دراسات

جوزيف شونارا

الاشتراكية في زمن الأوبئة

2020.07.01

الاشتراكية في زمن الأوبئة

قد يكون مغريًّا التعامل مع الأوبئة باعتبارها أحداثًا غير متوقعة، واجتياحًا كارثيًّا من الطبيعة للمجتمع البشري1. ومع ذلك، فإن تفشي ﭬيروس كورونا 2019 (كوﭬيد- 19) ليس سوى ظاهرة «طبيعية». إذ تحدث الأوبئة في سياق اجتماعي وسياسي واقتصادي يتداخل مع عمليات أخرى؛ مثل طفرات الڤيروسات، وانتقالها من مضيف إلى آخر، وتأثيرها على الكائنات الحية. ومن ثَم، لا يمكن فهم طبيعة جائحة كوﭬيد- 19 دون النظر إلى الرأسمالية في تكوينها الحالي.

قبل كل شيء، فإن وباء، على هذا المستوى، يزيد من حدة أخطاء الرأسمالية الموجودة بالفعل من قبل. وبشكل أساسي، فإنه يضعنا أمام خيارين: إما الدفاع عن الأرباح، أو إنقاذ الأرواح. وتشير الدلائل، حتى الآن، إلى أن الخيار الأول كان الأولوية القصوى لأولئك الذين يترأسون هذا النظام. تستكشف هذه المقالة كيف تتشابك الأوبئة مع منطق رأس المال،كما تقدم بعض الاستجابات المحتملة من اليسار.

كوﭬيد- 19

تحدث الإصابة بـكوﭬيد- 19 عن طريق ﭬيروس جديد ينتمي لمجموعة ﭬيروسات تعرف باسم «الڤيروسات التاجية المسببة لمتلازمة الالتهابات التنفسية الحادة2» (SARS-CoV-2). وقد اكتُشفت الڤيروسات التاجية في الستينيات، وتتسبب في مجموعة من الإصابات؛ بعضها خفيف: مثل الڤيروسات التاجية التي كانت من بين مئات الأسباب المحتملة لنزلات البرد. أما بعضها الآخر فكان أكثر فتكًا: عندما ظهر الڤيروس التاجي لمتلازمة الشرق الأوسط التنفسية (MERS-CoV) في عام 2012، ثبت أن أكثر من ثلث الحالات المؤكدة مختبريًّا، والبالغ عددها 2040 هي حالات قاتلة3. ويسبب كوڤيد- 19، من بين أعراض أخرى، الحمى والسعال الجاف. كما يمكن إن يؤدي إلى الالتهاب الرئوي الذي قد يكون مميتًا، خصوصًا عند كبار السن، أو عند أولئك الذين يعانون مشكلات صحية مزمنة.

في وقت كتابة هذا التقرير، كانت تقديرات معدل الوفيات المؤكدة (عدد الوفيات المبلغ عنها لكل حالة تم الإبلاغ عنها) 3-4 في المئة، مقارنة بنحو 0.1 في المئة لتفشي الإنفلونزا الموسمية4. وينتشر الڤيروس التاجي من خلال انتشار الرذاذ في الهواء من شخص مصاب، على سبيل المثال عندما يسعُل، أو عبر ملامسة الأسطح الملوثة.

وعلى المستوى الجزيئي، تعتمد الڤيروسات التاجية على سلسلة واحدة من الحمض النووي الريبي، مما يعني أنها تتحور بسرعة شديدة: «لقد استغرق جينوم الأنواع البشرية ثمانية ملايين سنة ليتطور بنسبة 1 في المئة. ويمكن أن تتطور العديد من ﭬيروسات الحمض النووي الريبي الحيواني بأكثر من 1 في المئة في غضون أيام»5. وكما هو الحال مع العديد من الڤيروسات الأخرى، تكمن الڤيروسات التاجية في الحاضنات التي تكونها مجموعات الحيوانات؛ إذ تحدث معظم الأوبئة والأوبئة الڤيروسية

عندما تنتقل ﭬيروسات جديدة إلى البشر عبر الحيوانات، وهي عملية تعرف باسم «الأمراض حيوانية المصدر»، ومن خلال الطفرات، تكتسب القدرة على الانتقال من إنسان إلى آخر. عندما ينشأ شكل جديد متحور من الڤيروس من هذه الطفرة، فإنه يصادف مجموعة بشرية لا تمتلك مناعة ضد العامل المسبب للمرض، بالإضافة إلى عواقب مدمرة محتملة.

أحد الأمثلة الجيدة على ذلك هو الإنفلونزا. والإنفلونزا، مثل الڤيروسات التاجية، هي ﭬيروس أحادي السلسلة من الحمض النووي الريبي. وتعتبر الطيور المائية، مثل البط والإوز، بمثابة حاضن لها؛ إذ توجد الإنفلونزا على نطاق واسع في مجموعات الطيور هذه، ولكنها في هذه الحواضن، تؤدي إلى أعراض خفيفة نسبيًّا - تؤدي في المقام الأول إلى اضطرابات في الجهاز الهضمي والتي تتسبب في أن تنقل الطيور الڤيروس عن طريق الإفرازات6. وبمجرد أن يصل الڤيروس إلى الإنسان، يصبح قادرًا على إصابة الجهاز التنفسي. كما يمكن أن تتحور الإنفلونزا بطريقة ما، وتتخطى الحدود فتنتقل من الطيور إلى البشر، على الرغم من أن هذا أمر نادر. وغالباً ما تكون هناك حاجة إلى أنواع وسيطة. أما الخنازير فتركيبتها مجهزة جيدًا بشكل خاص لتعمل كناقل للڤيروسات؛ إذ أن خلاياها يمكن أن تصاب بسلالات من إنفلونزا الطيور والإنفلونزا البشرية، مما يؤدي إلى إنتاج أشكال هجينة جديدة7. تقتل الإنفلونزا الموسمية عادةً ما بين نصف المليون والمليون شخص في العالم كل عام8، ومع ذلك، فالإنفلونزا الوبائية هي ما يسبب عبئًا كبيرًا على أنظمة الرعاية الصحية.

توجد بعض الڤيروسات التاجية أيضًا في مجموعات الطيور، ولكن يبدو أن الناقل الأكثر أهمية لبعض أنواع الڤيروسات التاجية التي تنتقل إلى البشر هي الخفافيش9. كما تلعب أنواع أخرى مثل الخنازير، أوقطط الزباد، أو الإبل، دورًا في نقل الڤيروسات التاجية من الخفافيش إلى البشر10. لذا فإن الأمراض حيوانية المنشأ عامل حاسم في انتشار الڤيروسات التاجية.

تاريخ موجز للأوبئة

تألفت المجتمعات البشرية المبكرة من مجموعات صغيرة؛ مارس بعضها الصيد، ومارس بعضها الجمع والالتقاط. وقد كانت تتعرض، في بعض الأحيان، لأمراض معدية من حيوانات أخرى، أو من البيئة المحيطة. كانت هذه المجموعات الصغيرة من البشر أما تستسلم للمرض أو تطور مناعتها ضده. وفي كلتا الحالتين، كانت هناك فرص ضئيلة لانتشار العدوى خارج المجموعة الأولية. وقد تغيَّر هذا مع ثورة العصر الحجري الحديث، التي بدأت في الشرق الأوسط قبل نحو 10000 عام، وأدت إلى ظهور المجتمعات الزراعية المستقرة. والتي نتج عنها ازدياد حجم السكان، وتراكم النفايات البشرية في مناطق الاستقرار، وفي بعض الحالات،كان الناس يربون الماشية، مما يجعلهم على مقربة من الحيوانات لفترات طويلة. وقد شكَّل هذا ظرفًا مواتيًا لانتشار الڤيروسات ومسببات الأمراض الأخرى؛ مثلما فعل نمو التجارة والحروب والهجرات بين المجموعات البشرية11.

