رؤى
هبة شريفالاستبداد المستنير تغيُّر فهم دور الدولة في مجال الثقافة منذ طه حسين
2019.07.01
الاستبداد المستنير تغيُّر فهم دور الدولة في مجال الثقافة منذ طه حسين
في مقال له بتاريخ 29 ديسمبر 2018 في صحيفة الشروق، انتقد الكاتب الصحفي سيد محمود، المثقف المعاصر الذي «يطالب بالتنوير وبداخله جذر أصولي ينشط في أعماقه ويقوده ليكون دائمًا من جنود المعركة الخطأ». يلخص محمود وقائع لقاء المثقفين الذي عقدته مكتبة الإسكندرية، حيث اجتمعوا حول طبعة جديدة من كتاب طه حسين «مستقبل الثقافة في مصر». وأكد محمود أن اللقاء على الرغم من أهميته يعتبر «سعيًا لإقرار (أصولية ثقافية) ما، تستند في تبرير وجودها إلى مثقف عظيم وتريد أن تضعه في موضع الفقيه».
وأجدني أوافق تمامًا على مصطلح «أصولية طه حسين»، ليس لأن طه حسين كان صاحب الفكر الأصولي، ولكن لأن أتباعه ومريديه والداعين لتطبيق أفكار «كتاب مستقبل الثقافة في مصر» هم الأصوليون، فهم كما وصفهم محمود «أسماء من الوزن الثقيل تولى معظم أصحابها مناصب وزارية مهمة». وإلى جانب هؤلاء الذين تولوا مناصب وزارية مهمة، هناك آخرون «أصوليون» أيضًا كانوا وما زالوا ذوي مراكز مهمة في وزارات الدولة أو في جامعاتها أو في صحفها ووسائل إعلامها. كلهم يستندون إلى طه حسين والتنوير الذي دعا إليه طه حسين، ولم يتحقق حتى الآن من وجهة نظرهم دون أن يتساءل بعضهم عما إذا كان ما دعا إليه طه حسين في عام 1938 قد تخطاه الزمن، أو أن أفكار التنوير نفسها التي خضعت للانتقاد والمراجعة والتصحيح والاستطراد في بلادها، تحتاج إلى مدخل آخر لتطبيقها في القرن الحادي والعشرين، أي بعد ثلاثة قرون من بداية التنوير.
مستقبل الثقافة في مصر
كتب طه حسين «مستقبل الثقافة في مصر» في عام 1938، والكتاب والكاتب أولاد هذا العصر بين حربين عالميتين. ونُشر الكتاب بعد انتفاضة الشباب في عام 1935، وبعد توقيع معاهدة 1936 التي حصلت مصر فيها على بعض الاستقلال. ولكن ما حدث بعد ذلك، خصوصًا بعد الحرب العالمية الثانية، أسفر عن تغيير كبير في العالم؛ ولأننا جزء من العالم فقد امتد التغيير إلينا أيضًا. ومع ذلك فقد ظل كثير من المثقفين المصريين حريص على اتباع طه حسين وإنزاله منزلة «العالم الذي لا يخطئ، أو صاحب الأفكار التي تتخطى حدود الزمان».
كتب طه حسين نفسه في مقدمة كتابه أنه يأمل أن يثار نقاش حول الكتاب، فمن «يدري، لعل هذا الكتاب كله أو بعضه سيقع موقعًا حسنًا من بعض الذين آلت إليهم أمور التعليم، ولعلهم يأخذوا ببعض ما فيه من رأي. ومن يدري! لعل هذا الكتاب كله أو بعضه أن يقع موقعًا سيئًا من بعض الناس، ولعلهم أن ينقدوه، وأن يثيروا حوله هذا الجدال الخصب، الذي يجلي وجه الحق في كثير من الأحيان».
ثار بالفعل جدل كبير حول أفكار طه حسين يخص معظمه موقفه من الغرب والحضارة الغربية؛ فقد اهتم الناس بهذه الفكرة الرئيسية في مشروع طه حسين: فكرة ضرورة اتباع الحداثة الغربية وما تتضمنها من تنوير وعقلانية، واختلفوا فيما بينهم حول ما دعا إليه طه حسين من السير على نهج الغرب والأخذ بأسباب الحضارة الغربية التي أثبتت تفوقًا غير عادي حتى الآن. اقتنع البعض بهذه الفكرة لأننا لا نستطيع أن ننكر تفوق الحضارة الغربية بأي حال من الأحوال، ولا أن ننكر تخلفنا عن هذه الحضارة ماديًّا وفكريًّا، كما يقول بهاء طاهر الذي يرى أن هذه الحضارة تبدو وإنها تختلف «من حيث الكيف عن الحضارات السابقة عليها، وأنها اهتدت إلى وسيلة تمكنها من التقدم المستمر ومن مقاومة عوامل الفناء التي التهمت تلك الحضارات». وإنه على الرغم من كثرة «الحديث عن انحلال الغرب وعن سقوطه وخوائه الروحي وكل تلك العبارات»، إلا إن هذا دليل على «قوة تلك الحضارة وبقائها»، لأنها تنتقد نفسها ولا تستسلم «للرضا عن النفس».
ويعتنق كثيرون ما يعتقده بهاء طاهر: فالذين يأخذون بأسباب الحضارة الغربية كلها «هم الذين يحيون ويرقون ويفرضون أنفسهم على الزمان وعلى غيرهم من الناس» أما من يترك أسباب هذه الحضارة كلها أو بعضها ويتركون بعضها الآخر، فهم «الذين يموتون أو يخملون أو يتعرضون للاستذلال والاستغلال ويطمعون الناس في أنفسهم وفي وطنهم»، ورأى آخرون في طه حسين انبهارًا غير منطقي وغير مبرر بالغرب.
ولكنني لن أتناول في هذا المقال انبهار طه حسين بالحضارة والثقافة الغربية والفرنسية خصوصًا (وهو انبهار مبرر لدى البعض وغير مبرر لدى منتقديه)، ولن أدخل في مناقشة صورة الغرب في فكر طه حسين، وإذا كانت صورة مثالية «متخيلة» بتعبير نسيب الحسيني أو غير ذلك.
ما يهمني هنا هو مناقشة إدراك المثقف لدور الدولة في مجال الثقافة، وكيف تغير الوعي بهذا الدور وطبيعته منذ أيام طه حسين للآن، وسأركز في الأساس على وعي المثقف «التنويري» بهذا الدور وطبيعته، هذا الوعي الذي يتمثل أحيانًا في إصراره على تطبيق «الأفكار التنويرية» التي تنتمي إلى عصر آخر.
