هموم

يوسف مسلم

إشكالية المؤلف ومراكز القوى في العرض المسرحي المصري

2021.04.01

إشكالية المؤلف ومراكز القوى في العرض المسرحي المصري

أيهما أسبق في تاريخ المسرح؛ الممثل أم المؤلف؟

هذا سؤال محير للغاية، أشبه بسؤال البيضة والفرخة الذي استهلك طاقات عقول أجيال وأجيال، لكن المؤكد أن السؤال الأول ليس بنفس الدرجة من عبثية السؤال الآخر، ولنطرح السؤال بصيغة أخرى؛ رجل المسرح الأول في التاريخ أكان مؤلفًا أم ممثلًا؟ ربما ينتفض البعض الآن صارخًا فيقول "وأين المخرج؟" ودون الولوج في صراعات دائرية الشكل، يونيسكية الطابع ـ نسبة إلى يوجين يونيسكو ـ سأقول ببساطة؛ إن المخرج مهنة مسرحية لم يتجاوز عمرها الثلاثة قرون، بينما المؤلف والممثل وُجدا منذ أكثر من ٢٥٠٠ سنة.

قد يرى البعض أيضًا أن هذا السؤال لا طائل منه إلا استهلاك الوقت، لكن في ظني أن الإجابة عنه تفض اشتباكًا يرهق الحركة المسرحية المصرية ويعوق تقدمها، ويتجلى هذا الاشتباك واضحًا في حالة غياب تفاعلية العمل الجماعي، لصالح محاولات التسيد من قبل أطراف العملية المسرحية كافة.

في البدء كان المؤلف

إن أقدم رجل مسرح عرفه التاريخ هو اليوناني "ثيسبيس" المولود في أوائل القرن السادس ق.م، والذي ابتكر مسرحًا متجولًا على شكل عربة يجرها حصان واحد، تطوف في أرجاء أثينا ليقدم من خلالها عروضه المسرحية التي كان هو ممثلها الوحيد ومؤلفها أيضًا، لكن المؤكد أن ثيسبيس لم يكن الأول تاريخيًّا، فالدراما بشقيها الأرسطيين التراجيديا والكوميديا تعود نشأتها إلى طقوس الاحتفال بالإله "ديونيزيوس"، بل ربما أبعد المسرح المصري القديم والذي اقتصر على الطقس الديني ولم يتحول إلى مسرح دنيوي كمان حدث عند الإغريق، بل أبعد من ذلك أيضًا عبر ظواهر مسرحية عرفها الإنسان البدائي، فالدراسات الأنثروبولوجية تشير إلى أن الإنسان في عصور ما قبل التاريخ قد عرف التمثيل أو فن المحاكاة، حين كان يحاكي أحداثًا من حياته اليومية في صراعه من الوحوش أو مطارداته للفرائس، كشكل من أشكال التفاخر بالذات أمام قبيلته، ومن المحتمل جدًّا ألا يكون ذلك الإنسان قد التزم حرفيًّا بأحداث مغامراته وهو يعرضها أمام أفراد قبيلته، فأغلب الظن أنه أدخل عليها من خياله الكثير كي يثير إعجابهم، لذا فمن المحتمل أنه قد ألَّف حبكة مسبقة مشفوعة بالكثير من عوامل الإثارة، ومن ثَم فأقرب الاحتمالات أن الإنسان عرف التأليف وسبك الحكايات قبل أن يعرف التمثيل، والدليل على ذلك أن أقدم فنون البشرية على الإطلاق هى الأساطير التي كانت المادة الأولية التي نتج عنها فنون كالمسرح والقصة والشعر بل والغناء والموسيقى، حتى الرسم والنحت كانت بدايتهما نابعة من رغبة الإنسان في تدوين أساطيره.

بالتأكيد هذا ليس حقيقة مطلقة، ولا أحاول هنا إثباته كحقيقة بالأساس، لأن ذلك ـ علميًّا وعمليًّا ـ من المستحيل إثباته في مقال صغير كهذا، أو حتى في دراسة مطولة، فالأمر يحتاج عشرات الباحثين في مجالات مختلفة كالأنثروبولوجيا وعلم الجمال وتاريخ المسرح، لكن ما أحاول رصده هو دور المؤلف مقابل عناصر العرض الأخرى.

