هوامش

خالد عثمان

احتجاجات السودان: الأسباب ومسار الحراك

2019.03.01

احتجاجات السودان: الأسباب ومسار الحراك

 

في 13 نوفمبر 2017 أصدر صندوق النقد الدولي دراسة متعلقة بالسياسات النقدية في السودان أوصى فيها بالتحرير الكامل لسعر الصرف في 2018، كما أوصى بإلغاء تدريجي لدعم الوقود والقمح في السودان ابتداءً بـ 2018 وحتى 2021 مع تعويض ذلك الدعم بتقديم مدفوعات نقدية مباشرة للفقراء. قامت الحكومة السودانية باتباع هذه التوصيات عن طريق تطبيق أول مرحلة من مراحل رفع الدعم عن الخبز في يناير 2018، عندما تغيَّر سعر جوال القمح من 167 جنيهًا سودانيًا ليصبح 450 جنيهًا، الأمر الذي أدي إلى تضاعف أسعار الخبز لتصبح قطعة الخبز بجنيه بعد أن كانت القطعتين بجنيه. بعد تلك الزيادة مباشرة دعا الحزب الشيوعي إلى تظاهرات تندد بالموازنة المالية لعام 2018 وهو ما استجاب له عدد من شرائح المجتمع كما دعمه عدد من الأحزاب المُعارضة. في المقابل، استجابت الحكومة لهذه التظاهرات بالغاز المُسيل للدموع والقوة القسرية لتفريق التظاهرات، بالإضافة إلى اعتقال قادة أحزاب المُعارضة. 

في المرحلة الثانية من رفع الدعم عن الخبز، قررت الحكومة أن ترفع الدعم عن الخبز في بعض الولايات الطَرفية بدلًا من العاصمة خوفًا من تكرار ما حدث في يناير 2018. وفي 18 ديسمبر تم الإعلان الرسمي عن وصول سعر رغيف الخبز لـ3 جنيهات في ولاية البحر الأحمر والولايات المجاورة، أما في مدينة نيالا بولاية جنوب دارفور فقد أصبح سعر الرغيف الواحد 2.5 جنيه سوداني. لم يتحمل المواطنون هذه الزيادة فانطلقت في اليوم التالي تظاهرات في عدد من مدن ولايات السودان ووقتها ظهر الوسم (الهاشتاج) «#مدن_السودان_تنتفض». يمكننا القول إن مُلابسات اشتعال فتيل الأزمة التي ذكرناها تُعطي إشارات واضحة لمعرفة الأسباب الهيكلية للأزمة السودانية وهي ما يطلق عليه المفكر السوداني التيجاني عبد القادر تحالف الفقر الثلاثي الذي يضم «القبلية، والسوق، والذهنية الأمنية» التي تجسدت، على التوالي، كما يلي «إبقاء الدعم في بعض المناطق ذات الانتماء القبلي المعين ورفعه عن البعض الآخر (القبلية)»، و«اتباع سياسات تحرير السوق دون مُراعاة للشرائح الفقيرة»، و«الخوف من قيام التظاهرات (العقلية الأمنية)». وسنفصل هذه العوامل لاحقًا.

القبلية: ظهرت القبلية عنصرًا مؤثرًا في السياسة السودانية منذ السنوات الأولى للدولة السودانية الحديثة كنتيجة طبيعية لسياسات التهميش والتنمية غير المتوازنة التي بذرها الاستعمار ثم سارت عليها الحكومات الوطنية بعد ذلك، مما أدي إلى تكوين مجموعات سياسية تقوم على القبلية مثل مؤتمر البجا في 1957 ، واتحاد عام جبال النوبة وجبهة نهضة دارفور اللذين تأسسا في 1964 . ما حدث في عهد النظام الحالي هو «تأجيج القبلية»، وذلك أن هذا النظام عندما وصل إلى الحكم عن طريق انقلاب في يونيو 1989 بعد تحالف الإسلاميين مع العسكر، كانت أقوى الأحزاب المُعارضة هي الأحزاب الطائفية: حزب الأمة القومي، والأحزاب الاتحادية، وقد تميزت هذه الأحزاب، لأسباب تاريخية واقتصادية معينة، بانتشارها المَناطقي. كانت أغلب ولايات غرب السودان تتبع لحزب الأمة القومي، بينما كانت أغلب ولايات شرق السودان وجزء من شماله تتبع للأحزاب الاتحادية. وفي سبيل تفكيك وإضعاف قوة الأحزاب المُعارضة، ذات الطبيعة المَناطقية/الجهوية، قام النظام بتأجيج «القبلية» كهوية اجتماعية مؤثرة في السياسة. هذا التسييس للقبلية أثر بصورة رئيسية في أداء مؤسسات الدولة التي أصبح الاختيار فيها لا يقوم على الكفاءة وإنما يقوم على المَحسوبية القبلية، كما ساهم بصورة كبيرة في تأجيج الصراع القبلي في السودان، ما فاقم من الحروب الداخلية وظهور حركات التمرد المُسلحة في دارفور وشرق السودان وجنوب كردفان والنيل الأزرق. 

