سجالات

صافي ناز كاظم

«وطني عكا».. التطبيع الذي بدأ في ظل عبد الناصر!

2021.06.01

«وطني عكا».. التطبيع الذي بدأ في  ظل عبد الناصر!

عام ١٩٦٨ كتب عبد الرحمن الشرقاوي مسرحيته «وطني عكا»، وفي الموسم المسرحي ١٩٦٩ - ١٩٧٠ قدمها المسرح القومي عرضًا مسرحيًّا من إخراج كرم مطاوع.

سبب لي النص الذي قرأته، والعرض الذي شاهدته لـ«وطني عكا»، في ذلك الوقت، نوفمبر ١٩٦٩، حالة اندهاش وصدمة وغضب شديد مرتبطة بما طرحته المسرحية من مغالطات وأفكار حول فلسطين وصراع العرب ضد الصهيونية.

في ذلك الوقت كنت، على الرغم من كل الانهيارات، بريئة الذهن حسنة الظن فتصورت أن ما طرحه الشرقاوي من افتراضات خطرة مجرد خطأ وقع فيه بحسن نية بسبب ما اسميته «ليبراليته الميلودرامية» وبسبب عدم إلمامه بحقائق موضوع الاحتلال الاستيطاني الصهيوني لفلسطين، ولكن موقف عبد الرحمن الشرقاوي فيما بعد، بتأييده خط الصلح الكامل الذي انتهجه السادات وتطابق المغالطات التي طرحها عام ١٩٦٩ في مسرحيته تلك مع المغالطات التي ظل إعلام السادات يرددها حول علاقتنا بالكيان الصهيوني المغتصب، جعلني اكتشف أن عبد الرحمن الشرقاوي لم يكن واقعًا في خطأ كما حسبت ولكنه بكامل قواه العقلية والأيديولوجية كان متبنيًا لتلك المغالطات.

تبدأ مسرحية «وطني عكا» ببطلها الفلسطيني حازم يروي في تمهيد قصة ضياع الأرض الفلسطينية «إنكم لم تعرفوا المأساة حقًّا..»، وتحسب أنه سيقول ما لم يوضع من قبل في إطاره السليم أن المأساة تبلورت بدايتها منذ وعد بلفور، ٢ نوفمبر ١٩١٧، المؤيد للصهيونية التي تعتبر اليهودية جنسًا وقومية، وكيف اعتمدت على قوى الاستخراب الغربي القديم ثم تقدمت مع الاستخراب الجديد الذي تحمل لواءه أمريكا، وكيف أنها لصيقة بالإمبريالية العالمية، مستفيدة منها ومدعمة بها وخادمة لأغراضها ولم تكن قط ضحيتها أو متورطة معها، لكننا نرى بطل الشرقاوي حازم هذا لا يكف عن ترديد الخطابة القديمة والرؤيا المسطحة بأن المأساة بدأت ١٩٤٨ بهزيمة النظم العربية أمام الجيش الصهيوني الصغير.

من ثم يبدأ الشرقاوي في تقديم افتراضات لنماذج من العسكرية الإسرائيلية يفترسهم تأنيب الضمير صبيحة انتصارهم واستيلائهم على الأراضي العربية عام ١٩٦٧، ويظهرون كلهم ضحايا تضليل الصهيونية، حتى الذي شارك في تكوين تنظيم لشباب الصهيونية في لندن، ويصل تأنيب الضمير بواحد منهم اسمه «مارسيل» وهو فرنسي الأصل إلى أن يترك إسرائيل ويعود إلى فرنسا احتجاجًا على مخالفات إسرائيل!

