مراجعات
منى أبو النصر«غرفة المسافرين».. ارتحال في دهشة المكان والسرد
2020.04.01
عرض كتاب “غرفة المسافرين”
الناشر: الدار المصرية اللبنانية للنشر والتوزيع، 2020
المؤلف: عزت القمحاوي
«غرفة المسافرين».. ارتحال في دهشة المكان والسرد
ينظر الكاتب والأديب عزت القمحاوي في كتابه «غرفة المسافرين» إلى عالم السفر بخِفة مُسافر غريب، مُمتلئ بشعرية التفاصيل، فالسفر عنده فعل وحالة وجد مسكونة بالحكايات، واليوميات، ودراما الحقائب، وفضاء السماوات، ورُواة القصص العابرين، يتنقل بينهم بخُطى سلسة عبر تأملاته المُنفتحة على الأدب، والشغف بالسينما، وإطلالاته على وُجهات السفر في بورتريهات تقترب من الأماكن المُتراوحة بين الجمال الباذخ والجمال المتواضع، حسب ما يصفها القمحاوي، الذي يُطل دومًا كما العاشق على قمر فيرونا الخفيض، الذي يُتوج ليل هذه المدينة الإيطالية الساحرة ويجعلها دومًا محط أحلامه.
يتسع كتاب «غرفة المسافرين»، الصادر أخيرًا عن «الدار المصرية اللبنانية»، لأكثر من مجرد حكايات عن السفر، أو سيرة ذاتية لصاحبها، فهو نص مُنفتح على التجريب عبر ألوان مختلفة للسرد، في محاولة من الكاتب للقبض على تلك اللحظات والمشاعر الغارقة في فضاء السفر الهش، باعتبارها جميعًا محاولات إنسانية دؤوبة لتوسيع مدى العمر القصير بمزيد من التحليق في المكان والزمان والسرد. والسفر لدى عزت القمحاوي فعل قابل للحدوث حتى لو لم تُغادر حدود بيتك، شريطة أن ترى وتشعر، يستهل الكاتب هذا الطرح في بداية كتابه عبر جملة يؤمن بها إيمانًا مُطلقًا على حد تعبيره وهي «من لم يُسافر، ولو عبر قصة في كتاب، لم يعش سوى حياة واحدة قصيرة». الارتحال إذن لدى عزت القمحاوي يُجاوز المكان ويتحقق في الزمان والسرد عبر قوة المُخيلة والتماهي معها، وهو الارتحال الذي يُفسح لصاحبه دائرة أوسع للتنفس، خارج خطواته اليومية المحفوظة التي «يمشيها المُبصر ويمشيها الأعمى بأمان وروّية» على حد تعبيره.
عجائبية الرحلة
وما بين السفر في المكان وفي عالم السرد يدور الكتاب، الذي يقع في 235 صفحة، فالسفر هو روح السرد على حد تعبير القمحاوي، ويتأمل في ذلك ما فعلته «ألف ليلة وليلة» في الترحال عبر الحكايات، يتساءل «ماذا يمكن أن يتبقى من (ألف ليلة وليلة) إذا حذفنا السفر من متنها؟» فبذرة الحكايات الألف بدأت منذ هروب الأخين الملكين «شهريار» و»شاه زمان» من خيانة زوجتيهما، حتى تعثر الأخ الأول في حنكة «شهرزاد» التي شغلته بالسفر عن شهوة الانتقام من سائر النساء اللاتي كان يقتل منهن واحدة كل ليلة انتقامًا من جنس النساء، يقول الكاتب «يُمكننا باطمئنان أن نعتبر ألف ليلة وليلة كتابًا في السفر. من دون الرحلة يسقط العجائبي، العمود الفقري لليالي. لهذا انحاز السرد في الليالي إلى الارتحال الدائم، من قمة جبل إلى قاع بحر ومن حواري دمشق إلى جزائر الهند».