وهذا التسييس للقبلية هو ما ساهم في انفصال جنوب السودان في 2011، وأثر سلبًا على التوزيع العادل للسلطة والثروة. كما تسبب هذا في استمرار توتر الوضع الأمني في بلد يضم أكثر من 518 قبيلة، وهو ما تم تحويله لتخصيص أكثر من 88 % من ميزانية الدولة للقطاعات الأمنية والسيادية، في مقابل تهميش التعليم والصحة والقطاعات الانتاجية. وحتى اتفاقيات السلام وتوزيع السلطة والثروة التي كان يفترض أن تُعالج هذه الحروب كانت تتم على أساس قبلي وجهوي (مثلًا أصبح رئيس حركة التحرير والعدالة، رئيسًا لسلطة إقليم دافور، أما أمينها العام فقد أصبح وزيرًا للصحة)، الأمر الذي كان يزيد من تغذية القبلية كهوية سياسية. وإذا فهمنا أثر القبلية على السياسة السودانية فلن نستغرب أن بعض المدن، مثل شندي، التي ينتمي إليها قادة النظام الحاكم، لم تشارك في الاحتجاجات الحالية حتى الآن.

ثانيًا، ومع أن بذور الرأسمالية الريعية في بنية الاقتصاد السوداني وضعتها الإدارة البريطانية واستمرت في أغلب التاريخ الاقتصادي السوداني بعد ذلك، إلا أن الممارسات الريعية ازدادت في عهد النظام الحالي. ففي السنوات الأولى للإنقاذ اعتمد نموذجها الاقتصادي على تفعيل دور القطاع الخاص عن طريق تحرير أسعار التصدير والتدرج في تحرير أسعار الخدمات الاجتماعية وخروج الدولة من مجالات الزراعة والصناعة (عدا البترول والمعادن) بالإضافة إلى خصخصة 273 مؤسسة عامة، ولتخفيف آثار هذا التحرير الاقتصادي قررت الحكومة توسيع نظام التكافل والزكاة لمساعدة الفقراء. لكن المفارقة تكمن في أن أغلب تلك الشركات التي تمت خصصتها تم تحويل ملكيتها عبر استغلال «العلاقات والمعلومات» لأفراد يتبعون للنظام الحاكم، كما تم إنشاء قرابة 600 شركة تجارية عامة تابعة للأجهزة الأمنية والعسكرية لا تخضع لمراقبة المراجع العام ولا يتم تضمينها في ميزانية الدولة. وإذا استثنينا فترة 1996/2000 التي جرت فيها بعض التحسينات الاقتصادية، فقد ظل هذا النموذج الريعي مسيطرًا على السودان؛ خصوصًا بعد استخراج النفط في 1998 الذي كان يمثل أكثر من نصف إيرادات حكومة السودان و95 % من صادراتها. 

وقد كان لهذا النموذج الريعي آثارًا سلبية على الأوضاع الاقتصادية، وعلى عدالة توزيع الثروة والدخل بين الأفراد وبين المناطق الحضرية والريفية، كما أدى إلى تآكل الطبقة الوسطى. فنسبة السكان الذين يعيشون تحت خط الفقر تجاوزت 46.5 % في 2009 ، وبعض الخبراء يقولون إنها تجاوزت 90 %، كما أصبح السودان خامس أعلى دولة في معدلات البطالة. وتشير دراسة أجريت قبل شهر من الاحتجاجات الأخيرة إلى أن تكلفة المعيشة الشهرية لأسرة من خمسة أشخاص تتجاوز 15218 جنيهًا، بينما يبلغ الحد الأدنى للأجور 425 جنيهًا، أي يغطى 2.8 % فقط من تكاليف المعيشة الحالية. كما أدت عمليات خصخصة قطاع النقل والزراعة والصناعة والتعليم إلى اختفاء أو إضعاف النقابات العُمالية في تلك القطاعات، أما النقابات التي بقيت فقد أحكم النظام الحاكم سيطرته عليها.

