دراسات

ألكسندر كازامياس

اعتداءات كرومر على القوميات.. الاستعمار البريطاني والجالية اليونانية في مصر 1882-1907

2020.01.01

مصدر الصورة : الجزيرة

ترجمة: أسماء يس

اعتداءات كرومر على القوميات.. الاستعمار البريطاني والجالية اليونانية في مصر 1882-1907

في الفترة ما بين الغزو البريطاني في 1882 وظهور أول الأحزاب القومية المصرية في 1907، كانت الجاليات الأجنبية في مصر أكثر الجماعات الاجتماعية نفوذًا وتأثيرًا. وعلى الرغم من أن أعدادهم كانت متواضعة للغاية -إذ كانوا يبلغون نحو 91.000 نسمة في عام 1882، بينما كانوا في 1907، نحو 151.000 نسمة؛ وهو ما يعادل 1 %، أو 1.5 % من عدد السكان في مصر[1]- كان تأثيرهم السياسي والاقتصادي والثقافي بالغًا، وقد اعترف المراقبون المعاصرون والمؤرخون المعنيون بالتاريخ المعاصر بهذا الدور. لكن العديد من المؤرخين لا يزالون يصفون تلك الجماعات بمصطلحات جاهزة وثابتة؛ كأكسسورات ملونة براقة للماضي الكوزوموبوليتاني المثالي[2]. وفي حالات أقل؛ عندما يُدرس دورهم بشكل أكثر توسعًا، فإنهم يوصفون في مصطلحات اخترالية بـ«الوسطاء» أو«عملاء» التوسع الاستعماري الأوربي، أو «التوسعيين»[3]. وفي كلتا الحالتين، يتجاهل الدارسون لتاريخ الاستعمار في مصر، هذا التباين الصارخ؛ فهم من ناحية، يكشفون أن الحياة الاقتصادية والاجتماعية للبلاد في خلال القرن التاسع عشر قد هيمنت عليها الجاليات الأجنبية القوية، كاليونانيين والفرنسيين والأرمن والإيطاليين. لكنهم من ناحية أخرى، نادرًا ما أتيحت لهم الفرصة لرؤية كيف مارست تلك الجماعات العرقية سلطاتها عمليًّا. وبصرف النظر عن القليل من الاستثناءات[4]؛ فإن الكثير من معرفتنا بالكثير من حال الجماعات الأجنبية المقيمة بمصر في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، لا يزال معتمدًا على تعميمات نظرية.

يناقش هذا الفصل-من كتاب الجالية اليونانية في مصر- دور أكبر الجاليات الأجنبية المقيمة في مصر؛ وهي الجالية اليونانية، ويركِّز بشكل أكبر على علاقتها بالاحتلال البريطاني في عهد اللورد كرومر؛ 1883-1907. والهدف الرئيسي هنا هو إظهار كيف عاملت السلطات البريطانية في مصر هذه الجماعة العرقية؛ باعتبارها تهديدًا محتملاً، وكيف استخدم أعضاء هذه الجالية قوتهم، بطرق مختلفة، للتصدي للظروف الاستعمارية المستجدة، خصوصًا بعد أن ظهرت آثارها على حياتهم الاجتماعية والثقافية والسياسية. وعلى الرغم من أن عدد اليونانيين المقيمين في مصر آنذاك لم يكن كبيرًا للغاية؛ إذ كان يتراوح من 38.000 نسمة في عام 1882 إلى 63000 نسمة في عام 1907 -أي نحو 0.4 إلى 0.6 % من إجمالي سكان مصر- فقد كان وجودهم الاجتماعي والاقتصادي بارزًا. وكان تركزهم في المناطق الحضرية الرئيسية؛ حيث يعيش 80 % منهم، وهو ما منح وجودهم تماسكًا واضحًا. وفي الإسكندرية، حيث تركزوا بشكل كبير، كانوا يمثلون نحو 8 % من السكان في 1907. وفي السنة نفسها كانوا يمثلون نحو 3 % من سكان القاهرة، و9 % من سكان بورسعيد.

في الواقع، فإن هذه الأرقام تظل أقل من قوتهم الديموجرافية الحقيقية؛ التي ربما كانت تصل إلى الثلث، خصوصًا وأن اليونانيين القبارصة كانوا يعدون من ضمن الرعايا البريطانيين. في حين اعتُبر اليونانيون العثمانيون/ الأتراك، رعايا عثمانيين، أو عديمي الجنسية، ولم يتمتعوا بأي امتيازات بموجب الامتيازات الممنوحة للأجانب. ومن المهم للغاية الإشارة إلى أن الجالية اليونانية تمتعت بهيمنة كبرى على الوضع الاقتصادي والاجتماعي لفترة طويلة قبل الاحتلال البريطاني، وعلى سبيل المثال، ووفقًا لمصدر واحد، فإنه في عام 1850 «كانت نصف السفن التي غادرت الإسكندرية وقدمت إليها، بالإضافة إلى البضائع التي تحملها، مملوكة لتاجر يوناني يدعى ياني دي أنستازي Yanni D’Anastasi [5]». وقد استقر هذا الوضع المثير على هذه الحال حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، وما بعدها. وفي 1918 على سبيل المثال، كان القطن المصري يُباع في الخارج، عبر 15 عائلة يونانية، وهو ما كان يمثِّل نحو 19 % من إجمالي الصادرات المصرية في تلك السنة[6].

وعلى الرغم من أن عددًا من المؤرخين قد اعتبروا العلاقة بين الجالية اليونانية في مصر والاحتلال البريطاني منطقةً غير مدروسة جيِّدًا[7]، فمن المؤكد أنه لا يوجد أي نقص في الفرضيات التي تتخيل نموذجها المزعوم. تفسير واحد قدمه الماركسيون الجدد والمؤرخون المصريون والقوميون العرب؛ وهو أن يونانيي مصر شكَّلوا أساسًا طبقة من «الكومبرادور»؛ أي طبقة من «الوسطاء» الذين عملوا وكلاء محليين للإمبريالية البريطانية، وانفصلوا عن بقية المجتمع المصري، وذلك لأنهم كانوا محميين بواقع الامتيازات الأجنبية[8]. التفسير الآخر الذي قدمه أنصار نظرية التحديث، و/ أو مؤرخو الإثنية اليونانية، يفترض أن اليونانيين في مصر استفادوا عمومًا من الاستعمار البريطاني، لكنهم في نهاية الأمر لم ينحازوا للاحتلال، وانشغلوا، بشكل أساسي، بشؤونهم الخاصة، وبعملية بناء وطنهم الأم، اليونان[9]. أما التفسير الثالث فقد وُجد في دراسة أدبية للروائي الشهير ستراتيس تسيركاس Stratis Tsirkas، نقلاً عن الشاعر قسطنطين كڤافيس، وأثاره أخيرًا المؤرخ ألكسندر كيترويف Alexander Kitroeff، ويرى أن اليونانيين في مصر كانوا منقسمين بشأن موقفهم من الاستعمار البريطاني. فمن ناحية؛ قٌدمت عائلات الطبقة العليا؛ كأنستازي وزيزينيا Zizinia وأڤيروف Averoff -التي جمعت ثرواتها في عهدي محمد علي باشا (1805-1848)، وسعيد باشا (1854-1863)- باعتبارها معادية للبريطانيين، مشاركة بذلك البرجوازيين المصريين مشاعرهم تجاه البريطانيين. ومن ناحية أخرى فإن عائلات الدرجة الثانية؛ وهم التجار والمصرفيون الذين كوَّنوا ثرواتهم خلال طفرة القطن في 1860، مثل خورميس-بيناكيس Choremis-Benakis، وسالڤاجوس Salvagos، وﭼيسيوس Goussios، قد كوَّنوا طبقة من الكومبرادور توافقت مصالحها مع المصالح البريطانية في مصر[10]. وعلى الرغم من أن هذا الطرح، لا يرتقي إلى مصاف التحليل المنهجي، كما يعترف كيترويف نفسه[11]، فإنه يستحق أن يؤخذ بعين الاعتبار؛ أولاً للتأكيد على التأثير الخلافي للاحتلال البريطاني على اليونانيين في مصر، وثانيًا للكشف عن سجل غير معروف للمعارضة اليونانية المحلية للاحتلال خلال حكم كرومر في الثمانينيات والتسعينيات من القرن التاسع عشر. وقد أضاف المؤرخ المصري سيد عشماوي أخيرًا إلى هذا التفسير برهانًا جديدًا بشأن الروابط بين يونانيي الإسكندرية والحركة الوطنية الناهضة[12].

اعتداءات كرومر على الأجانب المحليين: تفسير ما بعد كولونيالي

يبقى أحد أوجه القصور في التفسيرات الثلاثة، هو عدم وجود محاولة جادة لإشكالية التغيير الذي واجهه اليونانيون (أو أي جالية أخرى) نتيجة الاستعمار البريطاني للبلاد. وفقًا للرأي الراسخ؛ فإن الاستعمار البريطاني قد عزَّز المكانة المؤثرة أصلاً لهذه الجاليات، والتي تحققت سابقًا، لمعظمها، بفضل الامتيازات الأجنبية في ظل الحكم العثماني. ودون تقديم أسباب تفسيرية، تخلص الدراسات، ببساطة، إلى أن الجاليات الأجنبية في مصر قد صارت أكثر أمانًا منذ الاحتلال 1882. فيما تطرح دراسات أخرى النمو السكاني لهذه الجاليات دليلاً على تحسُّن أوضاعها في ظل الاستعمار[13]. ومع ذلك فقد أُولي القليل من الاهتمام لحقيقة أنه على الرغم من النمو الكبير في أعداد الأجانب، فإن الجالية اليونانية بالذات، وهي أكبر الجاليات الأجنبية في مصر، قد فشلت، بعد 15 عامًا من الاحتلال البريطاني، في تحقيق أي نمو ديموغرافي على الإطلاق. ومع استمرار الوجود البريطاني بين عامي 1907 و1917 فإن أعداد اليونانيين في مصر قد تقلَّصت[14]. ويظل الأكثر أهمية أنه لم يُذكر أي دليل على أن الاستعمار البريطاني هو الذي تسبب في هذا النمو السكاني خلال هذا العقد (1907-1917)، وأنه لم يحدث بسبب العوامل الاجتماعية والاقتصادية المختلفة التي جلبت الأجانب إلى مصر بأعداد كبيرة قبل 1882.

على كلٍ، فإن التحليل الأكثر أهمية هو الذي أولى اهتمامًا لحقيقة أن الاستعمار البريطاني حوَّل المصريين، والأجانب المحليين على حد سواء، إلى رعايا مستعمَرين.

في كتابه «مصر الحديثة»، 1908، كشف كرومر عن أن أحد أهدافه الرئيسية كان تقليص امتيازات الأجانب في مصر، وأنه إذا كانت بريطانيا ستحكم مصر بشكل دائم فإن عليها «استيعاب الأوضاع القانونية لجميع سكانها». وكان تبريره لمثل هذه السياسات أن تقليص الامتيازات الأجنبية كانت خطوة مهمة ومطلوبة من أجل حماية الجاليات الأجنبية من «أذى» «التشريعات والعمليات الإدارية الشرقية». لكنه ذكر أن هذه الضمانات لا داعي لها تحت حكمه، إذ «لن يكون هناك خطر ناتج عن سوء استخدام السلطة». وفي موضع آخر من الكتاب يذكر كرومر أن تقليص الامتيازات الأجنبية كان لازمًا لمنع الأوربيين المحليين من إيذاء المصريين، وقد ذكر نصًّا أن سبب الاحتلال البريطاني لمصر كان «السيطرة على الأوروبيين الهمج»[15].