غواية الجميل
انطلاقًا من تلك الليالي ولانهائية سحرها، يُحدّق القمحاوي في عيون أعمال أدبية عالمية مُقربة إلى قلبه، يُجدد قراءتها دومًا، وترافقه في أسفاره، وتتبادل الموقع في حقيبة سفره، إلى أن جمعها «الآي باد» في مكتبته الإلكترونية التي حلًت محل الكتب الورقية في أسفاره، لا سيما «الموت في فينيسيا» لتوماس مان و«الأمير الصغير» لأنطوان دو سانت إكزوبيري، ويخلق عزت القمحاوي على هوامش حكايات أبطالها تناصًا أدبيًا وإنسانيًا مع تأملاته حول السفر الذي يصف تأثيره بتأثير «التحديقة»، أو «النظرة إلى الجميل الخطرة أحيانًا»، كما حدث مع بطل توماس مان «آشنباخ» الذي أغرقه طول التحديق في الجميل خلال عطلته إلى فينيسيا إلى بحور من الشجن الذي أصاب رحلته، وعلى هامش دراما بطل توماس مان، يتأمل القمحاوي ما فعلته الغواية التي دفعت كثيرًا من المسافرين على مدار التاريخ للتخلي عن بطاقة العودة لأوطانهم، بعدما أغوتهم الأمكنة الجديدة بفتنتها، كما أُطلق على القاهرة «النداهة» كتفسير أسطوري لمدى تأثيرها. يقدم عزت القمحاوي في هذا الصدد نصيحة لقارئه للدفاع عن نفسه من فتك تلك الغواية، وهي نصيحة اقتبسها من توماس مان وهي «ألا نتعمق في النظر للأشياء إلى الحد الذي يجعلها مُحزنة» وهو ما لم يفعله «آشنباخ».
ويتجول الكتاب بين نصوص مُتفرقة لتأييد تأملاته منها «مدن لا مرئية» للكاتب الإيطالي الشهير إيتالو كالڤينو، ونصوص للأرجنتيني ألبرتو مانجويل، مرورًا بنصوص لنجيب محفوظ ويوسف إدريس وإحسان عبد القدوس، وحكايات ذات مرجعية دينية وتاريخية كما في رحلة نوح عليه السلام وطوفانه، وسليمان عليه السلام وملك الموت، وأخرى تستند إلى ملاحم شعرية عريقة مثل أوديب وجلجامش.
عين الدهشة
تتوالى تأملات عزت القمحاوي في السفر وشاعريته بتعبيرات مشهدية تحتفي بالحواس كما يقول «يحتاج المسافر إلى ساقين قويتين تحملانه وذراعين قويتين تجران الحقيبة، ومعدة قوية تستجيب لنزواته، وما لا أدري من مظاهر القوة اللازمة لإشباع رغباته، لكنه يحتاج إلى عينين أكثر من كل شيء، العين هي أول وأقوى مداخل الدهشة، لذلك أفكر بفاقدي البصر وحظوظهم من السعادة في السفر».
ويستدعي الكاتب في تأمله للعين كمدخل للدهشة، صورة الراحل طه حسين وزوجته سوزان، ويتأمل المحبة التي طرقت قلب حسين، فجعلته يرى باريس بقلبه، بعد أن جعلت سوزان عينيها تتسع لكليهما، مُعتادةً خلال ما يزيد عن 50 عامًا من حياتهما المشتركة أن عينيها لهما معًا. يستعين القمحاوي بعبارة من كتاب «معك» لسوزان طه حسين، الذي صدر عن دار «المعارف» بالقاهرة عام 1987، تقول فيها «وأمر أمام مقهى الكاردينال حيث كنا ننظر إلى زخرفته، وأتخيل إعجابنا وحماسنا».
ولعل هذا التنقل بين الأسفار، في الزمان والمكان والأدب وثيمات العمى والبصر، هو مفتاح قراءة «غرفة المسافرين» الذي بلغ بالكاتب حد تأمل الوجود وماهية الحياة، فيقول في عبارة ثقيلة الوقع على القلب «السفر يُخلصنا من العمق المؤسف الذي لا تستحقه الحياة».
