عدد 10/11-100 سنة على ثورة 1919

أحمد جلال بسيوني

أثر ثورة 1919 في نشأة المملكة العراقية 1920-1921

2019.05.01

أثر ثورة 1919 في نشأة المملكة العراقية 1920-1921

باندلاع الحرب العالمية الأولى بات لمنطقة الشرق الأدنى عمومًا، ومنطقة المشرق العربي خصوصًا، أهمية كبيرة على جميع الأصعدة؛ عسكرية كانت أمسياسية، استراتيجية أو اقتصادية، على الرغم من أن فتيل الحرب ومشعلها ومديرها لم يكن من تلك المنطقة، وإنما كُتب على أبنائها تحمل ويلاتها والتأثر بتبعاتها دون أن يكون لهم فيها ناقة ولا جمل، بل إن بعضهم كان مجرد «حشو مدافع» كما أطلق عليهم الإنجليز والفرنسيون خلال بعض مراحلها. وعلى الرغم من أن المتحاربين لم يكن يهمهم غير الظفر بالانتصار في نهاية هذه الحرب، إلا أنهم جميعًا خاطبوا سكان المنطقة ومنوهم بمعسول الكلام، وتلاعبوا بمخيلاتهم، ورفعوا أسقف طموحاتهم إلى عنان السماء وفق استراتيجيات مرنة وعبر سلسلة من الوعود المتناقضة طول سنوات الحرب، مكنتهم من الوصول إلى أهدافهم الواحدة تلو الأخرى، عبر سلسلة من الوعود التي حنثوا بها جميعًا بالنسبة للعرب، بينما تفاوتت مواءماتهم حسب مصالحهم مع حلفائهم وأصدقائهم الآخرين. 

مع انتهاء الحرب كان واضحًا أن لبريطانيا على وجه الخصوص السبق والتميز لما كان لها من وجود مسبق وعملي في المنطقة، ليس هذا وحسب، وإنما كانت توطد أقدامها بالفعل خلال العام الأخير من الحرب في أغلب مناطق المنطقة بشرعية النصر العسكري المباشر، ولذا فبمجرد انتهاء تلك الحرب العالمية الأولى والدخول في مرحلة المؤتمرات الدولية، بغرض إقرار تسويات مقبولة لنتائجها، ظهرت مستجدات عدة غيرت بريطانيا على أساسها أولوياتها في المنطقة، فسعت للبحث عن الوسيلة الناجعة لإنهاء ترتيب أوضاعها. لكن وبينما كانت بريطانيا تقوم بتلك الترتيبات وكأنها تمسك بسكين وتقطع به قالبًا من الزبد وتوزعه كما تشاء حدث حدثان جللان لم تكن تتوقعهما على الأرجح، وأربكا حساباتها في المجمل، إذ اندلعت ثورتان شعبيتان كبيرتان ومزلزلتان لوجودها في المنطقة؛ الأولى في مصر عام 1919، والثانية في العراق عام 1920. 

لا تهدف هذه الورقة إلى دراسة ما حدث في ثورة 1919 في مصر ولا ما تمخضت عنه، فهناك دراسات جمَّة تناولت الموضوع في هذا الإصدار التذكاري وغيره من الدراسات المختصة، كذلك لا تهدف الورقة إلى دراسة سياسات بريطانيا في المنطقة إبان سنوات الحرب، ولا التعمق في المستجدات التي انتابت السياسة البريطانية في المنطقة بعيد انتهاء الحرب العالمية الأولى إلا بما يخدم موضوع ورقتنا هذه، ولا تهدف إلى الوقوف على النتائج التي انبثقت من تلك الأحداث وتحليلها؛ وإنما تهدف فقط إلى دراسة كيفية استفادة بريطانيا من النتائج التي تمخضت عن ثورة 1919 في مصر، وكيفية احتواء الحالة الثورية التي فاجأت الجميع بصورة لم تكن متوقعة في مصر، ثم محاولة نقل تجربة ذلك إلي العراق، الذي اندلعت به ثورة عارمة في العام التالي مباشرة للثورة المصرية، وربما كانت تلك الأخيرة أشد فتكًا وأكثر بطشًا في قمعها، وهذا ما ستحاول الورقة مناقشته من خلال أربع نقاط هي: المستجدات التي واجهت سياسة بريطانيا في المنطقة: مدخل تاريخي؛ استفادة بريطانيا من سياستها إزاء ثورة 1919 في مواجهة الحالة الثورية العراقية؛ الترتيبات البريطانية لإنشاء مملكة العراق؛ وأخيرًا مؤتمر القاهرة مارس 1921 وإنشاء المملكة العراقية. 

لا تسعى تلك الورقة لمناقشة هذه النقاط فحسب من خلال منهج القراءة ما بعد الكولونيالية للتاريخ، أي من خلال زاوية تفكيك المعرفة التاريخية التي عملت قوى الاستعمار الغربية على ترسيخها، وإنما اعتمد منهجها على محاولة الوصول لأصل الحدث التاريخي من خلال الغوص في أفكار صانعيه البريطانيين أنفسهم، وهي الأفكار التي دونوها في آلاف الوثائق من برقيات ومراسلات وخطابات وتقارير وشروح، والعكوف على دراستها وتحليلها اعتمادًا على فهمنا لمبدأ احتكار القوة الذي تبنته بريطانيا حين تعاملت مع الجانب العربي «الضعيف والتابع»، ومبدأ توازن القوى الذي تبنته حينما تعاملت مع حلفاء أقوياء مثل فرنسا ثم روسيا. 

أولًا: المستجدات التي واجهت سياسة بريطانيا في المنطقة

قبيل انتهاء عمليات الحرب العالمية الأولى العسكرية حققت القوات البريطانية نصرًا عسكريًّا مهمًا على الأتراك ترتب عليه احتلال العراق وفلسطين في مارس ونوفمبر 1917 على الترتيب، وبناءً عليه عملت بريطانيا على محاولة استثمار هذين القطرين الجديدين المنضويين تحت سيطرتها بـ «شرعية النصر العسكري» وألا ينافسها فيهما أحد، فكانت تلك «الشرعية الجديدة» حافزًا لها للتملص من أية وعود أو تعهدات شفهية كانت قد طرحتها على العرب في المشرق على الأقل منذ مراسلات مكماهون- الحسين سنة 1915. وبمجرد انتهاء الحرب العالمية الأولى وما تبعها من مؤتمرات دولية، بات العراق وفلسطين فعليًّا من بين المناطق المعترف بها كمغانم يحق لبريطانيا الانتداب عليها حسب ما تم إقراره عبر عصبة الأمم المنشأة حديثًا، وبصورة أخرى فقد تلاشت فكرة «الدولة العربية» أو «اتحاد الدول العربية» التي كانت قد وعدت بها الشريف حسين وغيره من قبل خلال مراحل متعددة من مجريات الحرب. 