وقد لاحظ بعض نُقَّاد ما بعد الكولونيالية؛ مثل هومي بهابها Homi Bhabha، أن «بناء المسألة الاستعمارية في الخطاب، وممارسة القوة الاستعمارية من خلال الخطاب، يتطلبان تعبيرًا عن أشكال من الاختلاف؛ العرقي والجنسي»[16]. وإذ حصرنا أنفسنا في التعبير عن الاختلاف العرقي، على عكس وجهة النظر السائدة، فإن الاستعمار البريطاني لم ينظر قط إلى الأجانب المقيمين في مصر، والذين جاءوا من أوروبا تحديدًا، على أنهم أوروبيين أصليين. وفقًا لكرومر، فإن هذه العرقيات ستوصف بـ«المشرقية»؛ وهو المصطلح الذي استخدمه في الإشارة إلى «المستشرقين الأوروبيين»، فهم، بنص تعبيره «مشرقيو مصر» بدرجات متفاوتة. لكن معظمهم يقع تحت الفئة إما «شبه المشرقية» أو «المشرقية تمامًا، التي حافظت بالكاد على أي خصائص أوروبية»[17].

وقد قارن مسؤولون استعماريون آخرون عملوا في القاهرة، مثل ألفريد ملنر Alfred Milner، بين فرنسيي فرنسا والدبلوماسيين الفرنسيين في مصر «الذين قد أشاد بهم»، وبين «أغلبية الجالية الفرنسية في مصر» التي وصفها بأنها «بعبارة ملطفة، ليست من النوع الجيد»[18]. لا عجب إذن أن اليونانيين كانوا مجموعة أخرى احتلت مكانة بارزة في تصنيف كرومر تحت فئة «المشرقيين تمامًا»، هذا على الرغم من أنه كان حذرًا في وصفه لبرجوازيتهم الرفيعة بأنها «ذات فائدة كبرى» لمصر ولصغار التجار، وأنها «تستحق الاحترام الكامل»، في حين تكوَّنت بقية الجالية في رأيه من «الطبقة الدنيا اليونانية، الحرفيين والمرابين وبائعي الخمور... إلخ»، الذي ذكر أن «وجودهم كان ضارًا في أغلب الأوقات». ويذكرنا وليم جلادستون William Gladstone بالقول المأثور عن النموذج المثالي «للمشرقيين» النموذجيين؛ وهم الأتراك. إذ كان يأمل أن «يحزم هؤلاء اليونانيون حقائبهم وممتلكاتهم ويخرجون من تركيا»[19]، وهي وجهة النظر التي لاقت صدى عند ملنر، الذي وصف، في 1892، اليونانيين في مصر بأنهم «سيئو السمعة... يتحدون السلطة، ويمارسون العنف، ويخرقون القانون»[20]. وفي ظل هذه التصورات المنتقدة، لا عجب أن يعلن كرومر أنه سيعمل فورًا على مساواة أوضاعهم القانونية ببقية المصريين، لكن هذه السياسة اعترضتها عقبة أساسية؛ ألا وهي سلطة لجنة الامتيازات الأجنبية ذات الخمس عشرة عضوًا، والتي مثَّلت ما أسماه كرومر «القومية التي أود القضاء عليها». قائلاً إن هذه الظاهرة بلغت حد «الأنانية السياسية»، واستمر في انتقادها إذ أنها «تسبب تقويضًا للسلطة الأوربية التي يقوم تأثيرها الهائل في النهوض بالمدنية على اعتماد مصر... على بريطانيا العظمى»[21]. ومن ثم بدأ المعتمد البريطاني مُبكرًا في البحث عن طريقة لتحجيم تأثير «القومية».

في مؤتمر لندن 1884، وافق كرومر على إقراض مصر 9 مليون جنيه إسترليني لقاء موافقتها على إلغاء الامتيازات الممنوحة للأجانب، وهي على سبيل المثال؛ إعفاؤهم من بعض الضرائب. وفي 17 مارس 1885 تلقى بيانًا مكتوبًا من لجنة الامتيازات الأجنبية أعلنت فيه أن "من العدل إخضاع رعاياهم للضرائب نفسها المفروضة على المصريين"[22]. وبناءً عليه أصدرت الحكومة المصرية مرسومًا في أبريل 1886، يُلزم الأجانب بدفع ضريبة على العقارات. كما أصدرت مرسومًا آخر في 1892 يلزمهم بدفع ضريبة المهن. ويلاحظ ملنر؛ الذي أصبح لاحقًا مستشار الحكومة المصرية للشؤون المالية، أنه عندما بدأ الأجانب في دفع ضريبة العقارات عام 1887، فإن الإيرادات الناتجة من هذا الإجراء وحده ارتفعت من 45.000 جنيه إسترليني إلى 110.000 جنيه إسترليني، وهي زيادة توضح القوة الاقتصادية لهذه المجموعات، وإلى أي مدى بدأت تساهم في استعادة الموارد المالية العامة في مصر[23]. أما فيما يخص ضريبة المهن، فقد أشارت مذكرة قدمها اليونانيون في القاهرة إلى البرلمان اليوناني في عام 1891 أن من بين 210.2 أجنبيًّا بدأوا في سدادها، كان نصفهم تقريبًا -أي1048- يونانيين، بينما كانت النسبة أعلى من ذلك في الإسكندرية[24]. ومع ذلك فقد أُلغيت ضريبة المهن، بعد أن احتجَّ اليونانيون والفرنسيون في أوائل 1892، وقد شمل إلغاؤها المصريين، عملاً بالمبدأ الجديد الذي يحرم الأجانب من التمتع بأي امتيازات لا يتمتع بها السكان المحليون[25]. ونتيجة لتلك الإصلاحات فقد الأجانب المحليون كل ما ميَّزهم عن المصريين، باستثناء ضريبة الدمغة[26]. لكن كرومر نجح جزئيًّا في تقليص الامتيازين الأساسيين الممنوحين للأجانب في مصر بموجب اتفاقية الامتيازات الأجنبية؛ وهما مبدأ حرية الحركة داخل الدولة، ومبدأ حرية النشاط التجاري، بالإضافة إلى التهديد بإلغاء المحاكم المختلطة، ونتيجة لتلك الإصلاحات، فقد الأجانب المحليون كل ما ميَّزهم عن المصريين، باستثناء ضريبة الدمغة[27].

وفي 13 يناير 1889 وافق المعتمد البريطاني على اتفاقية الامتيازات الأجنبية التي سمحت للحكومة المصرية بسن قوانين وتشريعات تساوي بين الأجانب والسكان المحليين. وبناءً عليه أصدرت، في الفترة ما بين 9 إلى 13 يونيو 1891 خمسة تعليمات أمنية تنظم العمل في المحال التجارية والعيادات الطبية والأجزخانات وبيع العقاقير الطبية والمحاسبات. أول هذه القوانين؛ وهو ما كان خاصًا بتقييد إصدار تراخيص المقاهي والفنادق والبارات والمسارح، أضرَّ كثيرًا بمصالح اليونانيين، الذين كانوا مسيطرين على سوق هذه الأعمال. لاحقًا، زعم ويلفرد سكاون بلنت Wilfrid Scawen Blunt؛ الذي كان صديقًا للوطنيين المصريين، أنه كان صاحب فكرة إقناع كرومر بتقنين تجارة الكحول، ذاكرًا أن المعتمد البريطاني 1890 طمأنه إلى أن رئيس الوزراء؛ رياض باشا «سيفعل ما في وسعه» إذ أنه «كان معاديًا لليونانيين»[28]. وبعد إقرار هذه القوانين، خلُص الدبلوماسي نيكولاس سكوتيديس Nikolaos Skotidis، الذي كان معروفًا بولائه للاحتلال البريطاني، إلى ما يلي:

«أن الحكومة المصرية، أو بالأحرى البريطانيين، كانوا مدفوعين في إقرار هذه التعليمات بعدائهم لليونانيين... على الرغم من أن الأمر يبدو ظاهريًّا وكأنه استغلال لحسن نية وحاجات المصريين... فهي-الحكومة- لا تجرؤ على طرد هذا العدد الهائل من اليونانيين المصريين، وكانوا يظنون أنهم يستطيعون إجبارهم على ذلك بشكل غير مباشر[29].»

وهي الانطباعات نفسها التي نُقلت في عام 1892 إلى رئيس الوزراء السابق، وزعيم المعارضة آنذاك كاريلوس تريكوبس Charilaos Trikoupis، عبر صديقه في الإسكندرية؛ قاضي المحكمة العليا في المحاكم المختلطة أندرياس بنجالوس Andreas Pangalos، الذي كتب إليه في رسالة شخصية أن «الاحتلال الإنجليزي لا ينظر إلينا نظرة إيجابية» وأن «الجالية في جميع أنحاء مصر تمر بوقت عصيب»[30]. وعلى الرغم من أن هذه التعليمات لم تصل إلى حد أن تكون ضارة، كما كان يُخشى أن تطال قيودها حرية التجارة والإعفاءات العقارية وكذلك توسيع نطاق عمل المحاكم المختلطة ليشمل بعض القضايا الجنائية، فإنه كان يُنظر إليها على أنها إشارة نحو التوجه التام لإلغاء الامتيازات الأجنبية[31]. وكمحام فقد علَّق زعيم الديمقراطيين في البرلمان اليوناني، جورجيوس فيلاريتوس Georgios Philaretos، في 19 ديسمبر 1891، بأن هدف «الدبلوماسية الأنجلو-مصرية كان إلغاء الحد الأدنى من الامتيازات التي يتمتع بها الأجانب، وقد تحقق هذا جزئيًّا»[32].

تؤكد دراسة حديثة عن تاريخ الإمبراطوريات، أن الاستعمار عادة ما ينتج ثلاثة أنواع من رد الفعل بين الشعوب المستعمَرة. وقد حددها ستيفن هاو Stephen Howe بـ«المقاومة والتعاون والتكيُّف»، بينما أضاف آخرون مفهوم «التفاوض» للتأكيد على حقيقة أن النوع الثالث من الاستجابة غالبًا ما ينطوي على عنصر من الخصومة التي لا يُشار إليه بمصطلح «التكيف». وفيما يلي، سيرصد هذا الفصل كيف انتهت شرائح مختلفة من المجتمع اليوناني في مصر إلى تبني كل من هذه المواقف الثلاثة البديلة تجاه الاحتلال البريطاني. وبتتبع هذا، سيوفر التحليل، أولاً، نسخة منقحة من أطروحة قدمها تسريكاس Tsirkas وكيترويف Kitroeff، بشأن التأثير المنقسم للاستعمار البريطاني على اليونانيين في مصر. وفقًا لتفسير التكيف، وبخلاف التعاون والمقاومة، ستقدم سياسة التفاوض، المتغاضى عنها، باعتبارها منهجًا استخدمه المجتمع اليوناني من 1885 حتى أواخر 1890. ثانيًا، تحدد سياق السياسة البريطانية تجاه المقيمين الأجانب في مصر، وستؤكد الحجة أيضًا على أن نجاح كرومر في تقليص امتيازات الأجانب في مصر على مدار الأعوام 1885-1891 أثبت أنه كان حاسمًا في تحويل الموقف المهيمن داخل المجتمع اليوناني من حالة التعاون إلى التفاوض. وهو التحول الذي يرجع، في جزء كبير منه، إلى انتخابات 1885 التي جاءت بزعيم قوي ومستقل على رأس الجالية اليونانية في الإسكندرية؛ جورج أڤيروف George Averoff، وهو تطور مكَّن اليونانيين المصريين من تأكيد معارضتهم وبقوة لعدد من جوانب السياسة البريطانية في مصر. وأخيرًا، وعلى عكس وجهة النظر القائلة بأن مجتمعات الشتات قادرة بطريقة ما على التهرب من آليات الهيمنة والسيطرة الاستعمارية، فإن المناقشة التالية ستظهر أنه، على الرغم من المعارضة واسعة النطاق التي واجهته، فإن الاستعمار البريطاني، قد نجح في نهاية المطاف في زعزعة استقرار أكبر مجتمعات الشتات في مصر، وزرع الانقسامات الحادة في داخل صفوفه.

