هموم

أحمد عامر

أزمة مؤسسات تعليم الدراما المسرحية في مصر

2021.05.01

أزمة مؤسسات تعليم الدراما المسرحية في مصر

الله لم يخلق أساتذة وطلاب الفنون هكذا من عدم، فكل أستاذ صُنِع وأُنتِج وتشكل بالتدريج تلميذًا، وكل تلميذ كذلك صُنع وتشكل وتعلم منذ ولد أشياءً عن العالم وعن الفنون تحديدًا، وإذا كانت هناك شكاوى أو حالة من عدم الرضا عن منتجات ومخرجات العملية التعلمية للفنون الدرامية المسرحية، فلا بد من النظر لمراحل الصناعة، وظروف الإنتاج، ومراحل وصول المنتج لمتلقيه كذلك، وهذه النظرة للتعليم باعتباره عملية صناعية إنتاجية ليست جديدة، ففضلاً عن صناعة السينما، فإن أرسطو في كتابه الأشهر فن الشعر ووفقًا لترجمة إبراهيم حمادة يتحدث عن الدراما باعتبارها عملية إنتاجية، فما هي مراحل تصنيع هذا المنتج وما الذي سيركز عليه هذا المقال؟

إن تعليم الفنون الدرامية المسرحية لا يبدأ في المعهد العالي للفنون المسرحية، ولا في أقسام المسرح بكليات الآداب، ولا في كليات التربية النوعية، أو الجامعات الخاصة، والمراكز المتنوعة. بل يبدأ التعليم الدرامي المسرحي الابتدائي/الأولي/الأساسي في المدارس، والكنائس، وقصور الثقافة، ثم الجامعات، والفرق المستقلة، والدورات التدريبية، فغالبية النجوم بدأوا تعرفهم على، وتعلمهم للدراما (تمثيلاً وتأليفًا وإخراجا ونقدًا وديكورًا وأزياءً) في هذه المؤسسات، فضلاً عن تلقي الجميع للدراما التلفزيونية والسينمائية والمسرحية عبر التلفزيون، وهناك المزيد من السياقات المختلفة والخاصة لتلقي وتعلم الدراما بأجزائها في كل مجتمع، بل وفي حياة كل فرد أحيانًا، حسب نشأته ورحلته في الحياة.

وهذا التعليم الأولي يظل راسخًا في وعي ولا وعي كل من يتلقاه، ويظل محددًا لماهية النوع الفني، وقواعده، وأهدافه، وتفاصيله، ويظل هذا المتعلم يبنى على هذه الأسس، وينمي ويطور ويضيف التفاصيل، ويجتهد أحيانًا - بوعي أو بدون وعي - للتوفيق بين متناقضات متراكمة لديه، ويكون حظه وفرصته في أن يلتقي بمن يمنحه فرصًا حقيقية في مراجعة مخزونه المعرفي، وإعادة تقييمه والحكم عليه، واستبعاد الفاسد منه، وتطوير وتنمية البسيط الأولي، والانطلاق لآفاق أخرى لم يدركها هو في حدود خبراته السابقة، ولا من علموه، هذه الفرص غالبًا ما نطمح إليها عند تفكيرنا في التعليم الأكاديمي المتخصص لفنون الدراما المسرحية بالمعهد والكليات المختلفة، فهل تعبر مخرجات هذه المؤسسات عن طموحات الحالمين؟

يمثل هذا المقال "شهادة" على أزمة تعليم الفنون الدرامية المسرحية في مصر، والشاهد هنا، كاتب هذه السطور، تَعلم ولا يزال يُعلِم في قسم علوم المسرح بكلية الآداب - جامعة حلوان، وحصل على الماجستير في معهد النقد الفني بأكاديمية الفنون، وعلى الدكتوراه في قسم الدراسات المسرحية بكلية الآداب - جامعة الإسكندرية، فضلاً عن ما قدمه من محاضرات وندوات وأبحاث وتدريبات في مؤسسات وفعاليات مختلفة داخل وخارج مصر، وهذا ليس استعراضًا لموجز السيرة الذاتية، بقدر ما هو تقديم لبعض من أهلية الشاهد أمام القارئ، وبناء عليه سيتجاوز أدلة إثبات وجود الأزمة، بل سيرجئ الحديث عن علامات الأزمة في أداء الطالب، وأداء المعلم/المدرب/المثقف/المربي، وسيركز هنا على بعض النقاط الكاشفة للأزمة في بعض المؤسسات التعليمية الدرامية وما يحكمها من أنظمة.

