دراسات

إسلام سعد

أزمة العلم والدين في الخطاب العربي المعاصر

2020.09.01

أزمة العلم والدين في الخطاب العربي المعاصر

خلال أكثر من نقاش مع الفيلسوف كيلي جيمس كلارك حول صعوبة تحديد العلاقة بين العلم والدين، تحدَّثت معه عن تحيُّري من جهة اختيار عناصر الموضوع الذي أريد كتابته: هل ينصب حديثي على التَّطَوُّرِ؟ (لأننا حتى الآن في سياقنا الشرق أوسطي لا يمكننا الجزم بتعاملنا مع أصول النظرية منذ داروين على نحو مباشر!)، أم يذهب حديثي إلى علاقة الإسلام بالتَّطَوُّرِ تحديدًا؟ أم عن علاقة العلم بالدين عمومًا ثم تضييق حدود الحديث إلى علاقة الإسلام بالعلم؟ (وأعني بمفردة العلم science ما لم أوضح خلاف ذلك).

كان جواب كيلي مُختَصَرًا، لكنه مُشْكِل: "تَحَدَّث عن لحظتك الحالية، هذا أفضل ما يمكنك فعله، وستعرف أي المواضيع أهم بالنسبة إليك". على مستوى ثانٍ، وبأخذ اهتمامي بفلسفة الدين بعين الاعتبار، لا يمكن الفصل بين فلسفة الدين والعلم، ولا بين فلسفة الدين ونظرية التَّطَوُّر في العصر الحديث. لهذا السبب نجد فلاسفة الدين -وكذلك فلاسفة العلم- يدرسون العلم والعلاقة بينه وبين الدين بكثافة، ونجد ذلك، على سبيل المثال، في أعمال جان جروندان، وجون هيك John Hick ، وألفين بلانتنجا، وكيلي جيمس كلارك، ومايكل ريوس Michael Ruse  وماريو بونجي Mario Bunge، وغيرهم كثيرون. كذلك نجد أبحاثًا ودراسات عن علاقة اللاهوت بالعلم، وعلاقة الكريستولوجيا بالعلم الحديث، وعلاقة الإسلام بالعلم، وكذلك المسيحية واليهودية.

إشكالية العلم والدين في السياق العربي/ الإسلامي المعاصر

تمَثِّلُ اللحظة الحالية في السياق الذي نحيا فيه صراعَ استقطابٍ حاد؛ بوجود فريق يذهب إلى أولوية العلم على كل ما عداه وأن الدينَ شأنٌ انتهى التَّعَلُّق به، وفريق يذهب إلى علو الدين على كل ما هو «دونه»، والعلم، هكذا، دونه بالتأكيد، كما يشتد الصراع بين إثباتاتٍ وأشكال دحض متنوعة (أيديولوجية في غالبها، فقيرة معرفيًّا) لنظرية التَّطوُّر، بدءًا من التعامُل الفقير مع مفهوم «النظرية» العلمية، ثم اشتباكًا مع التَّطَوُّر في فكرته الأوَّليَّة، وما تقوله النظرية عن أصل الإنسان بالتحديد، بالإضافة إلى الجانب غير المرئي فيها؛ أي، ما تقوله على نحوٍ غير مباشر عن خَلْقِ الإنسان بالتحديد. يضاف إلى ذلك نقص أو انعدام الخيارات أمام قطاعات الشباب أو إنقاصها إلى خيارين فقط: الإيمان/ الكفر؛ فأن تؤمن بالتَّطَوُّرِ يعني أنك كافرٌ بما يقوله الإسلام، وأن ترفض التَّطَوُّر يعني نصرك للإسلام وتأكيدك لقيمة الإنسان المركزية في الكون. 

تؤدي الخيارات القليلة، دع عنك إنقاصهما إلى خيارين فقط!، إلى إذكاء روح التَّعَصُّب بين الفرقاء في الشأن الثقافي على نحوٍ يجعل الحديث عن أسس العلم وأسس الدين مُخْتَصَرًا، بل تنعدم الحاجة إلى الحديث عن أيَّة تأسيسات معرفية، ليعلو الصياح وتزداد الإدانة لأقصى مستوياتها بين المتناحرين. والنتيجة: غياب أيّةّ علاقة حقيقية، عميقة، بين المُتَحَدِّث وفكرته أو الفكرة المضادة التي يروم دحضها، وكذلك غياب أيَّة مساحة للتَّسامُح بين التيارات الفكرية المختلفة. 

سنحاول الإجابة على التساؤلات الآتية: هل يمكن للإنسان أن يتبنى العلم والنظرة العلمية ويظل محتفظًا بإيمانه؟ أم أن الأمر يتعلق بالقطيعة مع أحد طرفي إشكالية العلم/الدين للاتصال بالطرف الآخر بحق؟ هل القطيعة بين العلم والدين مسألة ضرورية لا سبيل أمامنا سوى تفعيلها كي نلحق بالأمم المتقدمة؟ ماذا عن الخطابات المعاصرة التي تتناول إشكالية العلم/الدين؟ ما هي آفاق الإجابات المُقَدَّمَة لقطاعات الشباب المهتمين بهذه القضية؟ 

لنبدأ أولاً بتحديد أنماط الإجابات الدينية المُقدَّمة على نظرية التَّطوُّر عربيًّا، وهي تسير على النحو التالي:

نمط نقد الداروينية المتأسلمة:

يذهب هذا النمط إلى أن العلم «غربي، إلحادي المصدر»، ومن ثَم، فأي مجموعة من العرب تتبنى نظرية التَّطَوُّر ما هم إلا «عبيد للعلم البشري وتفسيراته سواء العقلانية منها (التطوير الذكي) أو غير العقلانية (التَّطَوُّر العشوائي الإلحادي)»، لكن المصيبة أكبر من ذلك؛ فـ «هكذا طمَّت المصيبة! فبدلاً من جعل الوحي هو الحاكم الذي له المرجع النهائي في أي النظريات العلمية حقيقة وأيها كاذب، خصوصًا عندما تكون الدلائل مائعة، كثير منها فيه أخذ ورَد كدلائل الداروينية، انقلب المثلث وأصبح رأسه سافله.. وأصبح العلم (الغربي ذو الأصول الفلسفية المادية) قادرًا على رد الوحي أو إلزام علماء الدين بتأويله ليوافقه رغمًا عنهم، وأصبحت العقلانية كذلك حكمًا آخر يرد ما يشاء من حاكمية العلم أو يقبل ما يشاء المهم أن تظل هي والعلم المادي على توافق في رقابة النصوص الدينية الموحى بها! وأصبح من اليسير إنكار أبواب كاملة من السُّنَّة النبوية موجودة في الصحيحين، وأعيد تفسير الآيات بصورة جديدة مُسْتَبْعِدَة للسُّنَّة تمامًا، متزايدة في التَّكَلُّفِ بهيئة مزرية، وكل هذا حادث من جانب عقلانيي المسلمين فقط للوصول إلى صيغة توافقية بين الأضلع الثلاثة!».

ونشير هنا، وللآن فقط، إلى أن هذا النمط يقول بأسبقية الوحي على العلم دون تَرَدُّدٍ. وخطابه في الأساس موجَّه للإسلاميين المؤمنين بهيمنة الشريعة الإسلامية. وبالطبع، لا نقاش مع هذا التيار بأي معنى أو قيمة: أي، لن يأتي النقاش بأي ثمار نافعة لمناقِشهم؛ فالنتيجة النهائية للنقاش إما تبنّيك لموقفه فتكون في عينيه مؤمنًا أو يحيط بالكفر من كلِّ جانبٍ.

نمط التوفيق:

يمكن تمثيل هذا النمط على أوضح نحوٍ ممكن من خلال لقاء مع الشيخ يوسف القرضاوي في برنامج «الشريعة والحياة» بتاريخ 22 فبراير 2009، ونورد تلخيصًا لأهم ما قاله الشيخ في الحلقة: 

يحث القرضاوي على النظر في أصل الخلق، ويرى القرآن داعيًا لذلك، لكنه يضع شرطًا مفاده التسليم بوجود الخالق (وهو شرط يراه بديهيًا) حينما يتعلق الأمر بالبحث عن أصل الخلق، ويرى أنه لو تطورت أنواع عن أنواع فقد حدث ذلك بإرادة الخالق وحسب سُنَنه. 

يقول الشيخ: «لو ثَبُتَت نظرية داروين، عندنا من الآيات ما يمكن أن يدخل فيها [أي، يؤيدها]»، ويستعين الشيخ باقتباس يورد عن حسين الجسر في القرن 19: «إن هذه المسألة لا تزال في طور النظرية ولكن إن تَمَّت البرهنة عليها في المستقبل، فإننا سنقوم آنذاك بتوفيقها مع الآيات القرآنية»، بالإضافة إلى أن حديث القرآن عن بداية الخلق «مُجْمَل»، وظاهر القرآن أن الإنسان قُصِدَ خلقه بواسطة الله و»لم يتطور عن نوعٍ آخر»؛ أي بالخلق المباشر، ويؤكد على أن تلك الرؤية تتفق عليها الأديان الإبراهيمية. ولا ينسى الشيخ التأكيد على أن أصلَ الخلقِ غيبٌ، وفق الآية: «مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا» (الكهف: 51)، وعلى سبيل المثال، وكما يذهب الشيخ، فنحن لا نعرف متى خُلِقَ آدم، ومن ثَم، فالأمر كله واقعٌ في حيز الإيمان والتسليم. 

يقول الشيخ أيضًا إنه «ليس من ضرورة النظرية الإلحاد»؛ إذ يؤكد على أنه حتى لو خالفت نظرية التَّطَوُّرِ خلق الإنسان كما ورد في القرآن، في تفصيلة خلق آدم بالتحديد، فذلك أمرٌ لا يدل على الإلحاد. لكن الشيخ لا ينسى بالطبع التشكيك في داروين نفسه حين يقول إنه لا يرى النظرية مُسَلَّمَة، وداروين «مارس فنونًا من التزوير لإثبات نظريته». وفي النهاية، يرى الشيخ أن الأزمة فيما تحويه النظرية من إيحاء يفيد بتَطَوُّرِ الأحياء نفسها دون الحاجة لإله.

