أعداد خاصة

خالد زيادة

الأسس الفكرية والسياسية لثورة 1919.. الثورة في سياقاتها التاريخية

2018.06.01

الأسس الفكرية والسياسية لثورة 1919.. الثورة في سياقاتها التاريخية

أتت ثورة 1919م في موعدها إثر نهاية “الحرب العالمية الأولى” نتيجة الآمال التي انعقدت على “مؤتمر الصلح” الذي كان يَعِد بتحرّر الشعوب من مُستعمرِيها، ويجدر أن نستعيد تلك اللحظة التاريخية التي هي نهاية حرب كبرى تمخّضت عن انهيار ثلاث ممالك كبرى هي: الإمبراطورية النمساوية – الهنغارية، والقيصرية الروسية، والسلطنة العثمانية، وبانهيارها تراجع دور الدّين في سياسات الدول، فقد كانت كلُّ واحدة من هذه الممالك تدَّعي أنها حامية للإيمان الكاثوليكي، والإيمان الأرثوذوكسي، والإيمان الإسلامي على التوالي، وعلى أنقاض الإمبراطورية النمساوية – الهنغارية، انبعثت مجموعة كبيرة من الدول القومية، وقام في روسيا نظام اشتراكي يستلهم الأفكار الماركسية، وخلال سنوات قليلة ورثت الدولة العثمانية جمهورية تركية علمانية. 

كانت “الحرب العالمية الأولى” بنتائجها قد أدّت إلى تلاشي العالم القديم، مُفسِحة المجال لتبنّي القِيَم الاشتراكية، أو الليبرالية، أو العلمانية، وكانت كلها في تلك الآونة قبل مائة سنة مداخل الشعوب إلى التحرر، والحداثة.
وبالرغم من تلك العلاقة التي تُنسب لثورة شعب مصر إلى نهاية “الحرب العالمية الأولى” كما تربط سبب الانفجار الذي حدث يوم الأحد 9 مارس بواقعة اعتقال أعضاء الوفد إلى “مؤتمر الصلح” (1) إلاّ أنّ هذه الثورة هي أيضًا نتيجة سياقات تاريخية، وفكرية، وسياسية على امتداد عقود سابقة من السنين.

ثمّة في البداية فكرة الثورة، ويمكن القول هنا بأن تراث مصر الثوري قائم في وجدان الشعب، فقد ثار المصريون على الاحتلال الفرنسي إثر “حملة بونابرت” 1798م، وتكبّد المصريون حينها خسائر كبيرة في الأرواح، ثم هناك ثورة عرابي عام 1881م، أي قبل أقل من ثلاثة عقود على قيام شعب مصر على الاحتلال الإنجليزي عام 1919م، ولا يمكن أن نستبعد تأثير الانقلاب الدستوري عام 1908م في استامبول(2)، ثم على مقربة زمنيًّا ومكانيًّا قامت “الثورة العربية الكبرى” في الحجاز عام 1916م، ولا يقتصر الأمر على الثورات الإقليمية فقط، فالمناخ الثوري كان يعم العالم آنذاك، ويكفي أنْ نذكر “الثورة الصينية” عام 1912م، و“الثورة الروسية” عام 1917 م.

وإذا استثنينا “ثورة القاهرة” إبّان الحملة الفرنسية في نهاية القرن الثامن عشر، فإن الثورات التي شهدها القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين كانت ثورات تطالب بتعديل في الأنظمة –وخصوصًا– لجهة إقامة السلطة وفق شرعة مكتوبة تنص على مشاركة الأمة في الحكم، وهذه الشرعة عرفت باسم الدستور، والانتقال من الحكم الإمبراطوري، أو القيصري كما في الصين، وروسيا، أو الحكم السلطاني، أو الخديوي كما في الدولة العثمانية إلى حكم يقوم على أسس حديثة. هذه الأسس الحديثة هي التي أخذها دعاة الدستور، والثورة عن أفكار أوروبا، وتجربتها التاريخية. 

وباختصار فإن الثورة الفرنسية الكبرى عام 1789 م بشعاراتها: الحرية، والمساواة هي التي أسست لهذا المّد الثوري الذي انتقل من أوروبا إلى أرجاء العالم، وكان “رفاعة الطهطاوي” أول من أشار إلى أفكار الثورة الفرنسية، و”الدستور” الذي أطلق عليه اسم “الشرطة” La Charte  في كتاب رحلته إلى باريس: “تخليص الإبريز في تلخيص باريس(3)”.