كتب طه حسين «مستقبل الثقافة في مصر» في سنة 1938 واعتبره كثيرون أحد معالم السياسات الثقافية المصرية المكتوبة لأن العالم في ذلك الوقت لم يكن واعيًا بمفهوم السياسة الثقافية كما وضعته منظمة اليونسكو في الستينيات. وكان كتاب طه حسين وكتب رفاعة الطهطاوي ويعقوب آرتين في نظر البعض بدايات وإرهاصات في الثقافة السياسية وإن كانت مرتبطة أكثر بالتعليم.
يحرص طه حسين بالفعل على وضع خطة مفصلة لتطوير التعليم لأنه أحد السبل التي سلكتها «الأمم الحرة العزيزة» وحتى «ننشئ لمصر الحديثة أجيالاً من الشباب كرامًا (...) حماة للحرم، لا يتعرضون لمثل ما تعرض له بعض أجيالنا السابقة من الذلة والهوان. وسبيل ذلك واحدة لا ثانية لها وهي: التعليم».
ومن أجل تحقيق هذه السياسة التعليمية يرى طه حسين أن «الدولة وحدها هي التي تستطيع أن تضع المناهج والبرامج لهذا التعليم وأن تقوم على تنفيذ هذه المناهج والبرامج، وأن تلاحظ ذلك ملاحظة متصلة دقيقة، كي لا ينحرف التعليم عن الطريق التي رسمت له، وحتى لا ينتهي إلى غرض مباين للغرض الذي أنشئ من أجله».
أسبغ طه حسين احترامًا كبيرًا وتقديرًا للدولة وثقة في دورها، وانتقل هذا الاحترام وانتقلت هذه الثقة إلى محبيه الذي تبنوا رأيه في أن الدولة قادرة على فرض مبادئ الحداثة الغربية بكل مقوماتها من ديمقراطية وحياة دستورية وعقلانية واحترام الحريات.
مفهوم الدولة هو أحد أسس الحداثة الغربية التي يريد طه حسين أن ينهج نهجها، خصوصًا تلك الصورة عن الدولة التي يتخيلها طه حسين ويتمثلها في أفكاره: الدولة الديمقراطية ذات الحياة النيابية والقائمة على الدستور. فالمجتمع الذي يتبنى طه حسين الدعوة إليه في كتاباته مجتمع مثالي رسم صورته مفكرو الغرب الليبراليون في القرن التاسع عشر. إنه «المجتمع القومي الذي يحكم نفسه بنفسه في ضوء مصالحه، والذي يتحقق فيه فصل الدين عن السياسة، والنظام الديمقراطي للحكم: أي هيمنة الإرادة العامة معبرًا عنها بواسطة برلمان منتخب ووزراء مسؤولين أمامه، واحترام الحقوق الفردية لا سيما حرية التعبير والكتابة، وقوة الفضائل السياسية والإخلاص للمجتمع والاستعداد للتضحية في سبيله، وقبل كل شيء تنظيم الصناعة الحديثة وتوافر الروح العلمية التي تكمن وراء ذلك كله».
قد تكون هذه بالفعل هي الصورة المثالية التي يرغب طه حسين في أن تكون عليها الدولة المصرية، لأنه قال بالفعل إن الشعب «سيد نفسه... وإنه مصدر السلطات جميعًا كما تقرر ذلك في دستورنا المصري».
وكما قلت من قبل كان هذا الكلام المثالي مفهومًا ومتوقعًا في عام 1938 عندما كان هناك أمل في أن تتكون دولة دستورية حديثة على أساس مبادئ السلم والحرية والعدالة وهي المبادئ التي ترتكز إليها شرعية الدولة الدستورية الديمقراطية.
ولهذا فلا عجب أن يعطي طه حسين في عام 1938 الدولة المصرية دورًا خطيرًا ومهمًا وهو دور صياغة العقول والإشراف على تربيتها والقضاء على أفكار «الرجعية والتقليد» فيها، خاصة تلك المرتبطة بالثقافة والتعليم الديني. فالتعليم في مصر من وجهة نظر طه حسين «قد انصرف إلى نفسه، وانصرفت الدولة عنه، ومضى في طريقه، لا يكاد يخضع لمراقبة ولا ملاحظة، وكانت صفته الدينية، وما زالت، تحميه إلى حد بعيد من تدخل السلطان المدني. وكان إقبال الناس عليه وما زال عظيمًا» والتخلص من «الصفة الدينية» للتعليم يعني أن تبدأ مصر في طريق الأخذ بأسباب الحضارة الأوربية وتسير على طريق الحداثة كما فعل الأوربيون من قبل. فالتعليم الديني «بحكم طبيعته وبيئته ومحافظة القائمين عليه، وخضوعهم بحكم هذه المحافظة لكثير من أثقال القرون الوسطى، وكثير من أوضاعها، يصوغ التلاميذ والطلاب صياغة خاصة مخالفة للصيغة التي ينتجها التعليم المدني».
كما يؤكد طه حسين على ضرورة إشراف الدولة إلى جانب ذلك على التعليم «الوسط» الذي لا هو «ديني خالص ولا مدني خالص». والذي يعتبر الأزهر ودار العلوم أصدق مثالين على هذا التعليم. ولكن للحق، فإن طه حسين لديه التحفظات نفسها على المدارس والمعاهد التعليمية الأجنبية الموجودة في مصر لأنه حريص على الاستقلال المصري والديمقراطية المصرية». يطالب طه حسين الدولة والدولة وحدها بالإشراف على التعليم ومراقبته مراقبة دقيقة ومتصلة، ولا بد أن تشمل هذه المراقبة جميع أنواع التعليم: الأجنبي والخاص والديني لصالح زرع الروح القومية المستقلة في التلاميذ ولكن الأهم هو زرع الفكر المستنير الحداثي النقدي في عقول تلاميذ التعليم الديني. فيؤكد أن إشراف الدولة على التعليم من الابتدائي حتى الثانوي في الأزهر ضرورة ماسة لأن «الأزهر بحكم تاريخه وتقاليده وواجباته الدينية بيئة محافظة تمثل العهد القديم والتفكير القديم أكثر مما تمثل العهد الحديث والتفكير الحديث....(و) إذا تركنا الصبية والأحداث للتعليم الأزهري الخالص، ولم نشملهم بعناية الدولة ورعايتها وملاحظتها الدقيقة المتصلة، عرضناهم لأن يصاغوا صيغة قديمة، ويكونوا تكوينًا قديمًا، وباعدنا بينهم وبين الحياة الحديثة التي لا بد من الاتصال بها، والاشتراك فيها، وعرضناهم لطائفة غير قليلة من المصاعب التي تقوم في سبيلهم» فالتعليم الأزهري «يصوغ التلاميذ والطلاب صيغة خاصة مخالفة للصيغة التي ينتجها التعليم المدني». يرى طه حسين إن الدولة هي المسؤول الأول «والمسؤول الأخير والمسؤول قبل الأفراد والجماعات، وبعد الأفراد والجماعات، عن تكوين العقلية المصرية تكوينًا يلائم الحاجة الوطنية الجديدة التي صورناها تصويرًا نظن أنه دقيق كل الدقة، ملائم كل الملائمة، حين قلنا إنها تنحصر في تثبيت الديمقراطية وحماية الاستقلال».