تاريخ التعاون

حتى قبل الغزو البريطاني عام 1882، كانت مجموعات داخل الجالية اليونانية في مصر قد أبدت تعاطفها مع احتمالية خضوع البلاد للحكم البريطاني. وكان أبرزها طبقة البرجوازية السكندرية، التي تركزت أنشطتها في قطاعات الكومبرادور مثل تجَّار القطن والقطاع المصرفي. ومنهم خورميس يبناكيس، وسالفاجوس وزيرفوداكيس وجوسيوس (شملت كلا من عائلات الدرجتين الأولى والثانية) التي طالما ارتبطت مصالحها بالبريطانيين منذ عام 1882؛ حتى أن الكثيرين منهم حملوا الجنسية البريطانية.

وتألفت المجموعة الثانية من صحفيين ومثقفين بارزين، مثل فرديناندو أودي Ferdinando Oddi، ونيكولاس سكوتيديس Nikolaos Skotidis وإيتيوكليس كرياكوبوليس Eteoklis Kyriakopoulos، الذين كان لكتبهم ولمقالاتهم التي تنشر في الصحافة المحلية تأثير كبير على المجتمع. وأخيرًا، العنصر الثالث الذي فضل التدخل البريطاني، فقد كان قطاعًا كبيرًا من الطبقة الوسطى التي دعمت حكومة تريكوبس الليبرالية في اليونان.[33] وطبَّقوا سياساتها عبر قنصليتهم في الإسكندرية. وقد ارتبطت المجموعات الثلاث ببعضها؛ على سبيل المثال، كان ﭼيسيوس شخصيًّا يقدم استشارات مالية لتريكوبس، في حين كان سكوتيديس مؤلف الكتاب الشهير عن الغزو البريطاني 1882 [34] نائبًا للقنصل من 1880 إلى 1882، وكان قنصلاً في الفترة من 1901 إلى 1910.

إذا أردنا إضفاء الطابع التاريخي على سجل التعاون هذا، يجب أن نتتبع أصوله منذ بدايات الاحتلال البريطاني. وعلى الرغم من أن الثورة العُرابية قد استُقبلت بكثير من التعاطف في جميع الأوساط اليونانية، فإن النزاع المتصاعد بين الجنرال المتمرد والخديو توفيق بعد فبراير 1882 والعنف المتزايد ضد الأجانب من قِبل أنصار عرابي قد ساهم في تغيير هذا المنظور. ونتيجة لذلك خلصت صحيفة أمونويا السكندرية Omónoia إلى أن «اليونانيين في مصر يمرون بأزمة كبرى»[35] بينما في العاصمة بدأت صحيفة كايرون الأسبوعية في مراجعة موقفها الداعم للثورة العُرابية، وفي 19 مايو 1882 كتب أودي في افتتاحية الصفحة الأولى: «منعطف سياسي نحن الذين دائمًا... وقفنا مع ما يسمى الفصيل الوطني... ضُللنا بطريقة مأساوية... لقد اعتنقت كل الصحف الأوروبية في مصر حركة سبتمبر وأيدتها... وفي الساعات الأخيرة، بينما كان الحاكم على وشك أن يُعزل، وقناصل الدول الكبرى على وشك أن يذبحوا، واستسلمت الدول الأوربية... وقف الجندي المصري النبيل أحمد عرابي وقال «لقد اشتريت أرضًا، ويجب أن أرعاها. وتزوجت، ولن أستطيع المجيء»[36]. كان العامل الرئيسي الآخر في تحويل نسبة كبيرة من الرأي اليوناني المحلي لصالح التدخل البريطاني هو السياسة الإمبريالية لحكومة تريكوبس في اليونان وتشجيعها من قبل قنصله في الإسكندرية؛ كيلي رانجافيس ونائبه سكوتيديس. وبناءً على توصية رانجافيس، أمر تريكوبس بإرسال سفينتين حربيتين يونانيتين، وهما هيلَّاس والملك جورج، للانضمام إلى الأسطول الأنجلو-فرنسي الذي وصل إلى الإسكندرية في 20 مايو 1882.

وكان لظهور العلم اليوناني فوق ميناء المدينة بعد ثلاثة أيام، والاستقبال الحار الذي تلقاه قادة الأسطول الحربي من قادة المجتمع المحلي، أثر كبير في تحويل الرأي العام اليوناني في الإسكندرية لصالح دبلوماسية السفن الحربية التي كانت تنشر الجنود البريطانيين والفرنسيين في مصر. علاوة على ذلك فقد كثف وصول السفينتين هيلَّاس والملك جورج المخاوف المتفشية في المجتمع من أن «عرابي يشكِّل تهديدًا خطيرًا»، في حين أثار إطلاق المدافع المتكرر في الهواء عددًا قليلاً من المصريين للقيام بأعمال عنف ضد اليونانيين الموجودين على الشاطئ[37]. وتؤكد المحفوظات الدبلوماسية البريطانية واليونانية أنه عشية أعمال الشغب التي وقعت في 11 يونيو 1882، كان هناك جزء كبير من الجالية اليونانية بالإسكندرية، جنبًا إلى جنب مع السكان الأوروبيين الآخرين في المدينة، يستعدون لقتال جنود عرابي في محيط قصر القنصل. وفي منتصف مايو اتفق رانجافيس مع نظيره البريطاني إدوارد ماليت Edward Malet على وضع «خطة دفاعية» شاملة تتضمن مشاركة «3000-400» من الأوروبيين المسلحين لحماية الأجانب المقيمين في المدينة وممتلكاتهم. وتحقيقًا لهذه الغاية فقد هبطت السفن الحربية اليونانية التي وصلت إلى الإسكندرية سرًّا «سفينتان حربيتان» على الأراضي المصرية، وأرسلت شحنات كبيرة من «الذخيرة» والإمدادات للمساعدة في تنفيذ «خطة الدفاع»[38]. وعلى الرغم من أن التكوين العرقي للميليشيات الأوروبية المحلية غير معروف تفصيلاً، فإن جنسية كليهما؛ زعيمها الممول أمبرواز سينادينوس Ambroise Synadinos، والقنصل المسؤول عن تنفيذه لا يتركان مجالاً للشك في أن الكثير من أعضائه كانوا يونانيين. ومع أن ماليت أمر رانجافيس أخيرًا بالتخلي عن الخطة، بعد أن كُشفت، فمن المحتمل أن أعمال الشغب التي وقعت في 11 يونيو 1882، والتي بلغت ذروتها عند الغزو البريطاني لمصر في 11 يوليو، كانت جزئيًّا بتحريض من أنصار عرابي[39].

في بدايات الغزو البريطاني، كتبت صحيفة الوطن أن «صديق عرابي، ويلفريد سكاون بلنت، حدد أربع مجموعات معتبرًا إياهم الأعداء الرئيسيين للجنرال المصري المتمرد، ومن بين هؤلاء «السوريين والأوروبيين، باستثناء الإيطاليين» ولكن على الرغم من أن اليونانيين كانوا من بين هذه الفئة، فقد خصَّ بلانت «المصرفيين اليونانيين الذين كان معظمهم من المرابين في الأرياف» كفئة رابعة تستحق ذكرًا خاصًا.[40] بعد القصف البريطاني للإسكندرية في 11 يوليو 1882، عرض چون أنطونيادس John Antoniadis، وهو تاجر ومصرفي بارز، على ​​القوات البريطانية للتمركز في حدائقه الشهيرة في النزهة، ليتمكنوا من مراقبة تحركات الجيش العربي حول بحيرة مريوط. ومكافأة له منحته الملكة ڤيكتوريا وسام فارس في عام 1887.وبالمثل، عرض قسطنطين زرفوداكيس Constantine Zervoudakis، وهو مصرفي يوناني بارز آخر، مستودعاته في الإسكندرية تستخدمها القوات البريطانية كمستشفى، فمنحته الملكة البريطانية لقب بارون في عام 1883 [41]. وبمجرد أن استتب الأمر للبريطانيين بدأ عدد من الشخصيات البارزة في المجتمع اليوناني بالإسكندرية، بقيادة تاجر القطن البارز ثيودور راليس Theodore Rallis، فيما يشبه حالة تملق جماعية، لدرجة أنهم أرسلوا برقية تهنئة إلى رئيس الوزراء البريطاني وليم جلادستون لتهنئته على «الذكرى الخمسين لانتخابه عضوًا في البرلمان»[42]. وفي السنوات اللاحقة تطورت العلاقات بين التجار اليونانيين في الإسكندرية وبين سلطات الاحتلال. في مذكراتها ترصد الروائية بينيلوب دلتا أن والدها؛ تاجر القطن البارز إيمانويل بيناكيس، قد طوَّر علاقة شخصية مع كرومر، الذي تعامل معه كمتحدث باسم اليونانيين، قبل أن يصبح فعلاً رئيسًا للجالية اليونانية في الإسكندرية في عام 1901. فكتبت في جمل تشوبها لمسة براءة «كلما كانت هناك مشكلة مع اليونانيين، كان كرومر يقول: ماذا يقول بيناكيس؟ إذا قال بناكيس لا، فهو على حق»[43]. وفي 1959-1960، اكتشف الصحفي سوريانوس كريسوستوميديس، أن كرومر دعا في عام 1892 رئيس التحرير السابق لصحيفة فار دو بوسفور في إسطنبول، الصحفي اليوناني إتوكليس كيرياكوبولس، لإصدار صحيفة فرنكوفونية في القاهرة لتكون ناطقة بلسان الاحتلال. ووفقًا لما ذكره نيكولاوس Nikolaos نجل إتوكليس، فقد نتج عن هذه الدعوة إصدار صحيفة لو بروجرس Le Progrès، التي حصلت على إعانة سنوية بقيمة 1600 - 1800 جنيه إسترليني من القنصلية البريطانية، علاوة على ترخيص من خِصم كرومر؛ الخديو عباس حلمي الثاني، من أجل تخفيف انتقاداتهم ضد الديوان الملكي[44]. وعلى مدى معظم تسعينيات القرن التاسع عشر، وصفت لو بروجرس بسخرية في الصحف المصرية - اليونانية باعتبارها «الصحيفة» أو «صحيفة الاحتلال البريطاني الصغيرة في مصر»[45]، إذ عادة ما كانت امتلأت بالتقارير المزيفة، أو كانت لسان أعمال كرومر القذرة. وعلى سبيل المثال، كتبت صحيفة ميتاريثميسس في فبراير 1895 ما يلي:

الصحيفة الناطقة بلسان الاحتلال البريطاني «بروجرس» تهنئ قضاة المحكمة العليا في القاهرة لتأكيدهم الحكم الأولي الذي يدين الأهالي الذين هاجموا الجنود البريطانيين. فقرار المحكمة العليا، كما يقول، كان مفاجأة سارة؛ كما لو أنها لم تكن تتوقع ذلك، هذا كل شيء! [46] وفي أبريل من العام نفسه، وعندما زار سكرتير اللجنة الأولمبية اليونانية، تيموليون فيلمون، مصر لجمع الأموال من أجل دورة ألعاب 1896، أفادت بروجرس أن الضيف كان من مؤيدي «مهمة الحضارة الإنجليزية في مصر». وعلى الفور فنَّدت صحيفتا كايرون وميتاريثميسس تقرير بروجرس، وأكدتا أن فيلمون يشعر بخيبة أمل عميقة منه[47]. ومع ذلك، فبحلول نهاية القرن، بدأ تاكيدروموس يتعامل مع بروجرس على أنها صحيفة «ذات مصداقية»[48]. وفي عام 1899 انتقلت قيادة الجالية اليونانية بالإسكندرية أخيرًا إلى أيدي عائلات الكومبرادور االموالية للإنجليز، بدءًا بسلڤاجوس (1899-1901) ثم بيناكيس (1901-11).

