مراجعات
ماهر عبد الرحمنالإسلاموية وإمكانات الحداثة
2018.11.01
اسم الكتاب: الإسلاموية والسعي إلى الحداثات البديلة
تأليف: بهروز غماري تبريزي. ترجمة: أحمد محمود
الناشر: المركز القومي للترجمة، 2018.
الإسلاموية وإمكانات الحداثة
السؤال الأساسي الذي يطرحه الباحث الإيراني بهروز غماري تبريزي في دراسته، هو ما إذا كان في الإمكان اعتبار الإسلاموية حركة اجتماعية سياسية لبناء نمط غير أوروبي على نحو مميز للحداثة، وذلك من خلال استعراض لنماذج وتجارب خطابية إسلامية مختلفة. ومعروف أنه منذ القرن التاسع عشر وحتى اليوم، تظهر في العالم الإسلامي العديد من المحاولات الفكرية والحركات الإصلاحية التي تحاول تحديث الفكر والتراث الديني الإسلامي حتى يتكيف مع الحداثة ويواكبها. غير أنه، كما يذهب الكاتب، ظهرت خطابات جديدة تسعى بدلاً عن تحديث الإسلام نفسه ليواكب العصر ومستجداته وعقلانيته، إلى محاولة أسلمة الحداثة بصياغة نموذج من الحداثة يتفق مع فرضيات الإسلام بتراثه.
يقصد بمصطلح (الإسلاموية-Islamism) في هذه الدراسة، تلك النزعة أو التصور العام الذي تتبناه وتحاول أن تطبقه جماعات وحركات الإسلام السياسي بهدف إقامة دولة إسلامية. وكذلك مواجهة الخطابات العلمانية والتي يسميها حسن البنا في مذكراته “الغزو الفكري الغربي العنيف” بصد هذه الأفكار والعمل على غزو فكري مضاد. وبعد أن قام الإمام محمد عبده في نهاية القرن التاسع عشر، بجميع الأدوات الإصلاحية التي كانت متاحة له، وباستدعاء الجوانب النيرة في التراث الإسلامي عمومًا، والإرث الفكري الحر للمعتزلة خصوصًا، بمحاولة بتوسيع مجال النزعة العقلانية في الخطاب الديني، ظهرت بداية من جماعة الإخوان المسلمين نزعة تقليدية مضادة أخذت تُطور خطاب معاداة وشيطنة للثقافة والحداثة الغربية، حتى وصلت إلى ذروتها بادعاء إنشاء ما تسميه هي “الحداثات البديلة”، وهدفها في ذلك هو “إعادة الاختراع الفوق تاريخي للأنظمة الاجتماعية السياسية الإسلامية التي تعود إلى العصور الوسطى”. إن مثل هذه التيارات والقوى هي جزء من المكونات الاجتماعية والسياسية في عالمنا الإسلامي والعربي، لا سيما هنا في مصر؛ ومن ثم فإنهم شركاء في صنع، أو عرقلة، كل تقدم نحو المستقبل، ومن هنا تأتي دائمًا الحاجة إلى دراسة وفهم وتعميق الأفكار حول هذه التيارات الأصولية، تلك التيارات التي هي في عمقها تأتي كنتيجة من نتائج هشاشة وسطحية وقصور عملية التحديث في مجتمعاتنا.
على مدى ثمانية فصول تتسم بالطموح والعديد من الأفكار النيرة يتناول الباحث في دراسته -التي حصل بها على درجة الدكتوراه من جامعة كاليفورنيا، وهو الآن يعمل أستاذًا لعلم الاجتماع والتاريخ المشارك بمركز دراسات آسيا والشرق الأوسط ومركز الدراسات الأفريقية بالولايات المتحدة- في الفصل الأول: الحقائق الأيدلوجية: الماضي والحاضر، والفصل الثاني: السلفية والجذور الإسلامية للحداثة، والفصل الثالث: ما بعد الحداثة وظهور الإسلاموية، والفصل الرابع: الشتات المسلم في أمريكا الشمالية، والفصل الخامس: مشروع الأسلمة والنقد الغربي للعالموية، والفصل السادس: مشروع أسلمة الجمهورية الإسلامية والساخطون عليه، والفصل السابع: صمت الشريعة، عبد الكريم سروش ومشروع الأسلمة، وتأتي الخاتمة في الفصل الثامن وتطرح سؤال: هل الحداثة الإسلاموية ممكنة؟
في الفصل الثاني بعنوان “السلفية والجذور الإسلامية”، يشير بهروز غماري إلى أن مفهوم التقدم كان يُرى باعتباره جوهر التغير التاريخي في أوروبا، وكان دور أوروبا هو أن تُدخل باقي دول العالم التي كانت “معزولة” في “التيار العام” للتاريخ، وعبر الوقت أصبح غير “الغربي” يعني أنه قبل الحديث، فالتحديث أصبح بإعادة إنتاج نسخة غربية حديثة وتعميمها على باقي العالم، وفي مواجهة هذا “التغريب” ظهرت تيارات حاولت بناء ردود إسلامية مضادة على تقدم الحداثة الأوربية، وهي: 1-المواجهة الاستعمارية وحركة جمال الدين الأفغاني السلفية المعادية للإمبريالية في أواخر القرن التاسع عشر. 2- انهيار الدولة الاستعمارية وتكوين جماعة الإخوان المسلمين بقيادة حسن البنا. 