أخيرًا، فقد كانت العقلية الأمنية/العسكرية حاضرة منذ السنوات الأولى لحكم الإنقاذ حيث تم تطبيق ما يُعرف بسياسة «التمكين» حيث تم التخلي عن خدمات ما يزيد عن 140٫375 من الموظفين والمهنيين والضباط في القطاع العام واستبدالهم بموظفين موالين للحزب الحاكم. وبعد سنوات من التحالف مع الإسلاميين بدأ العسكر في التخلص من كل مقاومة داخلية يمكن أن يمثلها الإسلاميون؛ فأطاحوا بقائد الحركة الإسلامية، حسن الترابي، في مفاصلة 1999 ومرة أخرى بعد احتجاجات 2013 تخلصت القيادة العسكرية من عدد من الإسلاميين الذين كان يمكن أن يشكلوا مقاومة، واستطاعت إحكام سيطرتها على «الحركة الإسلامية» . الأمر نفسه تم تطبيقه على أحزاب المعارضة التي نجح النظام في إضعافها باختراقها والتجسس عليها وإحداث انقسامات داخل قياداتها.

وقد فوَّت هذا الوضع الاقتصادي والسياسي على السودان فرصة استغلال عائدات النفط (التي استمرت منذ 1998 وحتى انفصال الجنوب عام 2011) لبناء اقتصاد قوي ومتنوع، كما كان سببًا في عدم الاستغلال الجيد لعائدات الذهب التي تجاوزت 78 طنًا في 2018 . بالإضافة لذلك فإن وضع السودان ضمن قائمة الدول الراعية للإرهاب وتطبيق العقوبات الأمريكية منذ عام 1997 قد حرم السودان من إمكانية جذب العديد من الاستثمارات الأجنبية كما حرمه من إمكانية الاقتراض من المؤسسات المالية الدولية. ونتيجة طبيعية لفقدان كل مصادر العملة الأجنبية فقد تدهور سعر العملة المحلية الرسمية مقابل الدولار ثلاث مرات خلال 2018 ليصل إلى 47.5 جنيه للدولار، أما في السوق الموازية فقد تجاوز 60 جنيهًا، بينما بلغت نسبة التضخم 122 % في يناير 2019 وهي ثاني أعلى نسبة تضخم في العالم. وبالتالي فقد كانت سنة 2018 أصعب سنة تمر على المواطن السوداني منذ بداية الألفية الثالثة.

تكتيكات وسمات الاحتجاجات السودانية في ديسمبر 2018 

أدت هذه الظروف الداخلية والخارجية، مجتمعة، إلى خروج الناس في تظاهرات يوم 19 ديسمبر 2018 في ولايات مثل عطبرة، والقضارف، وبورتسودان، والدامر، والنهود والحصاحيصا، ومع أن أسباب الخروج كانت اقتصادية سرعان ما تحول الهتاف للمناداة بإسقاط النظام كنتيجة طبيعية للانهيار الاقتصادي وعدم مقدرة النظام الحاكم على تحقيق أبسط مطالب المواطن مع بقائه في الحكم لقرابة الثلاثين عامًا. وحتى لحظة كتابة هذا التقرير، امتدت التظاهرات لتشمل أكثر من 50 مدينة تغطي شرق وشمال وغرب السودان ككل، كما تجاوز عدد التظاهرات 700 مظاهرة. 