ثَمَّ نمطٌ ثالث لا يمكن وصفه بالتوفيقية لكنه يرى العلاقة بين العلم والدين علاقة تكامُل، ويمثله الدكتور/ عمرو شريف، في كتابه "كيف بدأ الخلق؟"، وفيه دعوة للتعامل النقدي مع تفسيرات التراث المتعلقة بقصة الخلق وكيفيته، ويدعم التَّطَوُّرَ في الوقت نفسه، فلقد "فهم المفسرون من اصطلاح "الخلق" معنى الخلق الخاص فقط، بالرغم من أن ملامح الخلق التدريجي التَّطَوُّري واضحة جلية في القرآن ومن حولنا. فعندما نقول إن الله قد خلق إنسانًا، لم يلغِ قولنا هذا ما مرَّ به من أطوار جنينية (أثبتها القرآن) حتى صار كامل النمو. وعندما نقول إن الله قد خلق الأرض، لم يلغِ هذا القول ثمانية مليار عام من التَّطَوُّرِ، انتقل فيها الكون من حال إلى حال حتى اكتمل تشكيل الكوكب الذي نحيا عليه، إنه ولا شك الخلق التدريجي التَّطَوُّري الذي أثبته العلم فيما بعد. بل إذا نظرنا إلى صميم القضية، وهو خلق آدم عليه السلام، وجدنا القرآن الكريم يصرح بأنه قد خُلق خلقًا تدريجيًا تَطَوُّريًا. ألم تذكر الآيات الكريمة أن خلق آدم قد مرَّ بأطوار؛ تراب ثم طين ثم فخار؟".

وتلزم الإشارة إلى أن النمط الأول ينشغل على نحوٍ شبه حصري بنقد هذا النمط، مع وضع المخالفين في خانة "أهل البدعة"!، بينما لا يملك النمط الأول ما يقوله بخصوص النمط الثاني لأنه يصدر عن سلطة دينية مُعْتَبَرة ويقول برأيين معًا، أو بالأحرى، لا يدري النمط الثاني هل حُسِمَت نظرية التَّطَوُّر أم لا على مستوى الصدق والكذب بالمعنى الإبستمولوجي، ووفق المنهج العلمي. بمعنى آخر، بعيدًا عن وضع النظرية أمام الدين، لا يملك النمط الثاني الكثير ليقوله عن النظرية.

لا يتعلق الحديث عن تنازلات يقدمها أو قدَّمها الدين أمام العلم تاريخيًا بإشكالية العلاقة بين الدين والعلم عمومًا، وإنما نجد ذلك في علاقة الدين المسيحي تحديدًا بالعلم، على الرغم من دعاوى الفلاسفة الغربيين منذ عصورٍ مَضَت لقراءة كتاب الطبيعة وكتاب النَّصِّ المقدس سويًا بالإضافة إلى أن "الدين [المسيحي] لم يعد... قادرًا على إنكار ما حققه العلم من تقدُّم بفضل نظرياته، والحقائق المتوصَّل إليها، فاضطر إلى إعادة قراءة كتبه وفق المفاهيم العلمية المستحدثة، أملاً في تطابق نوعيّ بين المقولات الدينية، والمسلّمات العقديّة، وبين نتائج العلوم الحديثة... لقد استطاع الغرب، منذ عصر النهضة، أن يحقق انفصالاً عن الدين في الفلسفة، والأدب، والفن، والسياسة، وأن يحقق تمييزًا كاملاً ونهائيًّا بين الأسطورة والحقيقة، ويثبت أفضلية العقل والعلم على ما سواهما، فأقام أنظمة حرة سياسيًّا، واقتصاديًّا، وثقافيًّا". بكل وضوح، كان ثَمَّ حراك صوب الانفصال التام بين الدين والعلم في أوروبا، ولنقل ثورة فكرية على التراث والتقاليد باسم العقل، "أي، العقل العلمي، الذي توسَّل التجربة، والمشاهدة، والاستقراء، والبرهنة العقلية، ميكانزم أساسيًا في تعامله مع الواقع، بخلاف العقيدة الدينية ذات الطابع الغيبي، التي تقدّم متصورات غيبية، ومسلمات إيمانية في علاقة الإنسان بعالَم "الغيب والشهادة"، فلا مندوحة، إذًا، من أن يتصادم التصوران، فيبلغ حدته في العصر الحديث، حينما ستتضاعف وتيرة المخترعات والمكتشفات العلمية، وتهيمن الآلة على مجمل نشاطات الإنسان".

لكننا، في سياق الدين الإسلامي، وسياق الإسلام العربي، نلاحظ أن اشتباك الدين مع العلم يتم من منظور التَّدَيُّن الذي يحمله صاحب الخطاب؛ فلو كان مِزاجه يميل للتيار التكفيري بوجه عام، رأى في مخالفيه كفرًا وفسوقًا، وإن كان يحمل شيئًا من إنسانية أرهف حسًّا انعكس ذلك على خطابه من جهة الترحيب باختلاف الآراء وحصول المجتهد على أجرٍ أو اثنين، وإن كان توفيقيًا، لن يبادر بتكفير المخلِف وإنما قد يرجئ الأمر لتصعيدات لاحقة من الخطاب المضاد. والسمة الثانية لهذا الاشتباك بين الدين والعلم في السياق الإسلامي/ العربي تتخذ من القرآن الكريم سندًا؛ فكل خطابٍ يتناحر مع الآخر وفق الآيات القرآنية التي لا تتعامل سوى بمنهج التجريد و"الإشارية" فيما يتعلق بأحداث الكون الكبرى، وبما فيها خلق الإنسان؛ وبأخذ آية "قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ (العنكبوت: 20)" بعين الاعتبار، نجد أننا بالفعل أمام ما نسميه بـ "الإشارية القرآنية" (وهي، ويلزم التنويه، غير كافية لتأسيس أي منهج علمي)؛ حيث إجمال الخطاب وتَرْك المساحة للعقل البشري سيرًا في الطبيعة بإعمال النظر في كيفية بدء الخلق. 

ليست أزمة الإسلام العربي في أنه يتبنى المنهج العلمي أم لا (على الأقل في هذه اللحظة التاريخية)، وإنما في أنه يفكر في العلم بالدين، بمفردات دينية، ورؤى دينية، ومنطلقات دينية. وهو إحدى العوامل التي تُسهِم في تعميق الأزمة في سياقنا. 

نحو منهجية علمية إسلامية، أو، نحو مزيد من "العطالة" التاريخية:

"لئن كان الأصل في اللغة هو ما ينبني عليه الشيء، فإن الأصل الذي ينبني عليه نموذج قياسي إرشادي علمي إسلامي يضم أبعاد الظاهرة العلمية وروحها ومعالمها وطبائعها وقيمها وموجهاتها في الحضارة الإسلامية، كظاهرة أصيلة متوطنة غير مجلوبة أو مستوردة... أصل هذا النموذج كامن في الأصولين: علم أصول الفقه وعلم أصول الدين =علم الكلام)". (منهجية، 190).

"باقٍ أن يتكاتف علم أصول الفقه مع علم أصول الدين (= علم الكلام). كلاهما منوط به توطين الظاهرة العلمية في ثقافتنا المعاصرة، يلتقيان معًا كمبتدأ ومنطلق للعقل العلمي، تشييدًا لنموذج إرشادي مستقبلي إسلامي. أصول الدين باشتباكه مع العقائد والتصورات، يتصل بتصور حدود حلبة عالم العلم، بأنطولوجيا العلم وإبستمولوجيته، فيشتبك بفلسفة الطبيعة، مقابل اشتباك أصول الفقه بفلسفة المنهج أو الميثودولوجيا". (منهجية، 191).

تحاول الدكتورة يمنى طريف الخولي في كتاب توطين العلم في ثقافتنا العربية/ الإسلامية، تبنّي نموذج قياسي إرشادي علمي إسلامي [النموذج القياسي الإرشادي هو المعادل العربي اللغوي لكلمة بارادايم paradigm]. تتأسس هذه "الدعوة"، بالمعنيين التنظيري والديني، على التَّطَوُّرِ الذي لحق بفلسفة العلم؛ فـ "فلسفة العلم ونظريته المنهجية لا تنفصل البتة عن تاريخ العلم وتَطَوُّره عبر تفاعله مع الأنساق الحضارية والقيمية، ولا عن أخلاقيات العلم وأخلاقيات الممارسة العلمية وقيم المجتمع العلمي وما ينبغي أن تكون، وعلاقة العلم بالأطر الأيديولوجية وبالأنظمة السياسية وبالمعتقدات..." (منهجية، 31). مع التركيز على نقد مرحلة الفلسفة الوضعية التي تؤكد أنها تفلسف العلم "على أساس، ومن أجل المركزية الغربية" (منهجية، 26). 

كان من الممكن لهذه المحاولة أن تُثْمِرَ إيجابيًّا لو أنها اكتفت بالانتقال الذي دعت له الباحثة "من مجرد الحوار حول نموذج إرشادي علمي إسلامي إلى مثول محاولات تطبيقية عينية له شاخصة ومنتجة. خصوصًا في مضمار العلوم الإنسانية. ولا ضير فالإنسانيات هي المجال الذي يُخاطب ويُبتغى ويُرتجى" (منهجية، 215). لكن، ثَم إصرار على عدم تَمَكُّن المسلمين من الإسهام بفاعلية في مضمار "العلم science" إلا بتَبَنِّي هذا النموذج القياسي الإرشادي العلمي الإسلامي المزعوم. والحق أن الحصيلة النهائية لهذا الطرح هي الانتقال من "الإعجاز العلمي في القرآن" لـ "الإعجاز العلمي في الأصولين (أصول الدين وأصول الفقه)". 

نلاحظ وجود محطات تسير وفقها الباحثة لترسيخ هذا التوطين، منها، على سبيل المثال: التأكيد على وثنية الحضارة الغربية في طريقها للوصول للمنهج العلمي، وإجراء أقيسة بين الأصوليين والمجتمع العلمي الحديث والمعاصر.

في سعيها لتأكيد النقطة الأولى، تؤكد الباحثة أن ثقافتنا «تكاملية تقرأ الكتابين [وتقصد كتاب الطبيعة وكتاب النَّصِّ المقدس؛ القرآن الكريم]، مقابل الحضارة الغربية التفاضلية التي تقوم على قراءة كتاب واحد [وتقصد كتاب الطبيعة]». وتستعين بتأكيد حسن حنفي الذاهب إلى أن الحضارة الغربية «في جوهرها حضارة وثنية، سواء أكان هذا الوثن هو المادة أو العالم الطبيعي أو رأس المال أو الذات الفردية» (منهجية، 17، 103).