وإذا واصلنا رصد التطور التاريخي للمسرح سنجد بعد "ثيسبيس" جاء "أيسخيلوس" الذي أضاف الممثل الثاني للعرض المسرحي لينهي بذلك عصر المونولوج، ليبدأ عصر الديالوج وصولًا إلى الإسهامة الثالثة والأكبر؛ وهى إضافة "سوفوكليس" الممثل الثالث للعرض المسرحي والتي فتحت آفاقا متعددة أما تطور العمل المسرحي.

وبهذا نجد أيضًا أن المؤلف كان له الدور الأكبر في صياغة هذا الفن الذي لا يزال صامدًا يأبى الانقراض، محتفظًا لنفسه بقدر باهر من البريق والقدر على التكيف مهما كانت ظروف الزمان والمكان.

الاجتراء على النص

ومن المعلوم أن رولان بارت عندما كتب مقالته الشهيرة "موت المؤلف" كان يقصد بها طرح نظرية جديدة في التلقي مفادها انعدام سلطة المؤلف على نصه في أثناء تلقي القارئ له، فللقارئ مطلق الحرية في تفسير وتأويل النص كيفما شاء، وبالقياس إلى ذلك فإن موت المؤلف في العمل المسرحي ينسحب على العرض كاملًا بكل صنَّاعه، لا على النص المسرحي بشكل مفرد، أي لا سلطة للمؤلف أو للمثل أو للمخرج على الجمهور حال تلقي العرض المسرحي. وهو المعمول به في العالم، بينما في مسرحنا المصري، لا بد من وضع "التاتش" المصري بغية التفرد، أو بالأحرى الفذلكة، فقُتل المؤلف ذاته.

يشهد المسرح المصري ، منذ الستينيات، صراعا كبيرًا بين المؤلف والمخرج، حول مدى صلاحيات المخرج في التصرف بنص المؤلف، وفي هذا السياق أذكر واقعة حدثت في أثناء التحضير لعرض مسرحية "الفرافير" تأليف: يوسف إدريس وإخراج: كرم مطاوع، حين نشب خلافًا بين الاثنين بسبب ما أجراه كرم مطاوع من تعديلات على نص إدريس، إذ ارتأى أن النص المنشور به كثير من الاسترسال المضر بالدراما، فأراد أن يخلصه من هذا الاسترسال ليقدم عرضًا محكمًا، وكاد يصل هذا الخلاف إلى إيقاف التجربة وانسحاب يوسف إدريس منها، وفي هذا الصدد أطلق كرم مطاوع مقولته الشهيرة وهي "إن المخرج هو مؤلف العرض المسرحي". قادت هذه المقولة بعض المخرجين لاحقًا إلى حد الاجتراء على النص المسرحي وتفكيكه، ومسخ هوية المؤلف وعلاقته بنصه، تحت مظلة من الشرعية الزائفة، يمنحها لهم مصطلح الدراماتورجيا، وقد وصل هذا الاجتراء بالبعض إلى حد حذف اسم المؤلف ووضع أسماءهم على النص تحت دعوى الكتابة على الكتابة، وإعادة الكتابة، وغيرها من المصطلحات غير العلمية التي يتشدق بها أنصاف الموهوبين، وأرباعهم.

فلقد تعرضت شخصيًّا لتجربة مماثلة حدثت منذ عدة سنوات، إذ فوجئت بمخرج سكندري يقدم نصًا لي يسمى "الشبيهان"، وهو منشور في كتاب صادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام ٢٠٠٩، وقد قدم هذا المخرج نصي هذا ضمن أحد المهرجانات التي تقيمها الهيئة العامة لقصور الثقافة، دون إخطاري بذلك، وزاد على ذلك أن وضع اسم كاتبة أخرى باعتبارها دراماتورج العرض، وباتصالي به قال إنه أخذ من النص فكرتين، وبعض الحوارات، وأجرت الكاتبة الأخرى إعادة كتابة للنص، ومما زاد من عبثية الموقف سعادته البالغة بما فعل، وكأنه جاب الديب من ديله، فأخبرته أنه عرضه هذا لا يمت لنصي بصلة، ويرجى حذف أفكاري وحواراتي التي استعارها من هذا العمل المشوه، وانتهى الأمر إلى هنا، لكن بعد ذلك بسنوات اكتشفت أن هذا المخرج وهذه الكاتبة المزعومة ما زالا يقدمان هذا العرض المشوه بعد حذفا (ال) التعريف من العنوان؛ فأصبح الاسم شبيهان بدلا من الشبيهان، ووضع اسم الكاتبة كمؤلفة للنص ووضع اسم شخص ثالث كدراماتورج للعرض، هذا بالإضافة إلى اسم المخرج، وهذه ليست الجريمة الوحيدة التي ارتكبت في المسرح المصري تحت مسمى الدراماتورجيا بل هناك عشرات وربما مئات من الجرائم الأخرى.