هكذا يعي طه حسين دور الدولة بوصفه دور وصاية وسلطة وتوجيه وإشراف وتربية وصياغة للعقول من أجل هدف «نبيل» هو حماية الديمقراطية والاستقلال وترسيخ المجتمع المدني وبناء الحداثة. كتب طه حسين هذا الكلام في عام 1938 كما سبق وأشرت إلى ذلك، ويبدو في كتابه وفهمه لدور الدولة تأثره بأفكار «الاستبداد المستنير» كما حدث في بعض دول أوروبا، وحيث النظام الحاكم هو الذي يقوم بإصلاحات في الإدارة والاقتصاد ومجال التعليم وبناء الجيوش ويخضع المؤسسات الدينية للدولة، ولكنه يقوم في الوقت نفسه بإتاحة حرية التعبير والتسامح الديني ويستشير المثقفين والفلاسفة. اتبع المثقف التنويري طه حسين في فهمه لدور الدولة السلطوي الأبوي، وتعاون مع الدولة في الوصاية على تفكير الشعب معتقدًا أن ذلك في مصلحة الشعب، وذلك حتى بعد أن تغير السياق العالمي وتعرضت أفكار عصر التنوير للمراجعة والاستكمال والتصحيح. فالرعب الأكبر أمام المثقف التنويري المصري ليس استبداد الدولة ولا الحاكم، وإنما كان رعبه الأكبر من تغلغل «هذا الفكر المحافظ الذي قد يكون سلاحًا يمنع به المبدعين من حرية التعبير عن أفكارهم» واعتبر أن فرض الدولة للتفكير الحديث والعقلانية والقضاء على الفكر الغيبي وتداخل الدين مع السياسة السبيل الوحيدة التي ستفتح الباب أمام تقدم المجتمع وتطوره بشكل لم تعرفه العصور السابقة المظلمة. هكذا استبدل المثقف التنويري وصاية الجماعات المحافظة بوصاية الدولة دون أن يرى -سواء عن قصد أو عن غير قصد- أنه يحتمي من استبداد باستبداد بديل.
ولكن هل توقع المثقف التنويري ما حدث بعد يوليو1952؟ فبعد يوليو 1952 لم يصبح التنوير هدف النخبة ولا الدولة وإنما أصبحت مقاومة الاستعمار والعدو المتخيل أو الحقيقي هو الأهم في نظر الدولة ونخبتها. فقد استبدل المثقف التنويري فكرته عن مكافحة الاستبداد بالاصطفاف خلف الدولة لمحاربة الاستعمار. يقول الكاتب المغربي عبد الإله بلقزيز إن صعود التيار القومي العربي ونجاح الناصرية في بناء سلطة سياسية في مصر ومرجعية كبيرة للحركة القومية العربية قد أرسى اعتقادًا بأن «مطالب العرب النهضوية المعلقة أو المؤجلة... التي بلورها النهضويون وقدم العرب دماءهم من أجلها، قد وجدت في حقبة الثورة تحقيقًا لها يرفع عن الحديث عن النهضة أي مبرر له. وقد وجد في هذا الاعتقاد جيشًا جاهزًا من المثقفين للدفاع عنه وتبريره دون تجشم عناء تمحيص درجة مصداقيته».
الواقع يقول إن ما قبل حركة الضباط الأحرار كانت هناك حركة ثقافية ناشئة في المسرح والسينما والنشر قام بها أفراد وليس الدولة، وكانت لهذه الحركة بالفعل أنشطة وكان لها تأثير في دوائر معينة يمكن أن تتسع مع الوقت. ولكن الاستقلال السياسي وهو ما كان مفترضًا أن يجلب مزيدًا من الحريات قد أتى باستبداد جديد وانشغل المثقفون والمبدعون بمخاطبة الدولة والدخول في دهاليزها للتربح تارة أو للإصلاح من الداخل تارة أخرى، فتحول المثقفون إلى موظفين في جهاز الدولة بعد أن أممت الدولة المجال العام تمامًا. فبعد نجاح حركة الضباط الأحرار سيطرت النخبة «الثورية» الجديدة على الحكم وبدأت في ترسيخ آليات الإذعان. وبدأت أولى محاولات الإذعان بفرض مفهوم الوحدة الوطنية والاستقلال على مفاهيم الديمقراطية والتنوع والتعددية، وأنشئ «حزب سياسي وحيد بعد انتصار القادة الجدد على حساب منع كل الأحزاب الأخرى من ممارسة النشاط السياسي».
أُممت الصحافة وأُمم الإعلام وأُنشئت وزارة الإرشاد والتوجيه القومي، وانقسم التاريخ إلى مرحلتين، تاريخ ما بعد الثورة من جهة، وكل التاريخ السابق الذي صوِّر فاسدًا، أو بتعبير آخر كان التاريخ والزمن راكدين ينتظران الثورات التي ستفتتح عصرًا جديدًا.
وخضعت المناهج الدراسية إلى إعادة نظر شاملة من الدولة (وكان هذا تحديدًا ما طالب به طه حسين)، ولكن لم تكن مراقبة الدولة بغرض تهيئة ذهن التلاميذ لتقبل أفكار الحداثة والديمقراطية، كما كان طه حسين يتخيل إن هذا ما ستفعله الدولة المصرية، وإنما كانت عقول التلاميذ تصاغ وفقًا للرؤية السياسية العامة التي تنتهجها الدولة وروايتها الرسمية فيما يخص التاريخ المعاصر.
فقد انتهى المؤتمر العام للثقافة والفنون الذي عقد بدار الأوبرا في القاهرة في عام 1959 إلى ضرورة وجود لجنة للإرشاد الثقافي، وضرورة وجود أجهزة لتنفيذ هذا الإرشاد، وأصدرت اللجنة التوصيات الآتية:
توصية الأزهر ووزارة الأوقاف والرئاسات الدينية بتنظيم حلقات ثقافية للوعاظ لدراسة حقيقة الشيوعية وأوجه التعارض بينها وبين الأديان السماوية والقيم الخلقية التي تنشأ عنها.
التوسع في الجهود المبذولة الآن بالأزهر والجامعات والمدارس على اختلاف مستوياتها لدراسة القومية العربية وموقفها الحيادي.
إقامة ندوات للاتحادات الخاصة بالعمال والموظفين والنقابات يدعى إليها رجال الفكر والاجتماع لتنوير الأذهان فيما يتصل بالموقف الراهن.