أما الحديث عن كَون الحضارة الغربية (التي ستحرص الباحثة على وضعها في خانة الإدانة على امتداد الكتاب) لم تقرأ سوى كتاب الطبيعة فقط، ولم تنشغل بالتفاعل مع نَصِّها المقدس، فمردود عليه بالإشارة إلى تفاعلٍ بدأ منذ عصر القديس أوغسطين مع الكتاب المقدس عبر تأويله ومقاربته مجازيًّا، بالأخص في القضايا التي تتعلق بخلق الكون ونشأته. أما الحديث عن أن جوهر الحضارة الغربية وثني، أو أنها حضارة وثنية في جوهرها، يُهمِل ما اتُّفِق على تسميته بـ «عودة الديني» بعد أن ذهبت أغلب التيارات الفلسفية الغربية للتنبؤ بزواله بعد أن أكَّدَ العلمُ استقلاليته عن الدين وعدم حاجته إليه، بالإضافة إلى نجاح العلم في حَلِّ أزمات الإنسان الواقعية تكنولوجيًّا وطبيًّا.. إلخ. وعلى الرغم من هذا النجاح الساحق للعلم، لم تنعدم الحاجة إلى الدين في السياق الغربي على عمومه. أما عن الأقيسة التي تسوقها الباحثة لتوطين العلم في ثقافتنا، سنجد منها الكثير في الفصل الثالث، ومنها: 

القياس الأول: 

القول بأن مصطلح القانون (law) "يلعب دورًا محوريًا في كلا المجالين: التشريعات ومنطق العلم، وأن كليهما محكوم بقيمة الحق/ الحقيقة/ الصدق (truth)، حيث الحق هو الصواب (right)" (منهجية، 133). 

في هذا القياس نجد أن اتفاق اللفظ يعني تطابقه في مجالين لا علاقة لهما ببعضهما البعض على الإطلاق؛ فإن كانت التشريعات (الوضعية أو الدينية) تحرص على الخروج بأحكام هي أقرب ما تكون للعدل والإنصاف، نجد أن منطق العلم لا يركز على قيمة العدل أو الإنصاف، ومن ثَم، فالحق أو الحقيقة من منظور التشريعات لا علاقة لها بمفهوم الصدق بالمعنى الإبستمولوجي. بالإضافة إلى أن مصدر المعرفة في الحالتين مختلف؛ فالتشريعات لها مصدر معرفتها وهو «الوحي»، بينما تكون الفرضية ثم الخروج بنظرية بعد التجريب هو مصدر المعرفة في منطق العلم. 

القياس الثاني:

«مثلما استقامت اللغة ثم كان تقعيد قواعدها، وانتظم الشعر ثم كان تنضيد بحوره، تواترت الجهود التشريعية كاستجابة ملحة في الواقع الإسلامي، ثم بدأ علم أصول الفقه يبرز في شكل قواعد تضبط عمليات إنتاج أحكام الجزئيات والفروع التي يحتاجها المسلم في حياته العملية. وكان بهذا منطلق منهج بحث ومعرفة. ومن زاوية منهج العلم الحديث تحديدًا نجد هذا ساريًا أيضًا إلى حد كبير، من حيث إن المنهج العلمي الذي تصوغه النظرية الميثودولوجية ليس البتة قواعد أولية أو أوامر إرشادية تُفرَض على العلماء قبلاً، وإن كان أيضًا ليس مجرد توصيف لما فعله ويفعله العلماء، بل مركب جدلي من الوصفية والمعيارية. ترتكز النظرية الميثودولوجية التي تقترحها فلسفة العلم أساسًا على جهود علمية استقامت ونضجت بحيث أسفرت عن معالم منهجية» (منهجية، 135).

من الملحوظ أن كلمات الاقتباس تكشف سوء القياس؛ فالضبط الفقهي تعلق بالجانب الاجتماعي (الذي ينشغل به التشريع على الدوام)، وكان علم أصول الفقه منهجية دقيقة بحق -وليست هذه نقطة اختلاف بأي حالٍ من الأحوال- تروم ضبط عملية استنتاج الأحكام (الفقه) التي تتولى ضبط الاجتماع. لكن الأحوال الاجتماعية لا ترتبط مباشرة أو بالضرورة، على أقل تقدير، بمنهج العلم الحديث، بصرف النظر عن ربط فلسفة العلم بحضارة خاصة أم لا! بجانب أن منهجية علم أصول الفقه تختلف تمامًا عن منهجية الميثودولوجيا العلمية التي تعني تعريفًا «الميثودولوجيا (من Méthodos اليونانية، ومعناها الطريق إلى.. المنهاج المؤدي..) هي علم المناهج، والمقصود هنا [في سياق فلسفة العلوم]: مناهج العلوم. والمنهاج العلمي هو جملة العمليات العقلية، والخطوات العملية، التي يقوم بها العالِم، من بداية بحثه حتى نهايته، من أجل الكشف عن الحقيقة والبرهنة عليها. وبما أن العلوم تتمايز بموضوعاتها، فهي كذلك تختلف بمناهجها. ولذلك، لا يمكن الحديث عن منهاج عام للعلوم، للكشف عن الحقيقة في كل ميدان، بل فقط عن مناهج علمية. إن لكل علم منهجه الخاص، تفرضه طبيعة موضوعه. وكما يقول كلود برنار: فإن العمليات المنهجية وطرق البحث العلمي "لا تتعلم إلا في المختبرات حينما يكون العالِم أمام مشكلات الطبيعة وجهًا لوجه، يصارعها ويشتبك معها". وجدير بالذكر أن بحث الفقهاء، وفق منهجية علم أصول الفقه، ينشغل بالتفاعل الحصري مع كتاب النَّصِّ والواقع المعاش، وإن انشغل بطبيعة الاجتماع، فهو لا ينشغل بالطبيعة nature! بينما الميثودولوجيا العلمية تنصرف إلى الطبيعة وظاهراتها، سواء تعلَّق الأمر بالاتكاء ابتداءً على كتاب النَّص أم لا.

القياس الثالث:

في حديث الباحثة عن "النسخ"، تشير إلى الآتي: 

الجدير بالذكر أن الإجماع أيضًا يكون منسوخًا وناسخًا، والقياس بدوره هكذا. ألا يوازي هذا قابلية القضايا العلمية للنسخ، أو بتعبير كارل بوبر للتكذيب، أو بمقتضى منطق العلم التجريبي للتعديل والتطوير، الذي يجعل التقدم العلمي مستمرًا دائمًا. أقر البيضاوي والجزري وسواهما بأنه يجوز النسخ بغير بدل أو ببدل أثقل منه، وإذا كان البدل الأثقل أكثر شيوعًا في منطق العلم التجريبي، فإن الأول -أي النسخ بغير بدل- يحدث أيضًا في العلم؛ فقد تم نسخ فرض الفلوجستون وفرض الأثير على سبيل المثال بغير بدل (منهجية، 150).

لكن يفوتها هنا الإلماح إلى الفرق، وربما في الحقيقة لا يفوتها ذلك الإلماح على قدر ما يتطلبه خطابها الإيديولوجي من إهمال هذه الفوارق التي سنوردها. الإجماع إن نَسَخَ أو نُسِخَ، وكذلك القياس، يمكن لأي أحد العمل بأيٍ من الأحكام المقاسة أو المُجْمَع عليها، ناسخةً كانت أو منسوخة. بالإضافة إلى أن قياس الإجماع والقياس وإمكان التعديل عليهما على قابلية القضايا العلمية للنسخ أمر غير مقبول عقلاً؛ فبينما تكون قابلية النسخ في حالة القضايا العلمية شرطًا أساسيًا للسير على المنهج العلمي، يتعامل أهل الدين مع الإجماع بمراوحة بين قبوله وإنكاره، وهذا الإنكار للإجماع ونقده أمر بارز منذ أقدم عصور الإسلام، وعلى سبيل المثال «أدرك ممثلو المؤسسة الدينية الأزهرية هذا التفاعل، فبرز بينهم من يجرؤ على نقد الإجماع وما شقّه من اختلاف، إن في مفهومه أو في حجيّته. وليس أبلغ -في هذا السياق- من شهادة إمام جامع الأزهر الشيخ محمود شلتوت (ت 1963) حين قال: (لا أكاد أعرف شيئًا اشتهر بين الناس أنه أصل من أصول التشريع في الإسلام، ثم تناولته الآراء واختلفت فيه المذاهب من جميع جهاته، كهذا الأصل الذي يسمّونه الإجماع، فقد اختلفوا في حقيقته.. واختلف الذين قالوا بإمكان معرفته والاطّلاع عليه: هل هو حجة شرعية فيجب العمل به على كل مسلم أو ليس حجة شرعية فلا يجب العمل به..)». في حين يكون رفض قابلية القضايا العلمية للنسخ أمرًا يستلزم الخروج من مسار المنهج العلمي بالكلية.

القياس الرابع:

وهو قياس يرتبط لحد كبير بالقياس الثالث، وسنورده كاملاً: 

حجية الإجماع كمصدر منهجي التي يرفعها علم أصول الفقه، إنما تلقي بنا في خضم ميزة إجرائية يتميز بها العلم الرياضياتي التجريبي المعاصر، أي نظريات الإجماع والتضافر في الممارسة العلمية. نظريات الإجماع (Consensus Theories) تعني أن الحكم بما يُعَدّ ذا قيمة علمية لا يعتمد على شيء سوى الموافقة والإجماع، والعلماء فعلاً ينشدون الإجماع، وأن الإجماع يُعَدّ خاصة مميزة للمجتمع العلمي من دون سواه من مجالات الفاعلية الإبداعية. غير أن العلماء يصلون إلى هذا الإجماع بتقديم حجج مقنعة عقليًّا لدعم فروضهم. وأيضًا ما كان الأصوليون ليُجمعوا على شيء من دون حجج، "فلا يجوز حصول الإجماع إلا عن دلالة أو إمارة". 

