ثقافات

دينا عزت سليمان

أين اختفت الفساتين؟ كود الملابس المفترض الذي يقمع النساء

2021.04.01

أين اختفت الفساتين؟ كود الملابس المفترض الذي يقمع النساء

من حين لآخر، تظهر على مواقع التواصل الاجتماعي دعوات نسائية لارتداء الفساتين والسير بها في الشارع، بعض أن أصبحت (أي الفساتين) مدانة/ مرفوضة/ غريبة بين أزياء النساء!

ومع بداية موسم الامتحانات الجامعية هذا العام، قالت إحدى الطالبات بجامعة طنطا، إنها تعرضت للتعنيف من إحدى المشرفات على لجنة الامتحانات، بسبب ارتدائها فستانًا في لجنة الامتحان! ورغم أن الفستان الذي ظهرت به الفتاة المعنفة في بعض الصور المتداولة لها على مواقع التواصل الاجتماعي، كان متسمًا بكل مقتضيات التحفظ -أو الحشمة، من حيث كونه فستانًا طويلاً، وبأكمام طويلة، وبلا فتحات، وواسع، وباللونين الأبيض والأسود، فإن المشرفة على لجنة الامتحانات وجدت أن من حقها أن تسأل الطالبة الجامعية "فين البنطلون"؟

وقد تسببت الضجة التي أحدثتها رواية الفتاة، قبل أن تتطور بعد ذلك، في أن يقوم رئيس الجامعة بإحالة واقعة الطالبة إلى النيابة، مطالبا الجميع بعدم التعرض للموضوع حتى يتم الانتهاء من التحقيق فيها.

فلماذا أصبحت الفساتين ملابس نسائية مدانة، أو مستغربة على الأقل؟ هل يتعلق الأمر بوجود "كود" لملابس الطلاب داخل الجامعة وغيرها من المؤسسات، أم أن نمط اختيار النساء لملابسهن قد تغير تاريخيًّا، بفعل الموضة، أو لأسباب عملية، ومتى حدث ذلك؟ وهل يرتبط بتغيرات تاريخية حدثت في المجتمع المصري، تزامن مع ما يعرف بالصحوة الإسلامية خلال عقد التسعينيات؟ وإذا كان كذلك، فكثير من الأصوات الدينية تحرم ارتداء المرأة للبنطلون أيضًا، باعتباره "يجسم جسدها"، أم أن الأمر مرتبط بتغير في الثقافة العامة، أعطى السلطة للذكور لتحديد ما يصح وما لا يصح من ملابس للنساء؟

في البداية تعلق لبنى درويش، مسؤول ملف حقوق النساء في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، على حادث طالبة جامعة طنطا، وإحالة القضية التي أثارتها إلى النيابة، قائلة إنه سيكون من الصعوبة أن يجد أي محقق مخالفة في الفستان التي كانت الطالبة الجامعية ترتديه، مع أي من القيود التي تفرضها عديد من الجامعات على ما يمكن للطلاب والطالبات ارتدائه في أثناء الوجود بالحرم الجامعي.

وتضيف: "نعم، هناك قيود على ما يمكن للطالبات والطلاب ارتداؤه، وتختلف القيود من جامعة إلى أخرى، فبعض الجامعات تمنع الفتيات من ارتداء ملابس بلا أكمام، والبعض الآخر يمنع التنورات القصيرة أو الصنادل المفتوحة، وكل الجامعات تمنع الشورت وبنطلونات الجينز التي بها أجزاء مقطعة".

درويش نفسها منعت من دخول جامعة الإسكندرية عام ٢٠٠٤ لأداء أحد الامتحانات لأنها كانت ترتدي تنورة لا تغطي ركبتيها بالكامل!

وتقول مسؤول ملف حقوق النساء في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية: ليس هناك ما يمنع الطالبات الجامعيات من ارتداء الفساتين، ولا أظن أن الأمر يرتبط بأنها ترتدي فستانًا ولا ترتدي بنطلونًا، قدر ما يرتبط بكونها فتاة شابة ومتأنقة بصورة تحتفي فيها بنفسها، هذا هو الأمر بالأساس، في رأيي.. هذه الفتاة كانت تعلن بما ترتديه بأنها فتاة شابة وجميلة وأنها سعيدة كونها شابة وجميلة.