كان التعاون مع الاحتلال البريطاني السياسة التي دعمتها حكومة تريكوبس بقوة منذ بداية الغزو عام 1882. وبالإضافة إلى القنصل أناستازيوس فيزانتيوس، عمل تريكوبس في عامي 1883 و1884 مع المراقب المالي في الحكومة المصرية، إدجار ڤنسنت، على إعداد معاهدة تجارية ثنائية مع مصر، وهي المعاهدة التي دخلت حيز التنفيذ في 3 مارس 1884. كان لهذا الاتفاق أهمية على عدة أصعدة. فقد كانت أول معاهدة موقعة من قبل مصر بعد عام 1882، مما يعطي شرعية دولية للاحتلال. ثانيًا، شددت الرقابة الجمركية على البضائع التي يستوردها التجار اليونانيون في مصر، وشكَّلت محاولة أخرى للحد من «حرية التجارة» المكفولة بموجب الامتيازات؛ وثالثًا، مكَّنت المعاهدة اليونان من مضاعفة صادراتها إلى مصر ثلاثة أضعاف، من 23،624 جنيه إسترليني عام 1883 إلى 87.227 جنيه إسترليني عام 1884. خصوصًا وأن ڤنسنت وافق على طلب تريكوبس بتخفيض 25 % من الرسوم المفروضة على التبغ اليوناني من «5 بيستريس للكيلو إلى 5 بيستريس للأُقة»، وهو ما جعله على قدم المساواة مع منافسه الرئيسي؛ التبغ التركي[49]. وبالعودة إلى عام 1879، أمضى ڤنسنت، البالغ من العمر 22 عامًا آنذاك، بعض الوقت في اليونان، وارتبط بعلاقة صداقة مع تريكوبس، الذي كتب إليه في إحدى الرسائل «سأظل أعتبر نفسي دائمًا مدينًا لك». ويبدو من مراسلاتهما أيضًا أن ڤنسنت لديه الأفكار السلبية الموجودة عند الكثير من الليبراليين البريطانيين بشأن تركيا، وأنه كان فخورًا بأن يوصف «أكثر من محب للهيلينيين»[50]. وعلى هذا يمكن النظر إلى المعاهدة التجارية التي عقدت في 1886 كانعكاس لكراهيته القديمة تجاه تركيا، وتعاطفه مع اليونان، بالإضافة إلى صداقته الشخصية لرئيس الوزراء اليوناني. بالإضافة إلى ڤنسنت، كان لتريكوبس صديق مؤثر آخر في البرلمان البريطاني وهو إدوين إجيرتون، الذي كان يخدم في أثينا قبل أن يرسل إلى القاهرة؛ ليقوم بدور الرجل الثاني بعد كرومر، الذي كان متعاطفًا مثله تمامًا مع المصالح التجارية لليونان[51]. وعليه، دفعت هذه الصداقات الشخصية تريكوبس إلى الترحيب بمعاهدة عام 1884 بثقة متزايدة، وهو ما منعه من البحث عن ضمانات أقوى لضمان بقاء مستوى الجمارك على التبغ منخفضًا في المستقبل. ولا عجب أنه في غضون عام، أصبحت معاهدة عام 1884 هدفًا لانتقادات شديدة. في 5 سبتمبر 1885، ذكرت صحيفة أمونويا أن الضوابط المشددة على الواردات أدت إلى «تعامل موظفي الجمارك مع التجار اليونانيين وكأنهم مهربون ولصوص، وكانوا يرفضون الاعتراف بفواتيرهم وخطابات اعتمادهم».[52] في الوقت نفسه، وبحلول عام 1885 ارتفعت الرسوم المفروضة على التبغ ثلاثة أضعاف؛ من 5 قروش للأُقة إلى 12 قرش للكيلو، وبحلول عام 1892 ارتفعت إلى 20 قرشًا للكيلو. وهو ما يعادل زيادة خمسة أضعاف ما كانت عليه في 1884 [53].

وقد كشف ملنر في وقت لاحق، أن القوة الدافعة وراء هذه الزيادات لم تكن سوى صديق تريكوبس؛ الشاب ڤنسنت، الذي أثنى عليه زميله البريطاني لاكتشافه، على حد تعبيره، كيف يمكن «زيادة هذه الجمارك» لتكون مصدرًا لإيرادات الحكومة الأنجلو- المصرية[54]. لكن الحقيقة أن المستهلكين المصريين وخصوصًا الفلاحين، كانوا أكثر من تضرر من وطأة هذه الزيادة، إذ كانوا يدخنون بكميات كبيرة، وكذلك اليونانيين المحليين الذين يملكون معظم صناعة السجائر في مصر، والتي كانت تعتمد على التبغ المستورد.

الجانب الآخر لسياسة التعاون هو الموقف غير المبالي لأعضاء القنصلية اليونانية تجاه المجتمعات الأجنبية الأخرى ودبلوماسييهم، باستثناء البريطانيين طبعًا. وعلى الرغم من أن هذا التوجه كرَّسته قيادة تريكوبس، فإن حكومات ديليان المنافسة له (1885 - 1868، 1890 - 1882) لم تفعل شيئًا لتغير الوضع؛ إما لأنها كانت قصير المدة وغير فعالة، أو لأنها اعتمدت على دبلوماسيين، مثل بيزانتيوس الذي كان من أنصار تريكوبس[55]. نتيجة لذلك، وفي خلال الضجة التي أثارتها التعليمات الأمنية المشددة رفض بيزانتيوس أن يتعاون مع بقية قيادات مجلس الامتيازات، وهو القرار الذي أثار السخط حتى بين أصدقاء تريكوبس. أحد هؤلاء الأصدقاء، وهو أندرياس بانجالوس، القاضي في المحاكم المختلطة، كتب إلى تريكوبس (زعيم المعارضة الآن) واصفًا سلوك بيزانتيوس على النحو التالي:

عدم اتخاذ قنصلنا العام أي إجراء بشأن أحدث المراسيم، وخصوصًا تلك المتعلقة بالمحال التجارية العامة؛ وفشله في الاحتجاج في الوقت المناسب، وغياب القنصل العام خارج مصر في الوقت الذي طالب فيه قنصلا فرنسا وروسيا بتعديله؛ وعدم وجود إرشادات من الوزارة للموجودين هنا، والقناعة الحمقاء لقنصلنا العام أن زميليه، كان يجب أن ينتظراه ليتصرفوا بشكل جماعي. وقد نقل هذا الرأي إلى الوزير. إن البرود الشخصي الحالي في العلاقات بين قنصلنا وقنصلي فرنسا وروسيا أدى إلى خسارتنا لمصالحنا في هذه القضية[56].

في حديثه بالبرلمان في 19 ديسمبر 1891، ألقى فياريتوس معظم اللوم على وزير خارجية ديليان، زيجومالاس، وانتقده للسماح لـبيزانتيوس «بقضاء إجازته في أثينا... بهذه اللامبالاة... وصل متأخرًا». وهو ما جعل فيلاريتوس يخلص إلى أن «حكومة تريكوبس السابقة... لم تؤذ المجتمع اليوناني في مصر بالسياسات التي اتبعتها، لكن الحكومة الحالية باتباعها سياسة أسلافها هي ما يُنتقد بشدة». فقد اعتمدت الأداء نفسه. ونقل عن صحيفة ديباتس الباريسية أنها دعت الحكومة في أثينا إلى «التضحية بشكل أقل سهولة في المرة القادمة... بالمصالح الخاصة لجاليتها في مصر، وتخفيف التوجهات الخاضعة عند ممثليها الدبلوماسيين وقضاتها تجاه الإنجليز». مع ذلك، وعلى الرغم من عدم فعاليتها وموافقتها على الضغوط البريطانية، فإن حكومة ديليانس لم تلتزم بسياسة تريكوبس التابعة للإنجليز[57]. بعد بضعة أسابيع، وكما لاحظ ملنر، فإن الحكومة اليونانية قد انضمت إلى الحكومة الفرنسية لإجبار كرومر على إلغاء ضريبة التراخيص المهنية[58].

منهج التفاوض

من منتصف ثمانينيات القرن التاسع عشر وحتى نهاية تسعينياته، بدأت الحالة الوسطى بين التعاون والمقاومة في الظهور، كرد فعل مصري - يوناني على الاحتلال البريطاني. هذه السياسة التفاوضية، التي كانت متقلبة وغامضة في الوقت نفسه، توجهت بشكل رئيسي ضد المجتمع البرجوازي ومؤسساته الكبرى والصحافة المصرية اليونانية. وكان تناميه من عام 1885 وحتى نهاية تسعينيات القرن التاسع عشر ردًّا على الإدراك المتنامي بأن الاحتلال البريطاني أخذ يكتسب طابع الدوام، وأن سياسات كرومر تجاه الأجانب المصريين بدأت تتخذ شكلاً واضحًا. علاوة على ذلك، فإن عائلات «الطبقة العليا» القديمة، ممثلة في أڤيروف، كانت لا تزال قادرة على تأكيد هيمنتها على منافسيها الموالين للبريطانيين داخل المجتمع. على الرغم من أن الحدود التي فصلت التفاوض عن استراتيچيات التعاون والمقاومة، ليست واضحة دائمًا، ففي هذا السياق بالذات كانت اختلافاتهم واضحة، خصوصًا في اثنين من النواحي الرئيسية. أولاً، كان التفاوض قائمًا على نهج مستقل نسبيًّا، وقد تجنب الالتزام بتحالفات مستقرة، إما مع البريطانيين أو مع غيرهم من الأجانب والمصريين، وعملت بدلاً من ذلك على إثارة مبادئ القومية اليونانية. ثانيًا، شهدت هذه السياسة قدرة على التكيف والمناورة أعلى من العمل الاستراتيجي - وجهة نظر قدمها لاحقًا بعض النقاد كنموذج للسياسة الشتات اليونانية[59]. ويقال إن الشاعر اليوناني الرائد كڤافيس كان من أنصارها، وقد عبَّر عنه في إحدى قصائده الشهيرة «التصرفات المتنوعة لتكيفنا المدروس»[60].

كان التفاوض منهجًا تبناه العنصر المهيمن في البرجوازية اليونانية في مصر، والتي، حتى نهاية تسعينيات القرن التاسع عشر، لم تكن من «الكومبرادور» ولا من النوع «الوطني». إذ كان طابعها الاجتماعي-الاقتصادي مختلطًا، واشتمل على العديد من الخصائص التي كتبها المُنظِّر السياسي نيكوس بولانتزاس، في سياق مختلف، مرتبطًا بما يسمى «البرجوازية الداخلية». وعلى عكس الموقف المعتمد لبرجوازية «الكومبرادور» كانت البرجوازية الداخلية، وفقًا لبولانتزاس، تتمتع بمستوى معين من الاستقلال الذاتي، مما يجعل علاقتها بالإمبريالية تتسم بتناقضات كبرى. ومع ذلك، يضيف بولانتزاس أن هذه التناقضات لا تقودها «إلى تبني مواقف قوامها الحكم الذاتي أو الاستقلال» تجاه الإمبريالية، على عكس البرجوازية «الوطنية»، التي يمكن أن تدعم «القضايا الشعبية» والمشاركة في حركات التحرر الوطني[61].

