رؤى
مصطفى عبد الظاهرإلا رسول الله مبتدأ الشعار وخبره!
2021.01.01
إلا رسول الله مبتدأ الشعار وخبره!
خلال الأسابيع الماضية، وبعد أن اشتُهِرَ شعار «إلا رسول الله» عبر وسائل التواصل الاجتماعي وعبر التظاهرات وأشكال التضامن والاعتراض التي جابت أرجاء العالم الإسلامي، على خلفية أزمة جديدة قديمة أثارتها – ثانية – مُعضلة «حرية التعبير/ الإساءة للمشاعر الدينية»؛ كان من التعليقات المثيرة للتأمل على هذه العبارة ما قاله الشيخ ياسر برهامي، السلفي المصري الشهير، الذي «حرَّم» استخدامها، إذ بنى رأيه هذا على أن هذه العبارة «غير ذات معنى» لأنها تتطلب «تقديرًا لغائب» – حسب الصنعة النحوية – لا يتم المعنى إلا بوجوده، ثم بقفزة طويلة فوق العبارة، رأى برهامي أن الغائب في العبارة، المُستثنى، هو «بقية الأنبياء». كأنك تقول «كل الأنبياء يمكن إهانتهم إلا رسول الإسلام» وهذا طبعًا لا يجوز. إنك حين تسير فتصادف مبنى، تعلوه لافتة تقول، مثلًا، «صحيفة الصباح»، لكي تتم العبارة ويمكن إعرابها إعرابًا صحيحًا، ستقوم بتقدير الغائب، فستكون «هذا مبنى صحيفة الصباح». بشكل من الأشكال، قد أصاب برهامي في رأيه، لا بد من تقدير الغائب. لكن اللافت للنظر هنا، في هذا الفهم النحوي للعالم، أنه قد جاء بهذا التقدير، أين يمكننا أن نبحث عن مبتدأ هذه العبارة وخبرها إذن؟
يتعجّب بعض المراقبين من الغضبة العنيفة التي اجتاحت مواقع التواصل الاجتماعي وبعض البلدان الإسلامية، وهو التعجب المستمر نفسه منذ أزمة الرسوم الكاريكاتورية الدنماركية عام 2005. فهؤلاء الغاضبين، الذين هم بالطبع ليسوا مواطنين فرنسيين، قد أدركوا هذه الأزمة إدراكًا شموليًا، إذ أحيا فيهم التضامن الحكومي الرسمي الفرنسي مع جريدة «شارلي إبدو» الساخرة مضامين قد تبدو بالفعل نابعة من عقدة اضطهاد، ترى في الغرب شر مطلق، وترى في المسلمين مُضطّهد أبدي، وعبروا عن مشاعرهم تلك بعبارات دينية، من أشهرها بالطبع الحركة الجماهيرية التي أسست في باكستان عام 2017 «لبيك يا رسول الله» التي قادت مسيرات احتجاج مليونية أخيرًا عبر شوارع إسلام آباد بقيادة الشيخ الصوفي «خادم حسين رضوي». فيرى بعض المراقبين في هذه الاحتجاجات فعلًا دينيًّا سلفيًّا، او فصلًا من حرب هوياتية مفتوحة في أرجاء العالم.