وتقول عفاف، طالبة بجامعة طنطا في السنة النهائية بكلية الآداب، الكلية نفسها التي تعرضت فيها الطالبة للتعنيف بسبب فستانها، أن الفتاة المعنفة "بدت مختلفة بالتأكيد، هي مش محجبة وشعرها طويل ومفرود ولابسة فستان، ما حدش بيروح الجامعة كده".

عفاف ترى أيضًا أنه من النادر أن تكون هناك فتاة "مسلمة مش محجبة في الجامعة كلها.. احنا بنعرف البنات المسيحيات بأنهم مش محجبات، لكن هم مش بيلبسوا فساتين كده، بيلبسو بنطلونات وعليها قمصان أو بلوزات طويلة وخلاص".

حزام العفة!

تقول سامية عابدين التي تعمل في مشغل ملابس بالقاهرة إن البنطلون اليوم هو القطعة الأبرز في قائمة اختيارات كل السيدات في مصر، وتضيف "ممكن الموضوع ده يكون بدأ آخر التسعينيات أو أول الألفية لما كل الستات بقت تلبس بنطلونات.. بنطلونات وعليها بلوزات طويلة وواسعة، البلوزة تغطي بعد الركبة والبنطلون يكون واسعة طبعًا". قبل تلك الفترة، بحسب سامية، لم يكن البنطلون عنصرًا أساسيًّا في ملابس السيدات الجاهزة أو تلك التي تقوم النساء بحياكتها بصورة مستقلة. تحكي "لغاية آخر التمانينات وحتى نص التسعينيات، كان قليل قوي اللي تلبس بنطلون إلا لو كانت غنية وبتلبس على الموضة قوي، أو بنت في الجامعة من الطبقات الأعلى وتلبس بنطلون جينز أو بنطلون جاهز، وفي الأغلب بيكون مستورد، قبل كده كل الستات سواء محجبات أو مش محجبات كانت تلبس جونلة وبلوزة، وقبل كمان كانت الفساتين دايمًا أساسية في ملابس السيدات.. أنا باتكلم على كل الطبقات العادية مش على الطبقات الغنية، باتكلم على البنات والستات اللي بتروح الدراسة والشغل".

لا تعرف سامية سببًا محددًا للمساحة التي احتلتها البنطلونات في دواليب النساء في مصر، خاصة في القاهرة "الحقيقة قبل كده كل الخياطات اللي اشتغلت معهم كانوا بيقولوا لي إن الفستان كان أهم حاجة بالنسبة للزبونة، سواء اللي بتشتري جاهز أو بتخيط، ولا حتى اللي كانت بتجيب مجلة بوردا وتخيط لنفسها في البيت.. في السبعينات البنطلونات طلعت موضة لكن مش كل الستات كانت تلبسها، بس الست الرفيعة أو البنت الصغيرة، لكن أنا من خلال شغلي في العشرين سنة اللي فاتت بشوف إن الستات كلها بتلبس البنطلونات.. يمكن علشان الستات بتحس إنها متغطية قوي بالبنطلون ومش ممكن تكون مكشوفة، خصوصًا يعني إن الستات بتلبس البنطلونات مش على الموضة زي زمان، فبيكون أو بنطلون جينز واسع أو بنطلون قماش بردو واسع وفي الحالتين في الأغلب بيكون فوقهم بلوزة طويلة - تونيك يعني".

وتتفق هند فؤاد أستاذ علم الاجتماع المساعد بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية مع ربط الانتشار الواسع لارتداء النساء للبنطلونات مع احتياج النساء "للراحة في أثناء الحركة: في الحقيقة لا يجب أبدًا أن نقول إن النساء ترتدي البنطلونات أو غير ذلك من الملابس لتفادي التحرش مثلاً، لأن هذا القول يدعم النظرية التي تقول إن اختيارات النساء للملابس يمكن أن تكون بمعنى ما مشجعة أو مبيحة للتحرش وهذا أمر مرفوض، وتضيف "من الطبيعي أن كل إنسان في أثناء العمل والحركة والتسوق وغير ذلك من النشاطات اليومية أن يميل لاختيارات الملابس المريحة".