 خلال الثمانينيات والتسعينيات من القرن التاسع عشر، كان الممثل الرئيسي للبرجوازية الداخلية في مصر رجل الأعمال جورج أڤيروف، الذي كان أكبر متبرع؛ ليس فقط للمجتمع اليوناني المحلي، بل للدولة اليونانية الحديثة نفسها. تضمنت تبرعاته العديدة الشهيرة كلية الفنون التطبيقية في أثينا، والأكاديمية العسكرية، وسجنًا، وسفنًا حربية، واستاد أثينا الرخامي الجديد الذي استضاف أول دورة أوليمبية حديثة في عام 1896. وكرئيس للجالية اليوناني في الإسكندرية من عام 1885 إلى عام 1899، تعكس علاقة أڤيروف بالاحتلال البريطاني موقعه كزعيم لطبقة اجتماعية تتمتع بمستوى معين من الاستقلال الذاتي عن الاستعمار البريطاني. وعندما هنأ الملكة ڤيكتوريا على اليوبيل الماسي في عام 1897، طلبت الملكة بشكل استثنائي من رئيس الوزراء البريطاني أن يرسل إليه رسالة شكر شخصية نيابة عنها. وعليه، أبلغ كرومر أڤيروف أنه تلقى «برقية من الماركيز سالزبوري... يؤكد أنه تلقى أمرًا من صاحبة الجلالة الملكة، تطلب فيها أن أعرب للجالية اليونانية بالإسكندرية من خلالكم كرئيس... عن شكر صاحبة الجلالة الخالص»[62]. وهو أمر نادر الحدوث أن يعامل حكام مصر الاستعماريون رعاياهم بهذه الطريقة. ومع ذلك، فلم يظهر هذا التشريف في أي تصرفات موالية للإنجليز من جانب أڤيروف. وكشف الصحافة اليونانية بالإسكندرية، التي دعمت قيادته بحرارة، أنه كان يواجه معارضة منظمة داخل مجتمع الإسكندرية؛ تتألف من بيناكيس، وزيرفوداكيس، وسنادينوس، وكازوليس، وجوسيوس، وكذلك من التجار والمصرفيين الذين كانوا في صدارة الكومبرادور الموالين للإنجليز في مصر[63]. في مايو 1894، وفي أثناء احتفال أقيم في إحدى المدارس وحضره القنصل الفرنسي، وقف أڤيروف وصاح بصوت عالٍ «تحيا فرنسا!»؛ وهو الشعار المرتبط عادة عند المحليين بالعداء لبريطانيا في ذلك الوقت[64]. ومع ذلك، فإن هذه المشاعر لم تقربه إلى القيادة الفرانكوفونية للحركة القومية المصرية برئاسة عباس حلمي الثاني ولجانه السرية. وفي أكتوبر 1896، أعربت صحيفة المؤيد، التي تعتبر ناطقة بلسان الخديو، عن أسفها لكون «رجل وطني عظيم» مثل أڤيروف، وعلى الرغم من أنه جمع ثروته في مصر، فإنه لم يؤسس قط جمعية خيرية أو صندوقًا لمساعدة المصريين[65].

خلال رئاسة أڤيروف للجالية اليونانية في الإسكندرية، انخرطت الصحافة المصرية -اليونانية الرئيسية في حملة معارضة ممتدة ضد كرومر وسياساته. وأصبحت هذه الحملة موضوع جدال ساخن من أواخر الخمسينيات وحتى سبعينيات القرن في سياق نقاشين رئيسيين: أحدهما يتعلق بتفسير قصائد كڤافيس، والآخر يتعلق بالأهمية التاريخية للشتات اليوناني الحديث. فمن ناحية، صوَّر تسيركاس هذه الحملة الصحفية على أنها قصة بطولية لـ«المقاومة» اليونانية المناهضة للاستعمار، بينما استهجنها المؤرخ الماركسي نيكوس بسيروكس، معتبرًا إياها صراعًا داخليًّا بين البريطانيين وعملائهم من الكومبرادور اليونانيين في مصر[66]. وقد كانت هناك مقاربة أكثر دقة، تشير إلى أن هذا الاحتجاج المستمر ضد بريطانيا لم يكن عظيمًا كما اعتقد تسيركاس، ولا تافهًا كما أشار بسيروكس. على سبيل المثال، لم يول تحليل تسيركاس إلا القليل من الاهتمام لحقيقة أن الدافع الرئيسي للحملة المصرية اليونانية لم يكن الاحتلال بحد ذاته، بقدر ما كان التدابير التي بدأ كرومر اتخاذها ضد الأجانب المحليين في البلاد من عام 1884 إلى عام 1985. أما بسيروكس، فإلى جانب إلمامه المحدود بهذه الاستدلالات، فإن هناك نقطة ضعف كبيرة في تحليله، ألا وهي عدم الرغبة في الاعتراف بالمحتوى الراديكالي الملحوظ للغاية للغة المستخدمة في الكثير من التقارير الصحفية اليونانية خلال تلك الفترة. ونجد هنا مثالاً مُعبرًا من صحيفة ميتاريثميسس في 30 نوفمبر 1886:

منذ أن وضع الإنجليز أقدامهم هنا، حط السخط واليأس على جميع الطبقات الاجتماعية... يعمل الفلاحون البائسون ونساؤهم وأطفالهم ليلاً ونهارًا... ومع ذلك تتزايد ديونهم ضعفين وثلاثة أضعاف، وتنعدم قدرتهم على دفع ضرائبهم... والحل الوحيد لجميع الأوروبيين والسكان المحليين بشكل عام، هو جلاء القوات الإنجليزية عن مصر سريعًا[67]. وهو الخطاب المتحدي نفسه الذي استخدم بعد عدة سنوات، عندما أقرَّ كرومر ضريبة المهن التعليمات الأمنية الخمسة. في 21 يونيو 1891، كتبت صحيفة تاكيدروموس محتجة:

من الصعب فهم هاجس الحكومة الأنجلو المصرية بصياغة وإصدار المراسيم واللوائح... التي من المؤكد أن نتيجتها المقصودة كارثية لجميع المقيمين الأجانب في مصر - باستثناء الإنجليز. وطبعًا... يجب ألا نقبل؛ نحن اليونانيين؛ بهذا التشريع الإنجليزي السخيف، وينبغي أن نحاول القضاء عليه بكل الوسائل القانونية المتاحة[68]. وقد وصلت هذه الحملة إلى ذروتها في 12 يوليو 1891، عندما نشرت صحيفة تاكيدروموس، في إصدار الأحد، افتتاحية من صفحتين بعنوان «العمل مطلوب» و«متى ستتخلص مصر من الاحتلال الإنجليزي؟» للتأكيد على الرمزية، كتبت كلتا المقالتين بمناسبة ذكرى قصف الإسكندرية «11 يونيو 1891» على أيدي الأسطول البريطاني قبل تسع سنوات. انتقدت المقالة الأولى السياسة البريطانية بشأن ضريبة التراخيص المهنية، ومنع اليونانيين العثمانيين من الحصول على الجنسية اليونانية (بموجب الامتيازات الأجنبية). كما نددت بتوجهات خط الحكومة اليونانية الموالية للإنجليز، كونها ضارة بالمصالح المصرية اليونانية. فيما يتعلق بضريبة المهن شكَّكت المقالة في حق بريطانيا في تطبيق مثل هذه الإجراءات «على الأراضي التركية» باعتبار «العثمانيين الذين يعيشون في اليونان معفون أيضًا من دفع ضريبة مهنية بسبب المعاهدة الموقعة بين اليونان وتركيا». أما المقالة الثانية التي ركزت على أن القضية المصرية الأصلية؛ وهي الاحتلال العسكري المستمر، فكانت أكثر تحديًا، وقد توَّجت نقدها الحاد بدعوة جريئة إلى الجلاء الفوري للقوات البريطانية: لقد امتدت مدة حامية الاحتلال الإنجليزي في مصر أكثر مما هو ضروري، وليس هناك سبب وجيه لبقائها هنا أكثر من ذلك. ونحن نعتبر أن الوقت قد حان للجلاء عن مصر، ليس لأن النتيجة المرجوة من وجود الإنجليز تحققت بالفعل، بل لأن العكس قد حدث... ويجب أن تتخذ حكومة الخديو والقوى الأوربية الأخرى موقفًا شجاعًا، وتُطالب بجلاء الإنجليز عن مصر[69].

سابقًا لوحظ أن تفسير تسيركاس لا يولي اهتمامًا كافيًا لحقيقة أن الدافع الرئيسي وراء هذه الحملة كان حماية مزايا الامتيازات الأجنبية. وبمزيد من البحث، سنجد أن هناك أسباب أقوى تحول دون تفسير هذه الهجمات الصحفية على أنها جزء من استراتيجية حقيقية ضد الاستعمار. وعلى الرغم من أن الفوارق بين مناهج «التفاوض» واستراتيجية «المقاومة» ليست واضحة دائمًا، تجدر الإشارة في هذه الحالة بالذات إلى أن واحدًا من أن الانتقادات التي وجهتها تاكيدروموس، لكرومر أنه كان متساهلاً تجاه المصريين. على سبيل المثال، في فبراير من عام 1895، عندما اتخذت قوات الاحتلال رد فعل مبالغ في حدته على تعدي مجموعة من الوطنيين المصريين بالضرب على ثلاثة من جنود البحرية البريطانية، ندَّدت الصحيفة بالهجوم، لكنها واصلت إلقاء اللوم على البريطانيين لعدم فرضهم عقوبات أشد لردع «الأهالي» عن الاحتجاجات العنيفة: إن سلوك جموع المواطنين الأصليين... لم يكن بسبب موقف الخديو، ولكن بسبب سياسة إنجلترا... لقد تصرفوا كإصلاحيين... ليغرسوا فيه الشعور التفوق على الأجانب... بعد مقتل... ما لا يقل عن 50 يونانيًّا... دون أدنى قلق من الاحتلال، ها هم الآن يقلبون العالم رأسًا على عقب، لأن ثلاثة جنود إنجليز تعرَّضوا للضرب[70].

وقد عكست هذه الآراء مشاعر المستشرقين عميقة الجذور التي يشير تكرارها إلى أنها ربما تكون مشتركة مع عدد كبير من قراء تاكيدروموس. وفي الواقع فإن الصحافة اليونانية طول التسعينيات من القرن التاسع عشر، قد انتقدت بشدة إلغاء الاحتلال البريطاني، رسميًّا، لعقوبة الجلد. على سبيل المثال، في يونيو 1896، عندما اندلعت اشتباكات بين الشرطة والطلاب في جامعة الأزهر بشأن تسليم جثة ضحية يشتبه في إصابتها بالكوليرا، ذكَّرت الصحيفة قراءها بدعمها المستمر لعودة الكرباج «منذ الاحتلال الأجنبي أُلغيت عقوبة الجلد، فارتفعت بجرأة، وعلى الفور، أعناق السكان الأصليين المحنية»[71].

ذروة السخرية من هذا التوجه المعارض أبدته في وقت مبكر تاكيدروموس، في رد فعل على قضية دنشواي؛ في 28 يونيو 1906، عندما شُنق 4 قرويين مصريين علنًا، ​​وجُلد 8 لمهاجمتهم مجموعة من الجنود البريطانيين. وبدلاً من إدانة القرار القاسي، تذكرت الصحيفة الجانب الآخر من معارضتها القديمة لكرومر ومضت للتعبير عن رغبتها في تغليظ العقوبات التي يواجهها القرويون؛ لأنها ستكون "وسيلة مفيدة لاحتواء كراهية الأجانب وتعصب السكان الأصليين". بعد يومين من عمليات الإعدام، نشرت تاكيدروموس مقالة افتتاحية كاملة ادعت فيها أن دنشواي كانت "نتيجة طبيعية لأوهام الإصلاحيين" بشأن الاحتلال البريطاني "الذي سعى، بدلاً من محاولة السيطرة على الشعب الجاهل المتعصب وكبح جماحه، إلى تحريره تمامًا. في الوقت الذي قلَّص امتيازات الأجانب"[72]. ويؤكد تسيركاس أن فترة "مقاومة" تاكيدروموس انتهت في عام 1891، وأن ​​حقبة جديدة من الصحافة التعاونية قد أخذت مكانها منذ ذلك الحين. في الواقع، فإن هذا التحول قد حدث تدريجيًّا، وحتى عندما بدأت تاكيدروموس تعتبر ببروجرس صحيفة "ذات مصداقية" (نحو عام 1900)، فإن الأمر لم يتعد، كما يزعم تسيركاس، أن تصبح "لسان حال السياسة البريطانية"[73]. في الواقع، فإن الآراء العنصرية التي أبدتها الصحيفة تجاه حادثة دنشواي ليست جديدة، بل تعود إلى ثمانينيات القرن التاسع عشر. وعلى الرغم من أن موقفها من الاحتلال لم يعد معاديًا، فإن محرريها ما يزالون ينتقدون بعض سياسات كرومر، خصوصًا ما يتعلق بما وصفوه عام 1906 بـ"أوهامه" الإصلاحية.