تتميز هذه الاحتجاجات الحالية عن سابقاتها بعدة مميزات؛ أولها انتقالها من مرحلة العفوية إلى التنظيم عن طريق قيادة تحظى بدرجة عالية من القبول بين المتظاهرين وهي «تجمع المهنيين السودانيين». والتكتيك الذي ظل يتبعه التجمع منذ بداية الحِراك هو الدعوة لعدد من المواكب والاعتصامات المُتفرقة خلال الأسبوع مع التركيز والتعبئة للموكب الذي يكون موافق ليوم الخميس من كل أسبوع، والذي غالبًا ما ينطلق من عدة مناطق تتجه نحو القصر الجمهوري. ثانيًا، استطاع المشاركون في هذه الاحتجاجات المحافظة على سلمية التظاهرات وبعدها عن استخدام أسلحة أو أدوات نارية، بالإضافة إلى الصفة الأولى، ما جعل هذه الاحتجاجات تستمر لأكثر من 40 يومًا. ثالثًا، المشاركون الرئيسيون في هذه الاحتجاجات هم من فئة الشباب ويمكن الإشارة هنا إلى غالبية عدد القتلى (الذي تجاوز 40 في 9 يناير بينما تشير تقارير فبراير بأنه تجاوز 50 قتيلًا) كانوا من الشباب. وهذه الصفة الأخيرة تعتبر نقطة ضعف في الحِراك لأن الاحتجاجات إذا أرادت أن تنتقل لمرحلة أبعد عن طريق تطبيق العصيان المدني الشامل فهي تحتاج إلى مشاركة باقي شرائح المجتمع وخصوصًا موظفي الدولة والمهنيين/العُمال (وهي شرائح غائبة بصورة كبيرة عن الحراك). مع ذلك، ففي 30 يناير نسق أكثر من 300 من أساتذة جامعة الخرطوم وقفة احتجاجية طالبوا فيها برحيل النظام، كما قام 531 أستاذًا من الجامعة بالتوقيع على «مبادرة جامعة الخرطوم» التي تدعو لقيام حكومة انتقالية، وهو ما يعتبر تصعيدًا جديدًا في الحِراك. فبالإضافة إلى كونها أولى المبادرات التي قام بها موظفون في مؤسسات الدولة، فهذه الوقفة، وبسبب المكانة الرمزية الكبيرة لجامعة الخرطوم في قلوب السودانيين، أعطت الحِراك شرعية عالية يمكن أن تجذب مشاركة باقي الشرائح المجتمعية غير الشبابية وباقي العاملين بمؤسسات الدولة. 

إن نجاح الحِراك في الانتقال لمرحلة العصيان المدني الشامل يعتمد بصورة رئيسية على تقديم خطاب مُضاد لخطاب النظام الحاكم المشكك في شرعية الحِراك والمؤثر في رؤية باقي الشرائح المجتمعية غير الشبابية للحراك. إن المعركة الآن هي معركة حول «الهيمنة الثقافية» والذي ينتصر في جذب قلوب وإقناع عقول تلك الشرائح المجتمعية غير الشبابية، هو من سينتصر في الصراع السياسي الحالي. وأخيرًا، فمع أن قيادة الحراك (تجمع المهنيين السودانيين) قامت بالتحالف مع أهم فصائل المعارضة («تحالف نداء السودان»، و«قوى الإجماع الوطني»، و«التجمع الاتحادي المُعارض») ووقعوا جميعًا على «إعلان الحرية والتغيير» إلا أنه من المهم أن نعرف أن قوى المعارضة لم يكن لها تأثير مباشر في تحريك الشارع، حتى تجمع المهنيين السودانيين نفسه اكتسب قيادة الحِراك لمبادرته ولثقة المحتجين فيه. 

استجابة الدولة للاحتجاجات على المستويين السياسي والمدني 

أنطونيو جرامشي أحد أهم المفكرين السياسيين الذي ساهموا في تطوير فهمنا المُعاصر لأفعال وتكتيكات الدولة الحديثة. ففي مراجعاته لهزيمة الاحتجاجات العُمالية في أوروبا الغربية في نهاية الحرب العالمية الأولى، أصر جرامشي على أن نمط الحكم الرأسمالي لا يمكن اختزاله ببساطة في نظرة أداتية للدولة بوصفها مجرد جهاز قمعي يحتكر العنف كما يقول ماكس فايبر، وذلك أن الطبقة الحاكمة لم تكن مضطرةً إلى الاعتماد بشكل منفرد على القوة القسرية، بل كان بإمكانها، من خلال «هيمنتها» على بعض مكونات المجتمع المدني (مثل أجهزة الإعلام، والنظام التعليمي، والقبيلة، والثقافة.. إلخ)، إقناع المحكومين بقبول منظومة مُعتقدات/أفكار الطبقة الحاكمة بحيث تظهر أفكار الطبقة الحاكمة كأنها أفكار كل المجتمع بما في ذلك الطبقات الكادحة. 

وإذا طبقنا تحليل جرامشي السابق، يمكننا رصد استجابتين من الدولة للاحتجاجات الحالية: الاستجابة الأولى كانت «سياسية» عن طريق القوة القسرية مثل استخدام الغاز المسيل للدموع والاعتقالات والعنف الجسدي لفض التظاهرات. أما الاستجابة الثانية فقد كانت «مدنية» قام فيها النظام باستخدام عدد من التكتيكات لإثبات شرعيته والتشكيك في شرعية الحِراك مثل استغلال القنوات الإعلامية لإظهار التظاهرات كمحاولات تخريبية وتدمير للممتلكات العامة، أو بتأجيج النزعة العنصرية/القبلية ضد مواطني غرب السودان، أو استغلال الدين الإسلامي لتبرير وجوده في سدة الحكم، أو بالحديث عن المؤامرات الدولية التي تُحاك للسودان من قِبل القوى العظمى، أو تخويف الناس من المصير الذي آلت إليه الثورات العربية في سوريا واليمن وليبيا.