والحق، إن الأزمة ليست في الدراماتورجيا نفسها، وإنما في قصور الوعي لدى البعض بمفهوم الدراماتورجيا.

كي لا نظلم الدراماتورجيا

إن الدراماتورجيا وظيفة عملية في المسرح، أقصد بعملية هنا، بأنها حرفة أكثر منها إبداعًا، وله مهام محددة، فما هي؟

الدراماتورج ليس كاتبًا جوالًا يمشي هنا وهناك ليلتقط نصوصًا لمؤلفين ليفككها ويعيد تركيبها وفق هواه، بل الدراماتورج في العادة يعمل لصالح فرقة بعينها، باعتباره خبيرًا دراميًّا، أو مستشارًا أدبيًّا، ومن بين مهامه الاطلاع الواسع على الجديد في عالم النصوص المسرحية ليرشح لفرقته ما يراه مناسبًا لها، وفي حال اتُفق على نص ما، فإنه يتصل بالمؤلف ليناقشه في النص إذا أراد إجراء تعديل عليه، ويكون المؤلف شريكًا له في هذا التعديل إن لم يكن هو الذي يعدل بنفسه.

كذلك من بين مهام الدراماتورج ومعالجة عيوب الكتابة الدرامية إن وجدت، وهو ما يذكرنا بما أجراه كرم مطاوع على نص "الفرافير"، وفي هذه الحالة فإن الدراماتورج يرى أن النص جيد، لكن هناك بعض الهنات تثقل كاهله، كالجمل الإنشائية مثلاً، أو الاسترسال والتطويل الذي يضعف من إيقاع الدراما، وهنا يقوم بمعالجة النص من هذا القصور دون أن يمسخ النص ويمحو شخصية مؤلفه عنه، وبالتأكيد أن النص إن كان مليئًا بعيوب الكتابة في الدراماتورج لن يلتفت إليه بعد قراءته، لأنه ليس من مهامه أن يصنع من الفسيخ شربات. ومن مهام الدراماتورج أنه في حالة التعامل مع نصوص مترجمة أو نصوص كلاسيكية قديمة، فإنه يكيف هذه النصوص مع طبيعة مجتمعه، وإمكانات فرقته، والخطاب المعاصر الذي يريد أن يقوله العرض، وهناك مهام كثيرة للدراماتورج تصل بعضها إلى التدخل في رؤية المخرج والسينوغراف، والممثل، لكن ليس من مهامه إفساد نص المؤلف لكتابة نص ينتمي إلى ذاته وليس للمؤلف.

مراكز القوى في العمل المسرحي

لا أظن أن ما يجري لدينا في سياق صناعة العمل المسرحي له مثيل في العالم إلا فيما يشبهنا من مجتمعات لها تاريخ عريق في غياب العلم والحرية. إن عملية إنتاج عرض مسرحي في مصر تقوم على صراع دائم بين عناصر ثلاثة؛ المؤلف، الممثل، المخرج، وتختلف موازين القوى بينها من عرض لآخر، فأحيانًا تكون الغلبة للمخرج إذا كان الممثل لم تدركه النجومية بعد، في أحيان أخرى تكون الغلبة للممثل إذا كان نجمًا معروفًا، وفي هذا السياق أود أن أذكر واقعة حدثت من بضع سنوات تتعلق بنجم كبير له حضور تليفزيوني طاغ، إذ أوقف عرضه المسرحي الذي يقدمه على خشبة المسرح القومي لعدة أشهر حتى تضع بطلة العرض مولودها الأول، وحين أشار فريق العمل بإمكانية استبدالها بممثلة أخرى هدد النجم بالانسحاب من العرض، وبالطبع للنجم السمع والطاعة لأن شباك التذاكر يُفتح باسمه.