توصية نقابة المهن التعليمية لإقامة حلقات ثقافية مختلفة لتحقيق الغرض نفسه.
تغذية الإذاعة بالبرامج والأناشيد والأغاني التي تحقق هذه الأهداف.
معاونة الهيئات والجمعيات الثقافية بما يمكنها من تنظيم برامج تستهدف أغراض المؤتمر.
توصية الصحافة بالعناية بالمسائل القومية وتنبيه المواطنين إلى ما يواجههم من أخطار الاستعمار الغربي الشيوعي والصهيونية.
توصية الأجهزة الفنية المختلفة في المسرح والسينما والموسيقى بالعمل على تقوية الشعور بقوميتنا وتمسكنا بمثلنا وتقاليدنا وعقائدنا.
هكذا كانت الثقافة في خدمة السياسة العامة للدولة التي تتمثل في «القومية العربية والاشتراكية التعاونية وعداء الاستعمار والشيوعية» وأصبحت الثقافة أداة الترويج لهذه السياسات عبر المدارس والجامعات والاتحادات والأغاني والأفلام. وبالفعل، فقد شهدت تلك الفترة زخمًا في الأفلام والأغاني التي تتغنى بثورة يوليو وتمتدح كفاح الشعب وتحتفل بالانتصار على الملكية الرجعية. واستعانت الدولة المصرية آنذاك بأسماء رنانة في مجال الفنون والآداب من أجل تحقيق هذا الهدف. ومنذ ذلك الحين حدث ارتباط شديد بين شريحة من المصريين والدولة المصرية وتشابكت مصالحهم مع مصالح الدولة بقوة والتفوا حولها ودافعوا عنها في مواجهة التعددية والديمقراطية، ومن بينهم العديد من المثقفين. فدعا رشدي صالح إلى «الأخذ بمنهاج التوجيه للنشاط الثقافي» ووصف هذا التوجيه بأنه «عملية بناء العقول وصقل السلوك وإثارة الاهتمامات الجادة».
كما طالب أحمد عبد المعطي حجازي الدولة بأن يكون لها «حركة أدبية تعبر عن مثل الثورة وقيمها»، أما نعمان عاشور فقد خصص عددًا كبيرًا من المقالات لمهاجمة «التيارات الضارة» وطالب بأن تقوم «الصفوة المخلصة من النقاد الواعين الدارسين أصحاب الاتجاه الثابت الراسخ بحراسة النهضة المسرحية من انطباعات المشاهدين وصرخات دهماء النقد ومواجهة مسرح التسلية والاتجاهات المسرحية غير المتفائلة الآتية من أوروبا والتي تسرق الأرض الراسخة لبذور وثمار الفكر الاشتراكي النابع من البيئة العربية».
قامت الدولة المصرية بالفعل بإنجاز كل ما طالب به طه حسين من مجانية للتعليم وإشراف على المدارس (فيما عدا التعليم الأزهري) والاهتمام بالمعلم وتكوينه وتأهيله فأنشأت له الكليات التربوية المختلفة. واهتمت الدولة بالفعل بمراقبة الثقافة مراقبة دقيقة وصياغة عقل الشعب، لا التلاميذ وحدهم. فقد وصرح وزير الإرشاد القومي في الخمسينيات، فتحي رضوان أن الهدف من تدخل الدولة هو «حماية عقل الشعب وروحه»؛ فأُممت المسارح ودور النشر وظهرت سينما الدولة ودور نشر الدولة ومجلات وصحف الدولة الثقافية.
يقول بهاء طاهر، وما يقوله هو تقريبًا ما يقوله معظم مثقفي مصر ومريدي طه حسين، إن المجتمع المصري كان سيصبح «جنة أرضية» لو عُين طه حسين وزيرًا للثقافة، واستطاع تنفيذ برنامجه عن التعليم الذي فصله في «مستقبل الثقافة في مصر».
فهل كان طه حسين سيستطيع تنفيذ برنامجه فعلاً؟ وهل كانت المنظومة الأشمل ستسمح له بذلك؟
يناقض بهاء طاهر ما قاله من قبل عندما يقول إن «مصير طه حسين العظيم (كان) نمطًا كررته الثورة بعد ذلك في تعاملها مع المثقفين: كان المطلوب من المثقف أن يظل «شرفيًّا»، أي أن يترك ضباط الثورة في حالهم فيتركوه في حاله. وقد يخلعون عليه من مظاهر التكريم ما شاء أو بالأصح ما شاءوا هم، ولكن المهم أن يبقى داخل الدور المرسوم له».
ويستطرد «إن الثورة (يقصد حركة الضباط الأحرار في يوليو 52) كما نعلم لم تؤذ طه حسين في شخصه ولم تقصف قلمه. على العكس، لقد بالغت في تكريمه. كان على ما أذكر رئيسًا (شرفيًّا) للمجلس الأعلى للآداب والفنون، ورئيس تحرير(شرفيًا) لإحدى الصحف اليومية في بداية الثورة، فأما الأمين العام للمجلس والذي كان يخطط وينفذ فهو واحد من الضباط، وكان هناك ضابط نظير له في الصحيفة اليومية».
هكذا لم يكن لطه حسين أن يكون صاحب دور مؤثر في الثقافة أو في التعليم، واستخدم النظام الحاكم «صورة طه حسين» للترويج لسياسات النخبة الحاكمة وليس لخدمة الشعب. وبالفعل فبعد سنوات من صدور كتاب «مستقبل الثقافة في مصر» يعود طه حسين ليغير رأيه في حوار له مع محمود عوض في عام 1972، ويقول إن «مستقبل الثقافة زفت».
