مراجعات
يحيى عبد الواحد فكريأبناء إبراهيم: عن التسامح وقبول الآخر
2019.03.01
الكاتب: كيلي جيمس كلارك
الناشر: مصر العربية
سنة النشر: 2019
أبناء إبراهيم: عن التسامح وقبول الآخر
ينتمي كتاب «أبناء إبراهيم»، للفيلسوف الأمريكي كيلي جيمس كلارك، لحقل فلسفة الدين وهي الدراسات الفلسفية التي تعنى بالتركيز على معنى وطبيعة الدين. ولم تدخل فلسفة الدين كتخصص مستقل حيز الاستخدام العام حتى القرن التاسع العشر حين أصبحت تستخدم للإشارة والتعبير والنقد للتجربة الدينية ووعي الإنسان الديني وتعبيراته المختلفة لذلك في الثقافة والفكر واللغة والشهور والممارسة.
يضم الكتاب مجموعة من الأبحاث والمقالات كتبها باحثون ومتخصصون ينتمون جميعًا إلى النسق الإبراهيمي (الأديان التوحيدية الثلاثة) اليهودي والمسيحي والإسلامي، يسعى كل منهم، ومن داخل نسقه الديني ونصه المقدس، وبأسلوبه النظري الخاص، أن يثبت لنا كيف يمكن أن يدفعنا أبناء النبي إبراهيم للعيش معًا بمفاهيم كالتسامح وقبول الآخر والمحبة، وكيف يمكننا فهم ذلك كل من خلال دينه ومعتقده الخاص.
ينقسم الكتاب إلى بحث للمحرر كيلي جيمس كلارك -وهو فيلسوف أمريكي متخصص في فلسفة الدين والدراسات التي تعنى بالعلاقة بين العلم والدين، والعلوم المعرفية للدين. وهو حاليًا باحث في معهد كوفمان وبروفسور في جامعة ولاية جراند فالي- يتبع ذلك ثلاثة أقسام، أبناء إبراهيم اليهود وفيه أربعة أبحاث، وأبناء إبراهيم المسيحيون وفيه أربعة أبحاث أيضًا، وأبناء إبراهيم المسلمون ويتكون من خمسة أبحاث.
في مقدمة النسخة العربية يؤكد الفيلسوف الأمريكي كيلي جيمس كلارك علي أهمية أن ندع المنتمين إلى التقاليد الدينية المختلفة يتحدثون عن أنفسهم؛ فعلى الرغم من أننا مجبولون على الخوف من الآخر، إلا أنه يتوجب علينا تخطّي ذلك، بخلق مساحات نستطيع من خلالها سماع الآخر وتفهُّم موقفه، وبذلك يمكننا العيش في عالم أكثر أمنًا وعدلًا. وفي تقديمه للباحثين بأديانهم الثلاثة، أسهب كلارك في تفهمه حساسية المسلمين تجاه اليهود، ولكنهم -أي اليهود- كالمسلمين والمسيحيين، أبناء إبراهيم. ويؤكد أن دولة إسرائيل العلمانية لا يجب أن تكون ممثلة لليهودية ولا يجب على أشكال الظلم التي توقعها إسرائيل على الفلسطينيين أن تؤثر سلبًا على موقف المسلمين تجاه اليهود واليهودية، كما يظهر موقفه تجاه القضية الفلسطينية وضد إسرائيل في مقال نشر في عام 2012، إذ أسماها «القضية السياسية الأكثر إلحاحًا وأهمية لنا اليوم»(1).
يستهل كلارك الكتاب ببحث بعنوان «نداء إلى أبناء إبراهيم» ويعرض فيه السرديات المنتشرة اليوم حول العنف المحفز دينيًّا، وتظهر تلك السرديات جلية مع حركة «الإلحاد الجديد» التي تزعم أن الدين قوة محركة للشرور وأن العنف والتعصُّب الديني ينبعان من الاعتقاد بالخلاص والحياة الآخرة، وأن التسامح لم يكن إلا نتيجة للمعرفة العلمانية و«الجهل الديني» الذي بهما تظهر «الوسطية الدينية»، وأن الحل الوحيد للتسامح ونبذ العنف هو التخلي التام عن الاعتقاد الديني، وبالأخص نظام التوحيد الخاص بأبناء إبراهيم. ينقض كلارك هذه المزاعم التي تصر على هذه النظرة الاختزالية، ويتناول مسألة العنف والشر من منظور سياسي اجتماعي ثقافي يلعب فيه الدين جزءًا في بعض الأحيان، وفي أحيان أخرى يغدو حلًّا.