خلال عرضه لا ينسى الشرقاوي أن يقدم لنا كذلك شخصية صحفية فرنسية اسمها «إيمي»، أدتها سميحة أيوب، جاءت لتكتب عن المقاومة الفلسطينية وتحكي لنا عن: «جندي إسرائيلي حر، سئم الحرب ففر، ومات الجندي المسكين، وكانت آخر كلمات أطلقها، فليحيا الإنسان صديقًا للإنسان!» ـ هذا المقتطف بين الأقواس من نص المسرحية ـ وعندما نصل إلى المشهد الأخير يصور لنا الشرقاوي نضج وكثافة ما ادعاه طوال مسرحيته من الأصوات الحرة التي ارتفعت داخل إسرائيل وتأثيرها في الموقف الحاسم عندما يأمر الضابط الإسرائيلي «يعقوب» بنسف القرية العربية إذا لم تسلم الفدائيين فيتقدم الضابط الإسرائيلي «الحر» سلامسكي معترضًا في غضب وثورة على أمر قائده يعقوب، ومعه ضابط إسرائيلي آخر، «حر»، كذلك اسمه سعد هارون من يهود فلسطين القدامى يؤيد معارضة سلامسكي في التعبير عن رفضه لأمر الضابط يعقوب بنسف القرية العربية.

في هذه اللحظة نفسها والشرقاوي يصور لنا الأصوات «الحرة» في إسرائيل تعارض وتمنع «الذبح» و«النسف» و«القتل» وتبدو منتصرة على التيار المعادي للعرب، في هذه اللحظة بالذات يدخل الفدائي الفلسطيني «أبو حمدان» بالمفرقعات وبخدعة ساذجة يستطيع أن يقنع الفرقة العسكرية الإسرائيلية، الطيبة الإنسانية، بالالتفاف حول صندوق المفرقعات فينفجر وتقتل الفرقة العسكرية كلها. ويضاء المسرح ونرى الفرقة الإسرائيلية «الإنسانية» جثثًا مبعثرة على الأرض أشلاء للأصوات الإسرائيلية «الحرة» التي قتلها الفدائي الفلسطيني!

وهنا يكون الشرقاوي قد وصل بمدلول اللغة المسرحية المرسلة مع هذا المشهد إلى أن المقاومة الفلسطينية إنما تقتل بأعمال «العنف» الأصوات الحرة التي نكسبها داخل معسكر الأعداء، وبذلك يخلص إلى إدانة المقاومة لصالح تلك الأصوات الحرة المزعومة، التي يدعي من دون مبرر وجودها في داخل الكيان الصهيوني المعتدي ومؤسسته العسكرية، والتي تدعونا المسرحية إلى الاعتراف بها واليقين بوجودها وفق خطة رؤيته المضلة طيلة العرض المسرحي.

كتبت في ذلك الوقت نقدًا للمسرحية بعنوان: «الجدوى واللاجدوى في مسرح عن المقاومة، ثم الشرقاوي والميلودرامية الليبرالية» ونشر هذا النقد بمجلة المصور في ١٩ ديسمبر ١٩٦٩ وركزت فيه على حقيقة من الحقائق التي كان علينا، ولا زال، أن نواجهها وهي، أنه حين رفعت السلطة في بلادنا شعار اعرف عدوك قبل وبعد الهزيمة كان لا بد أن ندرك أننا بحاجة ملحة إلى رفع شعار «أعرف قضيتك»، إذ لا بد لنا أن نعترف بأن الكثير من سواد الناس ومن المثقفين ظلوا إلى ما قبل هزيمة ١٩٦٧ يرزحون تحت سحابة من الأمية السوداء في كل ما يختص ويتعلق باغتصاب فلسطين: لا يعرفون على وجه الدقة الكثير من الجوهري والأساسي في ملابسات وظروف ونوعية نشأة وتطور التسلل الصهيوني إلى عقر دارنا.

وبناءً على هذه «الأمية» ظل الاحتكاك بقضية فلسطين مشوشًا غائصًا في لجج من الخزعبلات، ونتجت عن ذلك حالتان نقيضتان في المظهر لكنهما شيء واحد في تأثيرهما النهائي: أولاً حالة الاندفاع العاطفي المعبئ لكراهية عمياء من السهل محوها، ثانيًا رد الفعل على ما جرته علينا حالة الكراهية العمياء من اندفاع عصبي طائش، وأخذت تلك الحالة الثانية شكلاً أعمى، بدوره، «من سعة الأفق» و«العقلانية».