وفي كل الأحوال، بحسب هند، هناك أيضًا البعد الاقتصادي الذي يجعل من بنطلون جينز واحد قطعة أساسية تكمل بعدد قليل من الجاكيتات أو البلوزات دون الحاجة لحياكة فساتين وتاييرات عديدة. وفي المجمل فإن اختيارات النساء لملابسها في أي مجتمع وفي أي فترة زمنية ترتبط بعدة أمور، ودائمًا ما تكون الاعتبارات الاقتصادية أساسية، دون أن ننفي الاعتبارات الاجتماعية التي قد تجعل النساء تشعر براحة أكبر لارتداء البنطلونات.

لكن غادة، مدربة تمارين اللياقة البدنية بإحدى الصالات الرياضية الكبرى بشرق القاهرة، لا ترجع اختيارها للبس البنطلون بصورة دائمة مرتبط بالراحة أو حتى كونه مناسب لقوامها بل ببساطة لإصرار أسرتها على ذلك. والد غادة، موظف في الحكومة ووالدتها سيدة منزل، وخلال سنوات التعليم، حيث كان الزي المدرسي لها يعتمد التنورة، كان والداها يصران أن ترتدي بنطلون تحت التنورة.

"لازم الجونلة تكون واسعة ولازم تحتها بنطلون، في الأول ما كانش بابا بيوافق ألبس بنطلون بس و أنا خارجة، لكن مع الوقت بقى بيوافق بشرط ألبس عليها حاجة طويلة لقرب الركبة، وتكون واسعة، وده نفس الشرط اللي خطيبي وافق على أساسه إني أفضل في الشغل"، بحسب غادة، التي رأت أن الارتداء الجبري للبنطلون لم يكن بحال أقسى من بتر أعضائها التناسلية -فيما يوصف بختان النساء - التي تعرضت لها بعد السنة الأولى الابتدائية بإحدى عيادات الحي الذي تقطنه في شرق القاهرة كي تكون "بنت كويسة!" ولم يكن هذا كافيًا، بعد تعرضها لهذه العملية القاسية، أصبح لزامًا عليها أن ترتدي بنطلون تحت ملابسها في كل مرة تغادر المنزل، وعند بلوغها مرحلة الحيض أصبح عليها حتمًا تغطية شعرها "دي ماكانش حاجة فيها كلام".

وتضيف "الحجاب ده أساسي علشان أخرج من البيت وأفضل في المدرسة، أنا ماكنتش عايزة أتحجب، لكن أنا من منطقة شعبية، ما ينفعش ما أتحجبش، فلازم حجاب ولازم بنطلون - وطبعًا لازم لبس واسع، المناطق الشعبية لها ظروفها".

سياقات اجتماعية/ اقتصادية

وتتفق درويش على أن السياقات المجتمعية- الاقتصادية لا يمكن إغفالها في تقدير أسباب النساء في اختيار ملابسهم، وأيضًا في توقع النساء للطريقة التي ينظر بها المجتمع بل تنظر بها السلطات الرسمية إليهم على أساس ملابسهم. وتضيف أن ما تعرضت له الفتيات اللائي كان لهم حضور قوي على التيك-توك من حملة انتقادات، وإن جاء معتمدًا على مادة قانونية ترتبط بحماية قيم الأسرة، وهي المادة ٢٥ من القانون ١٧٥ الذي نص المشرع فيها على فرض الحماية الجنائية للحفاظ على قيم الأسرة المصرية، فإنه "جاء بالأساس اتصالاً بالسياق الاجتماعي- الاقتصادي للفتيات.. نعم الدولة تقول إنها تعمل على وقف التحرش وإنها تتخذ السبل القانونية لوقف التحرش، ولكن السؤال هنا من هي الفتاة التي تتحرك الدولة لحمايتها إذا ما تعرضت للتحرش؟ الإجابة ببساطة هي الفتاة التي تعتقد الدولة أنها فتاة ملتزمة بنمط معين من السلوك والتي ترتدي نمطًا معينًا من الملابس، غير ذلك فإن الفتاة لا ينظر إليها على أنها مؤدبة، ومن ثَم فعليًّا لا ينظر إليها باعتبارها تستحق الحماية". وبحسب درويش فإن الوضع الاقتصادي - الاجتماعي للفتاة هو أحد عناصر ديناميكيات القوة الحاكمة، ولكنها ليست العنصر الوحيد. وإن قرار إخلاء سبيل كل المتهمين في القضية المعروفة إعلاميًّا باسم قضية فيرمونت في وقت سابق من العام الجاري، بعد إسقاط تهم الاغتصاب الجماعي عن مجموعة من الشباب من أبناء الشخصيات المرموقة مجتمعيًّا رغم وجود شهود وغير ذلك من الأدلة، جاء رغم أن الفتيات اللاتي توجهن بالتهم إليهم تكن فتيات فقيرات، لكن ديناميكية القوة المجتمعية كانت في صالح أبناء أصحاب النفوذ. ولا يبدو موقف الدولة مختلفًا عن موقف مجمل المجتمع الذي يقرر موقفه من التعاطف مع فتاة تعرضت لأذى أو لا بناء على ما ترتديه، ومن الأمثلة الأبرز لذلك ما تعرضت له فتاة من سحل وتعرية جزء من جسدها من قبل قوات إنفاذ القانون في أثناء مشاركتها في إحدى التظاهرات السياسية في وسط المدينة، والتي لم يتعاطف معها قطاع واسع من المجتمع رغم كونها محجبة وترتدي عباية وتحتها بنطلون إلا لأنها لا ترتدي بلوزة ضيقة تحت العباية فتسبب سحلها في الكشف عن صدريتها الزرقاء، وكان لون الصدرية الذي يتجاوز اللونين الابيض أو البيج المقبولين للفتيات في سنها محل تعليقات قاسية!