إن أول ما أثار الأفكار المتعلقة بنظام الحكم تمثّل بتبني رجال الإدارة العثمانية، وعلى رأسهم “مدحت باشا” (4)، للدستور ومطالبتهم السلطان عبد الحميد الثاني باعتماده في بداية ولايته عام 1876م، وقد رضخ السلطان واعتمد الدستور، ولكن لفترة قصيرة قبل أن يعلّق العمل به، وقبل نهاية عهد “الخديوي إسماعيل” عام 1879م جرت أول المحاولات لاعتماد الدستور في مصر، وبعد خلعه عن العرش كانت واحدة من مطالب “ثورة عرابي” هي إقرار العمل بالدستور.

كانت المطالبة باعتماد الدستور في استامبول، وثورة عرابي في القاهرة نتاج لتأثير حركة الأفكار التي كانت تعتمل خلال سنوات سابقة، والتي عبّرت عنها مقالات الكتاب، والصحفيّين في استامبول، والقاهرة على السواء. إلاّ أنّ الإخفاق في اعتماد الدستور، وإخفاق ثورة عرابي قد أدّى إلى ولادة “السياسة” بمعنى مشاركة عامة الناس في الرأي، والمشاركة في النقاش، والممارسة، وتكوين الجمعيات، والأحزاب. 

كانت “السياسة” بالمعنى التقليدي تقتصر على العاهل، والإداريين الذين يخدمونه، والذين يدينون له بالولاء. أما السياسة بمفهومها الحديث فتعني: مشاركة أبناء “الوطن” – من خلال ممثليهم – الذين يراقبون عمل الحاكم، والحكومة من خلال دستور يتضمن القواعد، ويوّزع الصلاحيات، ويفصل ما بين السلطات.

وأول تلك الجمعيات (الأحزاب) جمعية “تركيا الفتاة” التي كانت التعبير عن انتقال السياسة إلى النُّخَب المثقفة، وبالتالي إلى أيدي عامة الناس (الشعب)، وقد انتمى إلى هذه الجمعية أتراك، وعرب، وأكراد، وسوريون، ومصريون، ولبنانيون. في فترة كانت لا تزال الفكرة العثمانية تهيمن على الفضاء العربي. وبالرغم من أن “مصطفى كامل” قد أسَّس “الحزب الوطني” عام 1907 م، الأمر الذي عبّر آنذاك عن تبلور الشخصية المصرية الوطنية، إلا أن الحزب الوطني في عهدي: “مصطفى كامل، ومحمد فريد” لم يتخلَّ عن فكرة الإنتماء العثماني.

لا بدّ من العودة إلى عهد الخديوي إسماعيل (1896 - 1879 م)، ففي تلك الفترة شهدت مصر تدفق التأثيرات المنوعة من ليبرالية، وإسلامية. كان الخديوي إسماعيل متأثرًا بالثقافة، والعمران الأوروبي، ويريد أن تكون مصر جزءًا من أوروبا، وفي سبيل ذلك عَمد إلى إنشاء المدارس، والمعاهد المتخصصة، التي أدخلت في مفاهيمها العلوم الحديثة، وفي تلك الآونة حمل المشرقيون (اللبنانيون) إلى مصر اللغة الفصحى، والصحافة الحديثة التي تُعنى بشؤون العلوم والآداب، وحضر الأفغاني بأفكاره الإصلاحية. كانت مصر، والقاهرة تضج بالأفكار، والتجارب الثقافية، والفكرية بشكل لا مثيل له في أي مدينة عربية، أو إسلامية. إلاّ أن أحد المؤثرات الهامة التي ستظهر في ثورة 1919 م، تتمثل بتأسيس مدرسة “الإدارة والألسن” عام 1868 م، التي سُمّيت مدرسة “الحقوق” عام 1886م (5).

كانت النُّخَب السياسية، والفكرية من “مصطفى كامل” إلى “محمد فريد” إلى “سعد زغلول” قد تخرّجت من هذه المدرسة. وقد تأثّر خريجوها بالثقافة الفرنسية، ونمط الحياة الغربية استنادًا إلى اعتماد القانون المصري على القانون الفرنسي، ومِنْ ثَمّ اللغة الفرنسية (6). وقد كان خريجو هذه المدرسة هم قادة ثورة 1919 م. وقد كان لإعدادهم الحقوقي، وتأثرهم بالأفكار الفرنسية الأثر البارز في التوجّه الليبرالي لقادة الوفد، ومن هنا الطابع الليبرالي لثورة 1919م، وتأسيسها لمرحلة ليبرالية من تاريخ مصر امتدت حتى عام 1952م .