أبرز طه حسين بالفعل العديد من التفاصيل التي كانت يمكن أن تؤدي إلى منظومة تعليم عظيمة، فأكد على ضرورة الاهتمام باللغة العربية واللغات الأجنبية والاهتمام بالتربية البدنية والاهتمام بالتعليم الفني وإنصاف المعلم والاهتمام بتكوينه الثقافي والعلمي، والحرص على استقلال مراكز البحث العلمي وتشجيع التعليم المستمر ومجانية التعليم الإلزامي واستثمار الدولة في التعليم. وقد نفذت الدولة المصرية هذه المنظومة بالفعل، فجعلت التعليم الأساسي إلزاميًّا، وأصبح التعليم في جميع مراحله مجانيًّا؛ أي متاحًا للجميع، وفتحت الجامعات أبوابها لتعلم الفنون واستقبالها بشكل حر في أكاديميات الفنون. كان يمكن أن تكون هذه السياسة عظيمة بالفعل لو كانت الدولة تقوم بدور مختلف عن دور الإرشاد والتوجيه والوصاية، ولو تخلى المثقفون عن إحساسهم النخبوي بضرورة تربية الشعب الجاهل، ولو كانت تلك السياسة التعليمية والثقافية قد تحققت في ظل قبول التعددية وتنوع الأفكار. وعلى الرغم من كل الشواهد التي تؤكد سلبيات تدخل الدولة لتربية الشعب وتوجيهه وصياغته على شاكلة النظام الحاكم، إلا أن المثقفين ظلوا مخلصين لدور الدولة التقليدي كما فهمه طه حسين: الدور الأبوي السلطوي النخبوي الفارض لأفكار الحداثة والعقلانية لأن الشعب غير قادر على التفكير وحده. ويبقى السؤال عن سبب إصرار المثقفين وتقديسهم لسيطرة الدولة عملاً بنصيحة طه حسين التي كتبها في عام 1938 عندما كان السياق التاريخي مختلفًا والتوقعات من الدولة مختلفة وفهم طبيعة ودور الدولة في السياق العالمي مختلفًا؟ لماذا ظلوا يطالبون الدولة بالقيام بالدور السلطوي نفسه لفرض أفكار الحداثة والعقلانية وهم يعرفون حق المعرفة أن الدولة المصرية لا تطبق إلا الحداثة منقوصة؟
سأحاول الاجتهاد للإجابة على هذا السؤال. فهناك رأي يقول إن المثقف التنويري يتضامن مع الدولة خوفًا من سيطرة الفكر الرجعي المحافظ، وخوفًا من فقدان تواجده في المجال العام، وتؤكد شيرين أبو النجا الرأي نفسه، وتقول إن المثقف التنويري كان دائمًا يحتمي بالدولة الرسمية من «إرهاب» الإسلاميين حتى تحول إلى كارت تلعب به الدولة متى شاءت، فتارة تشهره في وجه الإسلاميين «مشروع تنوير» وتعيد نشر مؤلفات طه حسين وسلامة موسى مثلاً، وتارة تضحي به لإرضائهم (نصر حامد أبو زيد، ثم أزمة الروايات الثلاث في مجلة إبداع)، وتارة تستخدم الثقافة كديكور حداثي أمام الغرب (مصر ضيف شرف في معرض فرانكفورت على سبيل المثال).
تخيل المثقف التنويري أن اصطفافه مع الدولة سيجعله يحارب «الفكر الظلامي»، وتخيل أن حربه مع الفكر الظلامي الرجعي ستغنيه عن مقاومة استبداد النخبة الحاكمة لأنها هي التي توفر له الوجود والتعبير عن أفكاره رغمًا عن الجماعة المحافظة ووصايتها. ومن ناحية أخرى، فهو يرى، بما أنه من أنصار أفكار عصر التنوير، أن الدولة سوف تستعين به بالضرورة من أجل إعادة تربية الشعب وتوجيهه، وأنه سيكون له دور مهم في التأثير في فكر الشعب. ويتفق ذلك الاعتقاد مع ما يقوله طه حسين عن الشعب الذي «لا يقدر شؤون الثقافة كما ينبغي»، ومع ما يقوله عن المثقف الذي ينتمي إلى «طبقات الشعب الممتازين» الذين يجب أن تنتشر معارفهم وثقافتهم في طبقات الشعب الأخرى «التي تصرفها الحياة اليومية عن الفراغ للمعرفة».
وهذا ما يؤكده بهاء طاهر أيضًا، فهو يتحسر على عدم قدرة المثقف التنويري على فرض آرائه بعد أن قام السادات ونظامه على حد قوله «بإقصاء المثقفين من أنصار الدولة المدنية وتهميشهم، حتى لا يكون لهم تأثير على الرأي العام»، وتحسر بهاء طاهر على عدم استعانة الدولة بهذا المثقف التنويري في المؤسسات الإعلامية، بعد أن «حل محلهم في منابر الإعلام وعاظ يؤسسون للسلطة الدينية، وفي التعليم والنقابات دعاة من الإخوان يمهدون لقيام الدولة الدينية».
هكذا كان الاختلاف مع سياسات السادات بسبب عدم الاستعانة بآراء المثقفين التنويريين والاستعانة بدلاً منهم بالجماعة الدينية المحافظة، كأن استعانة الدولة بآراء التنوير والعقلانية وفرضها من أعلى سيصبح كافيًا للاصطفاف خلف الدولة مرة أخرى. هذا الدور النخبوي التربوي الإرشادي للمثقف والدولة نجد أصله بالفعل عند طه حسين، فهو يرى أن كثرة المصريين لا تقرأ وبالتالي فلا بد من «أن تُتلى عليها الصحف التي تعلمها وتهذبها بلغتها السهلة وعباراتها العربية وأساليبها اليسيرة»، فالأفضل هو النظر إلى وسائل الإعلام بوصفها قادرة على صياغة أفكار الشعب بالطريقة المثلى كما تراها الدولة وكما يراها المثقفون: أي «تثقيف الشعب وتهذيبه وإرشاده إلى الخير في سيرته وإلى الصواب في رأيه» ولكن لماذا لا ينتبه المثقف التنويري إلى أن الفكر الصائب في نظر طه حسين وأنصاره ليس بالضرورة هو الفكر الذي تتبناه الدولة ونخبتها، وأن الفكر الصائب يمكن أن يكون أكثر من فكر وأن الصواب يمكن أن يتحقق مع وجود أفكار متعددة إذا طبقت قوانين عادلة سارية تضمن حرية التعبير وحرية البحث العلمي وتمنع الكراهية وتعاقب التمييز.
هذا التقدير المبالغ فيه للنخبة ودورها نلمحه عند بعض المثقفين حتى اليوم. فيكتب أنور مغيث عن دور النخبة المهم في تحريك المجتمع بأسره مسترشدًا بواقعة في عام 1901 عندما انتهى يوسف نحاس من تقديم رسالته إلى السربون بعنوان الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للفلاح، وفي خاتمة هذه الرسالة كتب يوسف نحاس «إن السواد الأعظم من الشعب المصري فلاحون، ولكنهم جهلة ويمنعهم جهلهم من إدراك مصالحهم والمطالبة بها»، ولهذا «يلقي يوسف نحاس مهمة تحويل الفلاحين من رعايا إلى مواطنين على كاهل المشرعين الذين يعدون دساتير البلاد وقوانينها».
ويؤكد أنور مغيث نفسه على الوضع المميز الاستثنائي للنخبة المصرية مسترشدًا بطه حسين، فيقول «نذكر في هذا الصدد الإهداء الذي صدَّر به طه حسين كتابه في الشعر الجاهلي إلى القلة المستنيرة في هذا البلد».