أما إذا قيل إن الإجماع في المجتمع العلمي يشمل كل العلماء والباحثين، بينما إجماع الأصوليين قاصر على أهل الحل والعقد، فإنه بشأن الممارسة العلمية المحدثة والمعاصرة ثمة أيضًا نظريات التضافر (Conspiracy Theory)، التي قد تعتبر صيغًا غير ديموقراطية لنظريات الإجماع، وتذهب إلى أنه في كل حقل علمي هناك دائمًا قلة من الشخصيات البارزة القوية تقوم بدور حارس البوابة، وتتحكم في منافذ الدوريات والوظائف والاعتمادات الخاصة بتمويل البحوث العلمية، ومن ثَم تنعكس رؤاها بشدة بشأن ما يتم إجماع المجتمع العلمي عليه. وعلى أية حال، فإنه كما يقول وليم جيمس إيرل: "حين ننظر في الطريقة التي تقوم عليها المؤسسة العلمية، ندرك أنه ما من فرد أو جماعة يمكنه أو يمكنها تعزيز أو رعاية إنتاج علم "رديء" حتى لو شاء هذا الفرد أو هذه الجماعة ذلك". وفي هذا نتذكر الحديث الشريف والقاعدة الفقهية الجميلة "لا تجتمع أمتي على ضلالة" (منهجية، 152، 153).

سبق لنا التعرُض لنقد الإجماع في الثقافة الإسلامية، لكن المثير للدهشة هنا حديث الباحثة عن نظريات التضافر في سياق الممارسة العلمية المحدثة والمعاصرة باعتبارها "صيغًا غير ديموقراطية" لنظريات الإجماع، وبطبيعة الحال فإنها تساوي بين "غياب الديموقراطية" في حالة إجماع أهل الحد والعقد (الإجماع الإسلامي) وبين غيابها في حالة المجتمع العلمي (الإجماع العلمي)، وكأن الاثنين عبر تشاركهما العيب نفسه، يصبح هذا الأمر مدعاة لقياسٍ ناجح يُرَغِّب الباحثين عن توطين العلم في ثقافتهم لمدى أكبر من خلال إجماع غير ديموقراطي! وفي نهاية هذا الجزء سأترك لباحث اختصاصي في الفيزياء النظرية الرَدّ على قياس ما قاله وليم جيمس إيرل على حديث "لا تجتمع أمتي على ضلالة"، إذ سنجد، وفق تحليله، أن العلماء قد يجتمعون على خطأ، أو بالتعبير الديني على ضلالة!

القياس الخامس:

فضلاً عن أن القياس يوافق البداهة، كشأن الأوليات المنهجية، فهو في جوهره لا يعدو أن يكون إعطاء المِثل حكم مثيلِه والشبيه حكم شبيهه (منهجية، 153).

القياس في التشريع ليس بداهة، ويرجع ذلك الأمر لسبب بسيط، وهو اختلاف الفقهاء على حالات القياس.

على سبيل المثال، في سياق حديث الباحث كريستيان لانج عن الفروق الاصطلاحية في القياس بين الحنفية والشافعية، يطرح سؤالاً: كيف يمكن أن يزعم الشافعية وغيرهم أن الحنفيّة يعمدون إلى القياس في الحدود مع أن السرخسي الحنفي يقول في أكثر من موضع: «فالحدُّ بالقياسِ لا يَثْبُتُ».

أما الأزمة الناتجة عن اعتبار القياس بداهة يمكن إبرازها على سبيل المثال بتناول قضية اللواط والزنى في فروع الفقه الحنفي؛ فالقياس الإسلامي، بالأساس، لا يشتغل إلا في المناطق الاجتماعية حصرًا، كما سنلاحظ فيما يلي انعدام تجريديته المزعومة من قِبَلِ الباحثة. بشكل عام، لقد أمسى قياس اللواط على الزنى حسب إجماع الحنفية «أمرًا مستحيلاً بفعل مقالة أبي حنيفة «لا قياس في الحدود». وبقيت أساسًا سبلٌ ثلاثٌ متاحةٌ لـِ «مؤيدي الحَدّ» من الحنفية لإدانة اللواط بشدة عقوبة الزنى نفسها. كما شهد القياس، داخل المذهب الحنفي (والحديث هنا عن مذهب واحد فقط!) اختلافًا شديدًا بين قبوله ورفضه في حالة قياس اللواط على الزنى؛ فمنهم من رأى جواز القياس ومنهم من رأى أن اللواط يبقى «جريمة لا عقوبة لها في الشرع مقدَّرة»، ومنهم من رأى استحالة القياس بناء على أن الحَدَّ عند الكاساني هو عقوبة متكاملة فتستدعي جنايةً متكاملة، «وفي هذا يوافق «مؤيدو الحَد» خصومهم - أي في ضرورة حضور جميع معاني الزنا في اللواط، أما إذا غاب معنى من المعاني في اللواط، فإن الحجة القائلة إن حد اللواط هو حد الزنا تصبح حجة باطلة. واستعرض «معارضو الحد» العناصر التي اعتمدها خصومهم في تعريف الزنا وعمدوا إلى مناقشتهم فيها بل إلى دحضها عنصرًا عنصرًا».

ويبقى السؤال: كيف للقياس، إن كان بداهة، وبحيث يكون مَثَلُه كَمَثَلِ الأوليات المنهجية، أن ينشأ عنه خلاف بهذه الدرجة من الحدة داخل مذهب فقهي واحد؟

سأكتفي بهذه الأقيسة، مراعاة للسياق الكلي للبحث ولكثرة الأقيسة التي تسوقها الباحثة على امتداد الفصل الثالث. لكن، نلاحظ في هذا الخطاب عديد من المشكلات، نوردها في الملاحظات الختامية لهذا الجزء كالتالي: 

للخطاب جانبان: معرفي (بحكم اختصاص الباحثة في فلسفة العلوم ومناهج البحث)، وإيديولوجي (هو وليد العقيدة الدينية)، ويبرزان معًا، في تضافرٍ وتلاحم، على مستوى بنية الخطاب بأكمله، وعلى مستوى الجملة الواحدة. وعلى سبيل المثال فالجملةُ التالية معرفيةٌ في حال عدم إيرادها كاملة كالتالي: «وقد كان الهدف من كل هذا الجهاز المنهجي والآليات الاستدلالية والجهود المبذولة لخدمة العلية هو الوصول إلى الأحكام الشرعية للأفعال الإنسانية...»، لكنها تكتسي بالغطاء الإيديولوجي حين تُكمِل الباحثة قولها بالتالي: «...كمناظرة للقوانين التي ينتهي إليها البحث العلمي». وكمثال آخر، فقول الباحثة بأن علم أصول الفقه يتعامل مع الواقع والارتباط به جملة مفيدة معرفيًا، لكن ربطها مع القول التالي: «يذكرنا بارتباط العلم الحديث بالتقانة أو التطبيقات» لا يقدم أي جديد على المستوى المعرفي، ولكنه يخدم المستوى الإيديولوجي من الخطاب.

ثَمَّة تناقضات في الخطاب تظهر بوضوح، كالتناقض التالي: بينما تؤكد الباحثة على أن "الصفحات السابقة -والتالية أيضًا- لا تنشغل كثيرًا بمسألة الأسبقية لمن، في المنهج العلمي التجريبي أو غيره، لأن الأسبقية، أيًا كان الظافر بها، مسألة حدثت في الماضي، ونحن مشغولون بالتوجه صوب المستقبل"، نجدها تؤكد سبق علم أصول الفقه، باعتباره عقلية منهجية استنباطية، لما آل إليه حال المنهج التجريبي إذ أصبح فرضًا استنباطيًّا "يتآزر فيه الاستنباط والتجريب"؛ فقد "كان هذا هو الوضع في المنطق الأصولي الذي عرف استنباط علة الحكم من الأصل واستقراء علة الحكم من الفرع، ليجمع القياس الأصولي خصوصًا في الأعمال الأصولية المسلحة بالمنطق بين التجربة والعقل، بين الاستنباط والاستقراء؛ فحق القول إن الحجة في أصول الفقه أقرب إلى الدليل  في الميثودولوجيا التجريبية".

في الخطاب سعيٌ للتقليل من الاجتهادات المعاصرة لنقد الهيمنة الأشعرية على الخطاب الثقافي العربي/ الإسلامي. إذ نجد في الفكر العربي المعاصر "جمهرة من الإصلاحيين يرون أن غلبة الأشاعرة هي السبب في كل ما نعانيه من تخلف واستبداد وانخفاض معدلات التنمية، وشيوع اللاعقلانية وكلالة البحث العلمي، وربما أيضًا ازدحام المرور وانخفاض قيمة العملة والزلازل المتكررة في اليابان"، وتشير الباحثة إلى المُفَكِّرِيْن نصر حامد أبو زيد وعلي مبروك، وبالتحديد للأخير في تكاتفه مع نصر لإدانة تدشين الشافعي للتفكير بالنَّصِّ. والحق أن الباحثين لا ينشغلان بالوقوف عند حدود هذا التعميم الذي تسوقه الباحثة فتجعل من خطاب المفكرين خطابًا ساذجًا، وإنما يتعلق الأمر بالكيفية التي دَشَّنَ بها الشافعي التفكير بالنَّص عبر مسار من التعالي انشغل الباحثان بدراسته ودراسة آثاره على الثقافة والوعي العربيين.

تقول الباحثة: "الخلل المنهجي في التعامل مع الواقع يرتبط أيضًا بالخلل في ربط الأسباب بالنتائج، والوقوع في التفسيرات الخرافية، أو عدم الأخذ بالأسباب بحجة التواكل أو التخفف من المسؤولية، أو اعتبار الله الفاعل الوحيد، وينتج عن هذا ضعف في الدافعية إلى التحليل والترتيب والتفسير، وهي ضرورية لتوطين الروح العلمية. هذا في حين أن مفهوم السببية في الإسلام يمكن أن يُعَدّ قانونًا طبيعيًّا واجتماعيًّا ونفسيًّا في نطاق التدبير الإلهي للكون وتصريفه لشؤونه. ومن الجانب الآخر، يدخل في إطار هذا الخلل أيضًا "إهدار البُعد الغيبي جملة" بزعم أنه معرقل لقانون السببية ولتوطين العلم في ثقافة إسلامية" (منهجية، 43).