فقد كانت بريطانيا في تلك المرحلة الجديدة تطبق رؤية رئيس وزرائها آن ذاك ديڤيد لويد چورچ David Lloyd George (1916- 1922) بأن «الأجزاء العربية من الإمبراطورية العثمانية هي «في منطقتنا»، غير أنه من الناحية العملية على أرض الواقع اكتشفت أن أمامها كمًّا كبيرًا من القضايا العالقة التي أنتجتها تلك الحرب ووجب عليها حلها. وكانت المتغيرات التي جدت على مراكز صنع القرار البريطاني أبرزها، وذلك لأن وزارة الخارجية البريطانية أبدت ضعفًا في التعامل مع الأحداث المتلاحقة، إذ كانت تتحمل وقت الحرب العالمية الأولى أعباءً وصلت إلى خمسة أضعاف مسؤولياتها في الظروف العادية، إلى حد أن جميع غرف المبنى وطرقاته تحولت إلى مكاتب للموظفين. وقد ساعد على هذا التقليص لدور الوزارة تلك السياسة التي تبناها لورد إدوارد جراي Lord Edward Grey وزير الخارجية البريطاني (1905- 1916)، والتي كانت ترى أنه في أوقات الحرب تكون الدبلوماسية مبنية على المواقف التي تواجهها وزارة الحرب، وبذلك تحول دور وزارة الخارجية إلى تابع، وزاد على ذلك كثرة الخلافات بين الوزير ومساعديه، والافتقار إلى الانسجام في العمل بين أقسام الوزارة المتعددة، وهو ما يمكننا أن نفهم من خلاله الأسباب التي أدت إلى نجاح وزارة الخارجية البريطانية في إدارة شؤون الحرب عسكريًّا، وإخفاقها دبلوماسيًّا بعد انتهائها، وهو ما أدى إلى تركها لكثير من صلاحياتها لإدارات ووزارات أخرى اختياريًّا أو إجباريًّا، وكان أبرزها وزارة المستعمرات ووزارة الطيران والأدميرالية. 

أيضًا كانت الرغبة في ضرورة تحسين أداء الاقتصاد من المستجدات التي كان على الإمبراطورية البريطانية مواجهتها بعد انتهاء سنوات الحرب، وهنا ظهرت صناعة البترول التي تعوم عليها منطقة العراق لتقدم إنقاذًا سخيًّا لهذا التراجع الاقتصادي، وبالتالي تمرحلت الأهمية الاستراتيجية للعراق، من كونه حلقة وصل حيوية لربط أجزاء الإمبراطورية البريطانية بالهند ليصبح مصدرًا للثروة، وهو ما دعا بريطانيا إلى العمل على عدم زيادة النفوذ الفارسي في العراق من ناحية، وكذلك الوقوف ضد أية محاولة من جانب تركيا لإعادة بناء قوتها في العراق من ناحية ثانية، وللحيلولة دون تكوين هلال مسلم معادي لها، يمتد من مصر إلى الهند عبر العراق وإيران من ناحية ثالثة، لذا فقد كان لابد من دق إسفين دائم لفصم عرى هذا الاتحاد المحتمل عبر تعزيز وجودها في العراق بنظم أجدى وأوقع. 

لكن في الوقت الذي ظهر فيه العراق منقذًا اقتصاديًّا لبريطانيا كثرت الانتقادات لأداء الحكومة البريطانية فيه خلال تلك المرحلة، بسبب تراجع مستوى أداء وزارة الخارجية، لدرجة أدت إلى ظهور دعوات في الصحف البريطانية لترك العراق كي تتفرغ بريطانيا لمناطق أكثر أهمية، وهو ما جعل رئيس الوزراء البريطاني يعلن صراحة أن العراق يحوي مخزونًا هائلًا من البترول ترغب بريطانيا في اهتباله، مفندًا الانتقادات الموجهة لسياسة حكومته في العراق بقوله «إننا إذا تركناه، قد نجد بعد سنة أو سنتين من مغادرتنا أننا سلمنا إلى الفرنسيين والأمريكيين بعضًا من أغنى حقول البترول في العالم». 

وبينما كانت بريطانيا تتلمس خطاها لإعادة ترتيب أوضاعها بالمنطقة العربية، خصوصًا مصر (شريان حياتها الاقتصادي) والمشرق العربي (المناطق الجديدة المضافة إليها بعد الحرب)، إذا بثورة شعبية كبيرة وغير متوقعة بالمرة تندلع عام 1919في مصر، التي كانت تتبع وزارة الخارجية البريطانية ذات الأداء المتراجع والسيطرة الرخوة خلال سنوات الحرب، تزيد من إرباكها لحسابات بريطانيا، وإفسادها لسياساتها في مصر، خصوصًا بعد إظهار الشعب المصري وعيًا كبيرًا، ونضجًا واضحًا في مطالبه، وحفاظه على وحدته الوطنية التي كانت المكسب الأول والحقيقي لتلك الثورة. وهنا وجهت بريطانيا كل قواها لـ «تفريغ» تلك الشحنة الثورية بكل السبل الممكنة، خصوصًا أنها كانت ثورة شعبية تفتقر إلى زعامة واضحة ومحددة تقودها في أثناء أحداثها النشطة خلال الأسابيع الأولى، وهو ما سيدخلنا في سلسلة المفاوضات الماراثونية حينما ظهرت زعامة سعد زغلول في مرحلة تالية، واستمرت تلك المفاوضات لفترة طويلة على الأقل حتى إصدار تصريح 28 فبراير 1922، المهم أن بريطانيا هنا قد نجحت في احتواء الثورة الجامحة وفرغت شحنتها المتأججة –لأسباب كثيرة- وكانت المفاوضات وما تلاها من دستور وملكية دستورية مشروطة نجاحًا حقيقيًّا لمصالحها، وكما ذكرنا في المقدمة فإن سياستها تلك في مصر ليست موضوع تلك الورقة، وإنما هدف هذه الورقة كيفية الاستفادة من تلك السياسة في تشكيل وإنشاء المملكة العراقية الحديثة. 

ثانيًا: استفادة بريطانيا من سياستها إزاء ثورة 1919في مواجهة الحالة الثورية العراقية

لم يكن الشعب المصري وحده الذي يشعر بحالة غليان بعيد انتهاء الحرب العالمية الأولى، وإنما كانت هناك حالات مشابهة للشعوب العربية الأخرى التي نالت قدرًا من التحضر والاطلاع، وهو ما ظهر في تلك المحاولة الاستقلالية التي قام بها فيصل بن الحسين في سوريا عام 1920، ثم في الثورة الشعبية التي اندلعت في العراق، صحيح أن فرنسا في حالة سوريا، وبريطانيا في حالة مصر والعراق، لم تكن تتوقع كل منهما مثل تلك الأمور، إلا أنه كان لكل واحدة منهما طريقتها لقمعها. ولا يهمنا التحدث الآن عن الحالة السورية، لأنها خارج سياق موضوع هذه الورقة، وإنما التركيز على مقاربة حالتي مصر والعراق باعتبارهما ثورتين شعبيتين، فضلًا عن أن كلاهما كانتا تحت الانتداب البريطاني. 

ففي صيف عام 1920نشبت ثورة شعبية في العراق على غرار ثورة 1919 المصرية، إلا أنها كانت مختلفة عن ثورة مصر؛ فالعراق كان مليئًا بالإثنيات والمذاهب، ولم يكن به دولة مستقرة ومعلومة حدودها كما كان الأمر في مصر، التي كان الاحتلال البريطاني فيها قد قارب على نصف القرن، خبر فيها كل تفاصيل مصر وأساليب حكمها وطبيعة شعبها. ولعل ثورة العراق اشتركت كذلك مع الثورة المصرية في أنها كانت مفاجأة للجميع، فلم يتوقعها الإنجليز في البداية، ولذا تكبدوا خسائر فادحة مادية وأدبية، لأن تلك الثورة الشعبية العارمة ضدها شملت شتى المدن الرئيسية، واتحدت فيها هذه الإثنيات والعرقيات والمذاهب ضد المحتل، فخسرت بريطانيا الرهان على تفتيت عرى المجتمع مذهبيًّا ودينيًا، بالضبط كما خسرت الرهان من قبل على تفتيت الوحدة الوطنية لدى المصريين، ولم يبق أمامها إلا الإسراع بزيادة حاميتها في العراق لتصل إلى نحو مئة ألف جندي، قُتل منهم نحو ألف، أي ما نسبته 1 % عدا الجرحى، وكادت الثورة تقتلع الوجود البريطاني من العراق لولا سلاحها الجوي الفتاك، الذي حسم الأمور على الأرض، بواسطة ما عُرف باسم «الشرطة الجويةAir Policing». 