ومع الجهل والتجاهل لطبيعة الواقع العدواني في الكيان الصهيوني وبمبالغاتها في تفادي الوقوع في الكراهية العمياء؛ وقعت تلك الحالة في تقدير مبالغ فيه لإمكانات العدو الفكرية والبشرية والتنظيمية والديموقراطية، تقدير يحط من معنوياتنا على الجانب الآخر ويحور الصراع من أساسه إلى المقولة الخطرة المتميعة القائلة بأن الصراع مع إسرائيل في واقعه «صراع حضاري»، وأن علينا أن نجتهد لنلحق بالبناء الشاهق للحضارة المتمثلة في الكيان الصهيوني بحيث تنتفي وتلغى تمامًا، من جانبنا، توقعات المواجهة العسكرية التي لم تلغها الصهيونية من جانبها كما دللت الأحداث المأساوية على ذلك بعد توقيع اتفاقيات كامب ديفيد للسلام المزعوم وحتى الآن.

ارتفعت أصوات من ركبتهم هذه الحالة بمغالطة منطقية غريبة وهي أن هناك أصواتًا حرة داخل إسرائيل تنطلق من إطار ديموقراطي وبمساعدة هذه الأصوات يمكن أن ننجح في تشكيل تيار عام يؤنبه ضميره على ما اقترفته إسرائيل من جرائم ضد العرب، ولعلنا لا ننسى المفارقة أن الكيان الصهيوني هو الذي للأسف نجح في تشكيل تيار عام داخلنا نحن لصالحه.

وكما خلق لنا المنطق الأول الأعمى الوسادة التي نام فوقها البعض بأننا سندخل تل أبيب بقيادة عبد الناصر الحبيب، خلق لنا المنطق الثاني المزيف لواقع إسرائيل العدواني وسادة يحلو للبعض أن ينام بدوره فوقها منتظرًا ان يأتي عدونا تائبا معتذرًا ناقدًا نفسه نقدًا ذاتيًّا لما ارتكبه في حقنا من جرائم لأنه كان مضللاً وأفاقًا!

وقد تولد هذا المنطق منذ عهد عبد الناصر بعد الهزيمة وتسلمه أنور السادات وبلوره وحمله على عاتقه إلى الكنيست الصهيوني ١٩ نوفمبر ١٩٧٧ حين تحدث وصافح وعانق وغرق في حب الأصوات الحرة الإسرائيلية أمثال بيجن وديان وجولدا مائير.. إلخ! وحيث وجدنا بيجن بعدها تبلغ به التوبة ويبلغ به الندم حد إقامة المذابح لإبادة اللبنانيين والفلسطينيين على حد سواء حفظًا لود الصراع الحضاري والحوار الثقافي بينه وبين أنور السادات.

الأمر الذي يجدر الإشارة إليه بعد هذا كله أن مسرحية «وطني عكا» برسالتها الممهدة للتطبيع مع الكيان الصهيوني لقيت وقت عرضها، عام ١٩٦٩، احتفاءً وتكريمًا وتدعيمًا من السلطة الناصرية، إذ حضر العرض خبراء تلك السلطة السياسية وعلى رأسهم ضياء الدين داوود، وحكمت أبو زيد، وشعراوي جمعة، وأبدوا إعجابهم الشديد بالعرض ورضاهم الكامل عن رؤيته تلك «العقلانية»، بل إن التكريم الأكبر جاء من قبل بعض ممثلي القيادات الفلسطينية الذين قدم «أبو إياد» باسمهم درع المقاومة جائزة تقديرية للمخرج كرم مطاوع والمؤلف عبد الرحمن الشرقاوي عن عملهما ذلك المشوه! ولا زلت أذكر أنني ظللت، بعد العرض، أصرخ في وجه أبو إياد: هل تعرف ما معنى: "مقاومة"؟