إن المفارقات الزاعقة في هذا السياق تتبدى في عديد النقاط: أولاً، أدت المقدمات العقلية ضمن المجال الكلامي الأشعري إلى "ما بدا وكأنه الإهدار الكامل للعقل، وأعني من حيث جرى توظيفها، لا في إثبات مجرد حدوث العالَم، بل -والأهم- في إثبات دوام حدوثه، أو استمرار خلقه، عبر تجديد خلق الأعراض التي لا تبقى أبدًا لزمانين. وهكذا، فإن العالَم لا يستمر في الوجود من خلال قانون ذاتي ينتظم حركته وعلاقات ظواهره، ولو مع تصور هذا القانون تجليًا لحكمة الله وعلمه، بل من خلال التدخًّل المباشر لله في العالَم في كل لحظة، ومن غير وساطة لأي قانون أو قاعدة، تجديدًا للأعراض التي لا تتعلق -صدورًا وتخصيصًا- بشيء خارج مطلق إرادته"، وبناء على ذلك، يتم النظر إلى أن حضورَ العالَمِ بأسره متعلقٌ "بمطلق الإرادة... وبما يحيل إلى خلوه التام من أي قانون ينتظم وجوده وظواهره. حيث القانون لا يحيل إلى افتراض "ضرورة" من نوع ما، وهو ما لا يمكن للأشاعرة أن يقبلوا به أبدًا لأنه يغل مطلق الإرادة التي تقتضي "تطرق وجوه الجائزات إلى العالَم بأسره". وتكون المحصلة النهائية لكل ما سبق أن كل ما في العالَم "إنما يقبل الفوات والخرق؛ وأعني من حيث لا ضرورة لشيء بل هو "الإمكان" لا تتأثر سطوته بالتحقق الوجودي للظواهر في العالَم على نحوٍ ما؛ إذ يظل "الإمكان" لتحققها على نحو آخر قائمًا أبدًا. وإذن فإنه الإهدار الكامل للضرورة الذي كان لا بد أن يُئول إلى إهدار "العقل"؛ لأن الضرورة تعني "قانونًا" يتفرع عنه الإقرار "بعقل" يقدر على اكتشافه، حتى ولو كان هو قانون "اللاتعيُّن" أو اللاضرورة. ومن هنا مفارقة الضرورة التي تبدو لازمة للتفكير حتى في اللاضرورة".

ثُمّ، عن أيَّة سببية تتحدث الباحثة والتي يمكن اعتبارها، على حد قولها، "قانونًا طبيعيًّا واجتماعيًّا ونفسيًّا في نطاق التدبير الإلهي للكون وتصريفه لشؤونه"؟ هل نتحدث هنا عن سببية الأشاعرة أم المعتزلة؟ (والفارق بينهما هائل، ونقتصر هنا على التمييز بين فرقتين من فرق الإسلام). وها نحن ذا نجد الإمام الغزالي يقول "الاقتران بين ما يعتقد في العادة سببًا، وبين ما يعتقد مسببًا، ليس ضروريًا عندنا، بل كل شيئين، ليس هذا ذاك، ولا ذاك هذا، ولا إثبات أحدهما، متضمنًا لإثبات الآخر، ولا نفيه متضمنًا لنفي الآخر" ثم يسحب الإمام الغزالي هذا الاعتقاد على "كل المشاهدات، من المقترنات في الطب والنجوم والصناعات والحرف". كما يقول، "فإن اقترانها لما سبق من تقدير الله سبحانه، بخلقها على التساوق لا لكونه ضروريًّا في نفسه، غير قابل للفوت، بل في المقدور خلق الشبع دون الأكل، وخلق الموت دون جز الرقبة، وإدامة الحياة، مع جز الرقبة، وهلم جرًا إلى جميع المقترنات". وفي سياق لاحق "إن ثبت أن الممكن كونه، لا يجوز أن يخلق للإنسان علمٌ بعدم كونه، لزم هذه المحالات؛ ونحن لا نشك في هذه الصور التي أوردتموها، فإن الله تعالى خلق لنا علمًا، بأن هذه الممكنات، لم يفعلها، ولم ندع أن هذه الأمور واجبة، بل هي ممكنة، يجوز أن تقع، ويجوز ألا تقع"، مع الإشارة إلى أن هذا الرَدّ الأخير ارتبط بسياق القول بأن "من وضع كتابًا في بيته، فليجوز أن يكون قد انقلب عند رجوعه إلى بيته، غلامًا أمرد، عاقلاً متصرفًا، أو انقلب حيوانًا". ومن هذا الإنكار التام للسبيية، في السعي للتعالي بالله لما يتجاوز التزام الله بقوانين الطبيعية وإمكان خرقها؛ وإن كان الله لا يتقيد بقوانين الطبيعة (وهذا تصوُّر إنساني عن الله غير مُلْزِم لعموم المسلمين)، فكيف يمكننا معاملة الطبيعة بالاطِّرادِ اللازم لكشف القوانين الطبيعية؟ بالتأكيد، ليست السببيةُ قانونًا طبيعيًا في الإسلام على العموم كما تذهب الباحثة! 

تتبقى نقطة أخيرة مفادها عدم اضطرار العلم للتعامُل مع البُعد الغيبي باعتباره نقطة انطلاق، بل الأسلم عدم البدء من فرضيات قَبْلِيَّة وترك المجال للتجربة والمشاهدات لفهم كيفية عمل قوانين الطبيعة. كما أن السردية الدينية، حتى وإن ألهمت العلمَ، قد ينتهي الأمر لدحض العلم لها، كما حدث في قصة سقوط آدم التوراتية؛ فبينما "شجَّعَت فكرةُ "السقوط" البحثَ التجريبي، إلا أن هذا البحث التجريبي نفسه أظْهَرَ أن السقوط لم يَكُنْ قَطّ سقوطًا ينتمي للتاريخ [بمعنى أنه حدث تاريخيًا بالفعل]".

ويتبقى السؤال: ما هو المطلوب من المسلمين للإسهام في العلم العالَمي، وليس الغربي حصرًا كما تذهب الباحثة؟ 

لقد تحوَّلت قضية "تجديد الخطاب الديني" مع الباحثة إلى السعي نحو منهجية علمية إسلامية، رغم عجز المسلمين عن إنجاز القضية، أي قضية التجديد، على المستوى النخبوي والمؤسساتي. وإن سلَّمنا بالقول باحتياج الحضارة التاريخية لأن تكون حضارة معاصرة قبل إسهامها الفعلي الحَقّ في العلم، فهذا الأمر يدفع نُخب هذه الحضارة للتعامل نقديًّا مع تراثهم ونصوصهم الثقافية التأسيسية، وهو ما يبدو بمثابة الوعد الذي لم يُنْجَز حتى الآن. 

يبدو كذلك الحديث عن نقض "مركزية الغرب" العلمية، والدعوة للاقتداء بأدبيات تيار النسوية الأمريكية من مؤسسات هذا التوطين للعلم في ثقافتنا العربية!؛ "فنقض المركزية (Decentering) الغربية مقدمة أولية فاعلة لتعبيد الطريق وتمهيده أمام طرح المنهجية العلمية الإسلامية". وهذا الحديث في ظاهره يبدو بمثابة "كفاح" ما، لكنه في القلب يدعو لأن تحل مركزية إسلامية محل المركزية الغربية؛ فلا يمكننا تصوُّر غياب المركزية إلا في عالَم سائل (مثل عالَم ما بعد الحداثة، الذي تستأنس الباحثة بأدبيات إحدى تياراته). ومن ثَم فهذه المركزية التي لم تحدث، ونتوقع عدم حدوثها إطلاقًا إلا من باب التنظير في المؤتمرات الداعية لها، إنما تكشف عن مساعي "الإمبرياليين المقهورين"، وهو التعبير المهم لياسين الحاج صالح، لخلق إمبريالية جديدة عبر ما يُسَمَّى بالنموذج الإرشادي القياسي العلمي الإسلامي.

وختامًا لهذا السياق، أعرض لحضراتكم نتاج حوار مع باحث عربي، مسلم، سُنّيّ، يدرس الفيزياء النظرية في جامعة ميامي، فلوريدا، في تخصص الجاذبية، وهو الدكتور/ حسن الشال. وقد حرصت في توجيه أسئلتي له على عرض بعض خصائص هذا البارادايم الإسلامي المزعوم، وكان ردّه كالتالي:

س 1: ما رأيك في الموازاة -أو، بمعنى أدق، القياس الفقهي- الذي يقيمه البعض بين اقتصار الإجماع على أهل الحل والعقد، وما يسمى بنظريات التضافر Conspiracy Theory في الممارسة العلمية المعاصرة؟

- لا أريد الدخول في تفاصيل دينية لأن هذه الأمور تثير الحساسية، وخصوصًا في مسألة القياس والإجماع باعتبارهما أصلاً محل خلاف بين الفقهاء أنفسهم إما لتصحيح أو تضعيف الحديث النبوي أو إشكالية الاستدلال على الحق بكثرة العدد. لكني ضد مقارنة ما هو طبيعي بما هو ديني أو فقهي لعدة أسباب.

إذا كان مبرر اعتماد الإجماع عند الفقهاء كأصل من أصول التشريع بسبب حديث "لا تجتمع أمتي على ضلالة"، فمن الممكن أن يجتمع علماء العلوم الطبيعية على خطأ، بل إن الأصل في العلوم الطبيعية أن تقع في عدة أخطاء حتى لو كانت قادرة على تفسير العالم واقتراح تنبؤات غير مرصودة. ودون تلك الأخطاء فالعلم لا يتقدم.

أيضًا لا نريد أن ننسى أن الرأي المخالف للإجماع يرمى بالشذوذ بكل تبعات الكلمة. ومع أن تعريف الرأي الشاذ مختلف عليه بين المذاهب السُّنية، فدعنا نلتزم بتعريف الموسوعة الفقهية للرأي الشاذ بـ "المنفرد عن غيره، أو الخارج عن الجماعة". في الفيزياء لا أحد يتهم آينشتاين "بالشذوذ" عندما اقترح نظريته المعروفة بالـ unified field theory رغم عدم شعبيتها وسط الفيزيائيين. وحتى تلك النظريات التي تم رفضها واتضحت صحتها فيما بعد (كنظرية جون جيمس وترستون John James Waterston للفيزياء الإحصائية والتي رفضتها الجمعية الملكية البريطانية) فتبقى محل فحص وتمحيص بعد أن تُنشر، لأن الأصل في علم كالفيزياء النظرية هو نشر كل ما يستوفي الحد الأدنى من الاتساق الرياضي على الأقل. ولكن إذا نظرنا فيما يميز الرأي المُجمع عليه من الرأي الشاذ، سوف نجد بأن الرأي الشاذ: "قول انفرد به قلة من المجتهدين من غير دليل معتبر". وإذا رأينا نظريات علمية منبوذة تتحول مع الوقت إلى أسس علمية، فهل سبق أن رأينا من قبل دليلاً غير مُعْتَبَر يتحول مع الوقت إلى دليل مُعْتَبَر بحيث يُجمع الفقهاء على ما اعتبروه شاذًا؟!