اليونانيون وحركة التحرير الوطني المصري

في كتابه "الثقافة والإمبريالية"، أشار إدوارد سعيد إلى أن المقاومة ليست "مجرد رد فعل للإمبريالية"، بل هي طريقة بديلة لإعادة التفكير وأسلوب حياة "قائم على تحطيم الحواجز بين الثقافات"[74] وعلى الرغم من أن الافتراض السائد تاريخيًّا أن التحالف بين اليونانيين في مصر والحركة القومية المصرية قد ظهر في ثورة 1919[75] فإن هذا الانطباع مضلل للغاية. ففي خلال الفترة المبكرة من حكم عباس حلمي الثاني، الذي كان في خصومه مع اللورد كرومر، دعم جزء كبير من الطبقة الوسطى اليونانية الخديو الشاب في مساعيه لإنهاء الاحتلال. في عام 1893، وتحت اسم "فيلاليث"، نشر الكونت ميناندر زيزينيا Menandre Zizinia كتيبًا بعنوان "إنجلترا وعباس الثاني"، وفيه وصف كرومر بأنه "ديكتاتور حقيقي" ودعا بريطانيا إلى "إنهاء الاحتلال العسكري لمصر"[76].

وتُظهر تقارير الاستخبارات الصادرة عن شبكة المخابرات الشخصية الخاصة بالخديو قطاعات عريضة من الجالية اليونانية أظهرت تضامنًا واسعًا مع الوطنين المصريين. وعلى سبيل المثال، عندما ألقت صحيفة بروجرس باللوم على معارضة الخديو للاحتلال التي تسببت في الهجوم على جنود البحرية البريطانية الثلاثة في أوائل عام 1895، ناشرة شائعات بشأن انتفاضة وشيكة في الإسكندرية، وقف معظم سكان المدينة بحزم مع الوطنيين المصريين. ثلاثة من عملاء الخديو، الذين تجوَّلوا في أحياء المدينة والنوادي الليلية ذكروا أن "المواطنين والأجانب متحدون تمامًا" وأن "حب صاحب الجلالة يملأ قلوب جميع المواطنين والأجانب، وأنهم جميعًا لا يرغبون في وجود سلطات الاحتلال"[77].

وقد وقع تطور مهم في هذا التحالف، وهو ما حدث في 3 مارس 1896؛ عند قدم الكونت زيزينيا مسرحه الشهير في الإسكندرية، إلى الزعيم الوطني الشاب، مصطفى كامل؛ ربيب الخديو؛ الذي كان في الثانية والعشرين من عمره آنذاك، ليلقي خطبة بشأن قضية الاستقلال المصري. كانت حلقة الوصل بين زيزينيا ومصطفى كامل هو صديقه، محمد عثمان، الذي كان موظفًا في بلدية الإسكندرية، وكانت خطته تستهدف دعوة جمهور مختار بعناية من المصريين ومن "بعض الأجانب الذين يحبون مصر"[78].

بعد هذا الحدث، أشادت الصحيفة الفرانكوفونية فير دي ألكسندري، بالخطبة ووصفتها بأنها "نجاح كبير"، ولاحظت أن "التعبير عن المودة والتعاطف الذي أبداه 800 شخص... يقدم دعمًا قيِّمًا... لهذا الشاب الشجاع الذي بدأ الدعوة بمفرده من أجل تحرير بلاده "[79]. وقد أدى هذا الاستقبال الإيجابي إلى دعوة ثانية، طُلب فيها من كامل التحدث بالفرنسية أمام جمهور أوروبي؛ فكانت خطبته الرائعة، التي ألقاها، مرة أخرى، على مسرح زيزينيا في 13 أبريل 1896، وتلقى الزعيم الشاب استجابة أكثر دفئًا؛ فانتهزت صحيفة فير دي ألكسندري هذه المناسبة لكتابة افتتاحية كاملة بعنوان "الوطنية في مصر"؛ مؤيدة دفاع مصطفى كامل عن البلاد ودعوته إلى الاستقلال"[80].

ومثل زيزينيا؛ كان مالك صحيفة فير دي ألكسندري، محاميًّا سكندريًّا بارزًا؛ هو نيكولاس هايكالس Nicolas Haicalis، الذي أكسبته صداقته بالخديو إسماعيل لقب بك في 1860. وقد دفع له إسماعيل إعانة قدرها 60،000 فرنك في عام 1873 ليصدر صحيفته، لكن هايكالس واصل القيام بذلك بشكل مستقل، بعد أن خُلع راعيه في عام 1879. وفي سيرته الذاتية التي نُشرت في أثينا خلال حياته، وُصف هايكالس؛ بشكل غير واقعي بأنه "سخر قوة قلمه للدفاع عن مصالح مصر- وقد ورد هذا البيان في الوثيقة التأسيسية لصحيفته، ويبدو أنه استخدم لمغازلة السياسيين عندما اشتكوا من أحد التقارير النقدية[81]. ويذكر عبد المنعم الجميعي، أنه في عام 1895، أسس عباس حلمي الثاني ومصطفى كامل لجنة سرية من الفرنسيين المؤثرين؛ تضمنت صحفيين، دأبوا على "الدعاية لقضية استقلال مصر... من خلال مقالات الصحف... والخطب التي ألقاها مصطفى كامل". وعلى الرغم من عدم وجود دليل على علاقة هايكالس المباشرة بهذه اللجنة، فإن عضويتها لا شك شملت محمد عثمان، الذي كان حلقة الوصل بين مصطفى كامل وزيزينيا وهايكالس[82].

ومع ذلك فقد تغيَّرت الأمور؛ عندما هددت الهزيمة العسكرية لليونان في ثيساليا على يد العثمانيين في عام 1897 بتقويض التحالف بين الصحيفة والوطنيين المصريين. وفي مايو من ذاك العام، اتهمت صحيفة هايكالس مصطفى كامل بأنه يحمل مشاعر معادية للهيللينية، لأنه حثَّ السلطان علانية على رفض الانسحاب من ثيساليا ما لم توافق بريطانيا أيضًا على الجلاء عن مصر. وهو ما دفع مصطفى كامل ليرسل رسالة إلى المحرر عنوانها "اليونان ونحن"، أعرب فيها عن إعجابه بـ "الحماسة الوطنية" لليونانيين، لكنه طالب بالحق في أن يكون قادرًا على دعم ما كان يعتقد أنه الخير لمصر[83]. على الرغم من أن هذا الصدام اللحظي بين القوميات كان كاشفًا لحدود استراتيجيتي كامل وهاليكس، فإن الاتحاد من أجل محاربة الاحتلال البريطاني سرعان ما ساد مجددًا. وسرعان ما سادت أولوية اتحاد القوى مجددًا لمحاربة الاحتلال البريطاني. وبعد ثلاثة أسابيع، في 3 يونيو 1897، قاد الزعيم المصري الشاب تظاهرة في الإسكندرية ضد بريطانيا. وكما كتب إلى صديقته، جولييت آدم، فقد شارك فيها "الكثير من أصدقائنا اليونانيين الذين يدركون أن جزءًا من سياسة مصر الوطنية يحتِّم أن تكون مع تركيا بينما يحتل الإنجليز بلدنا الحبيب". وفي 8 يونيو 1897، عاد مصطفى كامل إلى مسرح زيزينيا حيث ألقى خطبة حماسية، في حين غطت فير، كما كان من قبل، الحدث بتقرير متزلف[84]. في محاولة لاستعادة العلاقات مع اليونانيين في الإسكندرية، طلب كامل من جمهوره الموافقة على اقتراح بأن: يتجمع الشعب المصري في الإسكندرية يوم 8 يونيو، للتظاهر بقوة ضد الاحتلال البريطاني، وللتأكيد على أن مصر لا تعتزم اتخاذ أي إجراء أو مبادرة مضادة للجاليات الأجنبية في مصر، وأنها لا ترغب في شيء سوى التعايش السلمي والمتناغم.

بهذه المناسبة، نشرت تاكيدروموس، التي كانت تتجاهل عادة ما يقوم به مصطفى كامل، تقريرًا يتضمن موافقة حذرة على هذه الدعوة[85] وفي السنوات اللاحقة، تبنى الاشتراكيون اليونانيون - المصريون، وكذلك الراديكاليون موقفًا متضامنًا مع حركة التحرير الوطني المصرية. ومن الأمثلة البارزة على ذلك كان الكاتب اليوناني البارز في ذاك الوقت، يوانيس ﭼيكاس، الذي نشر الكثير من النصوص الساخرة في الصحيفة السكندرية نيا زوي Néa Zoí، أحدها حمل، للمفارقة، عنوان "أرض العجائب" 1907؛ وهو محاكاة تهكمية للسياسة البريطانية من وجهة نظر الفلاح: لأن بريطانيا العظمى أدركت أن الفلاحين، هم لسوء حظها، متمسكون بقرآنهم، ومن غير المجدي تحويلهم إلى بروتستانت، فقد استثمرت... كل طاقاتها المسيحية للحفاظ عليهم أميين إلى الأبد... ألم تنشئ مدارس إنجليزية في جميع أنحاء مصر؟ ولم يدخلها حتى فلاح واحد. لماذا؟ لأن المتدينين لا يريدون أن يعتادوا على الأخلاق الأوروبية... ليس خطأ إنجلترا أن الفلاحين متمسكون بثقتهم ومحبتهم لحيواناتهم أكثر... من أسيادهم البريطانيين، ويتجاهلون جهودهم العظيمة والمخلصة من أجل تنمية بلادهم الفكرية والتجارية[86]. بعد عام، كتب ﭼيكاس أيضًا مراجعة لكتاب كرومر "مصر الحديثة". الذي كان قد ظهر للتو في المكتبات في البلاد بعد عام من اضطرار المعتمد البريطاني إلى مغادرة مصر.

 كما قدم كتاب "كرومر واليونانيون" (1908) نقدًا قويًّا للاستعمار؛ إذ سخر من محاولة المعتمد البريطاني المنافقة الدفاع عن الأخلاق التقليدية للفلاحين، ومن آرائه العنصرية بشأن يونانيي مصر[87]. ومن المناهضين للاستعمار البريطاني أيضًا كان الكاتب المعروف بيتروس ماجنيس Petros Magnis، وهو الكاتب الأكثر شهرة في مصر، بعد الشاعر اليوناني الأهم كڤافيس. وقد نشر سلسلة من المقالات من 1907 إلى 1908 في دورية نومين الأثينية تحت الاسم المستعار "كوستاس كامل"؛ تكريمًا للزعيم الوطني المصري. في الوقت نفسه، عاد مصطفى كامل إلى مسرح زيزينيا في أكتوبر 1907؛ للإعلان رسميًّا عن إنشاء الحزب الوطني، أمام 7000 مؤيد، ضمُّوا، بنص كلامه "العديد من الأصدقاء من أبناء الجاليات الأوروبية"[88].

 بعد أربعة أشهر، كتب ماجنيس، من المنصورة، مستخدمًا اسم الزعيم المصري للمرة الأخيرة في نعي مؤثر للسياسي الذي توفي عن 33 عامًا، ذاكرًا أن مصطفى كامل جعل المصريين يشعرون بإنسانيتهم ​​ووطنيتهم، وأنه لعب دورًا رئيسيًّا في "رحيل كرومر" وإلزام إنجلترا بأن "تفكر بجدية أكبر في هيمنتها على وادي النيل"[89].

الخاتمة

وفقًا لنظرية معينة، فإن مجتمعات الشتات مثل اليونانيين المصريين، تشكِّل تحديًّا خطيرًا للمجتمع، وكذا للانقسام الاجتماعي والثقافي بين المستعمَرين والمستعمِرين. وقد ناقش برازيل ومانور، فكرة أن الشتات برز كنقد داخلي للثنائيات (المستعمَرين/ المستعمِرين؛ الأبيض/ الأسود؛ الغرب/ الشرق)... وهي الفكرة التي ظلت مستمرة حتى داخل بعض مجالات دراسات ما بعد الاستعمار[90]. ومع ذلك، فإن هذه الآراء تنبع من الافتراض بأن مجتمعات الشتات، بسبب تهجينها الثقافي وشخصيتها المشتتة، تتمتع بالحكم الذاتي والمرونة فتكون قادرة على التهرب من تأثير الإمبراطوريات العظمى. وهذه الافتراضات ترتبط بما أسمته فرانشيسكا تريفيلاتو "وجهة نظر مغرية" للمغتربين، وهو تصور يتخيل مجتمعات الشتات كيانات متماسكة ومتناغمة أساسًا، مما يحصنها ضد التمزق الداخلي والصراع[91]. وهو تصوّر لم يأخذ بعين الاعتبار الطبيعة غير المتماثلة لعلاقات القوة بين الإمبراطوريات ومجتمعات الشتات، والتي تُمكِّن الأولى في كثير من الأحيان من إخضاع الأخيرة، وتحويل أعضائها إلى رعايا مستعمرين.