بعد أكثر من 40 يومًا على بداية الاحتجاجات أصبح خطاب النظام الحاكم، بالإضافة إلى استخدام القوة في تفريق وفض التظاهرات، مُركزًا على التشكيك في مصداقية قيادة الحِراك وربطه بالحزب الشيوعي السوداني، ومن ثم إظهار التظاهرات كأنها تظاهرات ضد الدين وضد إسلامية الدولة وتدعو للعلمانية واستئصال الإسلاميين من الحياة السياسية، وهذا هو ما قاله الفريق صلاح قوش، مدير جهاز الأمن والمخابرات، في التسريب الصوتي الذي انتشر، وهو ما كررته السلطة في «الملتقى التفاكري لأئمة المساجد والدعاة» الذي نسقه والي الخرطوم ودُعي إليه أكثر من 250 من خطباء وأئمة المساجد وطلب منهم تكرار هذا الخطاب في المنابر والمساجد، لكن كثيرًا من خطباء المساجد رفضوا هذا الخطاب وقدموا خطابًا داعمًا للاحتجاجات.

بنية النظام الحاكم وعلاقاته مع المجتمع الدولي

قبل الحديث عن مستقبل الحِراك الحالي لا بد لنا أن نفهم بنية النظام الحاكم وعلاقات القوة بداخله، بالإضافة إلى توازناته مع القوى الخارجية. 

داخليًّا، يمكننا القول إن بنية النظام الحاكم تتكون من: (عمر البشير، والجيش والمؤسسة العسكرية، وجهاز الأمن والمخابرات الوطني، وقوات الدعم السريع، وبقايا الحركة الإسلامية). في تحليلنا نرى بأن المكون الأقوى في هذه البنية هو الرئيس عمر البشير، الرجل الذي صمد أمام رياح التغيير والمهددات الخارجية لأكثر من 29 عامًا. فقد استطاع البشير، أولًا، أن يُضعف من قوة الحركة الإسلامية بعد الإطاحة بزعيمها الراحل الدكتور حسن الترابي وتهميش كل من يُخالفه من قادة الإسلاميين مما جعل الحركة الإسلامية كيانًا خاضعًا لتوجيهات البشير، ولذلك فقد قامت الحركة الإسلامية بدعم تعديل الدستور لترشيح البشير لولاية ثالثة. ثانيًا، اعتمد البشير على ضرب وإدخال القوى العسكرية الثلاث (الجيش، والأمن، والدعم السريع) بعضها في بعض، وتحويل مسؤوليات/مهام بعضها إلى البعض الآخر، بالإضافة إلى جعل بعضها يتجسس على البعض الآخر، مما أفقدها القدرة على القيام بأي حركة قد تطيح بالبشير في الوقت الراهن وهناك عدد من الشواهد التاريخية والحديثة التي تشرح كيف استطاع البشير فعل ذلك. 

وبسبب تمركز النظام حول القائد، فإن نظام محسوبية وفساد ومجموعات مصالح معينة كلها تعتمد في بقائها بصورة رئيسية على استمرار الشرعية السياسية والتماسك داخل النظام الحاكم واللتين تتجسدان بصورة شبه كاملة في ذلك القائد، فلو سقط القائد يتفكك بصورة كبيرة نظام المحسوبية والفساد وتفقد مجموعات المصالح آليات الوصول للأموال والريوع. وبالتالي فإن بنية النظام الحاكم ليست قادرة على إعادة إنتاج نفسها مجددًا عندما يتم إزاحة قائد النظام. 