3- إقامة دولة باكستان وظهور مفهوم الدولة الإسلامية كما صكه أبو الأعلى المودودي. 4- تثوير سيد قطب لمشروع الإخوان المسلمين، أي تحويل أفكار التغيير الاجتماعي لتصبح من أعلى لأسفل بدلاً عن من أسفل لأعلى. كانت المحاولات الأولى عند جمال الدين الأفغاني في تقديم خطاب حداثوي يفصل بين التحديث والتغريب، وفي محاولتة للعودة إلى التراث النقي للإسلام. وهو كان يؤمن بأن “التقدم” هو أحد ملامح الإسلام التي استعارها الغرب من المسلمين في القرون الوسطى ومن ثم ازدهر؛ وعلى المسلمين أن يستعيدوا ويستكملوا تلك النهضة من خلال “تعلمهم العلوم من جديد من الغرب المتطور” . وكان الأفغاني يتهم العلماء التقليديين الذين كانوا يرفضون نقل العلوم الحديثة، بأنهم “أعداء للإسلام”. لكن مع مرور الزمن تحورت وأصبحت تلك الفكرة هي تعلم العلوم الغربية مع رفض أساسها العلماني، مما لم يكن قط يخطر ببال الأفغاني. ثم تطورت الفكرة أكثر مع ظهور أفكار “غربية” لنقد المركزية الأوروبية واعتبار أن “التقدم” و“الحداثة” بمعناهما الأوروبي الغربي، ليسا ظواهر قاصرة على أوربا والغرب.ومع مرور الوقت أصبحت، هذه الانتقادات دون قصد، بمثابة ترسيخ لمعنى المركزية الأوربية، ثم لظهور أفكار تتحدث عن وجود حداثات متعددة، إلا أن هذه الفكرة التي تتحدث عن “حداثات بديلة” وأسلمة المعرفة والعلوم والحياة، تقع في الشرك نفسه في السياق الذي نتحدث عنه لا من حيث المكان (الغرب مقابل الشرق)، ولكن من حيث الزمان، حين تحاول أن تستدعي نموذج متخيل للدولة الإسلامية من العصور الوسطى وما قبلها لفرض، مرة أخرى، “فوق تاريخي للأنظمة الاجتماعية السياسية الإسلامية”.
مع انهيار خلافة الدولة العثمانية بعد الحرب العالمية الثانية وما خلفه من فراغ، بدأت تظهر فكرة الدولة الإسلامية. وكان أن ملأت جماعة الإخوان المسلمين هذا الفراغ، ووضع حسن البنا الأساس الأول للإسلام السياسي وكتب يقول “فها أنا ذا أرى أن الأمة المصرية العزيزة تتأرجح حياتها الاجتماعية بين إسلامها الغالي العزيز، الذي ورثته وحمته، وألفته وعاشت به واعتز بها أربعة عشر قرنًا كاملة، وبين هذا الغزو الغربي المسلح المجهز بكل الأسلحة الماضية الفتاكة من المال والجاه، والمظهر والمتعة وسيلة الدعاية.. واشتد بي القلق.. فاعتزمت أمرًا إيجابيًّا وقلت لنفسي: لماذا لا أحمل هؤلاء القادة من المسلمين هذه التبعة وأدعوهم في قوة إلى أن يتكاتفوا على صد هذا التيار؟”
نشر أبو الأعلى المودودي عمله الضخم “الجهاد في سبيل الله” عام 1930، وكانت نظريته عن الدولة الإسلامية نابعة من إعادة تفسير لفكرة جاهلية العرب قبل الإسلام، وعنده أن هذه الجاهلية لا تشير إلى مرحلة تاريخية بقدر ما أنها تشير إلى حالة اجتماعية بهجر تعاليم الإسلام وتولية الكفار أمور الحكم؛ فكانت تلك هي البداية لإدانته للديمقراطية والعلمانية والقومية باعتبارها من الجاهلية. وقد تأثر سيد قطب بهذه الأفكار وطورها في كتبه، عن “جاهلية المجتمع” وعن “الحاكمية”. مع الوقت قلب سيد قطب “هرم” حسن البنا الفكري، فبدلاً عن الالتزام “بإصلاح اجتماعي ذي قاعدة واسعة، وليس الممارسة المباشرة للسلطة السياسية”، بالعمل التربوي الدعوي وبالأسلمة من أسفل إلى أعلى، أصبح سيد قطب يقول إن البداية يجب أن تكون من أعلى، وإن “أسلمة الأمة يمكن أن تنطلق من الجماعة التي يرتكز وجودها الإجمالي على المهمة التي اضطلعت بها”. لكن سيد قطب تم إعدامه في عام 1966، ولم يحدث احتجاج كبير على ذلك، واحتجبت أفكار سيد قطب وطواها الواقع والهيمنة السياسة والأيديولوجية للدولة القومية، والقاعدة الاجتماعية العريضة للنظام، بل وتضمين خطاب ديني خاص داخل خطاب الدولة، مما خفف من ضغط فكرة اتهامها بالعداء للإسلام. لكن هذه الكتابات انتشرت في الخارج، وكان لترجمة بعضها إلى اللغة الفارسية تأثير كبير على الطبقة المثقفة الجديدة في إيران، وكان أن حولها علي شريعتي إلى وقود فكري للثورة الإيرانية، وشريعتي لم يكن ولن يكون قطبيًّا، لكنه استخدم وطور قاموسًا إسلاميًّا ثائرًا في مواجهة القمع السياسي وفي الإطاحة بالملكية في إيران.