مع مرور الوقت، أدى التعرض المشترك لمجموعة من الأمراض إلى نشوء «مناطق غير مستقرة»، وهو ما خلق ما يسميه ويليام ماكنيل William McNeill «مستنقعات الأمراض الحضرية» التي امتدت إلى مناطق واسعة، مثل تلك التي تركزت على شاطئي البحر الأبيض المتوسط، أو شبه القارة الهندية12، ومع ذلك فقد كان من السهل أن تتسلل الأمراض الجديدة إلى هذه المجمعات؛ عن طريق فتح طرق تجارية جديدة، أو عن طريق الحروب، أو الغزو.
على سبيل المثال؛ في عام 165م، نشر الجنود الذين كانوا يقومون بحملة في بلاد ما بين النهرين «الطاعون» (وربما الجدري) عبر الإمبراطورية الرومانية؛ مما أدى إلى انتشار الوباء لمدة 15 عامًا في جميع أنحاء الإمبراطورية، وربما قتل نحو ثلث السكان13. انتشر الطاعون الدبلي؛ وهو عدوى بكتيرية تحملها البراغيث، عبر السفن التجارية التي تأوي الفئران السوداء، ووصل إلى البحر الأبيض المتوسط في عام 541، وتكرر الأمر بشكل متقطع حتى نحو عام 767، ووفقًا لبعض التقديرات، تقلص عدد السكان بعشرات الملايين14. ويعتقد ماكنيل أن فتح طرق التجارة من قبل الإمبراطورية المغولية من القرن الثالث عشر، خلق شبكة واسعة من التواصل عبر أوراسيا، وهو ما نقل الطاعون الدبلي إلى القوارض الناقبة في السهوب، ومنها انتشر عبر الطرق التي تمر بها القوافل، وصولاً إلى شبه جزيرة القرم في عام 1346، وأدت إلى ما أصبح يعرف في أوروبا باسم «الموت الأسود»15. ثم امتدت الشبكات التجارية وسفن الشحن عبر شمال أوروبا، فنشرت الجرذان السوداء، ومن ثَم الطاعون عبر القارة، مما أدى إلى وفاة ثلث سكان أوروبا خلال الفترة من 1346-1350 16. وساعدت زيادة الكثافة السكانية، والشوارع المليئة بالقمامة في مناطق الاستقرار على الانتشار السريع للمرض. واستمر تفشي الطاعون الدبلي المنتظم في أوروبا حتى السبعينيات من القرن السابع عشر. بل إن انتشار أمراض «العالم القديم» إلى الأمريكتين في أثناء استعمارهما كان أكثر تدميرًا من تأثير الموت الأسود في أوروبا؛ فقد كان «العالم الجديد» عرضة له بصورة أكبر. وعلى الرغم من الكثافة السكانية العالية في بعض الأماكن، فإنها كانت تفتقر إلى التنوع الإيكولوجي الموجود في الكتل الأوروآسيوية الأفريقية المعروفة بتاريخها الطويل من الأوبئة. علاوة على ذلك، فقد لعبت الحيوانات المستأنسة دورًا أقل أهمية في إنتاج الغذاء17. وهكذا رافق الجدري إلى جانب التهاب الغدة النكافية والحصبة، توحش تأسيس الإمبراطورية الاستعمارية. وعلى سبيل المثال قضت الأوبئة على نحو 90 في المئة من سكان وسط المكسيك في نصف قرن، ابتداءً من 156818. وكان التأثير مماثلاً في أماكن أخرى في القارة؛ فانخفض عدد السكان الأصليين في بيرو من نحو سبعة ملايين إلى نحو نصف المليون نسمة19. مجددًا سيعود صدى شاحب لهذا الدمار ليطارد «العالم القديم»، إذ ربما بسبب انتشار الوباء في الأمريكتين، ظهرت سلالة أكثر فتكًا من الجدري، وعادت إلى أوروبا في القرن السابع عشر؛ وبحلول أوائل القرن الثامن عشر كانت قد تسببت في وفاة 400000 شخص سنويًّا20.

في ذلك الوقت كانت أوروبا نفسها تعاني من تحوُّل اجتماعي عميق، مع تطور الرأسمالية الصناعية التي انطلقت في بريطانيا من القرن الثامن عشر، إذ حدث توسع حضري متسارع. وقد أدى ذلك إلى خلق ظروف بائسة في المدن والبلدات الجديدة؛ حيث اكتظت أعداد كبيرة من الناس في الأحياء الفقيرة بمرافق صرف صحي بائسة، وزاد الفقر والتوتر والاكتظاظ من القابلية للإصابة بالأمراض، فكانت الأمراض تنتشر بسرعة كبيرة فور أن تظهر، علاوة على ذلك، فبمجرد وصول الأمراض إلى المدينة، يمكنها أن تنتقل من خلال شبكات التجارة المتنامية، وتحركات الناس للعمل، أو لشن الحروب، أو إدارة المستعمرات، أو للهروب من الحروب، أو من الفقر أو القمع21. في هذه الفترة من القرن التاسع عشر؛ عندما بدأ التحسين الملحوظ في التغذية والصرف الصحي والنظافة والرعاية الصحية العامة،كان الناس في المدن والبلدات البريطانية يموتون في سن صغيرة، قياسًا لهؤلاء الذين يعيشون في الريف. لندن على وجه الخصوص كانت «تلتهم» الناس؛ زادت المدافن بنسبة أكبر حتى مما حدث في الظهور الأول للمرض في القرن الثامن عشر؛ نتيجة «أمراض الزحام» مثل الجدري والحصبة والسل22.

في حالة الجدري، لم ينتقل الڤيروس عن طريق الأمراض حيوانية المنشأ كما يحدث مع الإنفلونزا أو الڤيروسات التاجية؛ كان البشر أنفسهم حاضنين للمرض؛ الذي كان بمجرد أن يجتاح منطقة ما، يصبح مطلوبًا أن يولد نحو 100.000 شخص كل عام لضمان وجود عدد كافٍ للاستمرار23. وبحلول منتصف القرن السابع عشر، كان عدد سكان لندن بالفعل أكبر بثلاث مرات من ذلك؛ أما بحلول عام 1801، كانت كل من مانشستر وليڤربول وبرمنجهام يقتربون من 100.000 شخص. أما السل، الذي يصيب الرئتين بشكل عام، فكان ينتشر عن طريق البكتيريا، وليس عن طريق الڤيروسات. ولكن الأمراض الحيوانية المنشأ مهمة في هذه الحال؛ إذ أن المرض كان يصيب البشر من خلال الحليب المصاب، ثم ينتقل من شخص إلى آخر من خلال السعال والبصق. كما أن ظهور الحالات يمتد لآلاف السنين، ربما يعود إلى الفترة التي بدأ الإنسان فيها تدجين الماشية. ومع ذلك، فقد أصبحت في المدن الصناعية سببًا رئيسيًّا للوفيات؛ وبحلول عام 1780 سيكون السل مسؤولاً عن خُمس الوفيات في إنجلترا وويلز24. من هنا، اتبع انتشار المرض نمط التصنيع المبكر؛ أولاً في غرب أوروبا، ثم في شرق أوروبا وأمريكا الشمالية، حيث، في نيويورك في 1812-1821، نُسب نحو ربع الوفيات إلى «السل»، الذي كان متفشيًا فيها. لم يكن الانتشار يعكس فقط بنية المناطق الحضرية ذات الكثافة السكانية العالية، بل وجود «معامل الألبان في المدينة» كذلك؛ مما سمح للمرض بالانتقال بين الأبقار، ثم من الأبقار إلى البشر25.

بحلول القرن التاسع عشر، خلق التحضر والفقر والاستعمار مجتمعين تهديدات جديدة؛ إذ كانت الكوليرا منتشرة في الهند منذ قرون، ومع اندماجها في الإمبراطورية البريطانية وحركة الأشخاص والبضائع منها وإليها، انتشر الوباء. وفي عام 1817 تفشى الوباء في الهند وأحاط روسيا والصين. وبعد ثلاث سنوات، جلبت القوات البريطانية المرض إلى شرق البحر الأبيض المتوسط. ثم، في أعوام 1832 و1848 و1866، انتشرت أوبئة حقيقية جاءت من الهند، ثم انتشرت عبر أوروبا والأمريكتين. كما يكتب جورج دهنر: «كان من سمات نمط انتقال المرض أنه يظهر أولاً في المدن، وبشكل عام مدن الموانئ المرتبطة بالتجارة. ويمكن ربط تفشي المرض في البداية بالمعابر المائية التي ربطت منطقة ما في السنوات اللاحقة بأنظمة السكك الحديدية الآخذة في التوسع عبر الولايات»26. لقد مات نحو نصف المصابين، إذ كان المرض يتركز في المناطق الأكثر فقرًا، لأن البكتيريا التي تتسبب فيه تنتشر عبر المياه الملوثة.
وفي أوائل القرن التاسع عشر، كان من الشائع استخدام مياه الصرف الصحي في البيئات الريفية، وربما كانت تستخدم في الحقول، أو يُتخلص منها بعيدًا عن المناطق السكنية، في الشوارع على سبيل المثال، خصوصًا مع تدفق النفايات السائلة في الأنهار والبحيرات التي يعتمد عليها في استخراج مياه الشرب.

وقد شرح فريدريك إنجلز، الذي كان شابًا وقتها، الظروف التي انتشرت الكوليرا خلالها في مانشستر في القرن التاسع عشر: «عندما اقترب الوباء، استولى الرعب الشديد على البرجوازية في المدينة. تذكَّر الناس المساكن غير الصحية التي يعيش فيهاالفقراء، وفزعوا قبل حتى أن يتأكدوا من أن كل من هذه الأحياء العشوائية ستصبح مراكز للطاعون، وأن الخراب سينتشر في كل الاتجاهات عن طريق منازل الطبقة المالكة». وأضاف إن فحص 6951 منزلاً في مانشستر كشف عن «2565 منزلاً يحتاج إلى تبييض بشكل عاجل.. و960 منزلاًيحتاج إلى إصلاحات.. و939 المصارف فيها غير كافية.. و1435 تعاني الرطوبة.. و452 كانت ذات تهوية سيئة.. و2221 كانت من دون مرحاض»27. وبعد ذلك بسنوات، وفي مقالاته حول «مسألة السكن»، عاد إنجلز إلى الموضوع نفسه: «أثبتت العلوم الطبيعية الحديثة أن ما يسمى بـ «المناطق السيئة»، التي يتكدس فيها العمال، هي أماكن تكاثر كل تلك الأوبئة التي تصيب مدننا من وقت لآخر؛ كالكوليرا، وحمى التيفوئيد، والجدري، وأمراض أخرى مدمرة... النظام الرأسمالي للمجتمع يتكاثر أكثر فأكثر.. لهذا ينبغي معالجة الشرور»28.
في العديد من البلدان، لم تنته مثل هذه الظروف تمامًا ولم يتم اعتبارها شيئًا من الماضي؛ على سبيل المثال، عانت اليمن، حيث تشتعل الحرب والمجاعة، من وباء الكوليرا29. وقد تطورت في العالم الحديث عاصفة مميتة من الأمراض المعدية والأمراض المزمنة وسوء التغذية، بالإضافة إلى نقص الرعاية الصحية العامة وعدم كفاية أنظمة الصرف الصحي30. وفي حين تحسنت بعض الظروف التي تنتج أمراض الزحام في معظم البلدان المتقدمة بحلول أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، كان هناك خطر جديد في بؤرة الاهتمام وهو الإنفلونزا الوبائية. لم يكن وباء الإنفلونزا معروفًا، وربما أدى تفشيه في أوروبا في خمسينيات القرن السادس عشر إلى مقتل ما يصل إلى واحد من كل خمسة من بين سكان في إنجلترا، قبل أن يعيث فسادًا في الأمريكتين مرة أخرى31.
والآن عاد التهديد مجددًا. كانت البداية هي تفشي الإنفلونزا «الروسية» عام 1889، والتي بدأت في بُخارى، التي تقع في أوزبكستان حاليًا، وانتشرت أولاً في سان بطرسبرج في الخريف، وفي غضون ثمانية أسابيع كانت قد انتشرت عبر أوروبا، ووصلت إلى أمريكا الشمالية وجنوب أفريقيا. وعلى مدى الأشهر المتتالية، اخترقت أمريكا الجنوبية، ثم الهند، وأخيرًا أستراليا ونيوزيلندا. هناك «تقدير متحفظ للغاية لوفيات الموجة الأولى (1889-1890) في أوروبا يفترض أن عدد الوفيات كان بين 270.000 و360.000».