يورد المفكر الفرنسي «آلان جريش» في كتابه «الإسلام والجمهورية والعالم»، وفي معرض حديثه عن أزمة حظر ارتداء الحجاب في الأماكن العامة في فرنسا عام 2006؛ قصة نقلها عن فرانز فانون «الطبيب النفسي، والمفكر ما بعد الكولونيالي الشهير، الذي ولد كفرنسي وتوفي كجزائري عام 1961، صاحب كتاب «مُعذَّبو الأرض». يحكي فانون عن واقعة من حوادث مايو 1958 في العاصمة الجزائرية، أن مجموعة من النساء اللائي يعملن مومسات، اقتُلعن من منازلهن وقُدن إلى ساحة عامة، ونُزعت عنهن ملابسهن على وقع صيحات «تحيا الجزائر الفرنسية!» وأمام هذا الاعتداء، يستكمل فانون؛ عادت ردود الأفعال القديمة للظهور، ولم يكن من هؤلاء النساء إلا أن ارتدين «الحايك» [ملابس تقليدية للمرأة في المغرب العربي تشبه النقاب في المشرق]. يستكمل فانون « كان ذلك بشكل عفوي ودون تنسيق، مؤكدين على رفضهن لتحرير المرأة بدعوة من فرنسا ومن الجنرال ديجول. وراء ردود الأفعال النفسية هذه، وفي هذا الرد الفوري، ينبغي على الدوام رؤية الموقف الكلي الرافض لقيم المحتل، حتى وإن انتهت إلى أن تُصبح مُختارة بذاتها. يعلق جريش على هذه القصة مُتسائلًا ومتعجبًا ومُستنكرًا: «كيف أمكننا أن نخفي مثل تلك الصور في الحوارات حول الحجاب؟ كيف أمكننا التستر على حقيقة أن أمهات وجدّات هؤلاء الشابات قد أُجبِرن على خلع الحجاب؟!»
الشعائر الدينية إذن ليست مجرد علامات دينية في أفق خالٍ من المعنى لئلا تُثير في الذهن سوى صراع الحضارات أو الردة الرجعية السلفية. سواء كانت الصلاة أو الحجاب أو رفض السخرية من المقدسات، التي يُمكن تُرى على أنها تمسك إسلامي بالنصوص التراثية، إلا إنها هنا، وكما تساءل جريش من قبل، تُضيف بُعدًا اجتماعيًّا وسياسيًّا شديد الوضوح أفعال احتجاج عام علني على ممارسة الاضطهاد. إن كل العلامات والرموز والشعائر، سواء أكانت دينية أو غيرها، ذات صلة وثيقة بالذاكرة الحضارية، وربما يختلف الأمر مع الإسلام بالفعل، لأنه، لأسباب تاريخية قد يطول شرحها، قد شكَّل مصدرًا أساسيًّا وذخيرة من المعاني والرموز والأشكال اللغوية للنضالات السياسية في المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة، فسيكون حاضرًا بالطبع في ردود الأفعال العفوية على الأزمات السياسية، كما لاحظت الباحثة «نيلوفر حائري» في كتابها «لغة مقدسة وأناس عاديون» أن الخطاب السياسي في بلد كمصر، مهما كان صادرًا عن مواقف علمانية واعية، إلا أنه مُحمل ومليء بالعبارات الدينية، التي يُمكن، أن نُزعت من سياقها، أن تكون عبارات دينية محضة.
على جانب آخر، وإذا أردنا بالفعل البحث عن مبتدأ العبارة في الجذور التاريخية. ففي المراكز الرأسمالية الغربية، ومن الستينيات، تطلب تحقيق برنامج النيو ليبرالية الاقتصادي، الذي عُرف عنه منذ الستينيات أن أحد اهتماماته كانت المقارنة بين القصف النووي المستمر أو القصف لمرة واحدة لليابان من حيث الجدوى الاقتصادية، وتفكيره في طرق الاستفادة الاقتصادية في شركات التأمين العملاقة من حوادث السيارات في الولايات المتحدة؛ هذا البرنامج الذي أصبح خطة عمل لبرنامج النيو ليبرالية الاقتصادي بعد ذلك في عهد ثاتشر وريجان وإلى يوم الناس هذا – تطلب هذا البرنامج مجموعة كبيرة من «الإزاحات». إزاحة صناعية كما نرى في سلاسل التصنيع المعلوم، التي تستفيد من الاعتماد على العمالة الرخيصة في دول الشرق والجنوب، لتتمكن من بيع المنتجات في الغرب الأكثر ثراءً وقدرة على الاستهلاك وضخًا للفوائض. الأمر الذي أدى إلى مراجعة برنامج الديمقراطية بأكمله وفقًا لحسابات الربح، إذ اعتُبرت، مثلًا، الانتخابات الدورية أمر مُكلف يجب تلافيه، مما أدى إلى ما يصفه المنظر الكاميروني «أشيل مبمبي» بأنه «حَوَّل الديمقراطية من منتج رأسمالي أصيل، إلى عدوها الرئيسي».