أما خارجيًّا، فكل القوى الدولية والإقليمية والمجاورة تنظر للبشير كحليف استراتيجي. أولًا، فبالنسبة للاتحاد الأوربي فقد قدم له النظام الحاكم دورًا كبيرًا في الحد من الهجرة غير الشرعية لأوروبا، أما بالنسبة لأمريكا فقد تعاون النظام كذلك في محاربة الجماعات الإرهابية في ليبيا وغرب أفريقيا؛ كما تُثمن هذه القوى جهود النظام الحاكم في استقرار المنطقة خصوصًا بعد الأدوار التي لعبها في تحقيق المُصالحة بين الأحزاب المتصارعة في جنوب السودان في 2018 . ومع إصدار هذه الدول لبيانات أعربت فيها عن قلقها نتيجة سقوط ضحايا في التظاهرات، فإن ذلك لا يعطى مؤشرًا على موقفها السياسي من الأحداث كما يخبرنا التاريخ. ثانيًا، بالنسبة لدول الجوار، وبعد رفع الحظر عن المنتجات المصرية في أكتوبر 2018 والتعاون الأمني بين البلدين فإن مصر لم تتردد في إعلان دعمها للنظام الحاكم في 5 يناير 2019 كما قام البشير بزيارة لمصر في 27 يناير 2019 بغرض تحريك ملف الدعم العربي للسودان لتفادي تحديات الاحتجاجات الحالية. أما بالنسبة لجنوب السودان وبسبب حاجتها الماسة لتصدير النفط عبر خط أنابيب السودان وميناء البحر الأحمر، فلم تتردد في الوقوف إلى جانب النظام الحاكم، خصوصًا بعد قيام النظام الحاكم بإصلاح آبار نفطية كانت قد تدمرت في الحرب الأهلية بجنوب السودان، وجاء تصريح وزير النفط بجنوب السودان صادمًا لكثير من التوقعات حين صرح بأن «الحل ليس خلع البشير، الحل هو تحسين الاقتصاد». ثالثًا، أما بخصوص محور السعودية والإمارات وبسبب حاجتهما لاستمرار مشاركة أكثر من 14 ألف جندي سوداني في حرب اليمين فلم تترددا كذلك في دعم النظام الحاكم بالخرطوم، خصوصًا أن أغلب هؤلاء الجنود يأتون من قوات الدعم السريع التي تدين بالولاء للمشير البشير. 

رابعًا، أما محور تركيا وقطر والكويت، فبسبب صفقات الأراضي الزراعية والموانئ البحرية بينها وبين الخرطوم، بالإضافة إلى موقف الخرطوم المُتزن من الأزمة الخليجية فلم تتردد كذلك في دعمها للنظام الحاكم، وقد زار البشير دولة قطر يوم 22 يناير 2019 ، وفي 25 يناير أعلنت الحكومة السودانية عن زيارة لدولة الكويت سيقوم بها المشير البشير. أخيرًا، فقد استطاع النظام الحاكم المُحافظة على علاقة متزنة بينه وبين روسيا فقد قابل البشير فلاديمير بوتين مرتين خلال 2017 و2018 ، كما أن زيارة البشير لبشار الأسد كأول رئيس عربي يقود حملة التطبيع مع بشار في ديسمبر 2018 تعتبر إشارة واضحة للتعاون الكبير مع محور روسيا. هذا التعاون تجسد في مشاركة شركات أمنية روسية خاصة في تدريب الجيش والأمن السوداني في أثناء الاحتجاجات الأخيرة وهو ما أكدته وزارة الخارجية الروسية. 

حتى الآن، وبعد مرور أكثر من أربعين يومًا على الاحتجاجات، لم يقم أي حليف من هؤلاء الحلفاء الإقليميين أو الدوليين بتقديم دعم حقيقي للنظام يمكنه أن يكون كافيًا لتجاوز الأزمة السياسية والاقتصادية الحالية.

مُستقبل الحِراك ومآلاته 

بناءً على الرصد والتحليل الذي ذكرناه حول الحِراك وبنية النظام الحاكم، والقوى الدولية والإقليمية نرصد أربعة سيناريوهات محتملة:

1. أن تتحول الأحداث الجارية في السودان إلى حرب أهلية كما حدث في سوريا واليمن، ونستبعد هذا السيناريو لسبب رئيسي هو أن المجتمع الدولي بعد تجربة اليمن وسوريا وجنوب السودان أصبح رافضًا تمامًا لأي تحرك في هذا الاتجاه ولن يدعمه، كما أن النظام الحاكم في السودان، مع حفاظه على علاقات متوازنة مع كل القوى الاقليمية والدولية، فهو لا يشكل حليف استراتيجي يستحق أن تتدخل باقي القوى الدولية لدعمه كما كان حال سوريا مع روسيا وإيران.