هل تمتلك النساء أجسادهن؟

تقول مريم وحيد، متخصصة العلوم السياسية التي حصلت على درجة الماجستير من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، إن التعامل مع فكرة الجسد وضرورة السيطرة عليه هي فكرة سياسية بامتياز، فعلى سبيل المثال "الدولة هي جسد سياسي والمواطنين في الدولة هم أعضاء لهذا الجسد بينما الحاكم هو قلب هذا الجسد والجزء الأهم فيه".

وتضيف أن ثورة يناير ٢٠١١ مثلت فعليًّا جسدًا ثوريًّا في مواجهة الجسد الحاكم، وكان ينبغي أن تكون الغلبة لجسد دون الآخر، والمرأة، وبوصفها جزءًا من الجسد الجديد السياسي الناشئ بعد مشاركتها الواضحة والمهمة في تظاهرات ٢٠١٣، أصبح لها حقوق أكثر وضوحا عما كان الحال عليه قبل ثورة يناير، حيث كانت المرأة أيضًا جزءًا من الجسد الثوري، وتضيف "أظن أصبح من الواضح أن النساء أصبحت لهن مساحة أكبر في التواجد في الوظائف العامة والقيادية، وفي عدد المقاعد المنوطة بهن في المجالس التشريعية وفي التشكيلات التنفيذية مثل الحكومة وغيرها".

وتضيف إنه فيما يتعلق بسيطرة النساء على أجسادهن فهذا أمر يمكن أن يتحقق بالتوازي مع وجود النساء في مساحات أوسع في المجتمع "ولكن من المهم أيضًا أن ندرك أن السعي للسيطرة على أجساد النساء لا تتم دومًا بدوافع مثل الفضيلة أو الدين، بل تتم بأشكال مختلفة وتحت عناوين مختلفة منها الجمال والجسم المثالي، وهذا ما نراه من خلال تأثير تطبيقات على التواصل الاجتماعي مثل الإنستاجرام التي تسعى لطرح شكل مثالي لجسد النساء أو ملابس مثالية لأجساد النساء". وتقول هايدي، الطالبة بإحدى الجامعات الاجنبية بالقاهرة، أنها يمكن لها أن ترتدي أي فستان يعجبها في أثناء توجهها للجامعة، كما يمكن لها أن تختار أي بنطلون سواء كان فضفاضًا أو غير ذلك، وأن أسرتها لا تتدخل فيما تختاره من ملابس وأنها لديها القدرة المالية التي تمكنها من شراء ما يعجبها من الملابس، ولكن الأمر الذي يشغلها أن تبدو رشيقة بما يكفي. عند التحاقها بالجامعة، قبل عامين، لم تكن هايدي تعاني من السمنة، فكان وزنها ٦٠ كيلو وطولها ١٦٠ سنتيمتر، لكنها اختارت أن تذهب لإخصائي تغذية كي تتخلص من نحو عشر كيلوجرامات لتبدو رشيقة بما يكفي لها. وترفض هايدي القول إنها شأنها شأن الفتيات اللاتي يضطررن للقبول بارتداء ملابس معينة، سواء الحجاب أو البنطلون أو غيره، للحصول على القبول المجتمعي وتفادي التنمر "أنا فعلت ذلك لأن هذا ما قررت أني أريد فعله، لم يجبرني أحد على شيء، ولي زميلات محجبات عن رغبة شخصية، ولا يتعامل أحد معهن على أنهن غريبات، كما أن لي صديقات وزنهن زائد، ولا تمانعن في ذلك، المهم أن يكون القرار لي، سيكون هناك دومًا نماذج مختلفة للجمال - واليوم عكس ما كان الحال عليه من ٢٠ أو ٣٠ سنة، فلم يعد هناك نموذج واحد للجمال، فلم نعد مثلاً، عكس أمهاتنا مضطرات لأن نفرد شعورنا المجعدة". وتقر هايدي أن المزايا الاقتصادية والاجتماعية المتاحة لها تمثل عنصر أساسي في مدى حريتها في الاختيار على عكس فتيات في مساحات اقتصادية اجتماعية مختلفة "طبيعي الفقر يتسبب في أشكال مختلفة للقهر، والنساء دومًا أكثر عرضة للقهر، خصوصًا لو فقيرات". لكنها تضيف أن القهر لا يسير في اتجاه واحد "ممكن واحدة تشوف إن لبس الحجاب قهر لأنها مش عايزة، وممكن واحدة تانية تحس إنها مقهورة انها مش قادرة تحضر عيد ميلاد واحدة صاحبتها لأنها محجبة وعيد الميلاد معمول في مكان مش بيسمح بدخول المحجبات مثلاً".