ويؤكد كلارك على أهمية ما قدَّمَه الدين من أعمال خيِّرة طول التاريخ، لا لتبرئته تمامًا من تلك المزاعم، وإنما لوضع الأمور في نصابها الحقيقي. ويؤكد أيضًا أن الإلحاد ليس بريئًا هو الآخر من تهمة العنف، وأن المسألة ليست سباقًا يجب أن يفوز فيه طرف على طرف، بل يَلزم البحث عن تسامح مؤسس على الاعتقاد؛ ومن هنا جاءت فكرة الكتاب وهدفه المرجو بالأساس؛ أعني محاولة فهم التسامح بما هو مفهوم ديني أصيل بشكل عام، وبما هو مفهوم مشترك لأبناء إبراهيم،كما يعنى الكتاب بتقديم دفاعات دينية تسمح بالحفاظ على الهوية والاعتقاد والخصوصية الدينية.
أبناء إبراهيم اليهود
يناقش هذا القسم من الكتاب التسامح من منظور الدين اليهودي فيما يتعلق بشكل أساسي بالقضية الفلسطينية/الإسرائيلية لكونها قضية محورية تخص اليهود بشكل عام، وفي الالتباس الذي يساوي أخلاقيًّا وفكريًّا بين الصهيونية باعتبارها حركة سياسية غاشمة وبين اليهودية بوصفها دينًا إبراهيميًّا له تاريخه وتراثه ومعتنقوه. من الأبحاث الجديرة بالذكر في هذا القسم البحث المعنون بـ«تعصُّب التعليم الإسرائيلي» لما له من أهمية في إظهار حقيقة إسرائيل؛ كونهادولة قومية علمانية تشرعن التعصب والقتل والعنصرية، وذلك بشكل ممنهج من خلال تجهيل الشعب الإسرائيلي بحقيقة جيرانهم الفلسطينيين والعرب بل والمسلمين، من خلال تقنيات إعلامية وتعليمية يظهر فيها ذلك «الآخر» شخصًا بدائيًّا وجاهلًا، مسلوخًا من كرامته الإنسانية ومفصولًا عن الجنس البشري مما يبرر قتله والاعتداء عليه، وتظهر نوريـت بيليـد إلهانـان -وهي ناشطة إسرائيلية عملت على تعزيز الحوار بين الإسرائيليين والفلسطينيين- ذلك الأمر ببراعة ودقة؛ إذ تعرض شهادات اليهود المعادين للحركة الصهيونية وما اقترفته وما تزال تقترفه الصهيونية بحق الفلسطينيين، بل وبحق اليهود الذين يحاولون إظهار حقيقة ما تدعو إليه إسرائيل وما تؤمن به.كما تعرض تفصيليًّا ما تحتويه المناهج الدراسية من عداء للآخر، وتسهب الباحثة في تناول مفهوم «الآخر» في الدين اليهودي وكيف شوَّهَت دولة إسرائيل هذا المفهوم بل وجعلت من اليهودي المختلف -الأفريقي أو الروسي على سبيل المثال- «آخرَ» مضطهدًا أيضًا، مما يظهر الصهيونية كعقيدة فكرية متعصبة غير متسامحة لا تتسق مع مبادئ التسامح في الدين اليهودي التي تعرضها الباحثة وتؤكد عليها. ولا يخلو بحثهامن الشق الإنساني والتجربة المشتركة بين ما عاشته وما عاشه غيرها من آثار جسيمة لهذا الصراع ولكنها تؤكد أنه وعــبر الخـروج مــن قصـتنا الشخصـية أو القوميـة ورؤيتنـا الذاتيــة أو العرقية للواقع، والتي يتم حبسنا وسجننا فيها، يمكننا أن نـرى الآخـر، وأن نرتـدي حذاءه وأن نعامله بتعاطف.
