مراجعات
رياض حمّادي«حياة خفية».. حين ترتدي المثالية ثوب البطولة
2020.04.01
عرض فيلم «حياة خفية»
المخرج: جافن هود
سنة الإنتاج: 2019
«حياة خفية».. حين ترتدي المثالية ثوب البطولة
يمقت النبي المثاليين ويحب الخُطاة؛ فالمثالي سيضع النبي في موقع التلميذ، أما الخاطئ فسيمنحه الفرصة ليمارس مهامه كنبي. وربما لهذا السبب أحب المسيح مريم المجدلية. سمة أخرى عند الإنسان أنه لا يحب أن يتلقى دروسًا في الأخلاق والفضيلة، خصوصًا وهو في ظرف لا يسمح له بتحقيقها، كما أن الإنسان لا يحب دور الأستاذ متجسدًا في غيره، في الوقت الذي هو نفسه ينظر إلى غيره كتلاميذ، فيبحث عن أوجه النقص فيهم ليتمكن من إلقاء دروسه وإسداء نصائحه. وهذه الازدواجية تسم الطبيعة الإنسانية وإن بدرجات مختلفة.
ولعل هذا ما حدث لفرانز في فيلم تيرانس مالك "حياة خفية" 2019، إذ يجسد فرانز ياجرستاتر (أوجست ديهل) دور الفضيلة في مستواها المثالي، في مقابل مجتمع قريته الذي نبذه وأسرته، وعاملهم بقسوة مبالغ فيها -حين رفض المشاركة في الحرب- لكنها قسوة تتسق مع المثالية التي جسَّدها فرانز. وهو ما حدث معي شخصيًّا كمشاهد -وربما مع أغلب المشاهدين- وأنا أنظر بعين الاعتبار إلى معاناة الزوجة والأطفال أكثر مما نظرت إلى الدرس الأخلاقي الذي يحاول فرانز أن يعلمنا إياه.
البطولة والمثالية
رفضَ فرانتز الاشتراك في الحرب في صفوف النازي، وأن يُقْسم يمين الولاء لهتلر، بعد أن جرَّب ويلات الحرب من قبل. هو حتى هذه المرحلة بطل؛ لأنه لا يحتمل قتل الأبرياء والمشاركة في حرب عبثية. ونتج عن رفضه هذا أن اُعتقل وعُذِّب ثم عُرضت عليه وظيفة مدنية في مستشفى لكنه استمر في رفضه، حتى وهو يعلم حجم المعاناة التي تقاسيها زوجته وبناته الثلاث نتيجة موقفه. وبعد معاناة المعتقل يصدر الحكم بإعدامه، فيُقدم له طوق النجاة مرة أخرى لكنه يستمر في الرفض.
يدرك فرانتز الخيارين الموضوعين أمامه، لكنه لا يعرف كيفية المفاضلة بينهما. أو أنه يعرف لكنه فضَّل أن يكون أنانيًّا -باسم الفضيلة- على حساب سعادة أسرته. في النهاية ينتصر موقفه المبدئي على فضيلة أن يعود إلى أسرته ويُنهي معاناتها. هو لا يبحث عن بطولة لأنه يعرف أنه ليس هناك أحد سيعلم حجم تضحيته، وهذا ما قيل له مرتين؛ قاله محاميه وقاله قاضي التحقيق الألماني في محاولة لإقناعه بالعدول عن موقفه. ما لا يدركه فرانز أن قيمة عدم الرضوخ للنازي ليست أهم أو أسمى من قيمة العودة إلى أحضان أسرته. هنا يصبح التمرد عنادًا، والبطولة مازوخية تتلذذ بتعذيب الذات وتعذيب الأعزاء والمقربين، ويصبح موت فرانز نوعًا من الانتحار، لكن تيرانس مالك يقدم لنا هذه القصة على أنها واحدة من بطولات مجهولة لأشخاص عاشوا "حياة خفية" وقبورهم إلى اليوم لا يزورها أحد.