لقد ورث حزبُ الوفدِ الحزبَ الوطنيَّ، كان لمصطفى كامل وحزبه الوطني أنْ أكّد على الوطنية المصرية، والواقع أنّ من صنع “الوفد” هو الوطنية المصرية التي تجلت في مشاركة كل قطاعات الشعب في الثورة: الطلاب، والعمال الرجال والنساء، المسلمون والمسيحيون إلا أن الوفد تجاوز الحزب الوطني في الولاء للفكرة العثمانية، ويعود ذلك إلى أسباب عديدة: كانت فكرة الاستقلال عن العثمانية قد برزت في نقاشات، ونشاطات (الشّوام) في مصر. ولا شك في أن ذلك قد أثّر على النُخبة المثقفة المصرية التي كان انتماؤها لمصر يتقدم على الولاء لأي رابطة أخرى عربية، أو إسلامية، أو عثمانية. 

يُضاف إلى ذلك نشوب الحرب العالمية الأولى، وقيام الثورة العربية في وجه العثمانيين، ممّا أدّى إلى إضعاف مبدأ الانتماء إلى الدولة العثمانية إلاّ أن تخلّي قادة ثورة 1919م عن الانتساب إلى الدولة العثمانية يعود إلى عامل قلّما يُشار إليه، وهو تأثير الإصلاحية الإسلامية، وتأثير الإمام عبده الذي تركه على قادة الثورة.

من الضروري اليوم – وبعد مرور مائة سنة على ثورة 1919م – أن نعيد النظر بعلاقتها، بالانتماء الإسلامي. كانت الثورة وطنية ليبرالية شارك فيها كل أبناء الشعب من مسلمين وأقباط، حتى أصبح الهلال والصليب شعارًا لحزب الوفد، وقد تمخضت عن إقرار دستور ليبرالي عام 1923م، ومع ذلك فلا بد من الإشارة إلى العلاقة التي ربطت بعض قيادات الثورة، والوفد برائد الإصلاحية الإسلامية الإمام محمد عبده (1905م) وعملهم معه، وتأثرهم به.

وأخّص بالذكر “سعد زغلول، ولطفي السيد”،، وغيرهما (7). كانت إصلاحية محمد عبده تتأسس على فَصْل الدين عن الدولة، وأن لا سلطة لأي جهة، أو شخص على إيمان المسلم، وأنّ هدف الإصلاح هو تحرير المسلم من الولاء لأي دولة، أو شخص، وتحرير عقله من الأوهام، وتحرير المؤسسة الدينية من ثقل التقاليد، وأن يقتصر دورها على الشأن التربوي. وقد آمن محمد عبده بأن مقاصد الشريعة تتفق مع ما بلغه الفكر الإنساني، والسياسي من حق الفرد، والمجتمع بالحرية والعدالة (8). ومن هنا نفهم أن ثورة 1919م قد استخدمت مشروعيتها من التفكير الإصلاحي، ومن المناخ المتحرّر الذي أشاعه الإمام محمد عبده، وتلامذته، فكان طبيعيًا أن يتحرَّروا من الولاء للعثمانية، وكل ما يمثل السلطة الدينية، وأن يبعدوا الدين عن السياسة، وأن يجعلوا ولاء المصري لوطنه.

هذا المناخ الفكري الإصلاحي لم يقتصر في تلك الآونة على مصر، وثورتها؛ فالثورة الدستورية (الانقلاب الدستوري عام 1908م)، كانت تتبنى فكرًا حديثًا عبّرت عنه جماعة “الاتحاد والترقي”، التي كانت تتبنى الفكر الوضعي الفرنسي. ولا نهمل هنا تأثير المفكر التركي “ضياء غوك الب” على فكر الاتحاديين بعد الانقلاب الدستوري، وهو الذي كان يدعو إلى هوية قومية تجمع بين التتريك، والإسلام، والمعاصرة.

ويمكن قول الشيء نفسه عن الثورة العربية في الحجاز عام 1916م، والتي قامت ضد الدولة العثمانية مطالبة بإقامة مملكة، وكانت عروبة الثورة العربية متأثرة بالإصلاحيين أمثال: “رشيد رضا، ومحمد كرد على”،، وغيرهما، وقد قدمت مبدأ القومية على الانتماء الديني.