ولا يعد الحديث عن ملكية النساء لأجسادهن من الأحاديث المقبولة في المجتمع المصري، حتى في العقود الموصوفة مجازًا بعقود ما قبل تبني المجتمع المصري للنهج الوهابي للدين الإسلامي في منتصف الثمانينات مع ارتفاع أعداد المصريين والمصريات العاملين في الخليج ومع انتشار ظاهرة الحجاب بين النساء المسلمات في معظم المساحات المجتمعية بأشكال ودرجات مختلفة، وما تبعه ذلك بالتزام الكثير من السيدات المسيحيات باختيارات أكثر محافظة لملابسهن، وتقول عايدة السيدة المتقاعدة من العمل في أحد البنوك الوطنية إنه مع ارتداء الكثير من زميلاتها في العمل الحجاب في منتصف التسعينيات، لم تعد تشعر بالراحة أن تذهب للبنك وهي مرتدية فستان نص كم في الصيف كما سابقا، فأصبحت تميل أكثر للملابس ذات الأكمام الأطول "علشان ما يبقاش شكلي غريب". وبحسب ثريا، السيدة التي كانت تعمل في التعليم بإحدى المدارس الإعدادية بمصر الجديدة في من منتصف الخمسينيات وحتى الثمانينيات من القرن الماضي "صحيح أنه في السبعينيات مع الموضة كلنا كنا بنلبس قصير، لكن مش زي بعض، احنا في الطبقة المتوسطة كنا نلبس فوق الركبة بكم سنتيمتر بس، لكن الأغنى منا كانت تلبس قصير زي ممثلات السينما". وترفض ثريا نقاش فكرة ما إذا كانت النساء تملك أجسادهن، حسب ما كانت النسوية المصرية الأشهر نوال السعداوي التي غيبها الموت في مارس من هذا العام تصر على ذلك "ما حدش ممتلك جسده، لا رجل ولا ست، أجسامنا ملك ربنا، كلنا.. لكن أقدر أقول إن فعلاً قبل كده لو الواحد كان يلبس قصير أو مفتوح أو على الموضة يعني ما كانش يحمل هم إنه يتعرض لسخافات في الشارع".