دراما الحقائب
يشير القمحاوي إلى ما أسماها «الحقائب الحزينة» يستدعي ذكرى قاسية حول أول حقيبة حزينة يراها في طفولته، وكانت حقيبة ميّت، كانت عبارة عن مخلاة مدماة لضابط عادت مع جثته من حرب اليمن عام 1964، يسترسل «بعد ذلك عرفت أن الحروب ليست شرطًا لرؤية حقائب حزينة تزحف على سير الأمتعة بالمطار برفقة صندوق القصدير الذي يحتوي جثمان صاحبها أو حقيبة ترجع وحيدة بعد دفن صاحبها في الغُربة».
ومن اجترار تلك الذكرى يتأمل تجربة انتشار المصريين غربًا إلى ليبيا، وشرقًا إلى العراق ودول الخليج، وهي التجربة التي عبّر عنها الأدب مرارًا، فيما تظل تغريبة المصريين الذين ركبوا البحر تجاه أوروبا في تسعينيات القرن العشرين إلى اليوم هي الأكثر قسوة ولم يستوعبها الأدب إلى الآن، يقول القمحاوي «يولد حلم السفر في قلب المراهق القروي بالذات، وأحيانًا في قلوب ذويه، فيبدأ التفكير في رحلة شجاعة يُعززها الجهل بالبحر الذي يتصورونه ترعة».
ويأخذ هذا الخاطر الكاتب إلى تأملات طويلة في قسوة ظروف السفر، المصحوبة بطرق أبواب الأمل، والمُخاطرة بالنفس على متن زورق هالك، وأحلام العودة الضبابية، ويتأمل القمحاوي فرضًا بأن يعود ذلك المسافر إلى بلاده ذات يوم بعد سنين مُحملا بأكثر من حقيبة «سعيدة» جديدة لا تعرف شيئًا عن رحلة الذهاب العسيرة.
وكما أن هناك حقيبة «حزينة» وأخرى «سعيدة» هناك أيضًا حقيبة للمريض، وحقيبة للعروس، وحقيبة للمُسن، وحقيبة للأم المُرضعة، جميعها حقائب تخص أصحابها وحدهم، إلا أن الأدب عادة ما ينحاز إلى تخليد حقائب الحب الحزينة، التي وجد عزت القمحاوي في حكاية «آنا كارنينا» نموذجًا لها «آنا عرفت الحقائب السعيدة في سفرها عندما كانت خلية البال تروح وتجئ بين بطرسبرج مدينتها وموسكو حيث يُقيم شقيقها، ثم عرفت بعد ذلك حقيبة الانكسار والحزن عندما انتقلت من بيت زوج لم تحتمل إملاله، إلى بيت عشيق لم يحتمل ندمها وشكوكها وشوقها لطفلها. وعندما أصبحت حياتها غير محتملة، لم تجد بدًّا من الافتراق عن حقيبة حزنها بإلقاء نفسها تحت عجلات القطار».
الحقيبة لدى عزت القمحاوي أكثر بكثير من مجرد وسيط للانتقال بالأمتعة بين المُدن، الحقيبة مرآة لصاحبها، وتكثيف للوجود، ورفيقة صاحبها الصموت، باختصار «لن تجد رفيقًا يُشاطرك مشاعرك كما تفعل الحقيبة» على حد تعبير صاحب الكتاب.
تمثيل الحياة
في فصل يُطلق عليه الكاتب «تمثيل الحياة» يجعل من الطائرة مسرحًا مُصغرًا للحياة العادية، عرض مرسوم بدقة يندمج فيه الركاب مع طاقم الضيافة يتصرفون كما لو كانوا آمنين على أرض متينة «يشربون ويأكلون، يتمشون، ينامون، يقرأون، يتبادلون التحايا، ونظرات الإعجاب، يلتقطون لأنفسهم صورًا تذكارية مع نجوم ذلك المجتمع الطيب ويطلبون توقيعاتهم على دفاتر يومياتهم».
