة عبر تجميعها من الوثائق والصور وسردها بلا تنظيم قد يظهر في تكرار بعض النقاط المتفرقة على طول الكتاب، لكن إغفاله للعديد من النقاط التي ذكرناها يجعل الأهداف الأخرى للكتاب لا تزال قائمة دون حل.