المعهد العالي للفنون المسرحية، قسم علوم المسرح، قسم الدراسات المسرحية، هذه أسماء بعض المؤسسات التعليمة الدرامية الكبرى في مصر، وأسماؤها كاشفة لجانب من جوانب الأزمة، فالمعهد لا يقوم بتدريس وتدريب كل الفنون المسرحية، فكل ما يقدم على مسرح أو مساحة فارغة تنوب عنه هو مسرحي، وعليه ففنون السيرك، وألعاب الحواة، في الحواري والأزقة، وكل فنون الرقص، والغناء، والقاء الشعر، وكل ما يُقدم استعراضًا لمواهب فردية أو جماعية أمام جمهور، هو فنون مسرحية، لكن المعهد لا يُعلم، ولا يُدرب، تلاميذه على كل هذه الفنون، وأساتذته ليسوا متخصصين في كل هذه الفنون، إنما هم متخصصون في فنون الدراما المسرحية، وهي الفنون التي تقوم على أساس ما يقدم لجمهوره تمثيلاً، فكل ما يصنع/ينتج ليقدم تمثيلاً هو درامي، بدءًا من تأليف النص، وانتهاءً بآخر فعل في العرض المسرحي الحي أمام جمهوره، هذه هي الدراما، وبناء عليه فما يقدم تمثيلاً في السينما هو دراما سينمائية، وليس سينما روائية، فالرواية أدب تكتب لتقرأ كالشعر والقصة، لكن الدراما تكتب لتمثل، لذلك فالسيناريو والحوار هو النص الدرامي السينمائي أو التليفزيوني، وكذلك ما يقدم تمثيلاً في الإذاعة هو دراما إذاعية، والحديث عن مشكلة الدراما مع كل من الأدب والمسرح تحتاج لكتابات مستقلة، لكن الخلاصة هنا هو أن الاسم الأكثر دقة وتعبيرًا عما يتم تدريسه داخل المعهد هو المعهد العالي للدراما المسرحية.

وبالمثل في قسم علوم المسرح بكلية الآداب -جامعة حلوان، فبغض النظر عن عبثية انتماء قسم تعليم الدراما المسرحية لكلية الآداب، فالدراما ليست أدبًا كما سبق، لكن منطق كلية الآداب نفسه وانتماء العديد من أقسامها إليها يحتاج لمراجعة كبرى، وكتابة مستقلة أيضًا، وبغض النظر عن كوميديا العديد من المسميات، مثل مهندس ديكور أو ممثل أو مخرج خريج كلية الآداب، فإن الكاشف الأكبر هنا هو كلمة/مصطلح علوم، أي "علوم مسرح" كان يقصدها منشئ هذا القسم؟ ولماذا لم يكتف حتى بمحاكاة أقسام مثل علم نفس، وعلم اجتماع، أو اقتدى بالأقرب مثل قسم إعلام أو آثار؟