كان هذا مجرد بروفة؛ ففي ربيع عام 1918؛ ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى، بدأ الجنود يصابون بالإنفلونزا. وسرعان ما أصبح المرض وباءً، لكنه خلَّف، في أول موجة له، عددًا قليلاً من الضحايا، وزادت آثار الحرب الأمر سوءًا. لكن الموجة الثانية من الإنفلونزا «الإسبانية»، التي أنتجتها سلالة متحورة من الڤيروس، كانت مدمرة32.

وقد ذكر دهنر «خلقت الحرب العظمى مجموعة غير عادية من الأحداث. كان الملايين من الرجال والنساء مكتظين معًا في ظروف بالغة السوء.. كانت هذه الكتل المزدحمة مرتبطة بأنظمة النقل التي تتدفق إلى كل ركن من أركان العالم. وكان الناس المرهقون بفعل الحرب يشكلون برميل بارود يؤدي لتفشي الأوبئة؛ وخصوصًا الأوبئة التنفسية33.

انتشر الڤيروس بسرعة وعلى نطاق لا يصدقان. وتشير التقديرات إلى أن ما يقرب من ثلث البشرية أصيب بالعدوى خلال الأشهر القليلة التي تلت انتشاره. استنزفت المرافق الطبية واستنفدت بالفعل بسبب التعبئة بفعل الحرب، وتزايدت حالات الالتهاب الرئوي34. بعد الموجة الثانية، تلتها موجة ثالثة أقل فتكًا في عام 1919. التقديرات الأخيرة للوفيات من الموجات الثلاث تتراوح ما بين 50 و100 مليون، وهو ما يفوق أضعاف العدد الذي قُتل من جراء الحرب نفسها35. لم يكن المعدل ببساطة نتيجة ضراوة سلالة الإنفلونزا، ولكن أيضًا الطريقة التي فتحت بها ممرات البكتيريا التي يمكن أن تسبب التهابات ثانوية، وهو ما كان يؤدي في النهاية إلى الالتهاب الرئوي36.
مرة أخرى، كانت الدول الأكثر فقرًا هي الأكثر تضررًا، حيث نادرًا ما كانت تُسجَّل معدلات الوفيات37. وربما فقدت الهند حوالي 18.5 مليون قتيل، خصوصًا مع الجوع وسوء ظروف السكن ومصادرة الأدوية من قبل البريطانيين، والتي تزامنت مع الجفاف الذي أضعف الاستجابة المناعية وعدم كفاية الرعاية الصحية مما ضاعف من تأثير المرض 38.

في عام 1947، وبعد عدة عقود سعى خلالها العلماء إلى فهم طبيعة الإنفلونزا وكيف تتسبب في هذه المذابح، أُنشئ برنامج عالمي لمراقبة الإنفلونزا، سيصبح، فيما بعد، جزءًا من برنامج الإنفلونزا العالمي الذي أنشأته منظمة الصحة العالمية حديثًا. وفي وقت لاحق من عام 1957 ظهرت جائحة الإنفلونزا «الآسيوية»، وفي عام 1968 جائحة إنفلونزا «هونج كونج» اللتان راح ضحيتهما نحو مليوني، ثم مليون شخص على التوالي. بعد ذلك حدث إنذاران كاذبان؛ الأول كان تفشي إنفلونزا الخنازير عام 1976، والذي انتشر عبر قاعدة عسكرية أمريكية قبل أن يتلاشى، ولكن ليس قبل أن يقوم برنامج الطوارئ الذي بدأته الحكومة بتطعيم 43 مليون شخص، أي ما يعادل نحو ربع سكان الولايات المتحدة39. والثاني حدث في 1977 وهو «وباء زائف» انتشر على نطاق واسع ولكن آثاره كانت خفيفة40.

التهديدات الحديثة

لا يزال ظهور الأوبئة الڤيروسية يشكِّل تهديدًا كبيرًا في العالم المعاصر41. وفهم هذا التهديد يعني النظر في البنية المتغيرة للمجتمعات، استنادًا إلى أعمال مؤلفين مثل روب والاس الذين تتبعوا العلاقة بين النظم الزراعية المعاصرة والأمراض الحيوانية المنشأ. يؤكد كتاب والاس الشهير «المزارع الكبيرة تصنع إنفلونزا كبيرة» Big Farms Make Big Flu، على أن المشروعات التجارية الزراعية واسعة النطاق تكون بمثابة حاضن عملاق لخلق وانتشار أمراض جديدة42.

إن نظم الزراعة القائمة على زراعة محصول واحد تضاعف معدلات انتقال الأمراض وإضعاف الاستجابات المناعية. خصوصًا وقد أصبح نمو الأعمال التجارية الزراعية ظاهرة عالمية، مع «ثورة الثروة الحيوانية» التي تغذي التوسع في استهلاك اللحوم المتركز في نصف الكرة الجنوبي.

وكما يكتب مايك ديفيز: أصبح الرمز العالمي للإنتاج الصناعي للدواجن والثروة الحيوانية مثل شركة Tyson Foods العملاقة التي تقتل 2.2 مليار دجاجة سنويًّا، مرادفًا عالميًّا للإنتاج الموسع ذي النسق الرأسي؛ واستغلال مزارعي العقود؛ ومعاداة النقابات الحشوية؛ وتفشي الإصابات الصناعية، والإغراق البيئي، والفساد السياسي. وقد أجبرت الهيمنة العالمية للشركات العملاقة مثل تايسون المزارعين المحليين إما على الاندماج مع شركات تصنيع الدجاج والخنزير على نطاق واسع أو الانهيار.. وحوِّلت مناطق زراعية بأكملها إلى مخازن للدواجن، حيث يعمل معظم المزارعين حراسًا للدجاج43
ومع ذلك، فإن المشكلة لا تكمن في مجتمع الثروة الحيوانية والصناعية الحديث نفسه. وكما يذكرم ؤلف مجهول في مجلة Chuang، استنادًا إلى والاس:

يضاف إلى ذلك عمليات مكثفة مماثلة تحدث على هامش الاقتصاد؛ إذ تواجه السلالات «البرية» أشخاصًا تورطوا في توغلات اقتصادية وزراعية في النظم البيئية المحلية بشكل أكثر اتساعًا من أي وقت مضى.. وبشكل فضفاض يمكن تصنيف الأوبئة إلى فئتين؛ الأولى تنبع من جوهر الإنتاج الاقتصادي الزراعي، والثانية في المناطق الداخلية.. المنطق الأساسي لرأس المال يساعد على أخذ سلالات ﭬيروسية كانت معزولة أو غير ضارة سابقًا ووضعها في بيئات شديدة التنافس تساعد على ظهور السمات المحددة التي تسبب الأوبئة، مثل دورات الحياة الفيروسية السريعة، والقدرة على تنامي قدرة الحيوانات على نقل الأمراض إلى الإنسان.. وكذلك القدرة على تطوير ناقلات جديدة بسرعة44.

وبعبارة أخرى، ليست فقط تربية الطيور هي ما يولد ﭬيروسات جديدة، ولكن أيضًا الاختلال الأوسع للنظم البيئية وتوسيع إنتاج السلع. ويترتب على ذلك جمع أنواع مختلفة من الحيوانات معًا، وكذلك التقريب بين البشر والحيوانات الأخرى؛ مما يؤدي إلى تنامي مسببات الأمراض الجديدة وتفشيها. وتساعد بعض الأمثلة على توضيح النقطة؛ في الستينيات انتشرت الحمى النزفية البوليفية التي تنتقل من القوارض إلى عمال المزارع. وقد تركز تفشي المرض في 1963،45 على العمال الزراعيين في سان واكين، الذين، بعد أن صودرت ممتلكات بارونات الماشية المحليين في ثورة 1952 وأغلقت أعمالهم، دفعوا إلى مناطق الغابات الكثيفة لزراعة المحاصيل من أجل إطعام أنفسهم. وهو ما دمر الموطن الطبيعي للقوارض؛ التي غزت المدينة، وهو عامل عززه استخدام مبيد دي دي تي DDT للسيطرة على الملاريا، مما قلص من عدد القطط المحلية46. وفي نهاية التسعينيات ظهر ﭬيروس نيباه في جنوب شرق آسيا بسبب تكثيف تربية الخنازير، ثم إصابة الخنازير عن طريق الخفافيش؛ وربما من خلال فضلات الخفافيش، وقد حدث ذلك بعد أن دُمرت أوكار الخفافيش بسبب الجفاف، وإزالة البشر للغابات47. من الأمثلة المعاصرة ذات الأهمية ﭬيروس إيبولا، الذي يمكنه أن يقتل ما يصل إلى 90 في المئة من الأشخاص المصابين، والذي ظهر في شكل وبائي في غرب أفريقيا في عام 2013. وينتقل هذا الڤيروس أيضًا في البرية عن طريق الخفافيش. وقد أدى الاستيلاء على الأراضي من قِبل الشركات الأمريكية والأوروبية والصينية متعددة الجنسيات، في منطقة غابات السافانا في غيينا إلى جذب أعداد من الخفافيش، ترافق وتوسيع مزارع نخيل الزيت سعيًا للغذاء والمأوى، وهو ما خلق ظروفًا مواتية لانتقال الأمراض حيوانية المصدر48.