وعلى الرغم من ذلك القمع الدموي لتلك الثورة الشعبية غير المسلحة في المجمل، إلا أن الخسائر المادية لبريطانيا كانت فادحة؛ قدرتها السيدة جرترود بِل Gertrude Bell السكرتيرة الشرقية لدار الانتداب البريطاني بالعراقOriental Secretary for High Commissioner of Iraq، بنحو خمسين مليون جنيه استرليني، وليس هذا فحسب، إذ كان هناك أثر سياسي للثورة، لأنها أجبرت المندوب المدني البريطاني في بغدادBritish Civil Commissioner in Baghdad سير أرنولد ويلسونSir Arnold Wilson (1918- 1920) على الاستقالة، وحل محله في أكتوبر 1920 سير پيرسي كوكس Sir Percy Cox؛ الذي كان يعمل وزيرًا بالنيابة في طهران، ليصبح أول مندوب سامي بريطاني في العراق High Commissioner of Iraq (1920- 1923). كذلك فقد كان الثوار قد نجحوا في نصب كمين للكولونيل جيرالد ليتشمان Gerald Leachmanوقتلوه بالقرب من الفلوجة على يد الشيخ ضاري بن محمود وأتباعه، وبمقتل هذا الكولونيل واستقالة ويلسون، انتهت فكرة «هندنة» بلاد ما بين النهرين، التي كانا يتبنياها كأحد أهم الأطروحات لإعادة تنظيم العراق فيما بعد الحرب العالمية الأولى، وذلك بنقل أعداد كبيرة من الهنود للاستقرار في تلك المنطقة لتغيير طبيعتها الديموجرافية. 

وبناءً على تلك المستجدات فُتح المجال لفكرة جديدة قوامها استبدال السيطرة العسكرية البريطانية بسيطرة أخرى تشبه النمط المدني الموجود بمصر، عبر وضع حكام بنظام فردي مطلق، وبجانبهم مستشاريهم البريطانيين، وبرلمانات شكلية، بغض النظر عن الصعوبات التي سيواجهوها بسبب تنوع الطبقات الشعبية على الأخص في بلد كبير كالعراق. وهنا عكف رجال الإدارة الإنجليز على دراسة النماذج الممكنه لتطبيق تلك النظرية ووضع خُطة عمل لها، وخريطة طريق لتنفيذها، فكانت تجربتهم في مصر مرشدهم لكيفية احتواء الأمر في العراق، فتم تقديم العديد من المقترحات والرؤى إلى أن تم بلورتها جميعًا في مشروع واحد سينتهي بإنشاء المملكة العراقية عام 1921 تحت حكم فيصل بن الحسين. 

استعانت بريطانيا في تلك المرحلة بواحد من أبرز رجالها وأميزهم؛ وهو هيوبرت يونج Maj. Hubert Young، الذي كان يعمل ضابطًا برتبة ميجور في الجيش البريطاني في الهند، كما حصل على لقب سير في أثناء خدمته هناك، ثم اُنتدب للعمل في الدائرة الشرقية والمصرية بوزارة الخارجية، ومنها أعد مذكرته حول مستقبل المنطقة الجديدة ككل: تلك المنطقة التي كانت تضم مصر، وفارس، وجزيرة العرب، وفلسطين، والعراق، ورأى أن تلك المنطقة ليست فقط ذات وضع جغرافي مميز، وإنما كذلك لأن بها أكثرية سكانية يتحدثون بالعربية ويدينون بالإسلام. ولم يغفل يونج سوريا والحجاز في أهميتهما، لكنه أسقطهما من طرحه صراحة، على الرغم من وقوعهما في ذات الحيز الجغرافي والثقافي والديني الذي بنى على أساسه هذا الطرح، مبررًا ذلك بأن بريطانيا لن تكون مسؤولة عنهما في المستقبل القريب حسب الاتفاق مع فرنسا، ونص بالفعل في مذكرته أن«سوريا والحجاز قُطران أجنبيان تمامًا»، أما مصر فمن المفهوم سلفًا أنها ستبقى فعلًا ضمن الإمبراطورية البريطانية مع احتفاظها بحكومتها الأهلية الخاصة، في حين أنه اعتبر أن فارس وجزيرة العرب «أقطار مستقلة تعتمد على استشارة حكومة صاحب الجلالة»، ورأى أن يكون العراق مستقلًا بصورة مؤقتة تحت الانتداب البريطاني، وفلسطين تتطلب قدرًا أكبر من السيطرة الإدارية «ضمانًا لتنفيذ السياسة الصهيونية لحكومة صاحبة الجلالة». وفي المحصلة يرى يونج أنه فيما عدا فلسطين وقلعة عدن، فليس من المتوقع أن يكون هناك حكم بريطاني مباشر لأي قطر في تلك البلدان الخاضعة لحكم بريطانيا في هذه المنطقة، وإنما «ستكون المناطق المختصة محكومة اسميًّا بحكومات أهلية يساعدها مستشارون بريطانيون». 

بدا واضحًا للإدارة البريطانية أن امتصاص حالات الغضب المتصاعدة، وتفريغ تلك الشحنات الثورية وموجاتها المتلاحقة في المناطق الحضارية أو شبه الحضارية الخاضعة لسيطرتها في العالم العربي وعلى الأخص مصر والعراق، سيكون عن طريق خلق ما أسمته «حكومات أهلية» تأخذ الشكل الظاهري، بينما يكون الحكم الفعلي من خلال مستشارين بريطانيين يحكمونها من خلف الستار. لكن ينبغي الإشارة إلى أن بريطانيا خلال أواخر عام 1919 وحتى منتصف عام 1920 لم تكن قد استقرت على نوعية هذه «الحكومات الأهلية» ولا أسماء أعضائها أو طبيعة مهامها، وإنما اهتمت على وجه الخصوص بتحديدمفهوم «المستشارين البريطانيين»، لأنهم هم من سيكونون الحكام الفعليين والمنفذين لمصالحها. 

وهنا أوضح يونج بإسهاب أن لدى بريطانيا نموذجان واضحان للسيطرة على قُطر شرقي هما مصر والهند؛ ففي مصر، عملت بريطانيا على تقديم الاستشارة لحكومة أهلية فترة طويلة، وهو ما ساعد في تنمية الحكم المحلي وتوفير كفاءات مصرية مناسبة، شريطة أن تكون تحت الإشراف البريطاني. لكن في الهند –والكلام لايزال ليونج- كان الأمر مختلفًا، إذ إن الحكومة البريطانية لم تعمل على تنمية الحكومات الأهلية كما فعلت في مصر، ومع تطور الزمن دخلت متغيرات جديدة قللت من فاعلية هذا النظام في الهند، كانتشار التعليم الغربي وتقدم سبل المواصلات، ومبدأ تقرير المصير الذي أطلقه الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون (1913- 1921) واجتمعت هذه العوامل كلها لتخلق في عقول من أسماهم»المهيجين الشرقيين عدم الثقة في السيطرة الغربية وفقدان الصبر عليها»، ولذا كان على بريطانيا السعي لإحلال حكومة أهلية في الهند بدلًا من الإدارة العسكرية المباشرة، لأن هذه الإدارة العسكرية المباشرة تستعدي الشعور الوطني. 