دعنا أيضًا لا نغفل تبعات الموازاة في سياقنا المعاصر. إن الموازاة بين الإجماع عند أهل الحل والعقد والتضافر العلمي المعاصر قد يستتبعها "علمنة" الفقه، وهي مسألة مثيرة للحساسية في الفقه السني، ليس فقط بسبب ما تثيره الكلمة من استهجان، ولكن أيضا نتيجة لأن العلمنة تعني وجود تبعات دنيوية ومسؤوليات يمكن أن تضع أصحاب الرأي المجمع عليه تحت طائلة المساءلة الاجتماعية والسياسية. وفي الوقت نفسه لا أريد أن يُفْهَم من كلامي أنه نفي كلي لعلاقة الفقه بالواقع، فمؤسس أصول الفقه الإمام الشافعي هو صاحب الجملة القائلة "رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب" نظرًا للأثر التطبيقي للفقه في الحياة، وتغير فقهه من بلد للثاني. ونظرًا لذلك الجانب التطبيقي، فقد رفض الشافعي وقوع الإجماع على مرتبة واحدة في فروع الدين. وكما قال الإمام ابن حنبل: "من ادعى الإجماع فهو كاذب".

قد يستأنس المعتقدون بوجود تلك الموازاة بتقسيم حجة الإسلام أبو حامد الغزالي للعلوم إلى محمودة ومذمومة (يقصد المعارف في زمنه) وكيفية وصفه للفقه بالعلم الدنيوي على الرغم كونه علمًا شرعيًّا، وذلك لتعلقه بالدين من خلال الدنيا لا من خلال نفسه. ومع ذلك، فهذا لا يكفي ليسمح بعلمنة الفقه بالكلية، بل ولا يسمح حتى بوضع مسؤولية دنيوية على أهل الحل والعقد في حالة "اجتهادهم" كما هو الحال بالنسبة لمسؤولية دعم قرار دنيوي من خلال تضافر آراء العلماء والمستشارين. هل يمكن عزل أهل الحل والعقد من مناصبهم إذا اجتهدوا وأجمعوا فأخطأوا؟! لا بد أيضًا ألا ننسى أن الشروط الدينية المطلوب توفرها في الذين يحققون الإجماع في الفقه تختلف بالكلية عن تلك الشروط الطبيعية فيمن يحققون التضافر. بل إن تلك الشروط تختلف من علم طبيعي إلى آخر. ولذلك لا يكفينا تشابه أهل الإجماع في شرط إتقانهم لما يناقشونه من معارف مع تشابه شرط الإتقان عند أهل العلوم الطبيعية، لنمد هذا التشابه على استقامته فنعتقد بأنه يؤدي إلى موازاة بين الإجماع والتضافر.

كنت أود أيضًا الاستطراد في الحديث عن أن تحليل الآيات والأحاديث لاستنباط الأحكام يتم -شئنا أم أبينا- من خلال المنطق الشكلي أو الصوري، وذلك بالرغم من اختلاف بعض أشكال الاستدلال في القياس الأصولي عنها في القياس الأرسطي، واعتراضات الأصوليين على منطق أرسطو لاعتماده على اللغة اليونانية. كما وددت أن أتوقف عند نقد شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه العظيم "الرد على المنطقيين" لاستخدام المنطق الشكلي عمومًا في اللاهوت أو "جليل الكلام"، وبراعة استخدامه للمنطق أثناء تعرضه لمغالطة المتوسط غير الموزع fallacy of undistributed middle عندما ناقش تحريم المسكرات في كتاب "مجموع الفتاوى". لكني أكتفي بالإشارة إلى أن حصر الفقه في القياس الأصولي الشكلي جعله بعيدًا عن العلم الطبيعي الحديث والذي تجاوز كل إشكاليات المنطق الصوري -أرسطيًا كان أو أصوليًا - باعتماده على أنواع مختلفة من المنطق.

الخلاصة أنه عند الأخذ بعين الاعتبار للنقاط السابق ذكرها والتي تثبت اختلاف طبيعة "الإجماع" في الفقه عن "التضافر" في العلوم الطبيعية، فإن ذلك يدعم رأيي ببطلان الموازاة بينهما. كما أني أرى أن أي محاولة لإخضاع أحدهما لنفوذ الآخر سوف تبوء بالفشل.

س2: هل ترى حاجة إلى وجود بارادايم paradigm إسلامي علمي كي يتوجه المسلمون لدراسة العلم أو لتوطينه في ثقافتنا العربية؟

- أريد أن أعكس هذا السؤال: هل ترى حاجة إلى وجود بارادايم بوذي/هندوسي/مجوسي/بهائي...إلخ علمي كي يتوجه أصحاب أولئك الديانات لدراسة العلم وتوطينه في ثقافتهم؟ ما الذي اختلف عندما اتبع النازيون "العلم الآري" ونبذوا "العلم اليهودي"؟! وإذا فرضنا ضرورة وجود مثل هذا البارادايم، هل يجب أن يكون أشعريًّا أم سلفيًّا أم معتزليًّا؟! هل سنلجأ للاحتكام للإجماع أم للقياس في هذه المسألة؟!

كما ذكرت سابقًا، فالتضافر العلمي يختلف من حيث شروط اختيار الخبراء الذين سوف يحققونه. بل وتختلف آليات النقاش وطرق الإقناع بينهم بحسب كل مجال. فالتضافر في الفيزياء مختلف بالكلية عنه في الكيمياء عنه في الطب عنه في الهندسة. فإذا تجاهلنا "اختلاف" الفقهاء على "الإجماع"، وسلمنا بأن إجماع أهل الحل والعقد يوازي تضافر خبراء العلوم الطبيعية، فأي نوع من التضافر العلمي سوف نعتمده ليصاغ بشكل موازٍ لإجماع الفقهاء أثناء بناء هذا البارادايم الإسلامي العلمي (أو العلمي الإسلامي)؟! وإلى أي منطق نحتكم إذا اختلف الخبراء؟! هل هو المنطق الأصولي؟! أم المنطق العلمي؟!

ما أعتقد أننا بحاجة إليه هو توفير مناخ يشجع على الحرية في أن يختار كل إنسان ما يستهويه ويثير فضوله من دراسة -سواء كانت علومًا طبيعية أو علومًا لا تنتمي للإنسانيات- دون أن يشعر بخوف أو يأس أو حيرة بسبب نقص المعلومات أو عدم إتاحتها. تبدأ تهيئة مثل هذا المناخ من توجيه دراسة الطلاب في الجامعات لأن يتعرض إلى أكبر قدر ممكن من المقررات الطبيعية والإنسانية بمنتهى الحرية. وهذا يستدعي "نظامًا مفتوحًا" لا تنغلق فيه الكليات والأقسام على نفسها. من غير المعقول أن يوجد متخصص في الفلسفة في كلية الآداب لم يتعرض ولا مرة واحدة في حياته لمعمل أو تجربة أو حتى محاضرة لمقرر علمي نظري. وكذلك من غير المعقول أن يكون المرء فيزيائيًّا نظريًّا في كلية العلوم ولم يسمع عن فلسفة العلم أو الإبستمولوجي أو لا يعرف كيف يميز بين العلم وشبه العلم. هذا الانفصال المعرفي غير موجود في أي مكان أكاديمي يحترم عقلية طلابه والأكاديميين المنتمين له.

اللحظات المبكرة للصدام بين العلم والدين في الشرق الأوسط

«فكل دين ينافي حقيقة واحدة علمية تناقض تعاليمه الأصلية هو دين فاسد لا يجوز للإنسان أن يتبعه».

*  لويس شيخو.

«للتعبير عن هذه الحقيقة بوضوح وإنصاف، أي شخص يُشَكِّك اليوم في أن تنوُّع الحياة على هذا الكوكب أنتجته عملية من التَّطَوُّر هو جاهل ببساطة - جاهل لا عذر له، يحيا في عالَم يكون ثلاثة أفراد من أصل أربعة فيه يعرفون القراءة والكتابة».

* دانيل دينيت.

«نحن لا نسيء معاملة الأناجيل، عندما نشير إلى وجود فقرات لم يعد من الممكن قبولها في القرن العشرين؛ لاحتوائها على نصوص ثبت خطؤها».

* موريس بوكاي.

بعد أن تعرَّضنا للتيارات الحديثة في تعامُلها مع العلم، ومع نظرية التَّطَوُّر بالعموم، من المدخل والمنطلق الديني، سنتجه إلى التعامل التاريخي مع القضية نفسها منذ نهايات القرن الثامن عشر، وسنلاحظ الفرق الهائل بين مدى رحابة التعاطي مع العلم في العصور السابقة مقارنة بالعصور اللاحقة التي اكتست بغطاء إيديولوجي سميك لا يرى في الآخر إلا «المُنافِس» والخصم وعقبة أمام التأخُّر، لا باعتباره مرآة لفهم الذات والوقوف على مساوئها وما يعرقلها من أمور ثقافية بالمعنى الكبير للوصف.

يمكننا التأريخ للحظة تأسيسية في تاريخ علاقة العلم بالدين في الشرق الأوسط، وكانت طبيعة الأسئلة المطروحة قبلها تختلف عما بعدها. واللحظة هي لحظة إلغاء الخلافة العثمانية (1924) بجانب حملة بونابرت على مصر سنة (1789) «لا سيما أن إشكالية الدين والعلم ستشهد احتدادًا عنيفًا ومتصاعدًا في تاريخ العرب الحديث مباشرةً إثر تلك الحملة، والاحتكاك المباشر بمنتجات الحداثة الأوروبية».