لا أنكر أن الممثل هو العنصر الوحيد من عناصر العمل المسرحي الذي لا يمكن الاستغناء عنه، فقد نستغني عن النص فيقدم عرضًا ارتجاليًّا، وقد نستغني عن المخرج فيقوم الممثل برسم خطوط الحركة وتحديد مسارات الأداء بنفسه، بل يمكن كذلك الاستغناء عن الإضاءة والديكور بل وخشبة المسرح ذاتها، بينما لا عرض مسرحي دون ممثل، لكن هذا لا يعد مبررًا لهذا الاستبداد، فلم نسمع مثلاً عن لورانس أوليفييه، وهو من هو كممثل ومخرج، أن سبق له التدخل في عمل جان لوي بارو حين عمل معه في مسرحية "خراتيت"، كذلك لم يتدخل في عمل يونيسكو أو طلب إجراء تعديلات على النص بل إن النص عرض كما كتبه مؤلفه.

القصد في هذا الصراع بين الممثل والمخرج يقف المؤلف باعتباره "الحيطة المايلة" فالمؤلف ليس بمقدوره الولوج إلى هذا الصراع إلا إذا كان اسمًا كبيرًا له سطوة، بل إن بعضًا من المؤلفين الكبار خرج من الصراع بإرادته المحضة بالاستغناء عن المخرج وإخراج عروضه بنفسه. من زاوية أخرى يتجه كثير من المخرجين إلى تناول نصوص مترجمة، أو على حد قولهم، عالمية، على اعتبار أن أي نص مترجم من لغة أجنبية مهما كانت رداءته هو نص عالمي، بينما النص المكتوب باللغة العربية هو نص محلي لا يرقى للصعود على خشبة المسرح، وكأن المسرح العربي لم ينتج سعد الله ونوس ومحمود دياب وميخائيل رومان وصلاح عبد الصبور وعز الدين المدني، مع العلم مثلاً أن ونوس معظم أعماله ترجمت للغات أوروبية كثيرة وعرضت في مسارح أوروبا، لكن في الغالب أمثال هؤلاء المخرجين يتجهون إلى النصوص المترجمة لأن ليس لها صاحب يسأل عنها، فيكون لم مطلق الحرية للعبث بها تحت مسمى الدراماتورج أو الإعداد لتحقيق صورة ذهنية خاصة به قد تكون بعيدة تمامًا عن النص الأصلي بل وتستبد عليه.

الأزمة لا تقف عند ذلك بل تمتد لتطال المؤلف ذاته الذي في كثير من الأحيان يساهم في الافتئات على حقه، بالانسحاق أمام متطلبات المخرج الذي يرهق النص بالكثير من التعديلات قد تصل إلى استكتاب المؤلف ليعيد صياغة نصه فينتج نصًا جديدًا يحقق الصورة الذهنية الخاصة بالمخرج، والتي تكون في كثير من الأحيان صورة هشة ومفككة تسعى إلى مجاراة الآليات الاستهلاكية للسوق، أما عندما يتحول المخرج الذي يدَّعي ـ زيفًا ـ خلو المسرح المصري من الكتابة الجيدة، إلى مؤلف نفسه، فحدِّث ولا حرج، بل يصل الأمر بالبعض ادعاء أنهم أصحاب نظريات واستفهامات فيكتبون نصوصًا موغلة في الركاكة، ويقدمون عروضًا مبتذلة في بدائيتها وسطحيتها، بل وتصل درجة التبجح إلى ادعاء أنهم مضطهدون، علمًا بأن مسارح الدولة تفتح أبوابها لهم، عشرات المرات.

هذه الصراعات المتعددة الاشتباك، والخلط بين الوظائف، بالتأكيد لن تنتج حركة مسرحية حقيقية، مؤكد هناك حالات فردية قليلة بل ربما نادرة لكن الأغلب هو هراء يقف على خشبات المسارح.