ومن هنا خلص يونج أن النموذج الذي طبقته بريطانيا في مصر كان على المدى الطويل أنجح وأكثر فعالية واستقرارًا من نموذج السيطرة العسكرية المباشرة الذي تم تطبيقه في الهند. وعليه فقد رأى ضرورة الالتفات إلى تلك المسألة وهي تخطط لوضعها الجديد في العراق، وأنه لا سبيل غير الاعتراف بوجود حكومات أهلية وربطها بعلاقات تعاهدية مع بريطانيا، وأن يكون هناك مستشارين ملحقين بتلك الحكومات، مع ضرورة أن يتفهم الموظفون البريطانيون طبيعة الشرقيين، وأن يقللوا من فكرة عدم الكفاءة الشرقية، التي تؤدي إلى تكريس السلطة في يد الموظفين البريطانيين، مما يؤدي إلى إغفال ضرورة الاتجاه إلى التوسع في الحكم الأهلي، لتجنب المشكلة ذاتها التي تواجهها في الهند في ذلك الوقت، ومن ثم التخفف من أعباء السيطرة المباشرة على الإدارة، لكنها تقف مكتوفة الأيدي أمام ندرة المؤهلين. 

أما عن الأمور المالية، لطبيعة حكم مصر والعراق، فقد رأى يونج أن مصر «عادة مكتفية بنفسها ماليًّا»، أما العراق فرأى أنه من السابق لأوانه التوقع بأنه سيكون مكتفيًا ماليًا، ولذا فقد اقترح أن يتحمل دافع الضريبة البريطانية نفقاته لبعض الوقت حتى يتمكن من الاعتماد على ذاته، ثم في المرحلة التالية يتم ربطه ماليًّا ببريطانيا عن طريق أن يُطلب رأس مال خارجي على شكل قرض من خزانة صاحب الجلالة أو بضمانها. وكان من بين الخطوات السريعة التي اتخذتها بريطانيا لتقليل أثر الثورة إنشاء حكومة مؤقتة من وزراء تم اختيارهم لتمثيل الطوائف والمذاهب البارزه في العراق، وألحق البريطانيون أنفسهم بكل وزارة كمستشارين، وجميع هؤلاء يكونون تحت إشراف جرترود بل وچون ڤيلبيHarry St John Bridger Philby (1885- 1960)، مستشار وزارة الداخلية والرحالة والمستشرق الشهير. وكانت بِل ترى أن التشكيل سيجري وفقًا لما أسمته»الممارسة العثمانية في الاختيار من بين الأقلية السنية»، إذ كانت ترى أن الشيعة ليسوا عربًا عراقيين وإنما هم وقادتهم ومرجعياتهم «رعايا فارسيون»، وبناءً على تلك القناعة فقد أُتي بنقيب أشراف بغداد عبد الرحمن الجيلاني، الذي هو رئيس أهالي السنة رئيسًا للوزراء، بينما عُين السيد طالب [طالب النقيب]، ابن نقيب البصرة والمدعوم من القبائل السنية بالجنوب وزيرًا للداخلية، ويهودي بغداد البارز ساسون أفندي حسقيل وزيرًا للمالية، وجعفر باشا العسكري وزيرًا للدفاع، وكان اختيار الأخير مع صهره نوري السعيد، لأنهما كانا من القوميين العرب الذين شاركوا فيصلًا دخول دمشق وتنصيبه بها ملكًا. ومن هنا فمع نهاية عام 1920 كانت الإدارة البريطانية قد وضعت الأطر النظرية وخطة العمل التي ستسير عليها في كيفية حكم العراق إداريًّا وماليًّا، ولم يتبق غير الاستقرار على اسم الحاكم الشكلي الذي سيتم صنعه صنعًا في المرحلة التالية، وكذلك نوعية مساعديه وخلفياتهم وطبيعتهم. 

ثالثًا: الترتيبات البريطانية لإنشاء مملكة العراق

ذكرنا في النقطة الأولى من تلك الورقة أنه كان هناك تراجعًا كبيرًا في أداء وزارة الخارجية البريطانية بعيد انتهاء الحرب العالمية الأولى، وأنه بسبب هذا التراجع انتقل الكثير من مسؤولياتها ومهامها لوزارات أخرى كان أهمها وزارة المستعمرات، لكن بانتهاء الحرب وإقرار تسوياتها في فرساي وغيرها أخذت الإدارة البريطانية تلملم أطرافها لمواجهة التحديات الجديدة التي كانت أمام الإمبراطورية في تلك المرحلة، التي تولى خلالها لورد كيرزونLord Curzonوزارة الخارجية (1919- 1924). وبمجيئه أخذت وزارة الخارجية تتعافى من عثرتها وتتكامل في مهامها مع وزارة المستعمرات التي كان لها اليد الطولى آنذاك، وأخذت الوزارتان تتشاركان في لندن لوضع آلية إدارة العراق الجديد. 

وكان قطاع من الموظفين البريطانين يرون في الأمير عبد الله -الابن الأكبر للشريف حسين-أنه الشخص الأنسب لتولي عرش العراق، باعتباره «حلو الحديث، متغربنًا بدرجة أنه كان يتلقى نسخة يومية من صحيفة الفيجارو الفرنسية معظم أيام الأسبوع»، إلا أن موظفين آخرين بنفوذ وتأثير أوسع على رأسهم توماس لورانس [العرب] وبيرسي كوكس رفضوا ذلكباعتبار أن الأمير «كان كسولًا، ليس بإمكانه السيطرة بأي حال من الأحوال»، خصوصًا أن كوكس كان يفضل أخاه فيصلًا لحكم العراق لأن بطولته في أثناء الحرب تؤهله لتكوين جيش بصورة أسرع. 

استقر الرأي إذًا من حيث المبدأ في أروقة الإدارة البريطانية المختصة على أن فيصلًا كان الأنسب لزرعه على عرش العراق، في حين أن الأخير لم يكن يعرف أي شيء عن الموضوع برمته، فضلًا عن أنه كان لايزال مطرودًا بالقوة العسكرية الفرنسية من سوريا، فكانت بريطانيا لا تريد استثارة حفيظة صديقتها اللدود آنذاك باختيارها فيصلًا في العراق بعد طرده من سوريا. ومن هنا فإن مجلس الوزراء البريطاني كان يرغب أن يبدو ترشيح الأمير فيصل بن الحسين للعرش وكأنه من تلقاء نفسه، وأن «الشعب» العراقي هو من أتى به، وذلك طبعًا بغرض تجنب ردة الفعل الفرنسية، وهو الأمر الذي شغل حيزًا كبيرًا من تفكير رئيس الوزراء البريطاني ديڤيد لويد چورچ، إذ رأى أنه لا يوجد مبرر للاعتراض على ترشيح الأمير فيصل، طالما سيكون ذلك بناءً على مبادرة من بلاد ما بين النهرين، ومع ذلك فقد كان يعتقد أنه لو تمت الأمور وفق تلك الآلية، فإن موقف الفرنسيين سيظل حرجًا للغاية مع البريطانيين، وأنه سيكون من الصعب جدًا التوفيق بين هذا الإجراء وبين الموقف الذي ستتخذه وزارة الخارجية الفرنسية في هذه المسألة. 