ما علوم المسرح؟ ومن مؤسسها الأول، وأيقونتها الكبرى كفرويد بالنسبة لعلم النفس مثلاً؟ ومن روادها؟ أم أن لهذا القسم ماهية ورؤية مختلفة وجديدة؟ تنشئ وتتصدر وتتحمل مسؤولية الطليعة الثورية التعليمية الدرامية؟ كم نتمنى! هل يقوم القسم على استكشاف قواعد علمية جديدة وحاكمة للممارسات الا بداعية والنقدية والتعليمية والتدريبية والبحثية.. للدراما المسرحية؟ هل يتبع القسم مناهج مثل المنهج التجريبي في البحث والتدريس والتدريب؟ هل يخرج على العالم في مؤتمره السنوي بالنتائج "العلمية" الجديدة المؤثرة والمطورة والمغيرة لماهية وفاعلية الممارسات الدرامية المسرحية؟ على الأقل هل يحرص على أن تكون خطته البحثية لتسجيل أبحاث الماجستير والدكتوراه وما بعدها في إطار "علمي" بمعنى محدد للمصطلح، ويمكن لكبار أساتذة القسم إعلانه والاجابة على الأسئلة بخصوصه؟ بصفتي خريج في القسم، ثم واحد من هيئته منذ ١٩٩٧ فأنا أشهد بأن هذا ليس موجودًا، وأن هذا الاسم ليس اسمًا دقيقًا، وهو ما يمكن تطبيقه كذلك على قسم "الدراسات المسرحية" بكلية الآداب جامعة الإسكندرية، مع اختلاف التفاصيل بين مسمى "علوم" ومسمى "دراسات".

وقبل أن نتحدث عن المناهج، والمباني، والإمكانات، والميزانيات، والقوانين واللوائح، والمشاريع البحثية وفرق البحث، منذ البحث العلمي الأساسي/الابتدائي للطالب، وحتى أبحاث ما بعد الدكتوراه، وقبل أن نتحدث عن النظام التعليمي الدرامي، ومكانته في النظام العام من حيث تميزه وتحرره، وقبل أن نتحدث عن علاقة التعليم بفرص العمل، وعن الصراع بين المعهد وباقي المؤسسات، وتعالي خريجي وأساتذة المعهد على غير المعهديين، وتذلل غير المعهديين للحصول على فرصة، بل والحصول على عضوية النقابة، أو اللجوء للقضاء، أو اضطرارهم لدفع ألاف الجنيهات لاستخراج "الكارنيه" بحجة دفع المتأخرات التي تسبب فيها تعنت النقابة، ورفضها لكل من تخرج في غير المعهد، وقبل الحديث عن الهوة ما بين المعروض من الخريجين، والطلب عليهم في سوق الدراما، بل وتفضيل الأجانب وغير المتخصصين عليهم... إلخ قبل الحديث عن كل هذا دعنا نقف أمام بديهيات التقسيم الأساسي لأقسام المعهد، وشعب أقسام المسرح منذ سنوات بعيدة.

مثلما هو الحال في الاسم الذي ليس على مسمى، تجد التقسيمات غير المعبرة عن حقيقة ما يتم تدريسه من ناحية، والتصاق بعض التخصصات عبثًا من ناحية ثانية، وإطلاق أسماء على تخصص وهمي من ناحية ثالثة.

ففي المعهد ومن بعده كليات الآداب، تجد توأمًا ملتصقًا بالباطل يسمى التمثيل والإخراج، ولا يمكن أن تجد مبررًا علميًا في القرن الحادي والعشرين على هذا الاقتران، فإن كان يمكن للمرء أن يمثل ويخرج في الوقت نفسه، فهو يؤلف ويخرج أيضًا، ويصمم السينوجرافيا ويخرج أيضًا، ويغني ويرقص ويمارس فنونًا أخرى بل وممارسات غير فنية عديدة في حياته، أفي أي من هذا مبررًا لالتصاق التمثيل بالإخراج في اسم القسم أو الشعبة؟ ثم إن الحقيقي أنه لا يتم تدريس التخصصين بالقدر نفسه في أي قسم أو شعبة تحمل هذا الاسم، بل إن التمثيل هو المستحوذ على غالبية المواد والساعات التدريسية، لكن المعهد أقر هذا الخطأ، ثم اتبعته الأقسام "العلمية" الواحد تلو الآخر بمنطق هذا ما وجدنا عليه أباءنا!