تشعر النخبة المميزة إذن أنها صفوة قليلة ممتازة، وتستمد من هذا الشعور أهميتها وتميزها، وبالتالي فإن أفراد هذه النخبة يتوقعون من الدولة أن تلجأ إليهم وتستعين بهم في توجيه الشعب وتربيته وإرشاده من أجل فرض الحداثة والفكر العقلاني، ولكنهم في الواقع يمارسون وصاية تشبه وصاية الجماعات المحافظة التي ينتقدونها.
وهنا ألجأ إلى تفسير بورديو عن تعاون المثقف مع السلطة، فهو يرى أن المجتمعات تتكون فيها مجموعتان مختلفتان تمتلك كل واحدة نوعًا مختلفًا من رأس المال، فهناك المجموعة البرجوازية الاقتصادية التي تمتلك رأس مال اقتصادي، وهم عادة من يعملون في مستويات الوظائف العليا من المجالات الاقتصادية التي تدر الأرباح مثل التجارة والصناعة. وهناك مجموعة أخرى تمتلك رأس مال ثقافي، وهي البرجوازية الثقافية والتي تمتلك التعليم الجيد واللغات الأجنبية والانفتاح على ثقافات أخرى، ويعمل أعضاء هذه المجموعة في المستويات العليا الأكاديمية أو في مجال نقد الأدب والفنون، وهناك مجموعة ثالثة تقع بين هاتين المجموعتين، وهم الأفراد الذين تحتم عليهم وظائفهم امتلاك مستوى عال من رأس المال الثقافي والاقتصادي في آن واحد، مثل المحامين والمسؤولين الحكوميين. تتسم العلاقة بين أفراد المجموعتين بالصراع تارة وبالتعاون تارة أخرى. فالمجموعتان تتنافسان مع بعضهما وترى كل مجموعة أن ما لديها من رأس مال أفضل وأكثر قيمة من رأس مال المجموعة الأخرى. فالبرجوازية الثقافية ترى مثلاً أن البرجوازية الاقتصادية «سوقية»، لأن كل ما يشغل بال المنتمين إليها هو المال بدلاً من الأمور «الأسمى قيمة في الحياة»، بينما ترى البرجوازية الاقتصادية أن المنتمين إلى البرجوازية الثقافية غالبًا ما يبدون مثل «الحمقى والمدعين والمتطفلين على الفن، وهم ذوو إدراك ضعيف جدًا للواقع».
ومع ذلك، فإن بورديو يرى أن هاتين المجموعتين تتعاونان مع بعضهما البعض، عندما يتعلق الأمر بالسيطرة على الطبقات الاجتماعية الدنيا، فتتعاون المجموعتان معًا «بقصد أو بغير قصد لإبقاء الطبقات الأخرى خاضعة». ويشكل هذا الوضع ما يسميه بورديو بـ «هيمنة تقسيم العمل»، فيتعاون الفريقان «للحفاظ على نفوذهما، فيخضع أحدهما الطبقات الدنيا اقتصاديًّا، بينما يخضعها الآخر ثقافيًّا».
يشرح هذا التعاون بين البرجوازية الاقتصادية والثقافية ما حدث وما زال يحدث في المجتمع المصري من تعاون بين أفراد النخب الثقافية والاقتصادية. فإذا كانت الدولة هي المتحكم الأول في الاقتصاد وجهاز الدولة منذ يوليو 1952، وإذا كانت الوظائف الحكومية، خصوصًا في المجال الثقافي الذي أصبح مؤممًا لصالح الدولة، هي الطريق الذي يكاد يكون الوحيد من أجل الترقي الاجتماعي، فإننا نفهم فورًا لماذا تقبل تلك «المجموعة الثقافية» هذا الدور الأبوي السلطوي للدولة، وتخاف من خلخلة سيطرة الدولة في حالة الثورات الاجتماعية. ففي لحظات الثورات تتهدد سيطرة النخبة الثقافية التي تحاول أقصى جهدها لاستمرار الوضع كما كان، أي الوضع الذي يسمح لها بالتميز الاجتماعي والسيطرة الثقافية. وهكذا يتحد المثقف التنويري مع النخبة الحاكمة والنخبة الاقتصادية ضد «أعداء التنوير» وضد «أصحاب الفكر الرجعي» و«ضد الدهماء» وضد «أعداء الوطن».
وتصف شيرين أبو النجا هذه العلاقة المعقدة بين المثقف وبين الدولة بأنها «علاقة الحب-الكره».
إلا إن التغيير هو سمة الحياة، ويأتي التغيير أحيانًا على غير إرادة الحكام. وقد بدأ التغيير بالفعل في نهاية القرن الماضي وبداية هذا القرن عندما سمحت الدولة المصرية بهامش بسيط من الحريات تحت ضغط دولي شديد من أجل مزيد من الخصخصة الاقتصادية التي تستلزم بعض الحريات. وهكذا ولأول مرة نرى حسني مبارك يخوض، تحت ضغط دولي أيضًا، معركة انتخابات ضد مرشحين آخرين. كانت هذه الانتخابات أول انتخابات تعددية «يتنافس» فيها حسني مبارك دون اللجوء إلى الاستفتاء على بقائه رئيسًا. صحيح إنه فاز بنسبة 88% وصحيح أن الانتخابات كانت صورية إلى حد كبير، ولكنها كانت دليلاً على أن التغيير قادم لا محالة، حتى لو تأخر.
والتغيير كان قد بدأ قبل ذلك عندما سمحت الدولة المصرية بدخول عالم الفضاء الرقمي وسمحت بالإعلام الخاص وإنشاء محطات تلفزيونية خاصة قامت بدورها في «لعبة الديمقراطية المحسوبة» وكان بها عدد لا بأس به من الأصوات التي كانت تعارض النظام، وإن كانت لا تريد هدمه.
كان جهاز الدولة قد أصبح مهترئًا بالفعل. ومع هذه الزيادة السكانية الهائلة أصبحت الدولة غير قادرة على القيام بما كانت تقوم به من قبل لضمان الولاء، فلم تعد الدولة قادرة على توظيف هذه الأعداد الضخمة من الشباب المتطلعين إلى حياة كريمة. فأصبح هناك جيل من الشباب لا يدين بالفضل ولا بالولاء لجهاز الدولة لأنه رب عمله أو لأنه المجال الوحيد لكسب العيش. لم يعد يدين بالولاء لجهاز الدولة المهترئ غير تلك المجموعة المنتفعة منه، وهي مجموعة تآكل عددها مع الوقت. أما المجموعات الأخرى فقد وجدت وظائف في مؤسسات أجنبية وشركات متعددة الجنسيات وشركات خاصة برجال أعمال، وبدأت الناس تسائل الدولة عن دورها، خصوصًا بعد أن تدهورت جميع الخدمات الصحية والتعليمية والثقافية التي تقدمها الدولة، وأصبحت الطبقة الوسطى غير مستفيدة من خدمات الدولة في هذه المجالات. فلجأ أفرادها إلى المدارس الخاصة والعلاج الطبي الخاص ولم تعد هذه الطبقة مستفيدة من الدعم الذي تقدمه الدولة ولا مستفيدة من الوظائف الحكومية بعد أن تدهورت مرتبات الموظفين الحكوميين. هنا بدأ التغير في مفهوم الناس لطبيعة الدولة ودورها، هنا كانت البداية التي تتابعت بعدها تغيرات أخرى، فكانت انتفاضة يناير 2011 التي كان لها أثر كبير في تعاطي مجموعات أكبر من المواطنين للسياسة وازداد الوعي بالحقوق والواجبات في الدولة الحديثة. وبدأت نقاشات مستفيضة حول طبيعة الدولة ودورها.