أما الأمير فيصل نفسه فقد كان في لندن في يناير 1921 للتفاوض حول العلاقات مع ابن سعود، ووضع والده، ووضع شرقي الأردن، وكان مفاوضاه ميجور سير هيوبرت يونج، وسير كيناهان كورنواليس Sir Kinahan Cornwallis. وعن عمد، ووفق آلية ممنهجة تم استبعاد قضيتي سوريا والعراق عن تلك المباحثات، حتى وصول التعليمات إليهما من وزير الخارجية كيرزون، حول كيفية مفاتحة الأمير بقبول عرش العراق، على أن تكون تلك المفاتحة بصورة ودية، وبلغة الناصح الأمين، وهو ما تم بالفعل في السابع من يناير، وأنه في حالة إبداء الأمير الشاب الموافقة، فإن الحكومة البريطانية ستقف بجانبه وتؤيد مطلبه شريطة أن يقنع والده للتصديق على معاهدة ڤرساي. فقد كانت تريد وضع حاكم عربي على العراق يقبل بشرووط انتدابها، ويرتضيه السكان المحليون على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم، وألا يثير مشكلات مع فرنسا التي طردته شر طرده مؤخرًا من سوريا، وهو بذلك سيكون متفوقًا عن الآخرين المطالبين بعرش العراق. ومن هنا فكان على كورنواليس –وفق تعليمات وزير الخارجية- الإيحاء للأمير فيصل بأن يقوم والده الشريف/ الملك حسين بترشيح أحد أبنائه لعرش العراق، ويُلمح لفيصل أنه هو الأبرز لهذا المنصب الرفيع، وأنه الشخص المرغوب فيه من قِبل بريطانيا. 

وبعد لقاء كورنواليس بفيصل بأربعين يومًا، وزعت وزارة الحرب مذكرة شاملة كانت قد أعدتها حول تنصيب الأمير فيصل كأول ملك على العراق، وناقشت فيها بالتفصيل الموضوع من كل زواياه حسب الأولوية البريطانية وإعلائها لمصالحها في العراق، وانتهى الرأي في تلك المذكرة إلى أنه هناك عدة فوائد في اختيار فيصل لتولي هذا العرش المزمع، ومنها إشاعة سمعة طيبة للإمبراطورية البريطانية في العالم الإسلامي على اعتبار أنها «منصفة وعادلة في تعاملاتها، وبأنها تلتزم بوعودها»!، ومنها كذلك أن اختيار فيصل سيكون مقبولًا لدى سكان العراق ذوي الأغلبية الشيعية بالرغم من أنه سني، على اعتبار أنه سليل أسرة النبي، فضلًا عن إنه يكره الشيوعية والبلشفية، وهي الأفكار والممارسات التي تجتاح الأقطار المتاخمة للعراق، وبالتالي فإن اختياره وتنصيبه ملكًا على العراق«قد تُصبح أنموذجًا لجيرانها المسلمين، وحاجزًا محتملًا أمام البلشفية» من ناحية، وأن تعيينه على العراق سيحمل أباه على التخلي عن الدسائس في التواصل مع مصطفى كمال [أتاتورك]، كذلك سيوقف أخاه عبد الله –المؤكد تواصله المستمر معه- عن ذلك. ثم أخيرًا وهو الأمر الأهم أن فيصل يمتاز بأن ثقته ببريطانيا تفوق ثقته بأية دولة أخرى، كما أن له خبرة جيدة بأساليب الإدارة البريطانية»إنه يتماشى مع رجال الإنجليز، ولذا فإن التعامل معه سيكون أسهل من التعامل مع غيره»، وبالتالي خلص الرأي إلى أن تنصيب فيصل سيُحدث حالة من الاستقرار في المنطقة، لأنه سيكون من الممكن إقناع رؤساء العرب المجاورين بسهولة بأنهم سيحصلون على مكافآتهم في الوقت المناسب إذا «فعلوا ما تطلبه إليهم حكومة جلالته». وبذلك تتبقى النقطة الأخيرة للتمهيد لتولي فيصل عرش العراق، والتي ستأتي في أقصر مما كان هو نفسه يتصور، وهو ما تم في مؤتمر القاهرة الذي لم يحضره فيصل نفسه. 

رابعًا: مؤتمر القاهرة مارس 1921 وإنشاء المملكة العراقية

كما لاحظنا في النقطة السابقة أن الإدارة البريطانية هي من سعت لزرع فيصل بن الحسين على عرش العراق، حتى دون إبلاغه أو مشاورته، وأنها بعد أن استقرت مناقشات أفرعها المختلفة واتفقت على الموافقة على هذا الأمر تم إبلاغ فيصل بالأمر في لندن، بمعنى أن كل الترتيبات تمت في لندن بإشراف وزارة الخارجية، لكن كان القرار النهائي في يد وزارة المستعمرات التي تولاها في مطلع فبراير 1921 سير ونستون تشرشل Churchill Winston (13 فبراير1921- 19 أكتوبر 1922). وكان تشرشل رجلًا عمليًّا نشيطًا، ما أن تولى الوزارة إلا وأخذ على عاتقه مهمة حسم كل تلك القضايا العالقة وعلى رأسها العراق، ولذا فكان أول قرار اتخذه بشأن العراق بمجرد توليه الوزارة، وبعد إلمامه بالخطوات التي اتخذتها وزارتا الخارجية والحرب والتي عرضناها في النقطة السابقة، قام بإرسال توماس إدوارد لورنس [العرب]، لمقابلة الأمير فيصل بن الحسين في لندن، لمفاتحته صراحة في التغيرات المحتمل حدوثها في المنطقة وأخذ موافقته الصريحة على الأمر بدون مواربة قبل انعقاد مؤتمر في فندق سميراميس في القاهرة 11- 22 مارس 1921 برئاسة وزير المستعمرات الجديد. 

كان الغرض من هذا المؤتمر جمع أكبر عدد من المختصين والمعنيين بشؤون المنطقة من القادة العسكريين البريطانيين والمديرين المدنيين لوضع ما يمكن تسميته رؤية موحدة وبرنامج عمل واضح للآلية التي يمكن لبريطانيا بها إدارة المنطقة الجديدة التي انضوت تحت الحكم البريطاني بعد الحرب العالمية الأولى، مع ضرورة تقليل النفقات بشكل كبير للحفاظ على الاستقرار الاقتصادي لبريطانيا. وكان المجتمعون يمثلون غلاة المستعمرين الإنجليز، الذين لعبوا دورًا مؤثرًا في السياسة البريطانية بالمنطقة العربية خلال الحرب العالمية الأولى. وسنلاحظ هنا اختيار تشرشل مدينة القاهرة مقرًا لانعقاد المؤتمر الذي سيناقش قضية العراق وكذلك الأردن وفلسطين، على الرغم من أن إدارة مصركانت تتبع وزراة الخارجية البريطانية لا لوزارة المستعمرات التي كان يرأسها، فقد كان النموذج المصري مسيطرًا ومُسَتَقَرًا عليه بين الساسة البريطانيين، وأنه بات مؤكدًا تعميم هذا النموذج على المملكات الجديدة المزمع إنشاؤها. 