وهناك قسم آخر يحمل اسم "خطأ شائع" وهو قسم/شعبة الدراما والنقد، فالنقد يدرسه من سيصبح ناقدًا، فما هي وظيفة من يدرس "الدراما"؟ وما هي الدراما؟ الدراما هي كل ما يقدم تمثيلاً كما سبق قوله، ومن ثَم الاسم الأدق للمعهد والأقسام هو الدراما المسرحية، وليس فنون المسرح ولا علوم ولا دراسات المسرح. ولذلك تجد أن ما يدرس فيما يسمى بقسم/شعبة "الدراما والنقد" في أغلبه يخص النقد، ومثلما الإخراج، فلا يتم تدريس التأليف مثلاً إلا في مادة واحدة في العام أو الفصل الدراسي، ومن ثَم يجب استقلال قسم النقد، وإنشاء قسم آخر جديد خاص بالتأليف، ينتج للمجتمع والسوق مؤلفًا دراميًا مسرحيًا محترفًا، ويمكنك التمعن ببساطة في أحوال المؤلفين الموجودين، وكيف تم إنتاج كل واحد منهم كمؤلف، ومدى إسهام التعليم في ذلك، ولماذا لم يصبح السواد الأعظم من خريجي ما يسمى بـ "الدراما والنقد" مؤلفين؟

أما قسم/ شعبة الديكور والتي تسمى أحيانًا سينوجرافيا، فقد تأخر جدًا تقسيمها وتخصيص أقسام وشعب خاصة بالأزياء والإضاءة والإكسسوار، وما يستحدثه تطور الممارسة الدرامية المسرحية، وتطور التكنولوجيا عامة، وفي هذه الحالة سيدرس الطالب كل الأسس السينوجرافية مثلما هو الحال في كلية الطب مثلاً، لكنه سيتخصص ليدرس كل ما يحتاجه سوق العمل في تخصصه الدقيق، وبالمثل يمكنك السؤال عن نجوم وعلامات تصميم الإضاءة مثلاً في عموم الممارسة الدرامية المسرحية المصرية، والبحث في لماذا وكيف أصبح فلان، أو لم يصبح كل هؤلاء، ما بين خريجين متخصصين، وهواة مجتهدين.

إذن نحن نحتاج إلى مجموعة أقسام وشعب مستقلة لكل من التمثيل والإخراج والتأليف والنقد والديكور والأزياء والإضاءة وما يمكن أن يضاف بناءً على تحمل كل مؤسسة لمسؤوليتها في تطوير هيكلها الأساسي، لكن هذا سيفتح الباب على كارثة كبرى يكشفها السؤال التالي: من يمكنه أن يتحمل مسؤولية تأسيس قسم/مصنع مستقل للإخراج أو التأليف مثلاً؟ وهل لدينا ما يكفي من المناهج والكفاءات التي تمكننا من وضع خطة وتنفيذها لإنتاج مخرج محترف أو مؤلف محترف، الإجابة: لا.

وهذا ما يحيلنا لضرورة تجهيز عدد كاف من المعلمين/المدربين/المثقفين/المربين، وأيضًا عدد كاف من المناهج التعليمية الا بداعية، هذا التجهيز لا بد وأن يسير على خطين متوازيين: أولهما: عبر تطوير المعلمين والمناهج الموجودين بالفعل، والثاني: عبر ضبط مسار وتهيئة مناهج جديدة، مع تهيئة المقبلين الجدد من المعيدين، وهو ما يتطلب تجهيزهم طلابًا من قبل، وللمسار الأول عدة أنظمة يمكن اتباعها، منها نظام معمول به بالفعل، وهو ما يسمى بدورات "تنمية قدرات أعضاء هيئة التدريس" وللمسار الثاني أنظمة متعددة أيضًا، سأقتصر منها على ما يسمى بـ "الخطة البحثية للقسم العلمي"

كورونا كشفنا! وفضح أكاذيبنا! فلا الطالب يعلم كيف يتعلم، ولا الأستاذ المختبئ في قاعة الدرس، يمارس سلطاته آمنًا مطمئنًا، استطاع أن يكشف عن مستواه وقدراته على الملأ "أونلاين" ولا زلنا نكابر في أن نعترف بالأزمة، ونخترع أطرًا شكلية لتمرير ممارسات صورية للعمليات التعليمية، إلا من رحم ربي من المجتهدين الصادقين، فأين يا ترى جدوى ما يسمى بدورات تنمية قدرات أعضاء هيئة التدريس، التي يعرف الجميع أن الجميع يذهب إليها مضطرًا كارهًا، ويتلقاها بملل وتمرير للوقت ولسان حاله يقول خذوا ما تريدونه من أموال، واعطونا ترقياتنا لنستكمل مسيرتنا على المنوال نفسه بلا تنمية ولا تطوير.