2. حدوث انقلاب داخل الجيش السوداني، وهو سيناريو مستبعد كذلك لأن البشير نجح في أن يحوز على ثقة قادة الجيش والميليشيات العسكرية، أما بخصوص باقي الضباط فقد ذكرنا أن البشير نجح في إدخال القوى العسكرية الثلاث (الجيش، الأمن، الدعم السريع) بعضها في بعض، وتحويل مسؤوليات/مهام بعضها إلى البعض الآخر، بالإضافة إلى جعل بعضها تتجسس على البعض الآخر مما أفقدها القدرة على القيام بأي حركة قد تطيح بالبشير في الوقت الراهن. أيضًا فإن احتمالية تدخل الجيش ستزيد فقط في حالة سقوط الكثير من القتلى والدماء، وهو ما يعنى فقدان المزيد من أرواح المواطنين لأجل تحقيق هذا السيناريو. 

3. تنازل المشير البشير عن السلطة وتسليم قيادة البلاد لمجلس انتقالي يدير العملية السياسية حتى قيام الانتخابات، أو بتخليه عن الترشح للانتخابات القادمة وتقديم وقت الانتخابات للعام 2019 كضمان حقيقي على تخليه عن السلطة. هذا سيناريو محتمل، لكن هناك عددًا من العوامل التي ستؤثر على وقعه. أولها، تصعيد الاحتجاجات عن طريق «اتساع رقعتها» و«زيادة المشاركين فيها من غير الشرائح الشبابية»، وحفاظها على «السلمية»، بالإضافة إلى «زيادة وتيرتها» وتحويلها لـ «عصيان مدني شامل وناجح». ثانيها، الضغوط التي يمكن أن تمارسها القوى الخارجية والداخلية لإقناع البشير بالتنحي عن السلطة بصورة طوعية، ومع أن هذا الشرط ضعيف التأثير نسبة للتحليل الذي ذكرناه بخصوص بنية النظام الحاكم وموقف القوى الخارجية لكنه جدير بالذكر. 

الشرط الثالث والمهم في تحقيق هذا السيناريو هو قدرة قادة الحِراك على القيام بتسويات سياسية تضمن إزاحة البشير من المشهد السياسي تمامًا عن طريق تقديم ضمانات كافية على سلامته الشخصية وسلامة أسرته. وذلك أن أكبر المخاوف التي يتوقع أن تمنع البشير من خطوة التنازل هو ملاحقته من قِبل المحكمة الجنائية الدولية التي تتهمه بارتكاب جرائم حرب في دارفور. وهناك عدد من التوجهات المحلية والإقليمية والدولية التي تدعم هذا الخيار، لكن هناك كذلك رفض كبير لهذا الخيار بين الثوار كما أن هناك بعض القوى الدولية لا تريده. فمحليًّا هناك أصوات (قليلة حتى الآن) تتفق مع هذا المقترح؛ مثل تصريح الصادق المهدي، زعيم حزب الأمة القومي، ورئيس تحالف «نداء السودان» المُعارض بأن البشير إذا تنازل عن السلطة فإن المعارضة السودانية ستقدم صيغة محلية لمعالجة مشكلته مع المحكمة الجنائية الدولية. أما إقليميًا فهناك اتفاق ضمني منتشر بين القادة الأفارقة على عدم تسليم أي رئيس دولة سابق للمحكمة الجنائية، فمثلًا عندما زار البشير جنوب أفريقيا في 2015 ولاحقته المحكمة الجنائية الدولية هناك، رفضت حكومة جنوب أفريقيا أن تقدم أي تعاون للمحكمة. وهناك بعض التأييد الدولي لهذا السيناريو، مثل التأييد الذي ذكره الملياردير البريطاني السوداني موا إبراهيم، كما قدمت مجموعة الأزمة مقترحًا مهمًا بأن يقوم مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بتعليق محاكمة البشير في المحكمة الجنائية الدولية لمدة عام، عملًا بالمادة 16 من نظام روما الأساسي Rome Statute’s Article للمحكمة الجنائية نفسها، ويمكن تمديد هذا التعليق بصورة مستمرة تحت شرط بقاء البشير خارج السياسة السودانية بصورة مستمرة وفقًا للمادة 16 نفسها. لكن في المقابل هناك بعض الأصوات الدولية التي تقف ضد هذا المُقترح، فقد أيد البرلمان الأوربي، التابع للاتحاد الأوروبي، قرار المحكمة الدولية بتقديم البشير للمحاكمة الجنائية. 