وكما أوضح التحليل السابق، فقد نجح الاستعمار البريطاني في مصر في تغلغل داخل هياكل أكبر وأقوى مجتمع للشتات في البلاد، وهو ما عمَّق الانقسامات الداخلية وزاد من انعدام الأمن. وبوجه خاص؛ فإن الخطاب الاستشراقي الذي تبناه إمبرياليون مثل كرومر وملنر، يميِّز، أساسًا، بين فئتين رئيسيتين من اليونانيين المصريين. تتكون الأولى من أولئك الذين عرِّفوا بأنهم "من الطبقة العليا" أو "النافذين" اليونانيين، الذين أشيد بهم بانتظام واستشيروا، ومنحوا شرف أن يصبحوا أحد أعمدة النخبة بين الجاليات المحلية في مصر. أما الفئة الثانية - التي تضم معظم ما يسمى باليونانيين "من الطبقة الدنيا" أو "المستشرقين"، فقد عوملوا كمصدر دائم للمتاعب والقلق (كان ملنر يطلق عليهم "الجناة الرئيسيين")[92]، ولم تتطلب مواجهتهم أقل من طردهم الكامل من مصر، ويفضل أن يكون ذلك من بقية الإمبراطورية العثمانية. لذلك ليس من المستغرب أنه في استجابة لهذه السياسة، أن يخلص المؤرخ شبه الرسمي للجالية اليونانية؛ ﭼورجيوس كيبياديس،1892، في تأريخه لليونانيين في مصر، إلى الإقرار بأنهم "أصبحوا هيئة متماسكة، وجسدًا غير قابل للكسر قادر على وقف المد القوي الساعي إلى تدمير العنصر اليوناني وإجلائه عن البلاد"[93]. في تلك الأثناء، لم يكن الموقف العام لليونانيين في مصر تجاه سياسة كرومر سلبيًّا، أو رجعيًّا بأي حال من الأحوال. وبدلاً من قبول التقسيم بشكل خاضع إلى فئتين رئيسيتين، استجابت الجالية بثلاثة طرق مختلفة، كل منها يتبنى مقاربة متميزة للتعاون والتفاوض والمقاومة. الأولى من بينها كانت أقرب للرجعية والسلبية؛ إذ تبنتها إما العائلات التي اختارها البريطانيون بالفعل لتشكيل جزء من النخبة الاستعمارية المحلية، أو التي تطمح لتتحالف مع هذه النخبة، أو ربما تؤدي دورها في المستقبل. وعلى الطرف المقابل، كانت المقاومة مقاربة حرجة ومبادرة؛ إذ كانت مدفوعة بديناميكية المعارضة غير المشروطة للاستعمار، والرغبة في استبدالها بنظام اجتماعي سياسي آخر. بالإضافة إلى ذلك، تبنى المثقفون مقاربة المقاومة إلى حد كبير؛ فتحدثوا عن الفئات الاجتماعية التي اعتبرها كرومر تهديدًا لسياساته، وهم تحديدًا اليونانيون المصريون من "الطبقات الدنيا" ومناصري الحركة الوطنية لمصطفى كامل من المصريين؛ بمن في ذلك الفلاحون. كما اتسم هؤلاء المثقفون بقدرتهم على تخطي الحدود القومية؛ سواء بين اليونانيين والمصريين، وبين اليونانيين وبين أعضاء الجاليات الأجنبية الأخرى في مصر، وخصوصًا الفرنسيين. ومع ذلك، كانت سياسة التفاوض الثالثة هي المقاربة التي حاولت تجسيد استجابة الشتات المصري - اليوناني المميزة للاستعمار البريطاني. بالنسبة لقادة براجماتيين مثل أڤيروف، فإن الطابع الملتبس لهذا النهج يجب أن يكون جذابًا؛ كاستراتيجية مرنة للبقاء، وكمنصة وسطية يمكن أن يحشد غالبية المجتمع حولها. ومع ذلك، فإن هذا الخيار لم يكن يمثل قيم الثقافة الكوزموبوليتانية العالمية، التي تميل الكثير من الدراسات إلى ربطها بجماعات الشتات[94]، ولا كانت مدعومة من قبل جميع شرائح المجتمع اليوناني.

في ظل أڤيروف، كان منهج التفاوض دائمًا مُغلَّفًا بخطاب قومي يخص "الوطنية" اليونانية[95] وقد روَّج له بقوة النموذج المتمحور حول الهيللينية. ومع ذلك، وعلى الرغم من كونه الرد المصري اليوناني الرئيسي على الاحتلال، واجه التفاوض تحديًا دائمًا من الاستراتيجيات المتنافسة؛ التعاون والمقاومة، وقد فتحت وفاة أڤيروف في عام 1899، الطريق إلى فترة لا بأس من التنافس المتزايد بينهم. وفي النهاية، فإن مرونته ووسطيته وقوميته الحزبية لم تنجح في جعل الجالية اليونانية وحدة "متماسكة صلبة" كان يأمل بعض داعميها الأقوياء، مثل كيبياديس، في رؤيتها. بيد أن هذه النتيجة كانت مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالفشل المستمر لهذا النهج في تصور نموذج للتعايش المتناغم بين المجتمع اليوناني والسكان الأصليين في مصر.

[1]* هذه ترجمة لفصل من كتاب

«The Long 1890s In Egypt,Colonial Quiescence,Subterranean Resistance», Edited by Anthony Gorman, 2014

- محمود محمد سليمان، الأجانب في مصر 1922-1952، دراسة في تاريخ مصر الاجتماعي، القاهرة، العين، 1996، ص 58.

[2]- Robert Ilbert, ‘Qui est Grec? La nationalité comme enjeu en Égypte (1830— 1930)’, Relations internationals 54 (Summer 1988), p. 145; Robert Ilbert, Ilios Yannakakis and Jacques Hassoun (eds), Alexandria 1860—1960: The Brief Life of a Cosmopolitan Community (Alexandria: Harpocrates, [1992] 1997), pp. 24—31, 62-4, 108, 114-18; Robin Ostle, ‘Alexandria: A Mediterranean Cosmopolitan Centre of Cultural Production’, in Leila Tarazi Fawaz and C. A. Bayly (eds), Modernity and Culture: From the Mediterranean to the Indian Ocean (New York, NY: Columbia University Press, 2002), pp. 314-29; Anthony Hirst and Michael Silk, Alexandria, Real and Imagined (London: Ashgate, 2004), p. xxviii; Michael Haag, Alexandria: City of Memory (New Haven, CT, and London: Yale University Press, 2004), pp. 16-20.

[3]- Marius Deeb,”The Socioeconomic Role of the Local Foreign Minorities in Modern Egypt, 1805-1961’, International Journal of Middle East Studies 9: 1 (1978), p. 16; Michael Reimer, Colonial Bridgehead: Government and Society in Alexandria, 1807-1882 (Cairo: American University in Cairo, 1997), p. 192.

[4]- For example, Stratis Tsirkas, O Kavdfis kai i epochí tou (Athens: Kedros, 1958); Will Hanley, ‘Ta’rif al-ajanib fl al-iskandariyya fl al-qarn al-tasi’ ‘ashar’, Amkina 7 (2005), pp. 111—20; Anthony Gorman, ‘Anarchists in Education: The Free Popular University in Egypt (1901)’, Middle Eastern Studies 41: 3 (May 2005), pp. 303-30.

[5]- Auriant, ‘Méhémet-Ali et les Grecs (1805-1848)’, L’Acropole, Revue du monde hellénique2 (January—December 1927), p. 39.

[6]- Athanasios Politis, Oi Ellines kai i neotéra Aígiptos, vol. 2 (Alexandria: Grammata, 1928-30), pp. 200-1.

[7]- Alexander Kitroeff The Greeks in Egypt, 1919—1937: Ethnicity and Class (London:

Ithaca, 1989), p. 39; Efthimios Souloyannis, I Ellinikí Koinótita Alexandreías, 1843-1993 (Athens: ELIA, 1994), p. 297.

[8]- Alexander Kitroeff The Greeks in Egypt, 1919—1937: Ethnicity and Class (London: Ithaca, 1989), p. 39; Efthimios Souloyannis, I Ellinikí Koinótita Alexandreías, 1843-1993 (Athens: ELIA, 1994), p. 297.

[9]- Ilbert, ‘Qui est Grec?’, pp. 139—60; Efthimios Souloyannis, I thési ton Ellínon stin Aígypto (Athens: Dimos Athinaion, 1999), pp. 61—2; Manolis Yalourakis, I Aígyptos ton Ellínon (Athens: Metropolis, 1966), pp. 151—70. Yalourakis attempts to blend this thesis with the analysis advanced by Tsirkas, although he never acknowledges the latter as his source.

[10]- Tsirkas, Kavdfis kai epochí, pp. 93-119.

[11]- Kitroeff, The Greeks in Egypt, p. 39.

[12]- سيد عشماوي، اليونانيون في مصر، (القاهرة، العين، 1997) ص. ص31-162.

[13]- Quote from Kitroeff, The Greeks in Egypt, p. 1; Donald Reid, Cairo University and the Making of Modern Egypt (Cambridge: Cambridge University Press, 1990), p. 17; Robert Mabro, ‘Alexandria 1860—1960: The Cosmopolitan Identity’, in Hirst and Silk, Alexandria, Real and Imagined, p. 249; Manolis Marangoulis,

‘Kairós na sinkronisthómen’. I Aígiptos kai i aigiptiótiki dianóisi (1919—1939) (Athens: Gutenberg, 2011), p. 106; ‘Ashmawi, al-Yunaniyyun fi Misr, p. 46; Sulayman, al-Ajanib fi Misr, p. 142; Psyroukis, To neoellinikó paroikiakó fainómeno, pp. 176—7.

[14]- Official censuses show that Egypt had 37,301 Greeks in 1882 and by 1897 their number increased marginally to 38,208. From 1907 to 1917, the number of Greeks declined from 62,975 to 56,731; see Sulayman, al-Ajanib fi Misr, pp. 58-9.

[15]- Evelyn Baring, vol 2, (london. Macmilan, 1908). Pp 432, 430.

[16]- Homi Bhabha, The Location of Culture (Abingdon: Routledge, 1994), p. 96.

[17]- Baring, Modern Egypt, vol. 2, p. 249.

[18]- Alfred Milner, England in Egypt, 9th edn (London: Edward Arnold, [1892]1902), p. 344.

[19]- Baring, Modern Egypt, vol. 2, pp. 250-2.

[20]- Milner, England in Egypt, p. 41.

[21]- Baring, Modern Egypt, vol. 2, pp. 441-2.

[22]- Roger Owen, Lord Cromer: Victorian Imperialist, Edwardian Proconsul (Oxford and New York, NY: Oxford University Press, 2004), pp. 204—7; Baring, Modern Egypt, vol. 2, pp. 418, 435

[23]- Milner, England in Egypt, p. 50.

[24]- Georgios Philaretos, To Aigiptiakón zítima en ti ellinikí voulí (Athens: Palingenesia, 1895), p. 34.

[25]- Baring, Modern Egypt, vol. 2, pp. 418, 436-7; Milner, England in Egypt, p. 56.

[26]- Milner, England in Egypt, p. 57.

[27]- Nikolaos Skotidis, Meléti perí tou zitímatos ton en Aigípto astinomikón kanonismón (Athens: Palingenesia, 1892), pp. 30—1.

[28]- Skotidis, Meléti perí tou zitímatos, p. 61.

[29]-Charilaos Trikoupis Papers, Andreas Pangalos to Trikoupis, 23/108/j, 11February 1892.

[30]-Philaretos, To Aigiptiakón zítima, p. 41; Skotidis, Meléti perí tou zitímatos, p. 45; Baring, Modern Egypt, vol. 2, pp. 436-7.