آدم يعود إلى جنته
يثير الفيلم أسئلة عن الحرية وعن حياة الإنسان وقيمتها ومن يملكها: الفرد أم السلطة الحاكمة أم الله؟! تُغلَّف هذه الأسئلة الفلسفية بفكرة دينية، عن التضحية والخلاص في سبيل حياة أفضل. إن هذه الحياة فانية في نظر فاني وزوجها فرانز، ولذلك يسهل التضحية بها على أمل اللقاء في حياة أبدية بعد الموت. لا مجال للتسويات في سينما مالك وفي هذا الفيلم تحديدًا ذلك أنه ينظر إلى العالم بعيني شاعر وقديس.
لا تظهر صورة الحرب إلا من خلال الحديث المقتضب عنها. تركز الكاميرا على حياة الدعة والسكينة في الريف النمساوي من خلال سرد بصري ساحر يعكس الطبيعة الخلابة للريف. تغيب صورة الجحيم ممثلة في الحرب، وتظهر صور النعيم ممثلة في الريف. وكأن الحرب التي تدور خارج الصورة، وكأن استدعاء فرانز للالتحاق بالجبهة، دعوة لإخراج آدم من جنته. لكن هذه المرة سيخرج آدم إلى جنة أفضل من الأرض، أو سيعود إلى جنته التي أُخرج منها في المرة الأولى، أو هكذا يظن فرانز.
وجهان للتضحية
يبدأ التناقض الصارخ بين الجحيم والنعيم منذ أول مشاهد الفيلم بمقاطع تاريخية/مسجلة بالأبيض والأسود لمسيرات النازي، وهي مقاطع ستتناقض لاحقًا مع ألوان الطبيعة الساحرة. ومهما كان الخلاف أو الجدال حول المضمون الأخلاقي في قصة الفيلم لكننا لن نختلف حول القيمة الجمالية والبصرية للفيلم، ولا حول الأداء الرائع للممثلين؛ وعلى رأسهم النمساوية فاليري باتشنر في دور "فاني"، زوجة فرانز.
للوهلة الأولى يبدو أن فرانز هو من يعاني، لكن الحقيفة أن التضحية الأكبر قدمتها فاني لا فرانز؛ الذي يُعتبر موقفه من الحرب شكلاً من أشكال الهروب، خلافًا لموقف فاني الذي يتسم بالمواجهة. وقد انعكست عواقب موقف فرانز على ملامح وجهها أكثر مما انعكست على وجهه. يدفعها حبها له إلى عدم إثنائه عن موقفه، ما يوحي بموافقة ضمنية على قراره. وهكذا لم تصارح فاني زوجها بموقفها المخالف له من الحرب، لكنها قدمت حبها له على حساب تعاستها وتعاسة بناتهما.
الواقع بصورة شعرية
مقاربة الواقع بلغة بصرية شعرية ليس ممكنًا -مع السينما- فحسب، بل ينبغي أن تكون هذه هي وسيلته في تبليغ الخطاب، وإلا لتحول الفن إلى شكل خطابي ووعظي يقوم على الكلام. من هنا يغلب الصمت على الحوار في الفيلم، انتصارًا لجوهر السينما ولاسمها الأول الصور المتحركة "Motion Pictures". تتحدث الكاميرا في هذا الفيلم بلغة سينمائية شعرية تجمع بين ثلاثة أمكنة: قرية سان راديجوند، وقاعدة إنس العسكرية، ومدينة برلين. ثلاثة أمكنة تتنقل بينها الكاميرا كطائر في لوحة بصرية من أربعة ألوان: خضرة الأشجار، ولون السماء في القرية النمساوية راديجوند، واللونين الأسود والرمادي في سجن النازي والمقاطع الوثائقية، مع موسيقى تصويرية تربط بين هذه العناصر في توليفة سمعية بصرية ووفق مونتاج يبدو للعين الخبيرة والمتخصصة مخالفًا للتقنيات التقليدية أو المتعارف عليها في السينما، ولكن دون التسبب في إزعاج بصري أو الوقوع في الرتابة، مع الأخذ في الاعتبار طول الفيلم (قرابة ثلاث ساعات) وكذلك بساطة القصة التي تخلو من الأحداث.