ومن بين هذه النقاشات كان ذلك النقاش الذي حدث عندما انتقد بعض المثقفين دور الدولة في السياسة الثقافية التي طرحتها وزارة الثقافة برئاسة جابر عصفور عام 2014، وهي السياسة التي تستند إلى المشروع البحثي الذي قام به السيد ياسين في المركز القومي للبحوث الاجتماعية عام 1992.
تعكس السياسة الثقافية التي اقترحتها وزارة الثقافة تمسكًا متحجرًا بالآراء التقليدية التي تبناها المثقف التنويري من قبل وإصرارًا على دور الدولة النخبوي التربوي السلطوي على الرغم من تغير السياق العام وتراجع الدولة تمامًا عن معظم الخدمات التي كانت تقدمها للناس.
تنطلق السياسة الثقافية المقترحة من تحديد المشكلات التي يواجهها المجتمع ثقافيًّا واجتماعيًّا، فترصد معدل الأمية الكبير بين السكان الذي يعادل 40 %، وترصد وجود 26 مليون مواطن يعيشون تحت خط الفقر، و16 مليون مواطن يسكنون في العشوائيات. وعلى هذا الأساس، فإن المشكلة الكبرى التي يواجهها المجتمع المصري من وجهة نظر هذه السياسة الثقافية هي «التطرف والإرهاب والتعصب» وهذه مشكلات تنتج عن الجهل والفقر، كما ترى هذه السياسة الثقافية المطروحة أن «العقل التقليدي» سبب أساسي أيضًا لشيوع التيارات الدينية المتطرفة، وترى أن «العقل التقليدي» هو نتيجة لازدواجية التعليم «بين تعليم ديني» يقوم على النقل ولا يقوم على العقل، وتعليم مدني ينهض على أساس قشور من المعرفة العلمية، تصاغ من خلال عملية «تلقين» ميكانيكية مما يؤدي إلى خلق «عقل اتباعي» لا يتسم بالإبداع.
والعقل التقليدي هو التربة الخصبة لـ«نشأة العقل الإرهابي». وتضع السياسة الثقافية لنفسها دورًا مهمًا في تكوين العقل المصري ونشر ثقافة المعرفة وتغيير الاتجاهات المتطرفة وتجديد القيم المصرية. ولتحقيق هذه الأهداف ستقوم الدولة بإحياء الذاكرة التاريخية المصرية ونشر سلاسل خاصة تعيد إبداعات النهضة العربية الأولى والنهضة الليبرالية المصرية «ابتداء من رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده وصولاً إلى أهم رموز الفكر الليبرالي الحديث مثل أحمد لطفي السيد وطه حسين وسلامة موسى وغيرهم».
ها نحن مرة أخرى أمام طه حسين ورموز العصر الليبرالي في الثلاثينيات والأربعينيات لإنقاذ الثقافة وصياغة فكر الشعب وتوجيهه حتى يبتعد عن الفكر المتطرف، كل هذا ونحن في القرن الحادي والعشرين.
تعطي هذه الرؤية الدولة دورًا توجيهًّا وتربويًّا ورقابة على أفكار الشعب، دون أن تضع وزارة الثقافة في اعتبارها أن دور الدولة في مجال الثقافة قد تغيَّر في العالم أجمع وأصبحت مسؤولة أكثر عن دعم الصناعات الثقافية وإتاحة الخدمات الثقافية للناس وحماية المبدعين دون تربية ولا توجيه ولا وصاية، ولكنه للأسف الإصرار على الدور الأبوي التوجيهي نفسه الذي طالب طه حسين الدولة به في الثلاثينيات.
ولكن لحسن الحظ، فإن هذه السياسة الثقافية لم تمر مر الكرام ولم يقبلها الجميع بلا أي تحفظات. فقد كتب خالد فهمي في مقال له نشر في أخبار الأدب بتاريخ 4 ديسمبر 2014 (ثم نشره على موقعه الإلكتروني) نقدًا مهمًا لهذه الرؤية يعكس مدى التغير الذي طرأ على مفهوم الدولة لدى بعض المثقفين الذين يغردون خارج دهاليز الدولة ومساراتها ووظائفها وأجهزتها.
يعلق خالد فهمي على رؤية وزارة الثقافة قائلاً إن هذه السياسة تنطلق من موقع سلطوي متعال، لأنها تفهم دور الدولة في المجال الثقافي على أنه إرشاد الشعب وتصحيح رؤيته، وهو دور أبوي إصلاحي عفا عليه الزمن. ينتقد خالد فهمي السياسة الثقافية التي رسمها السيد ياسين وتبنتها وزارة الثقافة لأنها تعكس مفهوم «الإرشاد القومي» نفسه الذي كانت عليه الوزارة في الحقبة الناصرية.
يرى خالد فهمي إن المشكلة الحقيقية التي تعاني منها هذه السياسة الثقافية تكمن «في تشخيصها لمشكلة التطرف الديني (...) فالنص المنشور يشير في أكثر من موضع لاتجاهات التعصب والتطرف والنزوع إلى الإرهاب، وخطورة العقل التقليدي الذي هو المقدمة الضرورية لنشأة لعقل الإرهابي. وضرورة الاهتمام بالفقر والأمية اللذين يعدان من أهم الأسباب العميقة التي تؤدي إلى نشأة ظواهر التعصب الديني والتطرف... والإرهاب»، في حين أن هذا التشخيص هو في الحقيقة جزء من المشكلة وليس حلاً لها. فالمشكلة لا تكمن في «دراية المتطرفين بكتب التنويريين أو عدم الإلمام بها، الأمر الذي يمكن علاجه بإعادة نشر هذه الكتب. المشكلة الحقيقية أن هناك قطاعًا كبيرًا من الشعب قد نفر من هذه الكتابات ورفضها. والمشكلة تزداد تعقيدًا إذا افترضنا، كما تذهب فلسفة وزارة الثقافة، أن هذا النفور وذلك الرفض منبعه الفقر أو التخلف أو انتشار الفكر الوهابي».