وكانت أسئلة ما قبل إلغاء الخلافة تتعلق بـ:

ما الدين؟ وما العلم؟ وما طبيعة العلاقة بين الدين والعلم؟

هل الدين من مقومات التقدم أم من عوامل الضعف والتخلف؟

الدين والعقل (تبرير وتصديق أم نقد وتشكيك)؟

الدين والفلسفة (خصومة وتعارض - اتفاق في الغايات - مصادرة واحتواء)؟

الدين والدولة (نظام خلافة أم حكومة مدنية)؟

أما أسئلة ما بعد إلغاء الخلافة، فتعلقت بالتالي:

لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟

ما الأسباب التي ارتقى بها الأوروبيون، والأمريكيون، واليابانيون، ارتقاء هائلاً؟ وهل يمكن أن يصير المسلمون في هذا الارتقاء، إذا اتبعوهم في أسبابه، مع المحافظة على دينهم (الإسلام) أم لا؟

هل عندنا، في الشرق، مثل هذه النهضات، أو، بالأولى، مثل هذه الثورات؟ وهل عملنا على اقتباس هذه المدنية؟

ما النهضة؟ أهي الخروج من حالة الجمود إلى حالة الحركة، أم هي الانتقال من المحاكاة والتقليد إلى عهد الاستقلال والحرية؟

هل الدين فوق العقل والعلم، كما يقول غيرنا (غير المسلمين)، أو العقل والعلم فوق الدين، فيؤدي إلى التحسين والتقبيح العقليين، وهو مذهب اعتزالي؟

ما سمات المدنية الحديثة؟ كيف نجدد رؤيتنا للإسلام؟ هل ما زال هناك مكان وضرورة للدين في المجتمعات المعاصرة؟ وهل ينبغي أن يكون نمط الإصلاح الديني من نمط الإصلاح البروتستانتي، الذي عرفته المسيحية في القرن الخامس عشر؟ أيقبل الإسلام التجديد أم أنه من الاديان التي لا تقبل التجديد؟ 

هل شهدت الثقافة العربية ذلك التثوير الصراعي المنتج والمثمر، الذي شهدته الثقافة الأوروبية؟ 

والحق أن الانتقال من نوعية الأسئلة الأولى للثانية عَكَسَ انتقالاً من شعور "العرب بما آل إليه حالهم، وقد تربصت بهم المخاطر من كل حدب وصوب تهدد أمنهم الفكري، وتزعزع ثوابتهم الإيمانية، وتحثهم على مراجعة ثقافتهم مراجعة شاملة.. [بالإضافة إلى أن هذه الأسئلة تشير إلى توتر يعكس حاجة نفسية ملحة لاستيفاء الجواب على هذه الأسئلة]، أو شفاء غليل الذات الجماعية، التي بدأت تشعر بشيء من التمزّق الفكري، والتشرذم المنهجي، والترجرج العقلي والإيماني، زاده التنوع الديني صعوبة وتعقيدًا" إلى أن صارت مسألة "العلاقة بين الدين والعلم ذات امتدادات عميقة ووشائج قربى بأسئلة التحديث الثقافي بشكل عام، والتحديث الفكري بشكل خاص. ولم يعد الحديث عنها حديثًا مستقلاً؛ بل في إطار مشاريع تحديثية عامة وشاملة".

وعلى الرغم من الضغوط هائلة المدى التي حاقت بالمسلمين منذ لحظة إلغاء الخلافة حتى فترات الكولونيالية، إلا أنهم لم يكونوا منغلقين في تعامُلهم مع العلم (على الرغم من وجود المحرك الديني الذي أعلن عن كامل حضوره في مقارباتهم)، ولم يروا أنه يجب التعامل معه بحذر وحيطة، ولم يروا الحاجة إلى تأسيس المنهج القياسي الإرشادي العلمي الإسلامي (كما يُزْعَم حديثًا) حتى يروا في العلم ما يمكنه أن يفيدهم أو يمنعهم من السير في مساره.

سأكتفي في هذا السياق بإيراد رؤى مفكري الإصلاح (من المسلمين والمسيحيين على السواء): كيف نظروا للعلم وكيف تعاملوا مع نظرية التَّطَوُّر؟

يمكننا التعامل مع مقالة الشيخ محمد رشيد رضا (1865 - 1935) بعنوان "نظرية داروين والإسلام"، المنشورة في مجلة المنار، الجزء رقم 30، على أنها مثالٌ كاشف للرؤية الإسلامية التي كانت تعاني في ذلك الوقت من ضغوط الاستعمار والأجنبي المحتل، لكنها كانت قادرة على التمييز بين الجانب العلمي والجانب الكولونيالي، على العكس من الرؤى المعاصرة التي ترى في الأمر كله "مركزية أوروبية" تؤخذ برمتها فنعاني اغترابًا أزليًا عن هويتنا أو تُتْرَك كليًا في سبيل البحث عن أسلمة جديدة للعلم والمنهج العلمي!

على الرغم من حرص رشيد رضا على "دحض مبادئ نظرية داروين البيولوجية القائلة بفكرة التسلسل بين الكائنات، بما في ذلك الإنسان، بالتقليل من نسبة القائلين بها؛ إذ نعتهم بالشرذمة. أما السواد الأعظم من العقلاء والعلماء، وسائر خلق الله -في رأيه- فمؤمن بوجود خالق لهذا الكون، مقرّ به وبوحدانيته"، نجده يقول، "وإياكم ثم إياكم أن تعدوا الكلام الذي ألقيه من قبيل المناظرات العلمية أو المذهبية بين خصمين [يقصد من يعتقدون في نظرية التَّطَوُّرِ مقابل من يؤمنون بخلق الله الخاص للبشر] يكون هَم كل منهما الظهور على خصمه، وتتبع عثراته ومؤاخذته في تقصيره، وسيعلم من لم يكن يعلم أنه ليس بين نظرية الخلق التدريجي ونصوص الإسلام تعارض حقيقي، كما يوجد بينها وبين نصوص التوراة، وأن اليهود والنصارى الذين يدينون لله تعالى بقداسة التوراة لم يكبروا أمر هذه النظريات ودلائلها كما كبرها حضرة الفاضل الذي كتب هذه الورقة [يقصد صاحب السؤال عن الإسلام والتَّطَوُّر]، ولا عدُّوها قطعية ولا أبطلت ثقتهم بالتوراة». وفي جوابه عن السؤال الثاني (ما معنى وجود حفريات جيولوجية مشابهة لحيوانات موجودة الآن مثل (أوفبوس) Evobeppus التي تشبه الحصان، والهومتدرتال التي تشبه الإنسان الحالي؟ وهل هناك صلة ما بين هذا الحصان، والحيوان الذي يشبهه مثل الصلة بين الحصان والبغل؟)، يقول، «لا أعلم سبب التشابه بين الحيوانات الجيولوجية بعضها مع بعض ولا مشابهة بعضها لبعض الحيوانات الباقية، كما أنني لا أعلم سبب التشابه بين الحيوانات التي لم يوجد ما يدل على وجودها في عصور طبقات الأرض القديمة، وسبب التشابه بين النبات الذي من فصيلة واحدة أو فصائل مختلفة كالتشابه بين ورق الزيتون وورق الرمان، ومذهب داروين في تعليل أمثال هذا التشابه لا يقوم دليل قطعي ولا قريب من القطعي على صحته، وإن كان أكثر ما فيه من  تعليل يعد إلى الآن أقرب من غيره إلى إثبات حكمة الله تعالى في نظام خلقه، وإذا فرضنا وصوله إلى درجة اليقين لم يكن ناقضًا لنص من نصوص الدين القطعية ما دام لا ينافي كون الله هو الخالق لذلك بهذا النظام. وإنه ليوجد بين بعض الجماد وبعض النبات من التشابه، وبين بعض النبات وبعض الحيوان من التناسب ما تحار العقول في سببه، ويمكن استنباط أسئلة لا تحصى من هذه الأمور لا يمكن الجواب العلمي عنها {وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ العِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} (الإسراء: 85)».

كما يعرض محمد رشيد رضا «لسببٍ ثانٍ [يراه الباحث شكري بوشعّالة] مهمًا وجوهريًا في استجداد عهد السجالات الكلامية في الثقافة العربية الحديثة والمعاصرة، من خلال المجلات [الثقافية]، يتمثل في شيوع نظرية داروين العلمية، وتضاعف مناصريها ليس في البلاد الأوروبية فحسب؛ بل حتى في البلاد العربية، من خلال النخب الطلائعية، التي آمنت بمبادئ الحداثة الأوروبية، وسعت جاهدة إلى استنباتها في الثقافة العربية بترويجها، والتمكين لها عبر الصحافة المكتوبة خاصة». وعلى الرغم من محاولته «الوقوف على بعض مبادئ هذه النظرية، ومحاولة دحض براهينها الهادمة لنظرية الخلق الإلهي الواردة في الرسالات السماوية الموحدة»، نجد تأكيده على أن «النظرية قابلة للثبوت، أو البطلان، بصرف النظر عن تعارض مبادئها، أو توافقها مع ما جاءت به الأديان».

أما على مستوى «الإفتاء»، الذي تزعمه الشيخ محمد رشيد رضا في مصر وعبر العالَم الإسلامي منذ مطلع القرن العشرين، وعبر فتاوى «المنار» الطبية، نجده واضعًا للعلم في مكانةٍ تعكس انفتاحًا يندر توقُّع أن نجده عند المفكرين المسلمين المعاصرين من النخب ومحتلي الشاشات المرئية لو عاد بهم الزمان لعصر رشيد رضا؛ فنراه يقر بـ «أن الطب علم قد ثبتت فائدته للناس بالتجربة والمشاهدة، فمن الحماقة، وسفه الرأي، أن يقال للمريض: عليك ألا تقبل من الطبيب علاجًا حتى تبحث، أولاً، عن مبادئ الطب، وتثبت بالأدلة النظرية أنه نافع ومفيد، ثم تعرف الدواء، الذي يصفه لك الطبيب، ما هو، وما نسبة بعض أجزائه إلى بعض، وكيف يؤثر في مقاومة المرض، وما الدليل العقلي على تأثيره، وما أشبه ذلك.. ولئن أقر رشيد رضا بـ: (أن الأحكام الدينية لا تُبنى على المسائل الكيميائية)، إلا أن الأمر يختلف مع الطب، فنراه يصحح علة تحريم الميتة استنادًا إليه. ويشير رشيد رضا، في مقال آخر، إلى أن ما ورد عن الرسول الكريم في الطب، وسائر أمور الدينا، لا يعدّ من أمور الدين، فلا يندرج في باب الأمر التكليفي، فيمكن إسقاطه، وعدم الأخذ به، إن ثبت تعارضه مع واقع الأمور عملاً بالحديث النبوي: «أنتم أعلم بأمور دنياكم». يقول: (إذا رأيت حديثًا في أمر الدنيا لم يظهر لك وجهه، فلا يرعك ذلك، ولا تظن أن في عدم انطباقه على الواقع طعنًا في الدين)».