لعل المونتاج هو المرحلة الأصعب في أفلام مالك؛ ذلك أنه يصور ساعات طويلة -يكتنفها الارتجال- ليقتص أغلبها في أثناء تحرير الفيلم. وهذا أسلوب لا يناسب الجميع، وبالذات النجم كريستوفر بلمر الذي عمل مع مالك في فيلم واحد هو "العالم الجديد"، واكتفى منه، وعبر عن تبرمه من أسلوبه بأن كتب "لن أعمل معه مجددًا!"، وطالبه بأن يعتمد على كاتب بدلاً من الارتجال.
المونتاج عمليًّا يقوم على القص واللصق، أي تركيب شيء على آخر، بما يخدم الخطاب الذي يريد صانع الفيلم إيصاله. وهو في معناه التقليدي يقوم على الانتقال من نهاية لقطة إلى بداية لقطة أخرى. وثمة تقنيات عديدة للمونتاج تجعل منه علمًا قائمًا بذاته، لكن إعادة ترتيب اللقطات وإزالة المشاهد والزوائد غير الضرورية ليس علمًا فحسب بل هو علم لا ينفصل عن الفن والخبرة والحس الفني والثقافة السينمائية وهو ما يسمح بالابتكار، وهذا ما يفعله تيرانس مالك في هذا الفيلم دون الخروج على مفهوم وهدف المونتاج كما حدده أبو التوليف سيرجي آيزنشتاين، والذي جعل المونتاج مرادفًا للسينما، أو هو السينما بذاتها حين قال عن المونتاج "هو الذي يعطي للمَشاهد معناها حسب ترتيبها وسياقها".
حياة خفية فيلم مبني على أحداث حقيقية، وعنوانه مقتبس من عبارة للروائية الإنجليزية جورج إليوت -وردت مكتوبة في ختام الفيلم- من روايتها "ميدل مارش Middle march" وجاء فيها "الخير المتزايد في العالم يعتمد جزئيًّا على الأعمال التي لم يُخلدها التاريخ، وأن الأشياء ليست بذلك السوء الذي نراه، أو الذي قد تكون عليه هو فضل ندين به جزئيًا إلى أولئك الذين عاشوا بإخلاص حياةً خفية ودُفِنوا في قبور لا يزورها أحد".
هذه المقولة لا تنطبق تمامًا على فرانز، الذي طوَّبه بالسعادة الأبدية البابا بنيدكت السادس عشر عام 2007. ويبدو لي أن العبارة مجتزأة من سياق آخر، ولو جاز الاقتباس من الرواية أو الروائية نفسها بما يناسب سياق الفيلم ويتسق مع شخصية فرانز لاقتبست التالي "إنه لعقل محدود التفكير ذلك الذي لا ينظر إلى أي موضوع من زوايا نظر مختلفة".
إن تجنُّب الشر أو مواجهته فضيلة، لكن إن أفضت الفضيلة إلى شر أكبر تصبح سذاجة أو مثالية، ومن يحارب الشر في هذه الحالة يصبح قديسًا لا بطلاً. مع ذلك تكتسب قصة الفيلم قيمتها في مواجهتها للحياة المادية والمصالح التي طغت على القيم والمبادئ في عالم اليوم، وفيها جواب عن إمكان تقديم المبادئ على المصلحة. فإذا كان فرانز ياجرستاتر -وهو بشري عادي، وليس نبيًّا أو قديسًا- قد فعل هذا، فأنت كذلك تستطيع أن تنضم إلى أولئك الذين عاشوا بإخلاص "حياة خفية".