وقد تفاقمت هذه الاتجاهات خلال العقود الأخيرة بسبب التوسع غير المنظم في الزراعة. وهكذا يناقش والاس في مقابلة أجريت معه مؤخرًا بأن «إلى جانب الزراعة الصناعية، رأس المال سيواصل بلا انقطاع عمليات الاستيلاء على الأراضي، في الغابات والأراضي الزراعية التي يملكها أصحاب الحيازات الصغيرة في جميع أنحاء العالم. وتؤدي هذه الاستثمارات إلى إزالة الغابات، وعمليات التنمية إلى ظهور المرض. ذلك أن التنوع الوظيفي والتعقيد الذي تمثله هذه المساحات الضخمة من الأراضي ينظم بطريقة تجعل من السهل انتشار مسببات الأمراض التي كانت كامنة في السابق في الماشية والمجتمعات البشرية المحلية.

وهذه عملية مدفوعة بتدفقات رأس المال من قلب النظام: «باختصار، يجب اعتبار مراكز رأس المال، مثل لندن ونيويورك وهونج كونج نقاطًا ساخنة للأمراض»49 وبالإضافة إلى التغييرات في الأرض عند الاستخدام، من المرجح أن يؤدي الاضطراب الإيكولوجي الأوسع نطاقًا، والناجم عن تغير المناخ إلى المزيد من عمليات انتقال الأمراض من الحيوانات إلى الإنسان في مناطق أخرى.

هذا التوسع المزدوج في التهديد يتجلى في اثنين من حالات تفشي الإنفلونزا الرئيسية في العقود الأخيرة. المرة الأولى كانت «إنفلونزا الطيور»، الناجمة عن سلالة غير عادية تعرف باسم H5N1، ظهرت للمرة الأولى في مزارع الدجاج في هونج كونج في عام 1997. وتسببت في البداية في عدد كبير من الوفيات بين أسراب الدجاج. وبحلول نهاية العام أُدخل 18 شخصًا إلى المستشفى، وكانت نتائج اختبارهم إيجابية لڤيروس H5N1 ووفاة ثلثهم. في ديسمبر 1997، أصيب الدجاج في إحدى «الأسواق الرطبة» في هونج كونج، ومرة أخرى اعتُبرH5N1 الجاني50. في هونج كونج «تراوحت المزارع بين المزارع الكبيرة حيث كان الدجاج في أسراب كبيرة مرهقة للغاية، وصولاً إلى المزارع الصغيرة حيث تعيش الطيور بحرية مع حيوانات المزرعة، وتختلط بامتداد المجاري المائية والبرك مع الطيور البرية الأخرى مثل البط والإوز».

كما كانت هناك «مرافق احتجاز» كبيرة تحتوي على الطيور لعزلها والحفاظ عليها ضد تقلبات السوق. وقد ساعدت هذه الصناعة العشوائية فقيرة التنظيم الأسواق التي كانت «خليطًا فوضويًا من أقفاص تحتوي العديد من الأنواع، إلى جانب الدجاج «البط، والإوز، والحجل، والسمان، والحمام، بالإضافة إلى مجموعة متنوعة من الطيور البرية التي يتم صيدها» وكذلك الثدييات والزواحف51. وكانت أنظمة الإنتاج هذه مرتبطة بشكل حاسم، بالمنتجين الصينين، فأصبحت جوانجدونج، المتاخمة لهونج كونج، وكأنها مختبر للطرق الجديدة لتربية الدواجن، والتي تشبه تربية الدواجن الصناعية الرائدة في الولايات المتحدة في عقود ما بعد الحرب52. وهو ما يطلق عليه ديفز «مركز تطور الإنفلونزا»53.
من الأمور المهمة في هذه القصة هي إمبراطورية شاريون بوكفاند Charoen Pokphand التجارية، والتي بناها شقيقان تايلانديان، لتحاكي بشكل أساسي أساليب مؤسسة تايسون Tyson في الولايات المتحدة، وتستفيد بذكاء من انفتاح دنجشياو بينج على الاقتصاد الصيني منذ عام 1978 54. إن التحول نحو الزراعة الصناعية لا يساعد فقط على تكاثر الڤيروسات، بل إنه في الواقع يختار الڤيروسات الأكثر ضراوة. وكما يذكر والاس:

ينبغي أن تتجنب مسببات الأمراض تطور القدرة على التسبب بمثل هذا الضرر لمضيفها، فلا تتمكن من الانتقال لآخرين؛ فإذا قُتل المسبب للمرض مضيفه، قبل أن يصيب المضيف التالي، فإنه يدمر سلسلة انتقاله الخاصة. ولكن ماذا يحدث عندما «يعلم» المسبب للمرض أن المضيف التالي سيأتي في وقت أقرب؟ عندها من الممكن أن يتوقف عن كونه خبيثًا، لأنه يمكن أن ينجح في أن يصيب بالعدوى هدفه التالي في السلسلة قبل أن يقتل مضيفه.. وهناك ضغوط إضافية على ضراوة الإنفلونزا في المزارع [الصناعية]. فبمجرد وصول الحيوانات الصناعية إلى الحجم المطلوب تقتل. يجب أن تصل عدوى الإنفلونزا المتوطنة إلى عتبة انتشارها بسرعة في حيوان معين، قبل التضحية بالدجاج أو البط أو الخنازير55.

ومن ثَم كانت الشبكة الممتدة بين جوانجدونج وهونج كونج، حيث تتحرك الدواجن في الاتجاهين عبر الحدود، مكانًا مثاليًّا لظهور ﭬيروس الإنفلونزا القاتل. جمعت المنطقة بين أنماط التوسع الصناعية سيئة التنظيم، والمزارع القائمة على خلط أنواع مختلفة من الطيور؛ إما في المزارع التي كانت تتوسع في الأراضي الرطبة في المقاطعة، أو في الأسواق الرطبة نفسها.
في وقت لاحق اتضح أن ﭬيروس إنفلونزا الطيورH5N1 كان نتيجة لسلالة وجدت في الإوز، ثم اتحدت مع سلالتين من الإنفلونزا56. وقد تم احتواء التفشي عن طريق عمليات إعدام واسعة، وإغلاق الأسواق لتعقيمها، وإعادة هيكلة الأسواق لفصل الأنواع، وحظر مبيعات البط الحي. وقد نفق أو أعدم ما يصل إلى نحو 200 مليون طائر57. ونجح الأمر، خصوصًا وأن ﭬيروس H5N1 حتى الآن ينتقل من البشر إلى البشر من حين لآخر وعلى نطاق صغير58. وقد سجلت منظمة الصحة العالمية 861 حالة إصابة بڤيروسH5N1 في البشر، بالإضافة إلى 455 من الوفيات؛ وتعد مصر وإندونيسيا وفيتنام هي الدول الأكثر تضررًا59.
ومع ذلك، لم تكن إنفلونزا الطيور H5N1 هي التي أدت إلى جائحة الإنفلونزا الأولى في القرن الحادي والعشرين؛ وبدلاً من ذلك، في عام 2009، ظهر تهديد جديد من سلالة الڤيروس، وهو النوع الذي تسبب في جائحة عام 1918، لكنها لم تكن في الأسواق الرطبة في جنوب شرق آسيا، بل في أمريكا الشمالية. وبمجرد أن ظهرت الحالات في الولايات المتحدة، كان انتقال العدوى بين البشر أمرًا ممكنًا بالفعل. وقد انتقل المرض عبر قطعان الخنازير المكسيكية، التي كانت موجودة في معامل صناعية واسعة النطاق60.

تحوَّرت السلالة لتجمع بين «سلالات بشرية وطيور وخطيين مميزين جينيًّا من الخنازير (في أمريكا الشمالية وأوراسيا)»61.

سارعت منظمة الصحة العالمية إلى إعلان وباء إنفلونزا الخنازير. ولحسن الحظ، أثبت الڤيروس أنه خفيف نسبيًّا، مع معدلات وفيات مماثلة للإنفلونزا الموسمية. في الواقع، أدى ذلك إلى ردة فعل كبيرة ضد منظمة الصحة العالمية، خصوصًا عندما كشفت المجلة الطبية البريطانية أن عددًا من خبراء منظمة الصحة العالمية كانوا يدفعون لشركات الأدوية التي كانت تستفيد من إنتاج اللقاحات ومضادات الڤيروسات 62.

وهذا دليل على مدى خطورة التعامل مع الصحة باعتبارها منفعة خاصة لا منفعة عامة. وليس من المستغرب أن يكون هناك شك، أو حتى عداء، للمؤسسة الطبية التي اخترقها المستفيدون.

ومع ذلك، ينبغي النظر إلى إنفلونزا الطيور وإنفلونزا الخنازير H5N1 و H1N1 باعتبارهما كارثتين تم احتواؤهما بشكل ضيق أو، على الأرجح، كارثتين «مؤجلتين». الأولى لأنها لم تحقق بعد انتقالاً كبيرًا من الإنسان إلى الإنسان، والأخرى لأنها، في شكلها الحالي، ليست بالغة الضرر.
لا يمكن قول الشيء نفسه عن تفشي الڤيروس التاجي السابق خلال هذه الفترة. ففي عام 2003 ظهر ﭬيروس تاجي في جوانجدونج، رافقه ظهور مجموعة كبيرة من حالات الالتهاب الرئوي الحاد في المقاطعة.