وقد اصطدم تشرشل للوهلة الأولى بنضوج وعي المصريين السياسي، وإدراكهم لكينونة المخططات البريطانية، لدرجة أنه لم يحظ بذلك الاستقبال المهيب المُعد له في محطة القطار بالقاهرة، بسبب الوطنيين المصريين -الذين وصفهم الإنجليز بـ «الغوغاء»-وكانوا مصطفين لاستقباله رافعين شعار«يسقط تشرشل»، ولذا ذهب خلسة للفندق دون أن يراه أحد. وحينما علم الوطنيون المصريون بذلك، كانوا يتظاهرون طول أيام انعقاد المؤتمر بالخارج رافعين صور الخديو المخلوع عباس حلمي الثاني (1892- 1914)، ويرددون المقولة الشهيرة «الله حي عباس جاي»، ثم أخذوا يتتبعون تحركاته وهم رافعين تلك الصور التي علقوها في كل مكان يُتوقع مرور موكب تشرشل منه في القاهرة. ولعل هذا الأمر كان سببًا في انزواء تشرشل، وتفضيله الجلوس في الهواء الطلق على كرسي بسيط مخصص للمخيمات في حراسة عربة مدرعة، وكان لا يرسم إلا الأهرامات الشامخات التي أُسر بها خلال زيارتها في أول أحد من أيام المؤتمر. 

كان مع تشرشل في المؤتمر العقيد توماس إدوارد لورنس[العرب] بصفته المستشار الخاص لمكتب المستعمرات Special Advisor to Colonial Office؛ وميجور هيوبرت يونج من مكتب المستعمرات، وصاحب المذكرة المهمة عن مستقبل المنطقة، التي سبق عرضها بالتفصيل أعلاه؛ وسير جيفري سالموندSir. Geoffrey Salmond قيادة الطيران في الشرق الأوسط Air Officer Commanding Middle East؛ ومارشال هيو ترنتشارد Hugh Trenchard رئيس الأركان الجويةChief of the Air Staff ؛ وجيفري فرانسيس أرتشرGeoffrey Francis Archer حاكم الصومال البريطاني Governor British Somalia؛ وسير هربرت صامويل، المندوب السامي البريطاني في فلسطين؛ وكان في الوقت نفسه ممثل رئيسي للحركة الصهيونية، وطبعًا لورد أللنبي، المندوب السامي البريطاني في مصر المقام على أرضها المؤتمر. 

وبجانب هؤلاء كان هناك وفد يمثل مصالح بريطانيا في العراق، يضم سير پيرسي كوكس المندوب السامي البريطاني في العراق؛ ومعه جرترود بل السكرتيرة الشرقية لدار الانتداب البريطاني بالعراق، وكانت المرأة الوحيدة المشاركة في المؤتمر. كذلك كان هناك الجنرال سير إلمر هالدنGeneral Sir James Aylmer Haldaneالقائد العام للقوات البريطانية في بلاد ما بين النهرين General Officer Commanding Mesopotamia، أما سير أرنولد ويلسون – حاكم العراق الذي قدم استقالته بعد ثورة العشرين، وحل كوكس محله- فقد حضر المؤتمر بصفته عضو مجلس الإدارة المنتدب عن شركة البترول الأنجلو فارسية، للتحدث عن مصالحها البترولية في «الشرق الأوسط» بشكل عام. 

كذلك كان من بين المشاركين في الوفد الذي يمثل العراق عربيان وحيدان هما جعفر العسكري باشا -وزير الدفاع في أولى الوزارات العراقية المؤقتة- ومعه مستشاره البريطاني؛ وساسون حسقيل - وزير المالية في أول وزارة عراقية مؤقتة- ومعه مستشاره البريطاني، كما حضر المستشار البريطاني لوزير الأشغال والمواصلات العراقي. وقد لعب هذا العربيان: جعفر العسكري باشا، وساسون حسقيل دورًا مهمًا لخدمة توجهات بريطانيا في العراق، إذ كان منتظرًا من الأول أن يكون منفذًا للاستراتيجية الدفاعية للمملكة العراقية الجديدة، بحكم صلته بالقوات الجوية الملكية البريطانية كمجموعة مراقبة، وكان منتظرًا من الثاني ترشيد الإنفاق المالي وضبط الاقتصاد في المملكة العراقية الجديدة وفق التوجهات البريطانية. 

وبعد افتتاح المؤتمر وفي أثناء انعقاد أولى جلساته طرح تشرشل الموضوع من زاوية لا تختلف كثيرًا عن التعليمات التي كان قد أرسلها وزير الخارجية لورد كيرزون للسيد كورنواليس ليفاتح فيها الأمير فيصل في لندن؛ ثم استطرد تشرشل وكأنه والمجتمع معهم لا يعلمون بالأمر قائلًا «هنالك بعض العراقيين الذين يرشحون فيصلًا للعرش، وأن انتخابه سيكون مقبولًا لدى حكومة جلالته». وكان حديث تشرشل هذا للمؤتمرين بعد أن ناقشت اللجنة السياسية للمؤتمر موضوع تقسم أقاليم العراق، وإنشاء دولة كردستانية مستقلة تكون كمنطقة صد عازلة بين العراق وتركيا، خصوصًا أن تشرشل نفسه كان قد أعرب عن تخوفه من مدى تواؤم الأكراد مع حاكم هاشمي، إلا أن اللجنة قررت أنه ومن أجل أن يصبح العراق دولة قابلة للحياة فلابد أن تكون أقاليمه الثلاثة (البصرة وبغداد والموصل) متحدة معًا. 

أيضًا كان على تشرشل إرسال رسالة مهمة مفادها طمأنة كل منتقدي سياسة الحكومة البريطانية في العراق، وأن الحامية –التي سيقل عددها بصورة كبيرة بعد تولية فيصل- ستكون قادرة تمامًا على الدفاع عن نفسها في حال حدوث أي فوضى أو اضطرابات محتملة، أو التعرض لأي هجوم بري. وأكثر من ذلك سيمكن إخلاء قائد القاعدة الجوية من بغداد عبر صنادل مسلحة تخرجه بسرعة إلى الخليج الفارسي [العربي] عبر نهر دجلة، كما أن بريطانيا سيكون لديها القدرة على إجلاء كل موظفيها في العراق دون الحاجة لمساعدات خارجية، وكل ذلك سيكون في حدود المبالغ المالية المقررة سلفًا، ودون طلب المزيد. 

وقد أرسل وزير الخارجية لتشرشل برقية مطولة من رئيس الوزراء، الذي خصص مجلس وزرائه مناقشة وافية لمقترحات تشرشل التي أرسلها برقيًّا بتاريخ 21 مارس 1921، أي بعد انتهاء جميع المداولات والنقاشات على كورنيش النيل، وكان مجلس الوزراء البريطاني معجبًا للغاية بما توصل إليه المؤتمرون، ولم يخف وزير الخارجية في برقيته ذلك الإعجاب، ثم أوصاه بضرورة التوفيق بين توصياته وبين الارتباطات مع الفرنسيين، واقترح –بناءً على اعتقاد ساد بين الوزراء في مجلسهم بلندن- أن يعود سير پيرسي كوكس بأسرع وقت للعراق للترتيب لترشيح فيصل ودعوته لقبول منصب حاكم العراق، في الوقت الذي سيُطلب فيه من الأخير مغادرة لندن إلى مكة لمفاتحة والده في الأمر، مع إفهامه صراحة أنهم سيرحبون به حاكمًا إذا اقنع والده وقبله العراقيون، شريطة أن يقبل شروط الانتداب كما هي، وأن يبذل قصارى جهده للمحافظة على مصالح الفرنسيين في سوريا. 