ومن بين هذه الإزاحات المذكورة تأتي الإزاحة العسكرية في مرتبة أولوية لأغراض نقاشنا. فبعد أن كانت الحروب، بشكل ما، «حروب يوتوبيا»- بما لهذا التعبير من تناقض واضح بين شطريه-؛ إذ كانت الحروب -وإن خطابيًّا- تستهدف فتح أراض أو القضاء على عدو لضمان عملية السلام. أصبحت الحروب التي تخوضها القوى العسكرية الكبرى في العالم، وخصوصًا الولايات المتحدة ومن ورائها حلف الناتو، وفرنسا في دول أفريقيا – وعملياتها العسكرية والوحشية كانت مستمرة إلى وقت قريب في مالي على سبيل المثال، وستستمر إن تطلب الأمر – هذه الحروب غدت حروب «ديستوبيا» بالمعنى الذي يصفه الأنثروبولوجي الأمريكي آلن فيلدمان بأنها حروب لا تتركز حصريًّا على فتح أراضٍ. بل تتركز بالأحرى على الاختراق الإقليمي «الإرهابي»، والاختراق الديموغرافي والبيولوجي المنسوب إلى أطراف أخرى. وهـذه الحملات لا تحدد بنيتها أهـدافٌ سياسية محدودة زمنيًّا، بل هي مفتوحة على الأفق الزماني دون نهاية محددة. وهي ليست مجرد أدوات جيوستراتيجية ـ أي وسائل لتحقيق غاية سياسية. فحروب الديستوبيا المجاوزةُ للأطر الإقليمية هي أشكال ثقافية جيو-سياسية يمكنها تحقيق هيمنة نوعية داخل المجال العام الغربي عبر تعايش الخوف المستبطن وعدوان آخر موجَّه.
كان «الإسلام» موضوعًا مثاليًّا لحروب الديستوبيا، فبعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 حل «الإسلام» – بهذا التعميم البارد دون تحديد – محل الاتحاد السوفيتي في ثنائية العداء الأمريكية، لكنه أضاف إليها صفة خاصة في العدو: إن العدو الجديد غير مرئي، ويمكن ان يهدد أمن الدول الديموقراطية من الخارج ومن الداخل. كما وفر طاقة عمل مهولة لماكينة الفانتازيا السياسية التي اختُرعت ضمن سياق «صراع الحضارات».
لم تتمكن النيو ليبرالية من استكمال عملها في إضفاء الطابع الاقتصادي على الحياة الإنسانية في ظل القيود التي تفرضها عليها المُثُل الديمقراطية، فما ضمنته العولمة من استغلال للنخب الأوروبية والأمريكية «البيضاء» تحول إلى درس سهل تعلمته نخب الرأسماليين في جميع أنحاء العالم، ومن ثم، بدأت أرباح الضمانات العولمية تصب في مراكز رأسمالية جديدة مثل الصين والهند والبرازيل، بل وبدأت هذه النخب بتهديد مراكز التصنيع الغربية في عقر دارها. الأمر الذي حول البرامج السياسية في العديد من هذه المراكز الصناعية إلى «عقدة» للتناقض بين الرأسمالية والديمقراطية. وهو ما ترتب عليه ظهور فصام سياسي تجاه «العولمة»؛ العولمة لا تزال مطلبًا نيو ليبراليًّا، لكن لا يمكن السكوت على ذهاب ثمارها إلى «الآخرين»، لذلك، ستتم الآن مواجهتها ببرامج «قومية». الأمر الذي شكَّل أساس الظاهرة الشهيرة التي تُسمى «صعود الشعبوية».
وبالتزامن مع هذه المتغيرات، شهد العالم صعودًا لما تُعرفه العلوم السياسية بـ «الحركات الاجتماعية» الجديدة، التي بدأت بحركة «احتلوا وول ستريت» ولم تنته بثورات «الربيع العربي» واحتجاجات «السترات الصفر». كان معنى تزامن هذين الخطرين أن اليمين الأوروبي، مهدد من الخارج: في مكاسبه الاقتصادية وتفكك سياساته الاحتكارية، ومن الداخل: بسبب المطالب التي حملتها الحركات الاجتماعية الجديدة التي تدور حول العدالة الاجتماعية وإنهاء العنصرية والمساواة والاعتراف والتمثيل الاجتماعي والحقوق الشخصية.