بالطبع، كان حضور «صراع الأديان» حاضرًا في لغة أغلب المقالات التي نتخذ منها نماذج للتعبير عن قضيتنا. لكن، هذا الأمر لم يمنع الكُتَّاب من الاعتراف بأفضال غيرهم من أهل الأديان الأخرى على المستوى الثقافي. وعلى سبيل المثال، إن كان رشيد رضا يحاول من خلال مقالٍ له «وضع عقيدة أصلية من العقائد المسيحية موضع شكٍّ وريبة، استنادًا إلى رأي أحد العلماء الإنجليز، [وهو]، بذلك، يثير جدلاً دينيًا بين المسيحية والإسلام، علاوة على الجدل بين الدينيين والعلمانيين، ما يؤكد مرة أخرى تعقُّد مسألة الدين والعلم في الثقافة العربية الحديثة والمعاصرة»، إلا أنه لم يتردد في وصف صاحبي مجلة «المقتطف» بأن القدر «قد هيأهما.. ليكونا ركنان من أركان النهضة العلمية العربية، فبلغا منها الغاية المعروفة لأهلها، ولم يكن لهما، ولا لأمتهما، ولا لدولتهما، سعيٌ فيما أسندناه إلى القدر الإلهي بالعلم».

كما تنوعت الرؤى لعلاقة الدين بالعلم؛ فكان منها من يرى لزوم تَدَخُّل العلم في الأمور الغيبية رغم عجزه عنها، فنرى شارل مالك ذاهبًا إلى عدم استبعاده لأن "تكون للعلم حدود يقصر عن تخطيها وتجاوزها. ويبدو الإقرار بهذا القصور مبرّرًا، لاسيّما أن فكرة الله قد تكون عصية على التجريب والاختبار، لكنّ العلم ملزم بأن يدلي بدلوه فيها، وحسبه أن (الغريب ليس أن يكون للعلم قول خاص في طبيعة الله؛ بل ألا يكون له هذا القول؛ لأن الله، أخطر موجودات الكون، والعلم، كسعي نزيه لتعرُّف الحقيقة عن جميع موجودات الكون، لا يسعه إلا أن يعرض لهذا الموجود الخطير، الذي نعبّر عنه بلفظة الله، بل حريّ بالمرء أن ينحي باللائمة على العلم إذا هو وقف صامتًا أخبل، ليس له ما يصرحه بشأن الله)". ولعل الأزمة في هذا الرأي أن الله يقع خارج مجال التجريب بالكلية، ومن ثَم، فالعالِم حينما يتحدث عن الله، عن وجوده أو عدمه، عن قدراته أو خصائصه، فهو يتحدث من المنظور الذاتي، لكن الأزمة ليست هنا بقدر ما تنطوي على أنه يتحدث عن الله بذاتيته في ثوب العالِم وقيمته العلمية؛ فحتى لو لم يستبعد العديد من خيرة العلماء "كل منظور ديني، لكن من المهم التأكيد أنهم لم يقوموا بذلك بصفتهم علماء؛ أي بالاستناد إلى نتائج بحث مُلْزِمَة. فعندما تحدث أينشتاين عن الشعور الديني الكوني قام بذلك باعتباره فيلسوفًا، ومارس من ثمّ فلسفة الدين وليس العلم". وعلى كل الأحوال، يبقى حديث العلم عن قيمة الأديان ومدى "صدقها"، وقوله بسذاجة معتنقي الأديان من قبيل التجاوز؛ إذ أن العلم يتجاوز "مجال كفاءاته المتمثلة في اكتساب معارف قابلة للبرهنة بطريقة منهجية في حقل معرفي معين. هناك دروس ثمينة يمكن لفلسفة الدين أن تأخذها عن العلماء الملاحدة أو المؤمنين أو اللاأدريين؛ لكن عليها أن تذكّرهم بأن النتائج الميتافيزيقية التي يستخلصونها من اكتشافاتهم العلمية، متباهين بوضعيتهم كعلماء، لا ترتبط بالعلم؛ بل بحقل فلسفة الدين".

يمكننا كذلك أن نرى موقف محمد الحجوي (1874 - 1956)، وهو فقيه مالكي مغربي، من "انطباعه" عن نظرية داروين، ودعوته لأن يكون المحك العلمي هو معيار الأخذ بها، وليست أية معايير أخرى. وفيما يتعلق بفكرة تولد الإنسان عن القرد، بيَّنَ محمد الحجوي "أن أصل الإنسان الحيواني، الذي افترضه داروين، وأخذه تلاميذه، واعتقدوه واقعًا، قد أرادوا به هدم أسس الديانات، مع أنه افتراض فحسب لم يقم عليه أي دليل مدقق. ولا يكفي، في رأيه، أن يؤسس أحد الفلاسفة، أو العلماء، مهما كان أصله، أو ملّته، نظرية علمية، أو عقلية، يجزم بأنها قطعية، فيتلقاها عنه تلاميذه بالقبول، وتشيع في العالم، مع شيوع جلالة القائل، ويطبقها على جزئيات عديدة، فتنطبق، وتسلّم من لدن جماعة، وتصير فقها مسلّمًا؛ بل لا بدّ من الامتحان العلميّ، الذي يثبت القطع بما دلّت عليه لا يحتمل التغير في أي وقت كان، وتنطبق على جميع الجزئيات لا تشذ منها واحدة". وهنا، فالأمر متروك "للعلم" ليحكم على صدق أو كذب نظرية داروين. 

سنجد أيضًا دعوة للتوافق مع فصل المنهجيات عند شبلي شميل. إذ انصب مجمل إنتاجه الفكري على القول بأن "الله لا يخلق الإنسان بصورة مباشرة، وإنما يسن للطبيعة قوانينها، التي يترتب عليها ظهور الإنسان بفعل مفعولها. وعندما يحصل تناقض بين التصورين الديني والعلمي، فعلى الأول أن يتخلى عن منطلقاته، ويفتح الباب أمام التصور العلمي، وعلى الدين ألا يقف معترضًا في سبيل العلم، وألا يشتبك معه في خصام مضر للاثنين، ولا يستطيع الدين أن يثبت فيه، على حدّ عبارته". وهذا بكل تأكيد موقف إيماني علماني يختلف عن الموقف العلماني الطبيعاني. 

وختامًا، لاحظنا وجود فارق كبير بين تعامل السابقين من المفكرين مع إشكالية العلم والدين وبين تعامُل المعاصرين منهم؛ فانشغل القدامى بكيفية تحقيق أقصى فائدة من العلم والتوفيق بينه وبين الدين، بل وفي بعض الأحيان، وكما رأينا، إعطاء الأسبقية للعلم، دون أدنى شعور بمخاطر المركزية الأوروبية مع كونهم الأحق باستشعار هذه المخاطر في زمانهم. ووجدنا تلوينات متنوعة من التلفيق المعاصر، ربما منذ أوائل تسعينيات القرن العشرين متمثلة في الإعجاز العلمي للقرآن الذي نال نصيبه من الضجة الإعلامية والبرامج التليفزيونية والمؤتمرات والتمويلات وطبعات الكتب الفاخرة، ثم اكتشفنا أننا نقلل من قدر الدين ذاته بتبنّي هذه الرؤية؛ فقد بدا أن المنتمين للثقافة العربية/ الإسلامية قد اكتفوا بما في القرآن من "إشارات" للوقوف منها على "العبارات"؛ أي جلسوا متابعين ومتفرجين على الفتوح العلمية في كل المجالات العلمية والتكنولوجية التي تمس حياة الإنسان على نحو مباشر، ثم اكتفوا برفع أيديهم فيما يشبه إغاظة الآخر وطمأنة كل المنتمين للثقافة العربية/ الإسلامية وكأنهم يقولون: "نحن بخير، اجلسوا في أماكنكم ولا تتحركوا، فهذا الكلام مذكور عندنا في القرآن الكريم"، ويمكننا تصوُّر سكوتهم عن قول آخر، وهو الحق: "لكننا انتظرناهم حتى يكتشفوا ويتحققوا ويحولوا هذه المعرفة العلمية إلى كل ما ينفع الإنسان في حياته ثم قلنا بأسبقية القرآن الكريم عليهم".

ثم بعد أن أثبت الإعجازُ إخفاقه، ولاح لجيلٍ من نخبة المفكرين العرب إخفاقهم التاريخي وعجزهم عن إحداث النقلة الحداثية في عوالم العرب البائسة، لجأوا إلى اقتراح حلول مُغْرِقَة في الخصوصية الهوياتية والتمركز حول الذات والتباكي على العصر الذهبي للمسلمين! واقترحوا، من ضمن اقتراحاتهم أن نُعَبِّرَ عن العالَم الذي نحيا فيه بلفظتي "عالَم الشهادة" وننطلق نحو تأسيس نموذج قياسي إرشادي إسلامي علمي من منطلقات التمكين والعمران والخلافة.. إلخ، مع إعطاء لقب المجتهد للعالِم! فيصبح لدينا "المجتهد"/ فلان الفلاني في الفيزياء النظرية، و"المجتهد" فلان الفلاني في الجينوم.. إلخ. ومن ثَم، حينما نحضر مؤتمرات علمية دولية سنتحدث بهذه الألفاظ، التي سنضطر بالتأكيد لشرحها لأنها بعيدة عن كل البعد عن لغة المنهج العلمي والأوساط العلمية، ناظرين إلى "الآخر" بالعموم، على أنه صاحب مركزية يلزم نقضها وتقويضها بالاستعانة بتيارات ما بعد الحداثة النسوية وغيرها. 

ثم كشفنا عن تعامل أكثر مرونة وانفتاحًا عند الأقدمين من مفكري النهضة جعلنا نأمل لو أنهم تبادلوا مواقعهم مع نخبتنا المعاصرة، لأنه من المؤكد أن الأمور لم يكن لها أن تسير بهذا السوء التنظيري والسطحية الفكرية إلى هذا الحَدِّ. ويقينًا لم يكن لهؤلاء الأقدمين التوسُّل بالتراث كما تفعل نخبتنا. 

تبقى علاقة الدين والعلم علاقة مضطربة، لا يمكن البَتُّ محمد رشيد رضا فيها عبر تَبَنِّي علاقة الانفصال أو التكامل أو الصراع، ولكن يبدو أن علاقة التكامل هي الأنسب لثقافتنا العربية/ الإسلامية، على الأقل في هذه المرحلة؛ فإن كان العلم يختص بتحديد قوانين الطبيعة اعتمادًا على التجريب، ينشغل الدين بالسؤال عن معنى الحياة ومآلات الإنسان بعد موته. غير أن هذا الفصل أوَّلي فقط، وغير دقيق تمامًا، بناءً على استخلاصات تحليلنا. بالتالي، على الدين والعلم أن يتكاملا نحو تأسيس بناء ثقافي فكري جديد للعرب بعامة وللمسلمين بخاصة.