ورئاسة الوزراء في برقيتها تلك تكون قد اقتنعت بما أرسله تشرشل لرئيس الوزراء حول أسباب استحالة تزكية أي من المرشحين الآخرين لعرش العراق، وخصَّ منهم عبد العزيز آل سعود، إذ رآه»سيغرق البلد بأكمله في جحيم ديني»، أما نقيب بغداد بالوراثة عبد الرحمن الجيلاني، فهو «تهالك وعلى شفا الموت»، أما سيد طالب ابن حاكم البصرة [طالب النقيب]، فرآه «شخص فاسد غير أهل للثقة»، وذلك لأن الأخير حمل شعار «العراق للعراقيين»، وكان يحرض الجميع علنًا ضد فيصل، ورُصد عنه غير مره إنذاره للبريطانيين بتكرار ثورة مماثلة لثورة العشرين ما لم تنسحب بريطانيا وتعطي الحقوق للعراق، وهو ما دعى جرترود بِل لأن تصفه بأنه «الرجل الأكثر مهارة وذكاءً، وربما كان الوغد الذي لم يتم شنقه حتى الآن»، وبتحريض وترتيب منها، وجهت جرترودبِل إلى طالب النقيب دعوة شاي، وكانت هي المترجمة، وفي طريق عودته إلى منزله تم إلقاء القبض عليه ونفيه إلى جزيرة سيلان (سريلانكا فيما بعد)، حيث لحقت به عائلته فيما بعد، وبالتالي لم يعد هناك أفضل من فيصل بن الحسين لزرعه في هذا المنصب، على الرغم من أنه لم يزر العراق من قبل، وكانت لهجته العربية غريبة على أسماع أهله، كما أنه لم يكن مرحبًا به في الأوساط الشيعية على الرغم من نسبه، فضلًا عن أنه لم يكن على علم بقبائل العراق وتركيباتها وتداخلاتها. 

وبعد انتهاء أعمال المؤتمر، وبينما كان تشرشل في طريقه إلى الإسكندرية من القدس عبر القاهرة كتب إلى الجنرال الفرنسي جورو في سوريا، والذي تصفه الوثائق البريطانية دومًا أنه «ذو الشعبية الكبيرة في فرنسا»، وكان من المتخوفين صراحة من احتمال استخدام فيصل في العراق ضد مصالح بلاده في سوريا، وأعرب تشرشل للجنرال على أن الاتجاه العام للسياسة البريطانية«تميل بصورة إجمالية نحو حل المسألة لصالح عائلة الأشراف»، إلا أن تشرشل كعادته لم يجزم بأن الأمر بات ونهائي، وإنما حرص على ذكر جملة «ولكننا بالطبع سنهتدي برغبات السكان المحليين في كل من العراق والأماكن الأخرى»، كما أن استقرار الأوضاع في شرق الأردن كان مرهونًا بقدرة عبد الله بن الحسين على منع أي قلاقل في القطاع الفرنسي انطلاقًا من شرق الأردن، مدعومًا بقوات جوية بريطانية، وإشراف ضباط بريطانيين لجمع الضرائب، وتطوير الإدارة المحلية «وبناءً على نجاحه أو إخفاقه في هذا المجال ينبغي الحكم عليه». كما أن تشرشل رتب مع عبد الله إزاحة عليّ –الذي تحدث جورو عنه مع تشرشل- من منصبه الحالي وإرساله إلى ناحية نائية عن القطاع الفرنسي، وأن تشرشل قد أعطى «أشد التعليمات صرامة لجميع من يخدمون تحت إمرة وزارة المستعمرات بأن يفعلوا كل ما في وسعهم لخدمة المصالح الفرنسية وتسهيلها وخدمة أمن المنطقة الفرنسية». 

ولم يكن معنى انتهاء المؤتمر أن الأمور قد تمت تسويتها، وإنما كان المؤتمر هو الحلقة الجامعة للنقاش مع صفوة متخصصي الإنجليز ذوي الدراية الواسعة بشؤون المنطقة، وبالتالي فقد أخذت الأمور نحو ستة أشهر أخرى لاختبار وإقرار تلك القرارات التي اتخذها المؤتمرون، للتمكين لحلفائهم الجدد، أو بالأحرى صنائعهم الجدد؛ وعلى رأسهم الملك فيصل في العراق، إذ اعترفت بحكم فيصل وقبلت تتويجه في 23 أغسطس 1921، بعد أن ذللت جميع الصعاب أمامه ليكون الملك، بدءًا باعتقال طالب النقيب، وصولًا إلى أن رتب سير پيرسي كوكس لمؤتمر عقده مع عبد العزيز ابن سعود بمنطقة العقير شرقي نجد، اعترف فيه ابن سعود بفيصل ملكًا على العراق، وكذلك ترسيم الحدود بين العراق وبين نجد والكويت وسوريا وشرقي الأردن. أما حدود سوريا والعراق مع تركيا فقد تُركت للجنة الحدود الدولية سنة 1926، المهم أن العراق بهذا الترسيم للحدود احتفظ بالموصل وبترولها، وهو البترول الذي منحت امتيازاته لشركة البترول العراقية، التي كانت ملكًا للمساهمين البريطانيين والفرنسيين والأمريكيين، والشركة الأنجلو هولندية. 

على المستوى الداخلي ساعد البريطانيون في إعادة بناء بغداد كي تكون عاصمة مناسبة، إذ لم تكن قد استخدمت عاصمة منذ سقوطها على يد المغول سنة 1258، لدرجة أنه لم يكن بالمدينة المبنية منازلها بالطوب اللبن مكان يصلح لسكنى الملك الجديد، فنزل مؤقتًا بالقلعة، إلى أن رتبت جرترود بل مراسم تنصيبه في مساء 23 أغسطس 1921 وسط حضور ألف وخمسمئة ضيف، كما تولت جرترود بل اختيار العلم العراقي الجديد، والنشيد الوطني، وليس هذا فحسب وإنما ظلت لعدة أشهر تالية تحتفظ بعلاقات قوية مع الملك الجديد، فتركب معه الخيل، وترافقه في سفراته ورحلاته، وتختار أثاث منازله، وتضع بروتوكولات لنساء القصر، وتقدم له المشورة بشأن وصيفات الملكة، أو من سيستقبله، وغير ذلك من الأمور التي سرعان ما عارضها فيصل بغية اكتساب دعم شعبي. غير أن البريطانيين ببراجماتيتهم لم يريدوا التقليل من شأن ملكهم الجديد المصنوع على أعينهم في أعين أتباعه، وإنما أبقوا له على ماء وجهه، بأن زكوا عضوية العراق في عصبة الأمم بصفتها دولة ذات سيادة ليحظى الملك بشعبية ما، في الوقت الذي احتفظ فيه المندوب السامي البريطاني بحقه في استخدام حق النقض على قرارات الحكومة العراقية، كما استمرت بريطانيا تتحكم في الشؤون الخارجية للعراق وفي سياساته المالية والدفاعية. 

الخاتمة والنتائج:

خلصت هذه الدراسة إلى عدد من النتائج المهمة، ولعل أبرزها إثبات أن مركز الحراك الثوري الوطني في العالم العربي موجود في قلب شعوبه الحية، التي لاقت قدرًا من التعليم وصادفت حظًّا من الجين الحضاري الرابض في وجدانها، وينتفض حين تأتيه الفرصة أو تفرضه الأحداث، وأن مصر وسوريا والعراق هم رؤوس مثلث هذا الحراك الوطني، وهو ما ظهر بجلاء في ثلاث ثورات شعبية بالترتيب عامي 1919 و1920، صحيح أن لكل واحدة منها مطالب وتطورًا خاصًا، إلا أنها اشتركت جميعها في أن صدى ما كان يتم في أي إقليم ينعكس بسرعة البرق في المناطق الأخرى النابضة بالحيوية في العالم العربي، فالشعوب كانت دومًا سباقة إلى اللحمة والانتصار لأوطانها في تلك المناطق بصورة لا تخطئها عين. وبالمقابل فكان ولا يزال على من يريد التعامل مع المنطقة من القوى الأخرى الخارجية غير العربية، سواء أكانت قوى إقليمية أو دولية وضع حلول وسيناريوهات لمواجهة هذه الرؤوس الثلاث، فبهدمها تنهار المنطقة، وباستقرارها تستقر وتنتظم الحياة. 