وعلى الرغم من «عادية» تلك المشاهد فإن القمحاوي يتأمل فانتازيتها، حياة عادية لا تكترث لآلاف الكيلومترات التي تفصل أصحابها عن الأرض، مُعلقين في سماء بعيدة على متن كيان معدني ولا يستشعرون الغرابة، وربما يتماهون في ألفة المضيفات اللاتي يقرأن عليهم إجراءات السلامة بابتسامة عريضة، لا يكاد أحد يكترث بها كثيرًا، بقدر ما يعتبر المسافر المخضرم هذه الفقرة واحدة من روتين السماء المُعلق بها مؤقتًا، تمامًا كالفقرة المُصاحبة للمس عجلات الطائرة للأرض ويندلع معها تصفيق الركاب، الغرباء، الذين ربما نبتت بينهم صداقات مؤقتة في ساعات الخوف في أثناء مطبات جوية حادة، ثم ما يلبثوا أن يعودو بعد الهبوط للأرض غرباء من جديد يتدافعون على باب الخروج.
وفي كل الأحوال يُثمن عزت القمحاوي لحظات السمو تلك المرتبطة بالانزواء في نقطة بعيدة مُعلقة، يدعو المسافر أن يغتنم تلك الفرصة النادرة «أنت خفيف كريشة في الهواء، فانس الحياة الضئيلة، ولا تُفوت فرصة تأمل السحاب تحتك، لأنك لن تراه بعد ذلك أبدًا، فمهما سافرت، لن تعبر السماء الواحدة مرتين».
مدن الخوف والبذخ
ومن السماء تتشكل وجهة المسافر، ربما إلى مدينة سعيدة أو إلى أخرى حزينة، يكشف عزت القمحاوي تفضيلاته الشخصية حول المدن، التي يبدو من لغته أنها محسومة وغير قابلة للتفاوض، يقول «لا أحب المدن التي تعاني نقصًا في الهواء، ولا تلك المتباهية، كلتاهما تنطويان على ثقل يبدد خفة السفر ويطفئ بهجته». الخوف على سبيل المثال هو إحدى علامات نقص الهواء لدى القمحاوي، يضرب مثالاً به للعاصمة دمشق التي يصفها بالفردوس الجميلة بكل ما فيها: سكانها، طعامها، عمارتها القديمة، ولكن رائحة الخوف كانت تُثقل هواء هذا الفردوس، «كان عليك أن تخفض صوتك إذا أبديت ملاحظة بسيطة، وربما تجد نفسك في محل ريبة دون أن تقول شيئًا، ربما لأنك صحفي ومهنتك خطيرة. وكان من الممكن أن يداهمك الحزن والخوف لا بسبب عدوان وقع عليك شخصيًّا، بل لرؤية العدوان يقع على آخرين ليس بوسعهم أن تمد لهم يد العون».
يتوقف الكاتب عند الفردوس التي لم يتبقى منها سوى الخوف، وتبددت منها رائحة الياسمين السارح من شعر نزار قباني، بعد أن تبدل مصيرها وصارت مُصدرة للاجئين، وهي على رأس الفراديس العربية المفقودة «جرح لا يحسه أبناء المدن السعيدة» يبكيها القمحاوي.
وفي لمحة أخرى عن الجمال، يذكر روما، ولكنه جمال ضاغط بحسب ذائقة الكاتب، جمال مُتفاخر بعمارتها المُعجزة، وطعامها الفخم وملابسها الكرنفالية، يقول عن جمالها «ينثر بهجة سريعة الزوال ويُخلف ندبة في القلب»، يُسفر الكاتب عن وجهته المفضلة وهي «فيرونا» التي يرى فيها خلاصة الأرض، التي إذا مُنح الاختيار لن يختار سواها موطنًا ما تبقى من حياته، وسبب ذلك يعود لجمال فيرونا «المتواضع» القريب من القلب و«طعامها المصنوع بحب، وقمرها الخفيض جدا».
وقبل أن يجد الكاتب نفسه متورطًا في جدل حول هذا الرأي المُغاير عن روما الفاتنة، يقول إن رأيه هذا يخضع لعلاقة كل إنسان الخاصة بالمكان الذي يزوره «من أنت؟ من أين جئت؟ وأين تقف؟ أسئلة تُحدد موازين القوة بينك وبين وجهات السفر».