وكان معدل الوفيات الناتجة عن الإصابة بالمتلازمة التنفسية الحادة (سارس) نحو 10 في المئة. ومن المحتمل أن يكون ﭬيروس سارس منقولاً عبر زباد النخيل المقنع، الذي يباع في الأسواق الرطبة في المقاطعة، خصوصًا مع وجود وسيط بين البشر وخفافيش حدوة الحصان الصينية، والتي تعتبر حاضنة لمجموعة من الڤيروسات التاجية المرتبطة بسارس63.

ويؤكد ظهور ﭬيروس سارس حجة والاس بشأن التفاعل بين المناطق الحضرية والريفية.

 لقد خلق التوسع السريع في جوانجدونج منطقة «شبه حضرية» واسعة النطاق، لا تتميز فقط «بالتعايش بين الصناعة والزراعة أو الأنشطة الحضرية والريفية ولكن أيضًا من خلال الترابط بين القطاعين».

وقد تسارع هذا منذ انفتاح الاقتصاد الصيني «كان التفاعل بين المناطق الحضرية والريفية في حقبة ما قبل الإصلاح مقيدًا بشدة.. من خلال تخصيص الموارد المركزية، وتحديد الأسعار والتحكم في الهجرة، مما شكل»جدارًا «غير مرئي ولكنه فعال؛ إذ يفصل المدن عن الريف.. وقد سمح تنفيذ السياسات الاقتصادية الليبرالية والمرنة منذ الإصلاحات للحضريين والفلاحين بالتفاعل بطريقة مباشرة وعفوية، مما أدى إلى إعادة تنظيم العلاقات الحضرية الريفية»64.
بحلول نهاية عام 2002 انتشر المرض في قوانجتشو، التي كانت آنذاك مدينة يبلغ عدد سكانها عشرة ملايين نسمة. ومع ذلك تأخر مسؤولو الحكومة الصينية في تبادل المعلومات بشأن تفشي المرض، إما مع الشعب أو مع المجتمع الصحي الدولي، وذلك حتى 11 فبراير 2003 65.

في نهاية المطاف تم احتواء سارس في عام 2004، بعد برنامج ضخم أدارته الدولة، عبر تطبيق نظام الحجر الصحي والكشف عن الأمراض والتعقيم. وهو ما يعتبر، من نواح عديدة، بمثابة بروفة لما حدث لاحقًا؛ في أوائل عام 202066.

لكن من غير المحتمل أن تكون الأمور سهلة للغاية مع كوﭬيد- 19. فبدءًا من ﭬيروس سارس أصبح من السهل أن ينشر الناس العدوى، بعد أن كانوا يشعرون بالمرض والعجر إلى حد كبير. الأمر ليس كذلك مع كوﭬيد 19الذي انتشر بالفعل على نطاق واسع67.

ظهرت متلازمة الشرق الأوسط التنفسية ميرس MERS في المملكة العربية السعودية في عام 2012، ونتجت عنها أشد حالات الوفاة فتكًا بسبب الڤيروسات التاجية؛ إذ بلغت نسبة الوفيات نحو ثلث المصابين. انتشر المرض ووصل إلى أوروبا وآسيا والشرق الأوسط الكبير وأمريكا الشمالية، مما أدى إلى 2494 حالة مؤكدة و858 حالة وفاة مرتبطة بها68.

هنا كان الوسيط بين الخفافيش والبشر هي الإبل العربية؛ إذ من المعروف أن الإبل كانت تحمل أشكالاً من الڤيروس لعدة عقود. واليوم، في الدول العربية الغنية بالنفط والتي أصبحت الآن حضرية إلى حد كبير، يتملكون الإبل بشكل أساسي تعبيرًا عن علو المكانة، ويستخدمونها، على سبيل المثال، في سباقات الهجن والعروض الترفيهية، أو لإنتاج اللحوم، أو منتجات الألبان، وبيعها، وأحيانًا بديلاً عن حيوانات الجر، أو للاستهلاك الفوري. وبالإضافة إلى التربية المكثفة للإبل، هناك زيادة كبرى في واردات الإبل الحية في المملكة العربية السعودية، ففي عام2013 تم استيراد 70 في المئة من الإبل المذبوحة، هذا بالإضافة إلى تجارة الإبل بين الدول العربية المختلفة من أجل سباقات الهجن والعروض الترفيهية، وربما أدت هذه العمليات التجارية إلى خلط سلالات مختلفة من الڤيروس التاجي بين المجموعات السكانية المختلفة، مما أدى إلى تفشي ﭬيروس ميرس69.

ظهور كوﭬيد- 19

سبب كوﭬيد- 19هو بيتاكورونا ﭬيروس، المسؤول عن ﭬيروسي سارس وميرس.أما مدينة ووهان؛ التي يُعتقد أنها كانت نقطة الصفر لتفشي المرض، فهي مدينة يبلغ عدد سكانها 11 مليون نسمة، وهي عاصمة مقاطعة هوبي غير الساحلية في وسط الصين. تقع شمال جوانجدونج، والتي كانت، بالإضافة إلى جيانجسو إلى الشرق، محركًا للنمو الصناعي في الصين.

كانت ووهان مدينة مهمة اقتصاديًّا وسياسيًّا في أوائل القرن العشرين، إذ كانت تقع وسط شبكة من الممرات المائية والسكك الحديدية التي أُنشأت لاحقًا.

ثم أصبحت، بعد تأسيس جمهورية الصين الشعبية في عام 1949، موطنًا للصناعات الثقيلة الكبيرة التي ترعاها الدولة، خصوصًا الحديد والصلب، وفيما بعد إنتاج السيارات.

لكن انفتاح الاقتصاد الصيني في أواخر السبعينيات تسبب في انخفاض أهمية المدينة قياسًا للمناطق الساحلية.

 ومع ذلك، فقد شهدت الفترة الأخيرة انجذاب ووهان إلى النهضة الصينية في الإنشاءات «لم تقم ووهان فقط بتغذية هذه المشاريع الوهمية من خلال زيادة المعروض من مواد البناء والمهندسين المدنيين، بل أصبحت بذلك أيضًا مدينة ازدهار عقاري خاصة بها»70.

ووفقًا لتقرير صادر عن بنك HSBC، نما عدد السكان في ووهان بنحو الخُمس من عام 2008 إلى عام 2017؛ وأصبح العديد من الوافدين الجدد، المهاجرين من أماكن أخرى في الصين، يشكِّلون نحو ثلث سكان المدينة. وبحلول عام 2017، بلغ الاستثمار في مشاريع الإسكان 26.8 مليار دولار، وقد ارتفعت أسعار الإقامة في المدينة أربع مرات خلال العقد الماضي. أما أغنى رجل في المدينة فهو «يان زهي»، وقد حقق الكثير من ثروته، والتي بلغت ذروتها 10 مليارات دولار في عام 2018، من الاستثمار في مجال العقارات71.

تعتمد أعداد كبيرة من سكان المدينة على الأسواق الرطبة للحصول على الطعام، وفي هذا السياق يبدو أن كوﭬيد- 19 قد ظهر. مع ذلك، وكما يشير والاس «في حين أن التمييز بين المزارع الصناعية والأسواق الرطبة ليس أمرًا غير مهم، فقد نغفل عن أوجه التشابه بينهما (والعلاقات الجدلية)»:
الأسواق الرطبة والأطعمة الغريبة «الإكزوتيكية» هي السلع الأساسية في الصين، جنبًا إلى جنب مع المنتجات الصناعية التي انتشرت منذ التحرر الاقتصادي..

في الواقع، يمكن دمج وضع الطعام وطرق استخدام الأراضي معًا. وقد يؤدي توسيع الإنتاج الصناعي إلى دفع الأطعمة البرية التي يتم تمويلها والاستفادة منها بشكل متزايد بدرجة أعمق فيقلب المشهد، مما ينتج مجموعة متنوعة من مسببات الأمراض الوبائية المحتملة. قد يؤدي النمو السكاني المكثف في المناطق شبه الحضرية إلى زيادة تفاعلها (وانتشارها) بين المناطق الفقيرة الممتلئة بالحيوانات، والمناطق الريفية المتحولة أخيرًا إلى حضرية.

في جميع أنحاء العالم، حتى أكثر أنواع الحياة البرية شراسة، يتم احتواؤها في سلاسل القيمة [الزراعية]: من بينها النعام، والنيص، والتماسيح، وخفافيش الفاكهة، وزباد النخيل؛ الذي تنتج الحبوب التي يهضمها جزئيًا أغلى أنواع البن في العالم حاليًا.
أحيانًا تؤكل بعض أنواع الحيوانات قبل تحديد هوياتها علميًّا. بما في ذلك نوع جديد من كلب البحر قصير الأنف الذي وُجد أخيرًا في الأسواق التايوانية.كل هذه الأنواع تعامل، بشكل مطرد، باعتبارها سلعًا غذائية قابلة للأكل. نظرًا إلى أن الطبيعة تجرف تباعًا في مكان تلو الآخر، لذلك فإن ما يتبقى يصبح أكثر قيمة!72

والواقع أن السياسة الصينية، على المستوى الوطني، ومن خلال القادة الإقليميين والمحليين المنخرطين في المنافسة، شجعت تربية الحيوانات البرية، التي يُنظر إليها باعتبارها تعزيزًا للصناعات الريفية. وقد قُدر الناتج عن تربية الحيوانات البرية في عام 2017 بمبلغ 57 مليار جنيه إسترليني73.