ومع ذلك فإن ثورة 1919م، تحتفظ بفرادتها بالمقارنة مع الثورات التي سبقتها بسنوات قليلة، فبالرغم من أن “الانقلاب الدستوري” قد قام به حزب “الاتحاد والترقي” إلا أن الأداة التنفيذية للانقلاب كانت للعسكر، كان ضبّاط في الجيش العثماني ينتسبون إلى خلايا في الحزب المذكور. وقد تحكّم العسكر بمصير الدولة حتى سقوطها، وبعد إلغاء الخلافة، والسلطنة تحكم الجيش بمصير الجمهورية التركية باعتباره حارس العلمانية.

وبما أن “الثورة العربية” التي قام بها أمراء مكة الذين انضم إليهم أعضاء من حزب “العربية الفتاة”، وكانوا في جملتهم من رجال الفكر، والصحافة إلا أنّ جماعة “العهد” التي كانت تضم ضباطًا عراقيين، وسوريين بقيادة “الفريق عزيز علي المصري”، الذي انضم إلى الثورة العربية، وقاد قواتها لستة أشهر قبل خلافه مع “الشريف حسين بن علي”، وخاضت الثورة العربية معارك عسكرية قبل الوصول إلى دمشق عام 1918م، وكانت جزءًا من التحالف ضد الدولة العثمانية.

لكن “الثورة المصرية” كانت ثورة مدنية، وبقيت بعيدة عن تأثير الجيش، والعسكريين. ومن المعلوم أن الاحتلال الإنكليزي قد عمد إلى تقليص عدد الجيش المصري بعد “معركة التل الكبير” بغرض إضعاف قدراته، وشلّ فاعليته، والواقع أنّ الجيش المصري بقي بمنأى عن الحياة العسكرية، والمدنية طوال خمسين سنة، فكانت آخر معركة خاضها إلى جانب القوات الإنكليزية في السودان عام 1898م، قبل أن يشارك في حرب فلسطين عام 1948م، وحين قامت ثورة المصريين عام 1919م كان الجيش المصري في ثكناته لم يشارك في الثورة، ولا في قمعها (9).

فالثورة لم تقم من أجل كسب معركة، أو القيام بانقلاب على السلطة القائمة، إنّ نجاح الثورة هو في إيجادها مناخًا ليبراليًا في مصر، تجسّد في “إعلان الدستور”، و”إقامة حياة برلمانية”، و”إنشاء أحزاب متنافسة”. وبغضّ النظر عن العوامل العديدة التي أدّت إلى تعثّر الحياة البرلمانية (10) فإن تطور الحياة الفكرية – وخصوصًا – في مدّة عِقْدٍ ونصف من الزمن حتى إعلان المعاهدة عام 1936م قد شهد نموًا للفكر العِلْمِي، والنقدي. وأصبحت مصر مقرًا للنشاطات الثقافية والفنّية تجلّى ذلك في عدد المجلات الثقافية التي كانت تصدر في تلك الآونة، وتطور أساليب الموسيقى، والإنتاج السينمائي، وكتابة الأدب الروائي، والمسرحي.

حين ذهبت الوفود إلى “مؤتمر الصلح” في فرنسا 1919- 1920 م، كان العرب ممثلين بثلاثة وفود، الوفد العراقي يرأسه “الأمير فيصل بن الحسين”، والوفد المصري بقيادة “سعد زغلول”، والوفد التونسي يمثله “عبد العزيز الثعالبي”، ولم تجد هذه الوفود قاسمًا مشتركًا يجمعها، فكل وفدٍ كان يحمل قضاياه، ومطالبه، وهمومه.

ولكن مصر أصبحت رائدة الثقافة العربية في السنوات اللاحقة لقيام ثورة 1919م، فتأسّس في القاهرة “مَجْمع اللغة العربية” عام 1932م، وكان أول رئيس للمَجْمَع هو: “محمد توفيق رفعت” (درَس الحقوق في فرنسا، وعمل وزيرًا في عدّة حكومات)، ومن المفارقة أن “أحمد لطفي السيد”، أستاذ الجيل، ورائد الليبرالية، وأحد دعاة المصرية أصبح الرئيس الثاني للمَجْمع، أمّا الثالث فهو: “طه حسين” الذي لُقّب بعميد الأدب العربي بعد أن بايع شعراء العرب “أحمد شوقي” أميرًا للشعراء عام 1927م.

