مراجعات
دعاء نبهان"نادني باسمك" عن اكتشاف الذات وتقبُّل الآخر
2018.01.01
تصوير آخرون
"نادني باسمك" عن اكتشاف الذات وتقبُّل الآخر
"ماما، هتعملي إيه لو علي قال لك إنه مثلي جنسيًّا؟"
هكذا باغتتني ابنتي بالسؤال عن أخيها، عقب انتهاء الفيلم وفي أثناء استعدادنا للرحيل، لأسمع بصوت جلي هذا السؤال الحائر الذي قفز إلى ذهني وأنا أسمع موسيقى شريط النهاية للفيلم Call Me By Your Name (نادني باسمك)، الذي يتصدره وجه البطل (إليو) بدموعه ووجهه الحزين.
تدور أحداث فيلم المخرج الإيطالي جزائري الأصل؛ لوكا جواداجنينو، عن رواية أندريا إسيمان -اليهودي مصري الأصل- عام 1983، حول إليو (تيموثي شالاميت) وهو شاب أمريكي/إيطالي، عمره سبعة عشر عامًا، يلعب الموسيقى، ويتحدث الفرنسية بطلاقة، وينعم بجو خيالي وحياة هانئة، بين أم مترجمة مثقفة (أميرة كاسار)، وأب أستاذ للثقافة اليونانية والرومانية (مايكل ستهلبارج).
يقضي إليو عطلته في قصرهم الأثري الساحر في جنوب إيطاليا، حيث يستقبل الأب طالب الدكتوراه أوليفر (أرمي هامر) ليساعده في أبحاثه ويتعاون معه في اكتشافاته الأثرية. تنشأ علاقة تبدو لأول وهلة غامضة وغير مفهومة بين إليو وأوليفر، يتخللها مواقف درامية ملتبسة تحمل أكثر من معنى وتفسير. نتابع تطور مشاعر إليو ومحاولاته لاكتشاف نفسه وفهم مشاعره، ما بين اللهو مع صديقته الفرنسية مارزيا الواقعة في حبه، وبين انجذابه الشديد لأوليفر المختلف.
جواداجنينو مخرج إيطالي حساس، ومشغول بالعلاقات الإنسانية المرتبكة المعقدة، ومتأثر بشكل خاص بالمخرج جون لوك جودارد، قائد موجة السينما الحديثة في فرنسا في فترة الخمسينيات، وكما قدم لنا في فيلمه A Bigger Splash المأخوذ عن فيلم السيكودراما الكلاسيكي La piscine، يبرع خلال هذا الفيلم؛ في التنقل بسلاسة بين الأحداث التي قد تبدو بطيئة في مجملها، ليكشف لنا العامل الأهم في تطور المشاعر بين إليو وأوليفر، ألا وهو العلاقة شديدة الخصوصية بين إليو ووالديه، اللذين يقومان بدور المراقب الواعي لرحلة إليو الذاتية وتجربته مع الحب الأول.
قد نعتقد في بداية الفيلم أن قصة الحب الأول هي محور الفيلم، ولكن مع مرور الوقت، نكتشف أن علاقة إليو بوالديه ورعايتهما الشجاعة لحقيقته هي الأساس. فوالدته تلاحظه من بعيد، وبوجه حنون، تتصنع عدم الفهم لتعطيه مساحة من الراحة، ليتحرك بحرية وجرأة، ولا ينفك الأب يعطي إشارات التشجيع والطمأنينة، من آن لآخر، ببساطة ودون افتعال. نتيجة لذلك، ومع تطور العلاقة الرومانسية بين إليو وأوليفر، نلاحظ بدهشة، كيف يبدو إليو، على الرغم من حداثة عمره، أكثر وعيًا وفهما لنفسه وشجاعة في مواجهة حقيقة مشاعره، في حين يبدو أوليفر -الأكبر سنًا- مترددًا وغير واثق.
نشاهد الرحلة من خلال موسيقى الفيلم وهي عن مقطوعات موسيقية لعزف إليو المنفرد على البيانو، ليتخللها من وقت لآخر أغنية شبابية حالمة تعود لحقبة الثمانينيات، وكأن الموسيقى ليست إلا الموسيقى الدائرة في عقل إليو، التي اعتاد أن يسمعها ويعيش من خلالها، لتقوم الموسيقى بدور الوسيط الروحاني بين المشاهد وإليو، ليلمس كل ما يختلج داخله من مشاعر وأفكار.
أما عن التصوير، البطل الأول والعلامة المميزة في جميع أفلام لوكا جواداجنينو، فاللافت للنظر، أن كاميرا المخرج أبدعت في نقل تعبيرات الوجه وتفاصيل انفعالات الأبطال بشكل مكثف، من خلال لقطات مقربة وطويلة، ليحدد بذلك مكامن جمال القصة الإنسانية البحتة، من خلال العديد من المشاهد الصامتة المشحونة. فكانت الكاميرا مقياسًا لحرارة المشاعر، ووسيلة أولى لنقلها وتوصيلها للمشاهد.