ينتقل الباحث في الفصل الثالث إلى تناول ظهور ظرف عالمي جديد ومختلف وهو العولمة وما بعد الحداثة، ويكتب عن ظهور “الإسلاموية” ووضعه داخل هذا السياق، وفي الفصل الرابع يتناول الشتات المسلم في الولايات المتحدة، وظهور محاولات لأسلمة المعرفة، وظهر طرح إسماعيل الفاروقي الذي صرح في ربيع 1968 لأحد الأعضاء النشطين في اتحاد الطلاب المسلمين (تنظيم المسلمين في أمريكا) بأنه “حتى شهور قليلة مضت كنت فلسطينيًّا وعربيًّا ومسلمًا، والآن أنا مسلم تصادف أن يكون عربيًّا من فلسطين”. طرح إسماعيل الفاروقي فكرته حول أسلمة المعرفة في المؤتمر السنوي الثاني لجمعية علماء الاجتماعيات المسلمين في 1972، وكان طرحه بأن مجد ونهضة المسلمين لا يحدثان من خلال إعادة تعلم العلوم والتكنولوجيا الحديثة من الغرب، الذي كان قد استعار مبادئ نهضته العلمية الحديثة من المسلمين، لكن من خلال نقد معرفي لأسس العلم الغربي وفحص الافتراضات الميتافيزيقية التى بني عليها ذلك العلم. وبسبب إسهام المال السعودي وغيره من دول الخليج العربي في تمويل عديد من معاهد ومراكز الأبحاث تلك، أصبحت فكرة الأسلمة أكثر مأسسة. وظهر المعهد الدولي للفكر الإسلامي بمسعى وأهداف وضعها إسماعيل الفاروقي لمشروع الأسلمة وللبحث عن أنماط حداثة بديلة. وفي الفصلين السادس والسابع يتناول إحدى أهم تجارب الأسلمة التي حدثت في المجتمع الإيراني بعد الثورة، وكانت إحدى أهم النتائج، غير المتعمدة، لهذه المحاولة الفريدة لأسلمة الدولة والثقافة والتعليم في إيران، أنها قامت -دون قصد- بعلمنة الإسلام من خلال جعله خطابًا متنازعًا عليه في المجال العام.
ثم تأتي الخاتمة في الفصل الثامن، والذي يطرح فيها بهروز سؤاله الأساسي حول إمكانية تشكل حداثة مؤسلمة؟ ويقدم إجابته على ذلك، بأنه بدلاً عن التناول الإعلامي والأكاديمي الشائع باعتبار “الإسلاموية” شرًّا مطلقًا، قدمت أطروحته فهمًا أكثر مرونة لـ”الإسلاموية” باعتبارها جهدًا متواصلاً ومتنازعًا عليه وذا احتمالات مختلفة، وهذه النتيجة هي الجهد الأساسي والمميز في هذه الرسالة للباحث الذي حاول عبر دراسته الجادة إزالة “الغموض عن الإسلاموية باعتبارها كلاً لا تاريخيًّا”. ظهرت هذه الدراسة في 1999، ولذلك فقد طرح، أخيرًا، الباحث ردًّا على سؤال “إلى أين تتجه الإسلاموية” أن إجابة هذا السؤال تكمن في الواقع نفسه، بما يحويه من عوامل واتجاهات اجتماعية واقتصادية وسياسية وأيديولوجية في التاريخ ليس للبحث السوسيولوجي توقعها، لكن كنت أتمنى ذلك من المركز القومي للترجمة الذي أصدر هذه الكتاب العام الحالي 2018، أن يقدم مقدمة للطبعة العربية باعتبار أن الواقع قد جرت فيه مياه كثيرة، وأن “الإسلاموية” الآن تعاني أكثر حالاتها تأزمًا، ولا يبدو لي أن مستقبلها سوف يختلف كثيرًا.