[31]- Philaretos, To Aigiptiakón zítima, pp.29-30.

[32]-Stephen Howe, Empire: A Very Short Introduction (Oxford: Oxford University Press, 2002), p. 94; Monique O’Connell, Men of Empire: Power and Negotiation in Venice’s Maritime State (Baltimore, MD: Johns Hopkins University Press, 2009), pp. 1, 12.

[33]- In the period under discussion, Trikoupis was prime minister from 1882 to 1885, 1886 to 1890 and 1892 to 1895.

[34]- Charilaos Trikoupis Papers, Goussios to Trikoupis, 25/210/α, 2 May 1892; Nikolaos Skotidis, I en Aigípto krísis en étei 1881 kai 1882 (Athens: Parnassos,1883).

[35]- Charilaos Trikoupis Papers, Goussios to Trikoupis, 25/210/α, 2 May 1892; Nikolaos Skotidis, I en Aigípto krísis en étei 1881 kai 1882 (Athens: Parnassos, 1883).

[36]- Káiron, 19 May 1882, p. 1.

[37]- Charilaos Trikoupis Papers. Rangavis to Trikoupis, 24/17/j, undated [c. 23 May 1882]; Official Minutes of the Greek Parliament, ΠE’, 14 June 1882, p. 405 and ΠH’, 17 June 1882, p. 423; TNA, FO 32/540, Ford to Granville, 3899514, 25 May 1882; Penelope Delta, Prótes enthimíseis (Athens: Hermis, 1980), p. 55; Alexander Kazamias, ‘To imberialistikó “frónima tou éthnous”: I ellinikí ekstrateía stin Aígipto, Máios-Àvgoustos 1882’, in K. A. Dimadis (ed.), O ellinikós kósmos anámesa sto diafotismó kai ton eikostó aióna, vol. 2 (Athens: Ellinika Grammata, 2007), pp. 89-100.

[38]- Greek Ministry of Foreign Affairs. AAK/M’, Rangavis to Trikoupis, 477, 6 June 1882; Rangavis to Trikoupis, 740, 1 August 1882; TNA, FO 78/3436, Malet to Granville, 11 June 1882; TNA, FO 32/540, Ford to Granville, 19 May 1882.

[39]- Greek Ministry of Foreign Affairs. Rangavis to Trikoupis, 740, 1 August 1882.

[40]-Tachidrómos, 18 May 1882, p. 2, quoting al-Watan, 13 May 1882.

[41]-The London Gazette, suppl. 5 January 1888 (no. 25773), p. 210; E. M. Forster, Alexandria: A History and a Guide (Cairo: American University in Cairo Press, 2004), p. 81; Delta, Prótes enthimíseis, p. 214

[42]- Archive of the Greek Community of Alexandria, Official Minutes, 1882, pp. 447-8. 

[43]- Delta, Prótes enthimíseis, p. 152

[44]- Stratis Tsirkas, O politikós Kavdfis (Athens: Kedros, 1971), pp. 117-25. 

[45]- Tachidrómos, 17 February 1894, p. 2; Metarríthmisis, 26 April 1895, p. 1; Metarríthmisis, 21 February 1895, p. 2. 

[46]- Metarríthmisis, 20 February 1895, p. 2.

[47]- Metarríthmisis, 26 April 1895, p. 2

[48]- Tachidrómos, 8 November 1901, p. 2; 13 December 1901, p. 2.

[49]- Charilaos Trikoupis Papers, Vincent to Trikoupis, 7/155/γ, 18 February 1884; on trade figures, see Yalourakis, I Aígyptos ton Ellínon, p. 154; Politis, Oi Ellines kai i neotéra Aígiptos, vol. 1, pp. 301—3; Tsirkas, Kavdfis kai epochí, pp.165-6.

[50]- Charilaos Trikoupis Papers, Vincent to Trikoupis, 17/99α, 10 March 1879; Vincent to Trikoupis, 17/49/β, 11 April 1879; Vincent to Trikoupis, 17/51/η, 19 April 1879.

[51]- Charilaos Trikoupis Papers, Egerton to Trikoupis, undated [early 1884], 14/45/8.

[52]- Omónoia, 5 September 1885, quoted in Tsirkas, Kavdfis kai epochí, pp. 166—7; Milner, England in Egypt, pp. 252, 259.

[53]- One oke equals 1.28 kilograms

[54]- Milner, England in Egypt, p. 252

[55]- On the political leanings of Vyzantios, see Tsirkas, Kavdfis kai epochí, p. 385

[56]-Charilaos Trikoupis Papers, Andreas Pangalos to Trikoupis, 23/108/j, 11 February 1892

[57]- Philaretos, To Aigiptiakón zítima, pp. 43-44

[58]- Milner, England in Egypt, p. 56.

[59]- Tsirkas, Kavdfis kai epochí, p. 440; Kostas Papageorgiou, ‘Oi prótoi metapolemikoí poiités kai o Kavafls (Paroikiakós kai ideologikós filetismos)’, Diavázo 78 (5 October 1983), pp. 127—8; Marangoulis, ‘Kairós na sinkronisthómen’, pp. 22,122-3.

[60]- Rae Dalven, The Complete Poems of Cavafy, intro. W. H. Auden (New York, NY: Harcourt, Brace and World, 1961), p. 168.

[61]- Rae Dalven, The Complete Poems ofCavafy, intro. W. H. Auden (New York, NY: Harcourt, Brace and World, 1961), p. 168. Cities’ conference, European University Institute, Florence, 19—20 September, 2008, p. 5.

[62]- Tachidrómos, 11 July 1897, p. 2.

[63]- Tachidrómos (quoting Tilégraphos), 2 May 1896, p. 2.

[64]- Metarríthmisis, 13 February 1894, p. 2.

[65]- Tachidrómos, 16 October 1896, pp. 2-3.

[66]- Tsirkas, Kavdfis kai epochí, p. 174; Psyroukis, To neoellinikó paroikiakó fainómeno, pp. 176-7.

[67]- Metarríthmisis, 30 November 1886; Souloyannis, I thési ton Ellínon, pp. 60—1

[68]- Tachidrómos, 21 June 1891, p. 2; Tsirkas, Kavdfis kai epochí, p. 171.

[69]- Tachidrómos, 12 July 1891, p. 1.

[70]- Tachidrómos, 22 February 1895, p. 2.

[71]- Tachidrómos, 3 June 1896, p. 3. The kurbajwas the whip, usually made of hippopotamus hide, used to administer punishment

[72]- Tachidrómos, 28 June 1906, p. 2; 29 June 1906, p. 2.

[73]- Tsirkas, Kavdfis kai epochí, p. 173.

[74]- Edward Said, Culture and Imperialism (London: Vintage, [1993] 1994), p. 260.

[75]- Souloyannis, I thési ton Ellínon, pp. 182-90; Katerina Trimi Kirou, ‘Quel cosmopolitisme à l’ère des nationalismes? La colonie grècque alexandrine (1882-1922)’, Cahiers de la Méditerrannée 67 (2003), pp. 191-2; Kitroeff, The Greeks in Egypt, pp. 42-7; Joel Beinin and Zachary Lockman, Workers on the Nile: Nationalism, Communism, Islam, and the Egyptian Working Class, 1882-1954 (London: I. B. Tauris, 1988), pp. 106-9; Sulayman, al-Ajanibfi Misr, p. 142; cf. Tsirkas, Kavdfis kai epochí, p. 174; ‘Ashmawi, al-Yunaniyyun fi Misr, pp. 126-31.

[76]- Tsirkas, Kavdfis kai epochí, p. 174.

[77]- ‘Abbas Hilmi II Papers, HIL/16/98-103, ‘Ali Sulayman, Muhammad Rushdi and Ibrahim Shimi to Muhammad Sa’id Shimi, 1 March 1895; File 16: 94-7, Mohammed Rushdi to Muhammad Sa’id Shimi, 3 Shawwal 1312 (18 March 1895).

[78]- ‘Abbas Hilmi II Papers, HIL/16/160-1, Muhammad Rushdi to Muhammad Sa’id Shimi, 25 February 1896.

[79]- Ali Fahmi Kamil (ed.), MustafaKamilBashafi34rabi’an: Siratuhu wa-a’maluhu min khutab wa-ahadith wa-rasa’ilsiyasiyya wa-’umraniyya (Cairo: Maktabat al- Liwa’, 1908), pt. 4, pp. 165-8.

[80]- Kamil, Mustafa Kamil Basha, pt. 5, pp. 46-7; ‘Ashmawi, al-Yunaniyyun fi Misr, p. 129

[81]- K. F. Skokos, ‘Nikólaos Chaikális’, Imerológion 18949: 0 (1894), pp. 319-22; Iraklis Lachanokardis, Palaiá kai néa Alexándreia (Alexandria: Grivas, 1927), p.264.

[82]- ‘Abd al-Mun’im Ibrahim al-Jumay’i, ‘Abbas al-thani: Khidiwi Misr al-akhir, 1892-1944: Safahatmin tarikhMisral-mu’asir ([Cairo]: n. p., 2009), pp. 66-7, 69; Amira Sonbol (ed.), The Last Khedive of Egypt: Memoirs of Abbas Hilmi II (Reading: Ithaca, 1998), p. 104.

[83]- Kamil, Mustafa KamilBasha, pt. 4, pp. 7-9.

[84]- Kamil, Mustafa Kamil Basha, pt. 6, pp. 54-5; ‘Ashmawi, al-Yunaniyyun fi Misr,p. 130.

[85]- Tachidrómos, 10 June 1897, p. 2

[86]- Ioannis Gikas, ‘O tópos ton thavmáton’, Néa Zoí 4: 39 (December 1907), pp. 708-10.

[87]- Ioannis Gikas, ‘Cromer kai ‘Ellines’, Néa Zoí 4: 43 (March 1908), pp. 791-4; Alexander Kazamias, ‘Between Language, Land and Empire: Humanist and Orientalist Perspectives on Egyptian—Greek Identity’, in Dimitris Tziovas (ed.), Greek Diaspora and Migration since 1700: Society, Politics and Culture (Farnham: Ashgate, 2009), pp. 182-3.

[88]- Ziad Fahmy, Ordinary Egyptians: Creating the Modern Nation through Popular Culture (Stanford, CA: Stanford University Press, 2011), p. 100; Tachidrómos, 25 October 1907.

[89]-Kostas Kamel, ‘Parádeigmayiamímisi’, Noumás 294: 4 (4 May 1908), p. 2. The article is dated 17 February, but appeared on 4 May 1908

[90]- Jana Evans Braziel and Anita Mannur, Theorizing Diaspora: A Reader (Oxford: Blackwell, 2003), p. 4.

[91]- Francesca Trivellato, The Familiarity of Strangers: The Sephardic Diaspora, Livorno, and Cross-Cultural Trade in the Early Modern Period (New Haven, CT: Yale University Press, 2009), pp. 11-12.

[92]- Milner, England in Egypt, p. 43.

[93]- Georgios Kipiadis, Ellines en Aigípto: I sinkrónou Ellinismoú engatástasis kai kathidrímata, 1766-1892 (Alexandria: Lagoudakis, 1892), p. 74

[94]- Peter Burke, Cultural Hybridity (London: Polity, 2009), pp. 30-1; Dimitris Tziovas, ‘Indigenous Foreigners: The Greek Diaspora and Travel Writing (1880-1930)’, in D. Tziovas (ed.), Greek Diaspora and Migration since 1700: Society, Politics and Culture (Farnham: Ashgate, 2009), p. 159; Bed Prasad Giri, ‘Diasporic Postcolonialism and its Antinomies’, Diaspora 14: 2/3 (2005), pp. 218—19, 221—2; Sebouh Aslanian, ‘Trade Diaspora versus Colonial State: Armenian Merchants, the English East India Company, and the High Court of Admiralty in London, 1748-1752’, Diaspora 13: 1 (2004), p. 38.

[95]- Archive of the Greek Community of Alexandria, Minutes of 27th Annual General Meeting, 12/24April 1889: Speech by President George Averoff, p. 90.