أعترف شخصيًّا باحتياجي ورجائي لأن أحصل على العديد من المعارف والمهارات في مجالات مختلفة لتساعدني في التعامل مع الطلاب والمناهج والمعارف المختلفة ونظم الامتحانات وغيرها، لكني نادرًا ما أحصل - وأنا الحريص - على هكذا نتائج من تلك الدورات الإجبارية، فضلاً عن أني كمتخصص في الدراما المسرحية لا بد وأن أتدرب في غالبية الدورات على ما يصب في تخصصي وممارستي التعليمية والتدريبية والبحثية، لكن هذا غير ما يحدث للأسف!

المسار الثاني الخاص بإنتاج مناهج جديدة تمكننا من إنتاج مبدعين محترفين في فنون الدراما المختلفة، هو توجيه البحث العلمي ناحية ما نحتاج إليه من مناهج استكشافية وتعليمية وتدريبية، فبالرغم من وجود عشرات الكتب في بعض التخصصات، فإن ما يعتبر منهجي تعليمًا وتدريبًا نادرًا جدًا، وهو في الغالب مترجم، وللترجمة في مجال الدراما حديث كاشف لأزمات أخرى، فليس لدينا - على سبيل المثال - كتاب تعليمي وتدريبي منهجي واحد لتعليم النقد التطبيقي الدرامي المسرحي، أسسه ومناهجه المختلفة وأخطائه الشائعة، فضلاً عن تمييزه عن غيره من أنواع النقد الدرامي، وأنواع النقد المسرحي، ففيما تكتب الأبحاث إذن؟

سيقول قائل إن بعض الأقسام وضعت خططًا بحثية، وأجبروا الباحثين على الاختيار منها، أكان هذا هو الحل؟ الإجابة لا للأسف الشديد؛ فالبعض يعتمد الحق أحيانًا، لكنهم يريدون به الباطل، لتعطيل فلان، أو فرض فلان للإشراف على فلان، والحجة البراقة هي "الخطة البحثية" واحتياجات القسم العلمي، هذه الخطة البحثية لا يمكن أن يتم تحديدها سلطويًا، ولا ادعاءً من البعض بامتلاك الحقائق المطلقة، والعلم العلوي الخالص المقدس، إنما تقوم الأقسام والمعاهد والكليات بعمل مؤتمرها السنوي وتخصصه - مرة تلو أخرى - لتعليم الدراما المسرحية ككل، أو لتعليم تخصص بعينه، ونستمر في العمل بجد ووضوح معلن حتى نصل لنتائج نشارك بها زملائنا في كل المؤسسات بلا تعالي ولا صراع أجوف.

ومع إرجائي الحديث عن علامات الأزمة في أداء كل من المعلم والطالب لمقالات أخرى، فإن النظام المتبع في بعض المؤسسات الدرامية بخصوص الأساتذة/الصناع/المدربين.. كاشفة لبعض أسباب ما نحن فيه من أزمة، فالمؤسسات التي فتحت باب التعيينات أو الانتدابات فيها لغير المتخصصين، هذه المؤسسات وصناعاتها ومنتجاتها بالقطع تعاني، كما يعاني هؤلاء القادمين أنفسهم من أقسام اللغات والفلسفة وفنون جميلة...إلخ مع احترامي لكل المعلمين، خاصة المجتهدين في تعليم تلاميذهم شيئًا، وهم بالقطع لا يعدمون ما يقدمونه، لكن الطبيب أو السياسي أو الاقتصادي المثقف لن يعدم خطابًا لامعًا عن الدراما أيضًا، وإلا فلم لا يفتح أي تخصص باب التعيينات من الأقسام المجاورة أو المشابهة أو المتماسة معه؟ هذا التساؤل في ذاته كاشف جدًا للنقطة التي نقف فيها ونتحدث منها وعنها!