بينت الدراسة الحالة التي كانت تمر بها الإمبراطورية البريطانية في أعقاب الحرب العالمية الأولى، بدءًا بالعثرة المالية التي واجهتها، مرورًا بالوعود المتناقضة التي حنثت بها جميعًا، إلى أن نصل إلى حالات الكراهية المتراكمة التي كان يكنها السكان الأصليون للمحتلين، وعبروا عنها بحالات المد الثوري الشعبي الذي ظهر في مصر والعراق خصوصًا، لكن بالمقابل كانت بريطانيا تفهم جيدًا أهمية مصر كموقع وموضع، وأهمية العراق العائم على بحيرة بترول أسالت لعاب ساستها، ولذا كان على هؤلاء الساسة البريطانيين التخطيط لمستقبل هذين البلدين القريب على عدة مستويات ومراحل، فانعكست خبرتهم في مصر على تشكيل مستقبل العراق الحديث. 

فقد كشفت الدراسة اللثام عن أكذوبة تصدير «الديموقراطية الغربية»، وتمكين الشعوب من تطوير نفسها في المناطق الواقعة تحت احتلالها، إذ أظهرت الدراسة بالتفصيل تسلسل الطرح البريطاني بغرض تشكيل أنظمة حكم موالية لها خدمة لمصالحها في المنطقة، واستبعاد ذوي الميول الاستقلالية الحقيقية، والشاهد على ذلك الطريقة التي تم بها استبعاد سيد طالب ابن حاكم البصرة [طالب النقيب]، الذي كان يحمل شعار «العراق للعراقيين»، الشبيه بشعار «مصر للمصريين» وكان يحرض الجميع علنًا ضد الأمير فيصل [المصنوع بريطانيًا]، ورُصد عنه غير مرة إنذاره للبريطانيين بتكرار ثورة مماثلة لثورة العشرين ما لم تنسحب بريطانيا وتعطي الحقوق للعراق، صحيح أنه لم يصل للسلطة لنرى ونقيم تجربته وشعاراته على أرض الواقع، إلا أن المسلك البريطاني أظهر جليًّا أن ساستها كانوا ينتقون ألعوبة يحفظون مصالحهم من خلالها، وهو ما تمثل من جهة نظرها آنذاك في الأمير/ الملك فيصل الأول. 

أظهرت الدراسة كذلك أنه على الرغم من ذلك المسلك البريطاني في تذليل جميع العقبات أمام من اختارتهم، إلا أنها لم تعمل على وضع سياسات تضمن استقرار تلك الممالك الجديدة التي أنشأتها، فعند ترسيم حدود العراق –محل دراستنا-جعلته أشبه بمملكة حبيسة منه إلى مملكة لها حدود بحرية معقولة على الخليج العربي، ولم تسمح لإطلاله إلا على ساحل مائي ضيق للغاية، لايتناسب مع مساحته البرية، وليس هذا فحسب، وإنما شكلت أقاليمه على أساس عرقي وطائفي، ليظل العراق في صراعات لا حصر لها، وعدم استقرار ممنهج، ومما يبرهن على ذلك أنه طول الفترة 1921- 1958 وحدها، وهي فترة الملكية التي أنشاتها بريطانيا، تولت 75 وزارة الحكم؟! مما يدل على عدم الاستقرار في بلد غني كالعراق. ومن هنا فلم تكن بريطانيا راغبة يومًا في خلق كيانات عربية قوية ومستقلة كما كانت تدعي، وإنما كانت سياستها من خلال وضع مثل هؤلاء الحكام تهدف إلى تأمين سياستها المالية من خلال وجود حكام إقليميين مُخلصين، يقومون بدور الشرطي، مما يمكن لبريطانيا تقليص ميزانيها وعدد أفراد قوتها العسكرية. 

أوضحت الدراسة نقطة في غاية الأهمية لاتزال أصداؤها وتبعاتها مسيطرة على المشهد إلى يومنا هذا، وهي أن مصر طول تاريخها ملهمة لكل شعوب المنطقة، وأن النموذج المصري إما حاكم في شكله النهائي، أو مرشد –إيجابًا أو سلبًا- لجميع النماذج الشبيهة به في المنطقة، وهو ما ظهر جليًّا في عام 1919، ثم في مطلع خمسينيات القرن العشرين، وما تبعه من المشروع الناصري، ثم مع انتهاء العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وما عُرف باسم ثورات الربيع العربي، لكن وللمفارقة أن مصر لا تنقسم جغرافيًّا أو بشريًّا أو دينيٍّا أو مذهبيًّا، لأسباب كثيرة ليس هذا مجالها، لكن حينما تم نقل النموذج المصري في تجربة كتجربة العراق التي نحن بصددها، تم نقله بزاوية أخرى تتناسب مع طبيعة العراق المنقسم، حتى وإن بدا موحدًا بصورة وقتية في لحظة الثورة الشعبية للاتحاد على العدو المشترك، فلم يُراع المشروع البريطاني في العراق الحد الأدنى لأي واقع جغرافي أو ديموجرافي، بل رأينا أنه حتى انعقاد مؤتمر القاهرة كانت هناك رؤى متعددة لشكل خريطة العراق الحديث، إلا أن اللجنة قررت في النهاية أنه ومن أجل أن يصبح العراق دولة قابلة للحياة فلابد أن تكون أقاليمه الثلاثة (البصرة وبغداد والموصل) متحدة معًا، بمعنى أنهم من البداية وضعوا بذرة الشقاق والانشقاق بتلك التوزيعة الجغرافية التي تم رصها رصًا ولصقهًا لصقًا. 

وقد خلق ذلك الأمر إلى يومنا هذا صراعًا بين أدبيات فكرتي الدولة القومية وحدودها، وبين الفكرة الدينية التي لا تعترف بالحدود الوطنية، وستظل ازدواجية الخطاب القومي والخطاب الديني متماشية، فالخطاب القومي يتبني قدسية الحدود، والخطاب الديني يتبني فكرة اللاحدود، بحجة أن من رسمها وفرضها الاستعمار، وهو ما أعطى ذريعة لإنشاء كيانات، ربما آخرها «داعش»، في ذات الرقعة الجغرافية التي رسمت بريطانيا سياستها قبل قرن من الزمان. وليس هذا فحسب، وإنما استخدام ذات الآلية التي تم إنشاء المنطقة بها لهدمها بعد قرن من الزمان، ولكن بطريقة معكوسة، بمعنى أنه منذ قرن من الزمان لصقت بريطانيا المناطق المتنوعة لصقًا لتصبح دولة واحدة، واليوم وبعد قرن من الزمان تم زرع جماعات وظيفية عملها الوحيد السعي لفك هذا الالتصاق وخلق كيانات وهمية مبعثرة على ذات الرقعة الجغرافية، بينما وقفت مصر وحدها تحاول عدم الانجراف في ذات الطيار العاتية أمواجه من كل حدب وصوب.