وفي البحث المعنون بـ«هل حقوق الإنسان العالمية من تعاليم اليهودية؟» لـ«آريك آشرمان» – Ascherman Arik Rabbi وهو المــدير التنفيــذي لمنظمة «حاخامين من أجل حقوق الإنسان» . يقدم الحاخام آريك آشرمان بحثًا يرصد إمكان إيجاد تعاليم يهودية توصي بحقوق الإنسان العالمية، وفي هذا البحث يمكننا رؤية التنظير اللاهوتي العميق من داخل النسق والتراث اليهودي، والذي يصر آشرمان على الحديث والمواجهة من داخله عوضًا عن الانسحاب، ويؤكد أن الاختباء خلف الدين لتبرير الشرائع اللاإنسانية أمر مرفوض، وأن الاختلاف داخل اليهودية بشقيها المتعصب والمتسامح يعود إلى قِدَمِ هذا التراث وتعدُّده. يرسي الحاخام مبدآن يهوديان لحقوق الإنسان العالمية، المبدأ الأول هو الانتباه إلى السبت؛ اليوم الذي يذكرنا أننا مصنوعون، وأن هناك شيئًا فوقنا وأهم من رغباتنا البشرية، والمبدأ الثاني هو إدراك صورة الله واحترامها، إذ عندما نؤذي الإنسان فإننا نهاجم الله وننقص صورة الله في العالم. ثم يتجه بعد ذلك الحاخام آشرمان لتوضيح التعاليم اليهودية التي تتعلق بالآخر وينهي بحثه المميز بالتأكيد على أنه ما من أحد يستطيع أن يقول إن دمك أكثر احمرارًا من دمه، ويسرد في ذلك تجربته الشخصية في العمل بمبدأ التسامح الذي يقول إنه الطريقة الوحيدة لضمان مستقبل أفضل لأطفالنا في هذا العالم.
أبناء إبراهيم المسيحيون
يناقش هذا القسم بالكتاب مفهوم التسامح والمحبة وقبول الآخر من منظور ديني مسيحي. في البحث المعنون بـ «التعصب الديني وجراح الله» لـنيكولاس ولترستورف -أستاذ فلسفة متقاعد بجامعــة يــال ورئــيس ســابق لاتحــاد الفلاســفة الأمــريكيين ومجمــع الفلاســفة المسـيحيين. يناقش ولترستورف باختصار القضية الفلسطينية والظلم الذى يعانيه الفلسطينيون، مسلمين كانوا أو مسيحيين، ويستقي تنظيره من نسق منسي في اللاهوت المسيحي إذ لا يقول فيه فقط إن الظلم إساءة لله بل يكون التعصب الديني في حد ذاته ظلمًا. يفرق ولترستورف بين التسامح وبين مفاهيم ملتبسة يُعْتَقَد أنها مبنية على التسامح وإجلال التعدد مثلًا، ويعرض ولترستوف لأسباب ممارسة التسامح بشكل عام ولكنه يركز على التسامح الديني بالخصوص ويؤكد أن اللاهوت المسيحي يجيز ذلك من خلال التقليد الذي نظّر له كالفن، ولتوضيح ذلك عقد وولترستورف مقارنة بين الفيلسوف المسيحي أوغسطين والمصلح المسيحي كالفن وذلك بسبب سطوة التقليد الأوغطسيني على النظرة المسيحية للتسامح، والتي يرى ولترستورف أنها قاصرة وغير كافية إذا ما قورنت بروح العهد الجديد الحقَّة التي أوضحها كالفن على حد تعبير الأول، ويوضح أن الظلـم الكامن في التعصب الديني وأي شـكل آخر مـن أشـكال الظلـم بحق إنسان آخر يعني أن تسيء لله.
يأتي بحث آخر جدير بالذكر وهو البحث المعنون بـ «أظهروا احترامًا للجميع، الإيمان المسيحي وثقافة الاحترام الكوني» وفيه يقوم اللاهوتي المرموق ميروسلاف فولفمدير -مدير مركز يال للإيمان والثقافة وأستاذ اللاهوت بكليـة اللاهـوت في يـال - بالتنظير للتسامح عبر اتخاذه موقف فلسفي ينبني على فلسفة كانط؛ ويؤكد أن التسامح هو الخاصية الأساسية للكنيسة الحقَّة. ويستخدم فولف في تنظيره فلسفة جون لوك ويرادف بين الإكرام والاحترام ويجدهما أعلى من التسامح لانطوائه على فعل فيه قوة، وبالتالي علينا معاملة الناس بما هو أرقى من ذلك، ويفرق فولف بين الإنسان بوصفه كيانًا له كرامة والإنسان حين يرتكب فعلًا ما، ولذلك يمكننا احترام شخص مختلف عنا وذلك لأن له كرامة، وبالتالي على الاحترام هنا أن يكون غير تمييزي، ولكن يمكننا وببساطة أن نختلف مع الأفعال ولا نحترمها. وهذه التفرقة الواضحة بين الفعل والفاعل هي أساس ما نظَّر له فولف عبر بحثه وحاول إقناع القارئ به؛ إذ ينتهي إلى القول بأن فكرة «الاحترام لجميع الناس» إلزام أخلاقي غير مشروط، أما احترام أديان العـالم نتيجـة محتملـة لحكم معتبر، على الـرغم مـن أشـكال عدم الاتفاق العميقة.