لقد دخلت مصر العروبة من باب الثقافة الحديثة؛ بفضل ريادتها الإكاديمية (الجامعة المصرية)، وآدابها، وشعرائها، وصُحُفها ومجلاتها، وكان ذلك تمهيدًا لدورها السياسي – وخصوصًا – في إنشاء “جامعة الدول العربية”، إذ قاد المفاوضات من أجل إنشاء الجامعة مصطفى النحاس (خرّيج مدرسة الحقوق، وأحد قادة ثورة 1919م، وزعيم حزب الوفد بعد وفاة “سعد زغلول” عام 1927م، وأصبحت القاهرة مقرًّا لجامعة الدول العربية عام 1945م، ورائدة العمل العربي لعقود تلت.

كانت ثورة مصر عام 1919م، والتي يؤرّخ لبدايتها بيوم 9 آذار/ مارس، بمثابة سلسلة من الأحداث، والوقائع امتدت لسنوات شهدت خلالها خروج المصريين في المظاهرات، والاحتجاجات، وتنظيم العمل الثوري التي غيّرت المجتمع المصري، وخصوصًا الطبقة الوسطى التي تبنّت قِيَم الليبرالية، والتي خاضت الحياة البرلمانية من خلال العديد من الأحزاب التي نافست “حزب الوفد” الذي استمر نفوذه المعنوي المستمد من تمثيله لقيم الثورة، لكن مصر شهدت اضطرابًا سياسيًّا، وحركات تتوسل العنف في العمل السياسي، وقد شهدت بعد معاهدة في ثلاثينات القرن العشرين بروز التيارات السياسية الأيديولوجية من الإخوان المسلمين، إلى الشيوعيين، إلى مصر الفتاة، المتأثرة بالفكر القومي الفاشي. 

كانت هذه التيارات التي استهوت الضبّاط الشباب الذين كانوا يبحثون عن دور في خضم الحياة السياسية المتعثرة، والذين شاركوا في حرب 1948م، واقتنعوا بأنهم البديل الذي يُخرج مصر من أزماتها السياسية.