في ظل هذه المخاطر، تشكَّلت طبيعة «الشعبوية السلطوية» الجديدة. فإلى جانب الحروب التجارية التي قادها ترامب على الصين، تمثل الطابع الثقافي لهذا الصعود واكتسب صفاته المميزة. فالجنون والقبح والعنصرية والسفه واحتقار الفضائل.. إلخ. صفات تعريفية بالنسبة للشعبوية السلطوية – بالتأكيد لا بد أن يقفز ترامب ومؤيدوه إلى الذهن الآن – وبالطبع وجدت ضالتها في تراث قديم جديد مبني على تراتبية الحضارات وتفوق الإنسانية الأوروبية و»عبء الرجل الأبيض» (الشعارات التي نجدها مكتوبة ببساطة ووضوح في المانيفستو الذي وضعه الإرهابي اليميني الذي ارتكب مجرة مسجد نيوزيلندا العام الفائت). على هذا الأساس، لم يقتصر الهدف العدائي على الإسلام – وإن كانت الأقليات الإسلامية قد تعرضت للشطر الأكبر من تبعاته – بل امتد إلى جميع الأقليات، وتضمن العداء المهاجرين والطرق الدائم على حديد «الذكورية البيضاء» لحشد مؤيدي اليمين ضد دعوات الحقوق الشخصية ونبذ العنصرية التي تتبناها الحركات الاجتماعية الجديدة وتحملها شعارًا.
إن المتتبع لخطاب اليمين الأوروبي المتطرف، والمتدين خصوصًا، سيجد فيه نظرة واضحة لتاريخ العالم على أنه واقع في «شرك العصاة» الذين لا بد من محاربتهم «لترجع الأمور إلى نصابها». وكان من بين معاني هذه الإزاحة الأخلاقية أن تنفتح خطوط العداء، فلا تكتفي بـ «الإسلام» كما في السابق، أو بصراع الحضارات، بل لتعادي أطيافًا متعددة، ويُعد فيها أهداف فنتازيا الحرب الجديدة «مطواعون» ولينون وموجودون في كل مكان ويمكن استبدالهم أو الإضافة إليهم في أي وقت، بما يتضمن تجار المخدرات والمهاجرين والذين لا يحملون أوراقًا ثبوتية والمسلمين والمثليين و»الملونين»، الأمر الذي لم يتوقف حتى عند «المعاقين» كما ورد في أحد خطابات ترامب. هذا هو شكل الإطار العالمي الجديد الذي لا يكتفي بالاسلاموفوبيا، كما كان الأمر عند مطلع الألفية، بل زاد عليها العديد من أشكال الرهاب الأخرى، ولم ينس أن يتضمنها أيضًا.
إن أردنا العودة إلى التحليل اللغوي الذي سيق كمثال في مطلع هذا المقال، يمكننا الآن أن نعي أن نسيان الماضي الكولونيالي ربما يكون أحد المحددات المهمة لاستجابة العالم الإسلامي تجاه الخطاب اليميني الفرنسي. الأمر لا يتعلق إذن بحرية الرأي أو التعبير، بل بماض لا يُنسى وجروح استعمارية لم تلتئم إلى الآن، لأنها، ببساطة، لم تلق أي حظ من الاعتراف أو الاعتذار. فقد يظهر شعار «إلا رسول الله» نوعًا من أنواع الرفض لإنكار هذا الماضي، ومحاولة لتوكيد الذاتية، المسُتعمرة في الماضي، ومهضومة الحق في الحاضر. أما السياقات الأوروبية- الأوروبية، التي تتمثل في معاداة اليمين للأشباح والاستيهامات التي يحاول يرسمها ويتخذها متنفسًا لإزاحاته الأخلاقية؛ فهي نتيجة لارتداد تناقضاته على ذاتها، ويبدو أن السنوات القادمة، بحث، ستكون سنوات مواجهة بين الديمقراطية من ناحية، وبين الرأسمالية التي مثلت سياقها التاريخي الموضوعي في لحظة من اللحظات، من جهة أخرى.