أبناء إبراهيم المسلمون
يناقش هذا القسم القضايا المتعلقة بسماحة الدين الإسلامي ويحاول فيه الباحثون من داخل التقليد الإسلامي إثبات رحابة الإسلام وقبوله للتعددية وقبول الآخر.
يأتي البحث الأول بعنوان «رسالة إسلامية في التسامح» للفيلسوف الإيراني عبدالكريم سروش -فيلسوف إيراني، وواحد من القوى الفكرية القيادية الواقفة وراء حركة تأييد الديمقراطية بالجمهوريـة الإسلامية. وكان مسلما ناشطا أثناء الثـورة الإيرانية. وفي هذا البحث يتخذ سروش الصوفية والصوفيين باعتبارهم مثالًا جليًّا للتسامح والحب. ويسهب تفصيلًا بذكر أمثلة من التراث الصوفي كحافظ الشيرازي وجلال الدين الرومي، مع إقرار أن التعددية الإسلامية مؤسسة في القرآن الكريم، والتأكيد على أن التسامح فضيلة فوق دينية ولا تُمَثِّل نقيضًا للدين.
ومن البحوث الجديرة بالذكر البحث المعنون بـ«الأصول التاريخية والدينية للشرف» للصحفية رنا الحسيني -صحفية حاصلة على عدة جوائز عالمية ومدافعة عن حقوق الإنسان ومؤلفة كتـاب «الجريمـة باسـم الشـرف»، تحاول فيه درء المزاعم التي تختزل الخصوصيات الثقافية المتعلقة ببعض التقاليد المجتمعية التي يتم إلصاقها تباعًا بالإسلام كجريمة الشرف وقيمة العذرية وتشويه الأعضاء التناسلية للإناث، وعرضت رنا الحسيني جميع العوامل الاجتماعية بمنهجية سوسيو-سياسية نُظهر أهمية الإلمام بالجوانب الاجتماعية لأي فعل إنساني وعدم التسرُّع في إصدار الأحكام النهائية والحاسمة. وتعرض أيضًا في هذا البحث بعض المواقف الإيجابية تجاه النساء في التراث الإبراهيمي عامة، وكيف على سبيل المثال تسبب حديث نبوي في إنقاذ كثير من الأطفال الإناث من قتلهن وقت ميلادهن. يأتي البحث الأهم بعنوان «خطابة الإرهاب وخطابة الجهاد: تقييم فلسفي ولاهوتي» للباحث جانر تسلمان -عضو الهيئة التدريسية في قسم الفلسفة في جامعة يلدز التقنية في أسـطنبول -وفيه يستخدم تسلمان الهرمنيوطيقا وآليات تفكيك الخطاب لشرخ مفهومي الإرهاب والجهاد باعتبارهما خطابات تُسْتَخْدَم من قبل جهات عديدة كل حسب مفاهيمه ومصالحه. ويُوَظِّف فلسفة هابرماس للكشف عن الفعل التواصلي القرآني فيما يتعلق بأخلاقيات الحرب مستشهدًا بآيات عديدة ومن السيرة. ويبين تسلمان أن أهمية ذلك تكمن في إمكان القرآن عقد الاتفاق مع «الآخرين»، وينتهي تسلمان إلى إمكان تحسـين العمليـة التواصـلية مـن خـلال النضـال ضـد الأسباب الاجتماعية التي تسبب ذلك، ومن خلال تشجيع لغة الحوار بدلًا من لغة العنف وتحريـر أنفسـنا مـن الخطابـة الـتي تُسْتَخْدَم أداةً تسـويق للعنف.
الهوامش:
1 - للمقالة انظر:
The Most Important Political Issue of Our Day
https://www.huffingtonpost.com/entry/the-most-important-politi_1_b_1852773?fbclid=IwAR0sGxrtQMoLTCCOKhnPYHYVmolGUYh6tHpLW9TTfdAgLHY1RYSXeQMmpHQ
Philosophy of religion is the philosophical study of the meaning and nature of religion. It includes the analyses of religious concepts, beliefs, terms, arguments, and practices of religious adherents.