هوامش

1- حول أحداث الثورة، وتطورها والقوى التي شاركت فيها، ينظر عبد الرحمن الرافعي، ثورة 1919، “تاريخ مصر القومي من 1914 إلى 1921”. الطبعة الرابعة- دار المعارف بمصر، 1987. يقول الدكتور علي الدين هلال: “شهدت مصر في أعقاب الحرب العالمية الأولى قوة عارمة تُعتبر من أعنف ثورات المستعمرات في هذه الفترة، فاجأت بقيامها الجميع بمن فيهم قادة الحركة الوطنية، الذين لم يتوقعوا مثل هذه الدرجة من القدرة الثورية لدى جموع الشعوب.. التي اتسمت بشمولها، واشتراك كافة طبقات الشعب بما في ذلك  فلاحو الريف، وعمال المدن: “العهد البرلماني في مصر من الصعود إلى الإنهيار”، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، 2011، ص 127.
2- لا يمكن أن نقلل من شأن الآمال التي عُقدت على الانقلاب، وإعلان الدستور. وقد صدر في القاهرة كتابان بعد فترة وجيزة: الأول بعنوان:” الدولة العثمانية قبل الدستور وبعده” لسليمان البستاني، يرى فيه أن الانقلاب هو بمثابة ثورة فرنسية كبرى ستضع الدولة العثمانية على طريق التقدم خلال ربع قرن من الزمن، انظر نشرتنا للكتاب الصادر عن دار الطليعة، بيروت، 1978. والكتاب الآخر لمحمد روحي الخالدي بعنوان:” الانقلاب الدستوري وتركيا الفتاة”. وفيه عرض لتطور الحركة الانقلابية، دار رؤية، القاهرة، 2011.
3- يقول الطهطاوي: “القانون الذي يمشي عليه الفرنساوية الآن، ويتخذونه أساسًا لسياستهم هو القانون الذي ألّفه لهم  ملكهم المسمى لويز الثامن عشر، ولا زال متبعًا عندهم، ومرضيًا لهم، وفيه أمور لا ينكر ذوي العقول أنها من باب العدل. والكتاب المذكور الذي فيه هذا القانون يسمى الشرطة: “ الأعمال الكاملة لرفاعة رافع الطهطاوي”، تحقيق دكتور. محمد عمارة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1973 (الجزء الثالث)، ص 95.
4- كان مدحت باشا أحد أبرز الإداريين، شغل العديد من المناصب بما في ذلك الصدارة العظمى، وولاية بغداد ودمشق. حول دوره في إعلان الدستور. انظر محمد روحي الخالدي، “الانقلاب الدستوري وتركيا الفتاة”، تحقيق ودراسة خالد زيادة، دار رؤية،2011، القاهرة، ص ص 76-82.
5- حول مدرسة الحقوق، انظر: أماني الطويل، “المحامون بين المهنة والسياسة”، دار الشروق، القاهرة، 2007، ص 22.
6- المرجع السابق. تقول المؤلفة: “إن المحامين قوة ليبرالية في المجتمع تقوى بالتدريب على القانون، والدفاع عن حقوق الفرد، واحترام الدستور، ويبرهن على هذه الفرضية “جهد عدد من المحامين المسؤولين عن نقل الفكر الليبرالي إلى مصر كفتحي زغلول، وأحمد لطفي السيد، ومحمد حسين هيكل، وعبد العزيز فهمي، ص ص 50-51.
7- يخصص ألبرت حوراني في كتابه “الفكر العربي في عصر النهضة”، فصلاً بعنوان:” تلامذة عبده في مصر: الإسلام والمدينة الحديثة”، ويذكر بينهم قاسم أمين صاحب كتاب “تحرير المرأة”، ومصطفى عبد الرازق تلميذ دوركهايم الذي أصبح شيخًا للأزهر لفترة وجيزة. يقول حوراني: “كانت هناك فئة ممن احتفظوا بالولاء الفكري لمعلمهم، غير أنهم أخذوا يعدّون العدّة لمجتمع علماني يبقى الإسلام فيه محترمًا، لكنه لا يكون الموجّه للقانون والسياسة، وقد عُرِفُوا في السنوات الأولى من القرن العشرين بـ “حزب الإمام” القائم على مبادىء سياسية مستمدة من تعاليم الإمام “محمد عبده”، فقد أنشأ أتباعه حزبًا قائمًا على مبادئه، وأطلقوا عليه اسم “حزب الأمة”، وباشروا في الوقت نفسه تقريبًا بإصدار صحيفة “الجريدة”، ص.ص 177-178.
8- حول فكر الإمام محمد عبده الإصلاحي، انظر: ماهر الشريف، وسابرينا مرفان في حداثات إسلامية، أوراق العمل المقدمة في ندوة حلب الدولية المنعقدة لمناسبة الذكرى المئوية لرحيل الإمام محمد عبده. المعهد الفرنسي للشرق الأوسط، دمشق، 2006. انظر بشكل خاص: أحميدة النيفر: “تحديات الحاضر- أسئلة الماضي، المؤسسة والنص”، ص ص 27-38.
9- حول تركيب الجيش المصري –وخصوصًا – في النصف الأول من القرن العشرين، انظر: توفيق اكلميندوس: إعادة النظر في تاريخ الجيش المصري، ضمن كتاب: رؤية جديدة لمصر، المركز القومي للترجمة، القاهرة 2013، ص ص 107-142.
10- حول الحياة البرلمانية، والحزبية في مصر بعد ثورة 1919م، انظر: علي الدين هلال: “العهد البرلماني في مصر من الصعود إلى الإنهيار”، الدار المصرية اللبنانية، 2011. وحول تنوّع وتعدد الأحزاب، وتناقضاتها، انظر الفصل الثالث: النظام الحزبي، ص ص 171-272. يقول الدكتور هلال: “اتسمت الحياة السياسية المصرية في الفترة ما بين صدور “دستور 1923م، وتدخل الجيش عام 1952م، أساسًا بسمة عدم الاستقرار، فعلى مستوى الوزارة مثلاً تعاقب على الحكم خلال هذه الفترة التي تقرب من ثمان وعشرين سنة ونصف 28 وزارة، وعلاوة على عدم الاستقرار الوزاري شهدت مصر عدم استقرار برلماني تمثل في قيام الملك بحَلِّ البرلمانات، وترتّب على ذلك أن جميع البرلمانات المصرية خلال هذه الفترة – ما عدا برلمان 1945 – لم تكمل مدتها المقرّرة، كما شهدت بروز حركات الرفض، التي لم تعترف بشرعية النظام السياسي القائم، وتلجأ إلى الأساليب غير الدستورية كالعنف، والاغتيال كأدوات للعمل السياسي”، ص 339.