السفر والفناء
يستدعي القمحاوي ذاكرته السينمائية في تناص مع مساراته التأملية حول السفر، فعلى سبيل المثال يتذكر وهو يتأمل علاقة المسافر بغرفة الفندق النجمة چينفير لوبيز في فيلمها «خادمة من منهاتن» Maid from Manhattan، إنتاج عام 2002، التي أدت دور خادمة تتطلع إلى الحياة الناعمة التي يحياها ضيوف الفندق، فترتدي فستان نزيلة في الفندق وتتجول به وهو ما يُكلفها خسارة وظيفتها، ولكنها في المقابل تكسب حربًا مع تلك النزيلة على حبيب ينتمي لطبقة عليا، ما يعتبره عزت القمحاوي استلهاما مفتوحًا لحكاية سندريلا، وفي موضع آخر يتذكر الكاتب فيلم The Bucket list في فصله المُعنون «سياحة المقبلين على الموت» يتذكر حكاية الملياردير إدوارد كول -جاك نيكلسون- مع ميكانيكي السيارات -مورجان فريمان- اللذين جمعتهما غرفة مشتركة في أحد المستشفيات، فيقرران كتابة قائمة بالأشياء التي يودان القيام بها بعد الشفاء، لاسيما بعدما يخبرهما الطبيب أن أيامهما في الحياة باتت معدودة، وهنا يقرر الملياردير خوض رحلة حول العالم تمتلئ برغباته وأحلامه المؤجلة ويصطحب فيها صديقه نزيل الغرفة والمصير المُهدد، يقول القمحاوي في سياق اقتراب الموت وعلاقته بالسفر «ربما يستفيد المسافر الموشك على الموت شيئًا مهمًا من ذلك الركض بين عجائب الدينا الضخمة المغمورة بالصخب: حرق ما تبقى له من وقت في الحياة دون تفكير في معضلة الفناء».
رُواة القصص
بحسب الكاتب فإنه «في كل لحظة من الرحلة هناك قصة تروى»، فالرواة في كل مكان، قد يكون المُرشد السياحي للرحلة، أو موظف الاستقبال في الفندق، الذي ربما يُحدث النزيل الجديد عن مشاهير أو عظماء سبق وأقاموا في ذات الفندق، وربما تأتي الحكاية على لسان مُسافر مُجاور، أو يحكيها بائع سلال من البامبو، أو النادل في مطعم، ومع هذا التدفق في الحكايات التي يأتي بها السفر، يدفع القمحاوي قارئه إلى مشاركة قصة هو الآخر في مكان بعيد «بوسعك في كل وقت أن تحكي قصتك، وأن تُجرب صوتك بينما تبوح بسر لشخص لن تلتقي به بعد ذلك أبدًا».
يتوقف الكاتب عند الخيط الذي يفصل بين الدهشة كعتبة للبهجة، وبين الاندهاش الذي يُفسد الأمور في السفر، بين الإفراط الطويل في التفكير والتفكير الساذج، في وقت يكون القبض على البساطة وأطلال الطفولة هو ما يكفل المتعة الحقيقية للسفر حفاظًا على ما يصفه الكاتب بـ»اللياقة العقلية» في أثناء الرحلة السياحية، ويعتمد المؤلف على مشاركة القارئ التفكير بطرحه تساؤلات على مدار الكتاب مثلا «هل تأخذ استراحة في أحد البارات بين السياح المسنين الذين أكسبتهم الأيام المال وأفقدتهم المرح، أم تشتري شطيرة تقضمها جالسًا على درج الكنيسة بين الشباب المبتهج؟ هل تعود إلى غرفتك فترة القيلولة أم أن موعد العشاء الذي اقترب لا يسمح بتلك العودة، اجهد ذهنك في فك أسرار شبكة الشوارع المعقدة، وصولًا إلى مكتبة لا تعرف لغة كاتبها.»
وعلى الرغم من احتفاء القمحاوي بالعديد من الوجهات السياحية في كتابه على رأسها «فيرونا» و«فينسيا» و«مدريد»، و«جزيرة سانتوريني»، إلا أنه يحتفظ داخل قلبه بوجهات أخرى للسفر لم يستطع الكتابة عنها، يُبرر هذا بعبارته «الأماكن التي عشت فيها سعادات قصوى لم أتمكن من كتابتها قط، أما تلك التي أتاحت فسحة من ألم أو شجن، فقد سجلت ما تبقى من أثر لوخزها على جدار قلبي».