وتتفق هالة السيدة الستينية أن ما قدمته الدراما المصرية قبل 5 أعوام عند إذاعة العمل التليفزيوني "ذات" المأخوذ عن عمل أدبي لصنع الله إبراهيم بذات الاسم يمثل باختصار ما قصة كثير من الفتيات المصريات بالتحولات العديدة، بما في ذلك مجال الأزياء. وتضيف إن ذات التي كانت ترتدي ملابس قصيرة وباروكات شقراء لم تكن تمتلك جسدها، ذات كان عليها مثلنا جميعًا أن تتزوج، وكان عليها مثل كثيرات أن تبقي في الزواج مع أنها لم تكن فعليًّا سعيدة، وكان عليها أن تلبي رغبات زوجها الجنسية، حتى وإن كانت لا تستمع معه إطلاقًا، فلم تكن ذات ولم تكن كثيرات منا ممتلكات لأجسادهن "كنا بنلبس على الموضة وصحيح ماحدش كان بيضايقنا واحنا رايحين جايين لكن يمكن البنات المحجبات النهاردا عندهم حرية أكتر تختار تدرس إيه وتختار تتجوز مين وامتى.. مش الكل طبعًا".

سؤال الهوية

بالنسبة لمرام فؤاد، الباحثة في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، فإن واحدة من أهم المشكلات التي حدثت خلال السنوات الثلاثين الماضية، ليست في انتشار أنماط من الملابس المحافظة بوصفها وسيلة لفرض وصاية المجتمع الأخلاقية على النساء، ولكنها وسيلة لاستبدال هوية ثقافية بهوية ثقافية أخرى "انتشار العباية على سبيل المثال، كان سببًا في اختفاء كل أشكال الجلاليب الريفية المتنوعة ليحل محلها شكل واحد مستورد من دول الخليج العربي.. فيه ناس كل اللي يلفت نظرها إن العباية والحجاب فرضوا تغطية أجساد النساء، لكن الحقيقة إنهم فرضوا نمط زي غير مصري، لأن في الأرياف، سواء في الدلتا أو الصعيد، كانت أجساد النساء دومًا متغطية وشعرهن كمان في الأغلب، لكن بطرق مختلفة". وتتفق سامية عابدين مع هذا الرأي "إن مراحل التأثر بالخارج في اختيار الملابس تعددت؛ أي خياطة كانت بتشتغل في الخمسينيات والستينيات تقول إن الزبونة كانت عايزة فستان زي فساتين فاتن حمامة، طبعًا فاتن حمامة كانت بتلبس على أحدث موضة من فرنسا، ومن أواخر التسعينيات الزبونة أصبحت تيجي من الخليج ومعها عباية عايزة تعمل زيها".

وتقول هند فؤاد إن النحر الثقافي الذي تعرضت له أزياء النساء في الأقاليم هو واحد من أكبر الخسائر الثقافية التي عرفها المجتمع خلال السنوات الثلاثين أو الأربعين الماضية "فيما عدا مجتمعات قبلية مغلقة كما في سيناء أو سيوة أو بعض الواحات البعيدة، أصبح هناك شكل واحد للملابس يرتديه الجميع واختفي التنوع ما بين الجلابية في بحري وقبلي وغيره".

وتمثل العروض التي قدمتها فرقة رضا للفنون الشعبية في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين واحدة من الإشارات الأخيرة الباقية على التنوع للملابس التي كانت النساء، بل والرجال أيضًا، يرتدونها حسب المساحات الجغرافية المختلفة، وفي حديث معه أذاعه التليفزيون المصري في نهاية السبعينيات من القرن الماضي، قال الراحل محمود رضا مؤسس الفرقة مع أخيه علي رضا أنه قام بزيارة كل المحافظات ليس فقط لدراسة الرقصات المختلفة بل للتعرف على الملابس المختلفة.

كما قالت مصممة الأزياء المصرية المرموقة شهيرة محرز التي تتخصص في تصميم ملابس مستوحاة من تراث الأزياء المصرية أنها سعت قبل نحو 25 عامًا عندما رصدت اختفاءً تدريجيًّا للجلاليب المتنوعة كانت تميز كل منطقة جغرافية أن تعمل على جمع نماذج من هذه الجلاليب ليكون لديها "كاتالوج" شامل لكل أشكال الأزياء بتنوعها وهي التي تمثل رصيدًا غنيًّا لإبداعات محرز التي ترتديها النساء في مصر والمنطقة والعديد من بلاد العالم.

وتقول هند إن سؤال الهوية سؤال مركب لأنه يتعلق بهوية المرأة في ذاتها، وأيضًا بهويتها الاجتماعية وهويتها الوطنية، وكلها أمور تنعكس دومًا على ما ترتديه أو ما تشعر بالراحة في ارتدائه. لكن، ومع كل هذه الإجابات، أو محاولات الإجابة، هل اختفت الفساتين من الشارع إلى الأبد؟