كما تعاني العملية الإنتاجية/التعليمية مما يعانيه المعلم المتخصص الذي لا يمارس - بشكل معقول مستمر -أيًا من فنون الدراما التي يعلمها لتلاميذه، فما بالك بمن لم يخبرها أو يجربها لمرة في حياته، ماذا ننتظر من معلم لأي من فنون الدراما لم يقف على خشبة مسرح بأي صفة، ولم يكتب نصًا أيًا كان مستواه، ولم يكتب مقالً أحيانًا، أو يتحدث في ندوة؟! ماذا ننتظر أن ينتج مصنع هذه ماكيناته؟ مبدعًا محترفًا؟ وناقدًا موهوبًا موسوعيًّا؟!

وعلى جانب آخر فإن إفقار وإذلال المؤسسة التعليمية وما علاها من مؤسسات لهذا المعلم لا ينبئ بخير فيما يتعلق بأدائه وعطائه، فالماكينات الصدئة تصدر ضجيجًا أكثر مما تنتج ما ينفع ويبهج، فلا مفر أمام المؤسسة من إنقاذ المعلم/المدرب/الباحث من الفقر والقهر والذل، فعبثية ربط المعلم بالباحث، وإجبار المعلم أن يكون هو نفسه الباحث، تدفع الغالبية لعمل أبحاث تستهدف ترقيته هو لا ترقية العلم، ولقد تواطأ الكثيرون ولو بنسب على تمرير ما لا يجوز تمريره من تعيينات وأبحاث ومنح درجات، بل وتعطيل وإحباط وتدمير كفاءات، ولا يزال المشرع مصرًا على التمادي في أن يربط بين البحث العلمي والتعليم، بحيث يجب على المعلم أن يكون باحثًا، وهو ما لا أراه واجبًا ولا منطقيًا، وليس بالضرورة أن تجتمع موهبة التعليم والتدريب مع موهبة البحث في الإنسان نفسه، لكن لهذا أيضًا حديث مستقل، خاصة وأنه يتم الآن الاعداد لتطوير سيء لقانون تنظيم الجامعات يزيد العبء على المعلم بصفته باحثًا دون أن يساعده، فإذا أراد المشرع ومن خلفه المسؤولون عن النظام الثقافي والتعليمي والعلمي لهذا المعلم المدرب الباحث أن يستقيم ويتقدم ومن ثَم يسهم في تعليم أجيال وإنتاج مناهج وحلول، فلا مفر من احترامه وحفظ آدميته وتأمين حريته، غير ذلك فكيف ومن نلوم على هذا المنتج الموصوف بأنه علمي وتعلوه الأتربة على أرفف مكتبات الأقسام والكليات يحمل درجات الماجستير والدكتوراه وما بعدهما من أبحاث ترقي الأساتذة؟!

ما الذي نريده من تعليم الدراما؟ وإلى أين نريد أن نصل به؟ ما الهدف؟ هدف الطالب، والمؤسسة، والمجتمع، والنظام التعليمي، والعلمي/البحثي، والثقافي، والنظام العام؟ أهناك هدف؟ فإذا كان فما هي الخطة؟

الموضوع أكبر من أن يستوعبه مقال، ورغم اختيار جانب واحد من جوانب أزمة المسرح المصري، وتحديد الحديث عن أزمة تعليم الدراما المسرحية، ثم تحديده أكثر بأزمة مؤسسات التعليم، ثم اختيار نقاط دون غيرها ونماذج من المؤسسات دون غيرها، بالرغم من كل هذه المحاولات فإن الأزمة أكبر بكثير من هذا المقال، ومن ملف واحد، ومن مؤتمر واحد، إنه إرث تراكمي، وعلينا بذل الكثير من الوقت والجهد الصادق لإزالة هذا الركام، والكشف عن الحقيقة، لكن قبلا لا بد من الاعتراف بالأزمة، وبمسؤولية كل مسؤول عنها، وأن نعترف جميعًا بنقاط ضعفنا وما نحتاج إليه من أسباب القوة، أملا في حل الأزمة بالتدريج إن صدقت النوايا.