انتشر كوﭬيد- 19 بسرعة شديدة خارج ووهان. ليس فقط لأن سكان العالم صاروا أكثر ارتباطًا من أي وقت مضى، بل لأن السفر جوًّا يعني أن أوقات الرحلات غالبًا ما تكون أقصر من فترة حضانة الڤيروس، لذا ربما وصل المسافرون وبدأوا في نشر المرض قبل ظهور أي أعراض عليهم.

مرة أخرى، في عام 2003 مع تفشي ﭬيروس سارس، كانت هونج كونج هي نقطة الوصل لانتقال الڤيروس إلى المدن في جميع أنحاء العالم، ولكن اليوم الصين نفسها ترتبط بشبكة اتصالات مكثفة مع مدن أخرى74. ووهان نفسها تمتلك مطارًا دوليًّا خاصًا يربطها بأكثر من 60 وجهة في الخارج75، وقد كان هناك 515 مليون رحلة داخلية في الصين في عام 2019، بالإضافة إلى عدد أن الرحلات الدولية زاد من 6.2 مليون رحلة في عام 2000 إلى 51.62 مليون رحلة في عام 2016 76.
وفي حين كان هناك نمو حضاري مذهل في الصين، لا يزال الإنفاق على الرعاية الصحية منخفضًا؛ إذ «وُجِّه معظم الإنفاق العام نحو البنية التحتية؛ الطوب والأسمنت، اللازمين لإنشاء الجسور والطرق، والكهرباء الرخيصة اللازمة للإنتاج» مما يؤدي إلى «تدهور عام للرعاية الصحية الأساسية»، بالإضافة إلى تضاعف تصنيع المنتجات الأولية في أماكن أخرى.

إن نصيب الفرد من الإنفاق العام على الصحة في الصين ضعيف للغاية «حتى في البلدان ذات الدخل فوق المتوسط الأخرى، ويساوي نحو نصف ما تنفقه البرازيل، أو روسيا البيضاء، أو بلغاريا»77.

بالإضافة إلى ذلك، لا يتمتع العديد من العمال الصينيين المهاجرين بالرعاية الصحية بمجرد مغادرتهم لمساقط رؤوسهم الريفية؛ لذلك كانت الظروف مهيأة لانتشار الوباء في الصين وفي بقية أنحاء العالم.

الآثار الاقتصادية

في السنوات الأخيرة حوَّلت الصين نفسها إلى أكبر مُصدِّر للبضائع في العالم، وكذلك أكبر مستورد للمواد الخام. كما تسيطر على 40 في المئة من صادرات الملابس والمنسوجات العالمية، ونحو ثلث الصادرات العالمية من الأدوات المكتبية، ومعدات معالجة البيانات والاتصالات، و13 في المئة من صادرات الحديد والصلب، و14 في المئة من مكونات الدوائر الإلكترونية المتكاملة78.

ومع ذلك، فالصين ليست مجرد قوة تصدير؛ لقد وضعت نفسها في مركز شبكات الإنتاج العالمية، وبذلك أدمجت النطاقين الإقليمي والدولي معًا. وهذا صحيح بشكل خاص في الإلكترونيات. مع انتشار قواعد الحجر الصحي وإغلاق المصانع في مناطق مثل تشجيانج وجوانجدونج وخنان، تضررت سلاسل التوريد لشركات مثل أبلApple. وتتوقع شركة Foxconn التايوانية العملاقة، التي تصنع أجهزة آيفون iPhones لشركة أبل، أن تنخفض إيرادات الربع الأول لهذه السنة بنسبة 45 بالمئة.
وفي جميع أنحاء البلاد، شهد مؤشر مديري المشتريات للتصنيع، وهو مقياس رئيسي للنشاط المتوقع، أكبر انكماش له على الإطلاق، بل أسوأ مما كان عليه خلال أزمة عام 2008.

أدى التباطؤ في الصين نفسها، بالإضافة إلى تأثير كوﭬيد- 19 على الاقتصاد العالمي بشكل واسع النطاق، إلى انهيار أسواق الأسهم في جميع أنحاء العالم. وبحلول منتصف مارس، سجَّلت الأسواق في الولايات المتحدة وأوروبا بعض أكبر انخفاضاتها في التاريخ. تفاقمت الهزات التي أصابت سوق الأسهم بسبب حرب الأسعار الناشئة في قطاع الطاقة. خلال السنوات الثلاث الماضية، تواطأ منتجو النفط؛ مثل السعودية وروسيا لتقييد الإمدادات والحفاظ على أسعار النفط مرتفعة نسبيًّا79.

 ومع تباطؤ التصنيع الصيني، سعى ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، المعروف باسم MBS، إلى إقناع فلاديمير بوتين بخفض الإنتاج. ومع ذلك، اعتبر بوتين التنسيق بين المنتجين لدعم أسعار النفط بمثابة دعم لصناعة النفط الصخري الأمريكي، الأمر الذي يتطلب طاقة باهظة الثمن لجعله قابلاً للتطبيق. وقد سمح إنتاج النفط الصخري للولايات المتحدة بأن تصبح أكبر منتج للنفط في العالم، متجاوزة بذلك كلاً من روسيا والمملكة العربية السعودية. وعلاوة على ذلك، تعثر بوتين بسبب القرار الأخير الذي اتخذته الولايات المتحدة بفرض عقوبات على الذراع التجارية لشركة Rosneft، وهي شركة الطاقة الروسية التي تسيطر عليها الدولة، فسمحت روسيا بانخفاض الأسعار، منهية بذلك تحالفها مع السعودية، فرد محمد بن سلمان بإغراق السوق بالنفط، الأمر الذي أشعل حرب الأسعار80.
من المرجح أن الكساد الجديد بدأ يترسخ بالفعل، وهذا بالتأكيد رأي محافظي البنوك المركزية. في 3 مارس، عقد مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي اجتماعًا طارئًا، وخفض أسعار الفائدة بنسبة 0.5 في المئة، وذلك للمرة الأولى منذ أزمة 2008-2009.

كما وعد بنك الاحتياطي الفيدرالي بضخ تمويلات في الأسواق المالية، وخصوصًا أسواق «الريبو» التي تستخدمها الشركات المالية للحصول على سيولة قصيرة الأجل مقابل ضمانات مثل السندات. وبعد ذلك بأسبوع، اتجه بنك إنجلترا إلى تخفيض أسعار الفائدة. قام البنك المركزي الأوروبي (ECB)، الذي كان معدله الرئيسي سلبيًا بالفعل، أربك المستثمرين من خلال تقديم حافز أكثر محدودية، وتوسيع برنامج التيسير الكمي الحالي. ثم، في 15 مارس، أعلن بنك الاحتياطي الفيدرالي عن إجراء جديد؛ إذ خفض أسعار الفائدة الأمريكية حتى قاربت الصفر، ووسَّع مشترياته من السندات، وقدَّم «خطوط مبادلة» جديدة لضخ الدولارات في البنوك المركزية الأخرى. يعكس التركيز على أسواق الريبو وتوفير الدولارات من أجل تليين النظام المالي العالمي المخاوف من نوع أزمة السيولة التي تطورت منذ عام 2007، وهو ما يشبه بقوة تدابير الطوارئ التي اتخذت قبل عقد من الزمن81.

وبعبارة أخرى، يعتقد من هم في أعلى مستويات الاقتصاد أن هذه الأزمة يمكن أن تكون مماثلة لما حدث في عامي 2008-2009. وفي حين أن كوﭬيد- 19 قد يؤدي إلى كساد عالمي، فإنه ليس السبب الأساسي؛ فقد كان النظام العالمي مريضًا للغاية بالفعل قبل تفشيه82. وتكمن جذور هذا في فترة طويلة من الربحية المتدنية والأساليب المستخدمة للخروج بالاقتصاد من حالة الكساد في 2008-2009. وكما قلت في عام 2018: «كان الكساد في 2008-2009 أزمة يؤجلها النظام منذ فترة طويلة، بعد فترة من الربحية المنخفضة، والأنماط المختلة من التمويل وردود فعل الدول.. إن حقيقة أنه لم يُسمح له بأن يصبح كسادًا كالذي حدث في الثلاثينيات أعطتنا بدلاً من ذلك كسادًا طويلاً؛ فترة طويلة من النمو المؤقت البطيء نسبيًا»83.

الإجراء الذي اتخذته الطبقات الحاكمة في أعقاب الأزمة؛ كحزم التحفيز، وخفض أسعار الفائدة، والتيسير الكمي، يعني: أن الرأسمالية اتخذت آلية دعم الحياة؛ ولكن بطريقة مالية مميزة.. إذ تهدف التدابير، ظاهريًّا، إلى ضمان تدفق الائتمان للشركات وزيادة الإنتاج. ولكن في ظل ظروف ربحية متدنية، فشل ذلك في تحقيق الهدف المرجو. إذ يحدث التراكم السريع في الظروف التي يعتقد فيها المستثمرون أن الإنتاج سيكون مربحًا.

وبدلاً من ذلك، قامت البنوك بنقل الأموال بعيدًا، أو ضخَّتها في استثمارات مالية، غالبًا ما تكون ذات عوائد عالية، ومحفوفة بالمخاطر. لم تعمل خطة الإنقاذ المالية على تأجيج المضاربات. وبالمناسبة، فقد تضخمت أسعار الأصول التي يملكها الأغنياء، بل إنها أجلت أي حل للأزمة الحالية84.

في مقال نشر في صحيفة فاينانشيال تايمز Financial Times بعنوان «بذور أزمة الديون المقبلة»، يلاحظ جون بلندر أنه بحلول الربع الثالث من عام 2019، بلغ الدين العالمي رقمًا قياسيًّا 322 في المائة من إجمالي الناتج المحلي، أي ما يقارب 253 تريليون دولار. وأن الكثير من الشركات غير المالية قد تكافح في ظل الاضطراب الحالي لخدمة ديونها85 .