ونحاجج هنا بأن تحقيق هذا السيناريو يحتاج من قادة الحِراك أن يقدموا «العدالة السياسية» على «العدالة الجنائية» و«العدالة الاجتماعية/الاقتصادية». وذلك أن العدالة الاجتماعية والعدالة الجنائية تقوم بصورة رئيسية على فكرة «الغياب»، أي أنها تحاول التحدث عن «ما لم يحدث»، في المقابل فهي تتحدث قليلًا جدًا عن «ما حدث بالفعل». بينما تقوم «العدالة السياسية» على فكرة التسوية السياسية وعدم التجريم ولا الشيطنة بين الأطراف المتنازعة والسعي للإصلاح السياسي، وبالتالي فهي تقوم بنقل تركيزنا عن «ما لم يحدث» لمعرفة أشمل بـ «ما حدث بالفعل»، أي أنه مفهوم أقرب إلى الواقعية، وأكثر انحيازًا للمستقبل. وجدير بنا هنا أن نستحضر تجربة «الكوديسا» وهي مجموعة المفاوضات التي حدثت في دولة جنوب أفريقيا، والتي أدت إلى إنهاء نظام الفصل العنصري Apartheid. ففي جنوب أفريقيا لم يكن هناك احتمال لانتهاء الصراع في أي وقت قريب فلم تكن هناك ثورة غالبة لحركات التحرر ولا انتصار عسكري حاسم للنظام الحاكم العنصري، لذلك قررت الأطراف المتنازعة، بدلًا من البحث عن النصر الكامل، أن الأفضل هو التسوية السياسية. والنتيجة أن حدث تغير مفاهيمي من تجريم وشيطنة «الأعداء» إلى اعتبارهم «خصومًا» سياسيين فقط. وهذا مشابه جدًا لوضع الاحتجاجات الحالية في السودان، فلا الاحتجاجات بالقوة الكافية للإطاحة بالنظام عن طريق عصيان مدني شامل ولا النظام الحاكم قادر على معالجة الأوضاع الاقتصادية والسياسية. وإذا قارنا ما حدث في جنوب أفريقيا من «عدالة سياسية»، بما حدث في نورمبرج من «عدالة جنائية» (النموذج نفسه الذي تتبعه المحكمة الجنائية الدولية)، سنجد أن الأخيرة قامت على التجريم وأدت إلى إقصاء «الآخر» من العملية السياسية، في المقابلة قامت الكوديسا على معاملة «الآخر» كخصم سياسي بدلًا من تجريمه مما أدي إلى تضمينه في العملية السياسية، لذلك يرى محمود ممداني بأن العدالة الجنائية في مثل هذه السياقات تكون «إقصائية». أما العدالة السياسية فـ«تضمينية». إن القبول بمنطق «العدالة السياسية»، أو «عدالة الناجين» كما يسميها ممداني، ليس ضعفًا ولا تنازلًا، وإنما تغليبًا لقيمة الحياة على الرغبة في الانتقام والأخذ بالثأر، وأن نمنح الأحياء فرصة جديدة بدلاً من أن ننتقم للأموات، وأن نفكر في المستقبل بدلاً من أن نعيش في الماضي!

4. نجاح الحكومة في إخماد الاحتجاجات وتفريق المتظاهرين. وهو سيناريو محتمل كذلك، لكن حتى لو حدث هذا السيناريو فإن الحراك الحالي قد نجح بالفعل في تضييق الخِناق على النظام الحاكم اقتصاديًّا وسياسيًّا. وذلك أن قمع التظاهرات وإغلاق الصحف الذي قام به النظام الحاكم يعتبر خرقًا واضحًا لشرطين أساسين من الشروط التي وضعتها أميركا لنجاح المرحلة الثانية من مراحل رفع العقوبات عن السودان. وبالتالي، فإن النظام قد خسر بالفعل إمكانية رفع العقوبات، وهذا سيلغي بدوره مقدرة النظام على جذب الاستثمارات الأجنبية، وعلى مقدرته على المزيد من الاقتراض من البنك الدولي أو صندوق النقد الدولي. أما سياسيًا، فإن هذا الحراك قد غيَّر كثيرًا في موازين القوة. ومن المتوقع أن يقوم النظام بتقديم تنازلات معتبرة فإذا كانت احتجاجات سبتمبر 2013 قد أجبرت النظام على تقديم مشروع «الحوار الوطني» كتسوية فإن هذا الحراك هو أشد وأشرس من احتجاجات 2013، وبالتالي فستضطر الحكومة غالبًا لتقديم تنازلات أكبر في حال نجحت في إخماد الاحتجاجات.