المشكلة كما يراها خالد فهمي هي في المنظومة السلطوية الكاملة التي تعتبر وزارة الثقافة نفسها جزءًا لا يتجزأ منها وتمسك وزارة الثقافة بما تسميه الفكر «المستنير» الذي لا يقابله «أي فعل واقعي أو جاد يسمح للعقل أن يبدع ولا للفن أن يزدهر».
يعتبر نقد خالد فهمي لسياسة وزارة الثقافة انعكاسًا لبداية التغير في إدراك بعض المثقفين لطبيعة دور الدولة وانتقادهم لدورها التوجيهي الأبوي السلطوي، وافتراضها أنها تعرف أكثر من مواطنيها وتعمل على صياغة عقولهم ووعيهم لتضعهم على نفس الطريق التي تريدهم أن يمضوا عليه. يرى خالد فهمي أن الدور الأساسي لوزارة الثقافة الآن يكمن في تقديم الخدمات وإتاحتها دون فرض فكر معين على المواطن بدعوى الاستنارة أو الحداثة، ودون اللجوء إلى ضرورة «صياغة العقول» فهو يطالب مثلاً بأن تتحول قصور الثقافة إلى «أماكن عامة تكون مفتوحة لنا ليس لنتلقى فيها أفكارًا تنويرية، ولكن لنعرض فيها أعمالنا، وندير فيها نقاشاتنا، ونشاهد فيها أفلامنا، ونعرض فيها مسرحياتنا».
ووفقًا لهذه الرؤية، فإن على الدولة أن تقدم فضاءاتها الثقافية خدمة للناس وتتيحها لهم دون توجيه أو إرشاد أو فرض وصاية.
أما المكتبات العامة، ففيها يمكن أن «نطالع ليس فقط كتب طه حسين، ولكن أيضًا... كتب السلفيين والإخوان و(الفكر الوهابي الصحراوي). نريد أن تكون مكتباتنا العامة أماكن نقارن فيها بين هذه الأدبيات المختلفة نعمل فيها عقلنا... دون وصاية ودون رقابة، نختار ما نختار ونرفض ما نرفض».
يرفض خالد فهمي بقوة مبدأ الوصاية والإشراف وصياغة العقول الذي كان يشكل جوهر كتاب «مستقبل الثقافة في مصر» والذي تبناه بعد ذلك الكثيرون. لم تعد الدولة ولم تعد الصفوة من القلة المثقفة المستنيرة المتعاونة معها هم قاطرة التغيير، ولكن التغيير سيأتي بالضرورة مع إتاحة أكبر للحريات وحمايتها، فما الذي حدث بعد عقود طويلة من «توجيه وإرشاد الشعب بغرض تثقيفه وتنويره؟ هل اختفت التيارات المتطرفة؟ هل اختفت الكراهية واختفى التمييز؟ هل أصبح الناس أكثر وعيًا بحقوقهم؟ إذا كان هذا لم يحدث بعد كل تلك السنوات من إمساك الدولة بدفة التوجيه، فما الذي يمكن أن نتوقعه الآن من ذلك الدور التوجيهي؟ يكمن دور الدولة الآن في حماية المبدعين وإتاحة الثقافة ودعم الصناعات الثقافية، وللمثقف دور في الكتابة وإبداع الفنون، ولا دور له في التربية والإرشاد والتوجيه وفرض الرأي».
في الواقع، لم يكن خالد فهمي وحده من شكك في هذا المفهوم الأبوي للدولة ولم يكن وحده من رفض هذا الدور الأبوي السلطوي.
ففي الرؤية التي طرحها عماد أبو غازي عن السياسة الثقافية نجد المطالبة نفسها بأن تتخلى الدولة عن دورها السلطوي الذي يجعل كل خيوط إنتاج الثقافة في يدها، لتتحول إلى داعم للثقافة لا منتجًا لها.
يطرح عماد أبو غازي رؤية تختلف عن السياسة الثقافية التي طرحها السيد ياسين، فهو يؤكد أن دور الدولة هو «توفير الخدمات الثقافية للمواطنين وحماية التراث المادي واللامادي وحماية حقوق الملكية الفكرية للمبدعين».
هكذا تستبعد هذه الرؤية «فكرة التوجيه واستخدام المؤسسات الثقافية المملوكة للدولة/الشعب في الترويج لسياسات بعينها واستبعاد سياسات أخرى». سيكون دور الدولة وفق هذه الرؤية «دورًا داعمًا للنشاط الأهلي والمستقل ومشجعًا للصناعات الثقافية وحاميًا للتراث الثقافي، وساعيًا إلى الوصول بالخدمات الثقافية للمواطنين».
وقد وضع عماد أبو غازي آليات واضحة قابلة للتحقيق لتنفيذ السياسة المطروحة، وأهم هذه الآليات يعكس فهمًا مختلفًا لدور الدولة، لأن ما ينبغي على وزارة الثقافة عمله هو «تحقيق الديمقراطية الثقافية بحيث توزع الخدمات الثقافية على مستوى مصر بشكل عادل لإنهاء حالة المركزية الشديدة في المجال الثقافي، حيث يتم كل شيء في القاهرة والإسكندرية». كما يضع أبو غازي تصورًا لديمقراطية الإدارة الثقافية من خلال مجالس أمناء للمتاحف والهيئات الثقافية ويقترح انتخابات دورية للفرق الفنية ومشاركة المواطنين المستفيدين من الخدمات الثقافية في إدارة المواقع الثقافية. ويؤكد في الوقت نفسه على الرقابة على الإنفاق الحكومي من خلال المجالس النيابية الممثلة للشعب.
هكذا تغيرت التوقعات من الدولة وتغير فهم دورها وطبيعتها، فأصبح مفهوم الدولة مفهومًا يستند بالفعل إلى المبادئ الديمقراطية الدستورية ويبتعد عن الدور السلطوي التوجيهي. وابتعد كل من خالد فهمي في نقده لسياسة جابر عصفور الثقافية، وعماد أبو غازي في طرحه للسياسة الثقافية عن فكرة التنوير المفروض من أعلى. يبعث فهم عماد أبو غازي وخالد فهمي المختلف لدور الدولة تفاؤلاً في أن يسود يومًا ما وبشكل أوسع مفهوم جديد للدولة ودورها وهو ما سينتج بالضرورة ذات يوم قد لا يكون بعيدًا سياسة ثقافية جديدة تحترم الحريات وتعترف بوجود اختلافات في الأفكار، وتقبل تعدد الأذواق في استقبال المنتجات الثقافية المتنوعة دون تسفيه ولا ازدراء ولا وصاية.