وبعبارة أخرى، ربما نكون قد وصلنا إلى حدود فترة النمو البطيء غير المؤكد التي حدثت بعد 2008-2009.

وكما يذكر مقطع آخر في فاينانشيال تايمز:

لعقد من الزمن تلاعبت الشركات بالديون الرخيصة.. تراجعت تكاليف الاقتراض بعد أن خفضت البنوك المركزية أسعار الفائدة لتضخم اقتصاداتها في أعقاب الأزمة المالية لعام 2008. رأى المستثمرون، الذين يعانون الحرمان من عائدات السندات الحكومية الأكثر أمانًا، أن إقراض الشركات التي على حافة الخطر هو الوسيلة لجني العائدات. ويقدِّر راشير شارما Ruchir Sharma، كبير الاستراتيجيين العالميين في مؤسسة Morgan Stanley Investment Management، أن واحدة من كل ست شركات أمريكية لا تكسب تدفقات نقدية كافية لتغطية مدفوعات الفائدة على ديونها. ويمكن لمقترضي «الزومبي» هؤلاء الاستمرار في تأجيل الأزمة طالما استمرت أسواق الديون في السماح لهم بإعادة التمويل، ولكن الآن حان وقت الحساب86.

دون مسح الشركات غير الرابحة على نطاق أكبر بكثير مما حدث حتى الآن، فمن غير المرجح أن تنتعش معدلات الأرباح. وفي هذا السياق؛ حيث أسعار الفائدة تقترب بالفعل من الصفر أو تقل عنه، وميزانيات البنك المركزي مُحملة بمشتريات الأصول السابقة، هناك حدود لما يمكن أن تفعله السياسة النقدية.

وكما يطرح بلندر، فإننا قد نواجه «أزمة ائتمان في عالم من أسعار الفائدة المنخفضة للغاية والسلبية». حتى لو كان هناك نشاط أكثر للبنك المركزي، فالملاحظ أنه يخاطر «بترسيخ السياسة النقدية المضطربة التي أسهمت في التسبب بالأزمة المالية أصلاً، بالإضافة إلى تفاقم الديون الخطرة التي يواجهها الاقتصاد العالمي الآن»87 .

ونظرًا إلى أن الكثير من المدخرات التي استخدمت لتفادي الأزمة قد أنفقت بالفعل، فإن العديد من صناع السياسة والمعلقين يدعون إلى التحول إلى السياسة المالية. وكما يشير مايكل روبرتس، هناك أدلة محدودة على أن الدول التي تعاني عجزًا في الإنفاق على النطاق المتوخى يمكن أن تحافظ على النمو في مواجهة انخفاض الربحية. ولما كان هذا مستحيلاً في العديد من الاقتصادات الضعيفة، خصوصًا في نصف الكرة الجنوبي88، فستكون النتيجة الأساسية هي الانكماش الاقتصادي.

بين التهاون والاستبداد

استجابت الحكومات للوباء بمجموعة من ردود الفعل. وهذا، في المقام الأول، ليس نتيجة للخلافات بشأن علم الأوبئة أو علم الڤيروسات، فعلى الرغم من محدودية المعلومات المعروفة بشأن كوﭬيد- 19 وقت كتابة هذا التقرير، فإنه لا يزال هناك الكثير من المجهول عنه. بشكل أساسي، تعكس الاستجابات سياق الدول الرأسمالية المقسم إلى طبقات، والمندمج في نظام عالمي مليء بالصراعات.

كانت الاستجابة النموذجية لأولئك الذين يترأسون النظام، أولاً: هي التهاون في أثناء سعيهم للحفاظ على إنتاج وتداول رأس المال على حساب المعاناة الإنسانية، تلتها تدابير يائسة، من أعلى إلى أسفل، بحيث أصبح جدوى الربح المستقبلي محل شك في حال استمرار الوباء. وقد امتد برنامج الإغلاق في الصين، في ذروته، ليشمل نحو 760 مليون شخص89، كماأغلقت أماكن العمل، وقُيِّدت حركة الأشخاص.

ونتيجة لذلك، يُنظر إلى الصين على نطاق واسع باعتبارها أبطأت انتشار الڤيروس، على الرغم من استمرار التساؤلات حول الأرقام الرسمية، وما إذا كان الڤيروس سيعاود الظهور مع تخفيف الضوابط. وهذه نقطة مهمة للغاية؛ إذ يبدو أن الحكومة تعطي الأولوية لإعادة فتح أماكن العمل بصورة عاجلة.

وبالإضافة إلى ذلك، هناك ثلاثة أسباب تجعل اليسار حذرًا من الإفراط في الثناء على الصين. أولاً: لا يمكن إنكار أن آلة الدولة الاستبدادية يمكنها أحيانًا القيام بأشياء لا تستطيع الديموقراطيات الليبرالية القيام بها. ومع ذلك فهذه ليست حجة لقبول الديكتاتورية باعتبارها متفوقة على الديموقراطية، فهذا يشبه إلى حد كبير الحجة الشهيرة القائلة إن «موسوليني جعل القطارات تعمل في الوقت المحدد».90 إن الاقتياد القسري لعشرات الآلاف من الناس إلى مراكز العزل المؤقتة في الاستادات الرياضية، والرقابة الشديدة على ملايين البشر سواء على الإنترنت، أو في الشوارع، ليس بالطبع نموذجًا للاشتراكيين، باعتبارها طريقة لإنتاج دعم حقيقي لتدابير الصحة العامة91.

وقد وُصفت الاستجابة الصينية بأنهاتتألف من «تدابير يائسة وعدوانية» مماثلة لتلك المستخدمة في مكافحة التمرد في الجزائر أو فلسطين، ولكن في هذه الحالة تم إجراؤها في «المدن الكبرى» التي تضم جزءًا كبيرًا من سكان العالم92.

ثانيًا: تفترض الصورة السطحية للقمع المركزي الفعال أن الدولة الصينية أكثر قوة وتماسكًا مما هي عليه في الواقع.

ومرة أخرى، يقدم المؤلف المجهول في Chuang أفضل تعليق. في حين أن جهاز الدولة المركزية يمكنه في نهاية المطاف أن يركز جهوده في ووهان، بشكل عام، فقد اعتمد على مجموعة من «الدعوات التي نشرت على نطاق واسع للمسؤولين المحليين والمواطنين المحليين للتعبئة، بالإضافة إلى سلسلة من العقوبات اللاحقة توقَّع على أسوأ المستجيبين».93

خارج هوبي، كانت الاستجابة متفاوتة للغاية، وقد أدى ذلك إلى قمع تعسفي في بعض المناطق؛ منها على سبيل المثال إصدار 30 مليون «جواز سفر محلي» في أربع مدن في تشجيانج «للسماح لشخص واحد من كل أسرة بمغادرة المنزل مرة كل يومين»94.

وذكر صحفيون مهتمون بالشأن الصيني في تقرير لصيحفة نيويورك تايمز New York Times:

الحشد الشعبي يذكرنا بالحملات العنيفة، على غرار ما كان يحدث أيام ماو، وهو ما لم تشهده الصين منذ عقود، بتحويل الخطوط الأمامية للحماية من الوباء إلى نظم صارمة كالساعة.

وعلى الرغم من ترسانة الصين الضخمة من أدوات المراقبة عالية التقنية، فإن تطبيق الضوابط بشكل رئيسي يقوم به مئات الآلاف من العمال والمتطوعين، الذين يقومون بفحص درجة حرارة السكان، وتسجيل تحركاتهم، والإشراف على الحجر الصحي -والأهم من ذلك- إبعاد الغرباء الذين قد يحملون الڤيروس 95.
تعكس الطبيعة الملتبسة للاستجابة الصينية، المنافسة بين القادة المحليين والإقليميين. ووفقًا لأحد الأكاديميين الصينيين: «بمجرد الكشف عن الوباء، مارست الحكومة المركزية ضغوطًا كبيرة على المسؤولين المحليين. وأثار ذلك منافسة بين المناطق، فتحولت الحكومات المحلية من المحافظة المفرطة إلى الراديكالية»96.

ثالثًا: في المقام الأول يتم تجاهل مسؤولية الدولة الصينية بشأن السماح للوباء بالانتشار؛ وهو أمر تكرر بانتظام كبير في السنوات الأخيرة، على سبيل المثال في حالتي السارس وإنفلونزا الطيور.

كانت الاستجابة الأولية للدولة، عندما ظهرت الحالات في أوائل ديسمبر 2019، هي السعي للتستر على تفشي المرض، وإسكات الأطباء الذين تكلموا في الموضوع، وأبرزهم طبيب العيون لي ون ليانج، الذي تسبب موته بكوﭬيد- 19 في اندلاع الغضب97.

خارج الصين، في وقت كتابة هذا التقرير، بدا أن إيطاليا لديها أكبر عدد من الحالات والوفيات بسبب كوﭬيد- 19. وهناك دلائل على أن الڤيروس كان منتشرًا في البلاد دون أن يُكتشف لبعض الوقت قبل ظهور الحالة الأولى.أما إيطاليا فهي معرضة للخطر بشكل خاص؛ إذ أنها تحتوي على نسبة عالية للغاية من كبار السن.

إن الخدمة الصحية، التي أضعفتها سنوات من التقشف، أصبحت الآن غارقة تمامًا، وقد وصل المتخصصون في عنابر العناية المركزة إلى النقطة التي سيكون عليهم فيها التفكير في المرضى الذين يجب أن يتلقوا علاجًاينقذ حياتهم.