تدريجيًّا يحملنا الفيلم بين أرجاء الطبيعة الإيطالية الأخاذة، في حركة متنوعة للكاميرا، ما بين لقطات مقربة معنية بالتفاصيل الصغيرة، لأشجار الخوخ وثمار الفاكهة، وزوايا واسعة تنقل المناظر الخلابة والطرق الإيطالية الضيقة. يتحرك فيها الممثلون بطلاقة وبطاقة نشطة. هذا التنوع، كان من شأنه إضافة عامل التشويق وكسر الملل، لفيلم قليل الأحداث نسبيًّا. حيث يتخلل الفيلم العديد من المشاهد الصامتة، مما جعل الحوار في أغلبه مركزًا ومعتمدًا على الجمل القصيرة المقتضبة.
كعادة المخرج في أفلامه، اعتمدت إضاءته على مصادر الإضاءة الطبيعية للمكان دون إضافات. وجاءت مشاهد الطبيعة والحركة مشعة وملونة، معتمدة على ألوانها الطبيعية، كحال الطبيعة الإيطالية في فصل الصيف. بينما كانت الإضاءة خافتة معتمدة على الضوء المتسرب من النوافذ أو الأبواب في بعض المشاهد الحميمية المشحونة، أهمها المشاهد في غرفة المنزل المهجورة شبه المظلمة، التي تشهد أول علاقة جنسية كاملة لإليو مع صديقته الفرنسية، والمشهد الذي يقوم فيه بالاستمناء مستخدمًا ثمرة خوخ، في محاولات حثيثة منه لاكتشاف متعته وميوله.
قام بدور إليو الممثل الشاب (تيموثي شالاميت) بأداء رائع غير مفتعل وهادئ. نجح من خلاله في أن يجعلنا نعيش معه رحلته الخاصة، في مزيج من مشاعر الارتباك والحيرة، فالمتعة والسعادة ثم الحزن والشجن. وهو أداء استحق عنه وبجدارة العديد من الجوائز والترشيحات، بينما كان أداء (أرمي هامر) لشخصية أوليفر باهتًا وباردًا في بعض الأحيان، ليمثل من وجهة نظري، أضعف عناصر الفيلم.
يمنحنا لوكا في نهاية الفيلم مشهدين من أجمل مشاهد الفيلم على الإطلاق، أولهما حين يتصارح الأب مع ابنه حول حقيقة علاقته بأوليفر وطبيعة مشاعره، في مشهد هادئ وحوار رائع، والمشهد الثاني حين يعلم إليو خلال محادثة تليفونية مع أوليفر خبر زواجه من امرأة، ليعبر وجهه عن علامات خيبة الأمل والخذلان من موقف أوليفر الضعيف المستسلم لضغوط المجتمع.
في أحد مشاهد الفيلم، وقبل مواجهة إليو لحقيقة نفسه، بل وفي أثناء انتظاره بشغف لموعده الغرامي مع أوليفر، يظهر صديقان مثليان للعائلة، فيسخر منهما ويعبر بشكل طفولي عن رفضه لهما، في تناقض وإنكار واضح للذات. ليعبّر المخرج عن معضلته الأساسية، مواطن غربي مثلي الجنس وذو جذور عربية كذلك، كان يتعرض وبشكل منتظم للعداء والتنمّر.
«أنت محظوظ بأبيك، لو علم والدي لقتلني» جملة تحمل صميم روح الفيلم وإحدى أزمات التربية في المجتمع ومعاناة التعامل مع كل ما هو مختلف ومعاكس للتيار السائد.
أخرج من الفيلم، وأفكر فيه وفي هذه الجملة بالذات كثيرًا. كأم لشاب مراهق من أصل عربي يعيش في مجتمع غربي، بكل ما فيه من انفتاح وحرية وعنصرية، وغيرها من التحديات. أم تحمل بداخلها كل صراعات وتناقضات الهوية الشرقية المعقدة. وأتذكر دفاعاتي الضارية مؤخرًا على مواقع التواصل الاجتماعي عن حقوق المثليين، وفداحة الظلم الواقع عليهم عقب ما حدث في حفلة «مشروع ليلى» بعد رفع العلم الممثل لهم، وما توالى بعد ذلك من سلسلة إجراءات قمعية تجاههم، مدعومة بسخط شعبي وتعبئة إعلامية. لكني أقف مذعورة مشلولة أمام المبدأ نفسه في حال واجهني به أحد أبنائي، لأجد أنني أشعر بالحيرة والإحساس بالنفاق. أمثل بهذا حال العديدين؛ نتشدق بشعارات الحرية والأفكار الرنانة، لنصطدم بحقيقة قناعاتنا عندما تلمس واقعنا الشخصي ودوائرنا المقربة.
«ماما ماما سامعاني؟ هتعملي إيه لو علي قالك إنه مثلي؟» ألتفت إلى ابنتي وأتأملها للحظات، ثم أجيبها بالشيء الوحيد الذي بدا لي منطقيًّا في تلك اللحظة «تفتكري إللي هعمله هيفرق معاه في حاجة؟!»