في نهاية المطاف استجابت الحكومة بإغلاق المدارس والجامعات والمحال التجارية، والصيدليات، والحانات، والمطاعم، ومع ذلك استمرت البنوك وأماكن العمل. وقد تكرر هذا النمط المشابه في العديد من البلدان: لا يجتمع العمال معًا، إلا إذا كانوا يعملون على وسائل الإنتاج بشكل مباشر. وبالفعل خاطب اتحاد العمال الإيطالي Confindustria، الحكومة طالبًا «حلاً متوازنًا»، لأن إغلاق أماكن العمل «سيؤثر حتمًا على المبيعات والعمالة»98. ورد السياسيون من مختلف التوجهات على الرسالة؛ إذ قال حاكم لومباردي؛ عضو حزب ليجا اليميني الراديكالي، بأن تفشي المرض «يزيد قليلاً عن الإنفلونزا العادية»، في حين أطلق عمدة يسار الوسط في ميلانو حملة «ميلانو لا يتوقف»99.
جاء رد الفعل الأول في إيطاليا في أوائل مارس، حين بدأت موجة عفوية من الإضرابات، لقد قرر العمال أن يتصرفوا بأنفسهم؛ فتطورت الإضرابات في مصانع فيات في تيرمولي بالقرب من نابولي، وفي مصنعي قطع غيار السيارات في فلورنسا، وفي ساحات بناء السفن في البندقية، وموانئ جنوة.طالت الإضرابات كذلك مصانع الصلب ومصانع الملابس100. وبحلول منتصف مارس كان من الواضح أن نمط العدوى في إيطاليا سيكون رائدًا لموجات مماثلة في جميع أنحاء أوروبا.
وبحلول 16 مارس، أغلقت 36 دولة أوروبية مدارسها تمامًا أو جزئيًّا؛ وفرض معظمها قيودًا على السفر داخليًّا، وأغلق بعضها حدوده؛ وحُظرت التجمعات العامة، والفعاليات الرياضية، ومعظم المحال التجارية والمقاهي ودور السينما والمسارح.

في هذه الأثناء، وفي قلب الرأسمالية العالمية، كان رد فعل دونالد ترامب الأولي على كوﭬيد- 19 هو إدانته، باعتباره «خدعة» الحزب الديمقراطي على غرار ما حدث في محاولة إقالته، في حين طالب حليفه، لاري كودلو، مدير المجلس الاقتصادي الوطني، الناس «بالبقاء في العمل»، حتى يتم «احتواء الڤيروس» نسبيًّا101.

وأخيرًا شعر ترامب بأنه مجبر على إعلان حالة الطوارئ، والموافقة على بعض الخطوات كحزم التحفيز وزيادة تمويل الوكالات الفيدرالية، وهو ما ترافق مع تفجر المشاعر المعادية للصين وإغلاق الحدود.

أدى التأخير في التعرف على خطر تفشي المرض إلى تفاقم المشكلات التي كان السبب الرئيسي فيها النظام الصحي في الولايات المتحدة؛ إذ يعتبر اختبار الكشف عن كوﭬيد- 19، من بين أدنى مستويات الاختبارات في الدول الغنية، كما أن هناك عددًا قليلاً جدًا من أسرَّة العناية المركزة، والمتاح منها أقل من القليل. بالإضافة إلى الحواجز المالية المتعددة التي تحول دون الحصول على الرعاية الصحية. بالنظر إلى فواتير العلاج التي أعلن عنها على نطاق واسع حالات بما في ذلك حالات الحجر الصحي الإلزامي102.

ثم هناك حالة بريطانيا؛ وكما هو الحال مع ترامب، كان الانطباع السائد الذي تركه رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون في الأسابيع الأولى من العام يوحي بالتهاون. وبصرف النظر عن نصيحته المبكرة للناس بغسل أياديهم وهم ينشدون «عيد ميلاد سعيد» (أو النشيد الوطني على حد قول جاكوب ريس-موج)، تخلَّفت بريطانيا عن الدول الأخرى في تنفيذ التدابير اللازمة للسيطرة على انتشار الڤيروس.

 أدان جون أشتون John Ashton المدير الإقليمي السابق للصحة العامة في شمال غرب إنجلترا، التأخيرات في عقد لجنة موسعة طارئة للحكومة استجابة للحالة الطارئة «إننا نتصرف مثل المستعمرين في القرن التاسع عشر، الذين كانوا يقضون خمسة أيام كاملة في لعبةكريكيت»، كما انتقد أيضًا تأثير عقد كامل من التقشف على الصحة العامة103.

عندما أعلن في ميزانية الحكومة في 11 مارس عن زيادة قدرها 76 مليار جنيه إسترليني في الإنفاق، وركز بعضها على التخفيف من تأثير الكساد الاقتصادي،استقبلت صحيفة نيويورك تايمز الأمر بعنوان «المملكة المتحدة تحمي اقتصادها من الڤيروس، لا شعبها». ناقش المقال أن «خطة الإنقاذ الاقتصادي العدوانية للبلاد.. تتناقض بشكل حاد مع استجابتها لمتطلبات الصحة العامة اللازمة لمواجهة الوباء»104.

بعد ذلك بيوم واحد، أعلن جونسون أن بريطانيا ستنتقل من مرحلة «احتواء» الأزمة إلى مرحلة «التأجيل»، سعيًا إلى إبطاء انتشار المرض بين السكان. لكنه ضاعف من قلق الناس بخطاب قاسٍ، سيتم اعتباره الخط الذي سيتصرف على أساسه: «يجب أن أكون صادقًا مع الشعب البريطاني: ستفقد العديد من العائلات أحباءها»105.

وفي مقابلة أجريت على سكاي نيوز Sky News زعم كبير المستشارين العلميين للحكومة، السير باتريك فالانس Patrick Vallance أن «مناعة القطيع» ستتحقق من خلال «نحو 60 بالمئة» من الأشخاص المصابين بكوﭬيد - 19. وهي التصريحات التي رددها، فيما بعد، مستشارون آخرون، وأدانها بشدة ريتشارد هورتون Richard Horton محرر صحيفة لانسيتLancet 106.

وقد لاحظ عدد من الكُتَّاب أن هذا النهج قد يعني وفاة أكثر من نصف مليون شخص. بالنسبة لبعض عناصر الطبقة الحاكمة، قد لا تهم أعداد هذه الوفيات كثيرًا. فكتب الصحفي في صحيفة ديلي تليجراف Daily Telegraph جيريمي وارنر Jeremy Warner «من منظور اقتصادي غير مبالٍ تمامًا، قد يثبت كوﭬيد- 19 أنه مفيد على المدى الطويل، إذ سيتسبب في التخلص من المسنين الذين لا عائل لهم»107.

ومع ذلك، كان هناك تحول مفاجئ نحو الإغلاق في 16 مارس؛ إذ نصح جونسون بإنهاء كل أنماط «التواصل غير الضرورية»؛ وطالب الأشخاص بالابتعاد عن الحانات والنوادي والمطاعم والمسارح؛ بل إنه طالبهم كذلك بالسعي لعزل أنفسهم لمدة 12 أسبوعًا108.

وهناك مؤشرات تفيد باحتمالية اتباع المزيد من السياسات الصارمة. وفقًا للأكاديميين في الكلية الإمبراطورية، التي ساعدت أبحاثهم في تحويل التفكير الحكومي، يشير الإعلان إلى تحول من «التخفيف»، إذ تظل هناك فرصة للڤيروس لينتشر بين السكان في أثناء محاولة الحد من التأثير، نحو «القمع»؛ إذ تسعى الحكومة إلى إيقاف انتشار الڤيروس تمامًا.109

أحد التحديات التي تواجه هذا الأخير هو أن تخفيف التدابير قد يسمح للڤيروس «بمواصلة تقدمه»، وهو ما يعني 18 شهرًا إضافية من الإغلاق الذي من شأنه أن يكون مدمرًا اقتصاديًّا. وقد رافق تحول جونسون الإعلان عن 330 مليار جنيه استرليني من ضمانات القروض وإجراءات أخرى تهدف إلى دعم الشركات، ولكن يبدو أنه من المحتمل أن تضطر الحكومة إلى توسيع تدخلاتها في الاقتصاد إذا كانت جادة في قمع تفشي المرض.

وفي حين أن وجود للڤيروس في شرق آسيا وأمريكا الشمالية وأوروبا محتمل نسبيًّا، فإن التأثير الذي سيحدثه كوﭬيد- 19 في نصف الكرة الجنوبي غير مؤكد بشكل مرعب. فمن غير المعروف ببساطة عدد الحالات الموجودة في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، إذ أنه بدايةً لم يكن في المنطقة سوى مختبرين قادرين على إجراء الاختبارات اللازمة، بالإضافة إلى أن الأنظمة الصحية هناك مجوفة بفعل سنوات طويلة من التكيف الهيكلي110.

ومن المرجح أن يكون التفاؤل، لدى أولئك الذين يأملون في أن الشباب في أفريقيا أكثر نسبيًّا، أو المناخ الأكثر دفئًا، أو أن خبرة الأطباء بالأوبئة سيخفف من آثار كوﭬيد- 19، أملاً في غير محله111 .

 فمع وصول الڤيروس إلى القارة، سيؤثر على السكان الذين أضعفتهم بالفعل آثار ﭬيروسي نقص المناعة البشرية «الإيدز» والإيبولا، خصوصًا وهم يخضعون لرعاية صحية فقيرة للغاية. اعتبارًا من عام 2015، كان لدى كينيا؛ البالغ عدد سكانها 50 مليون نسمة، 130 سريرًا للعناية المركزة فقط112.

وبالنظر إلى تجربة إيران، التي أصبحت مركزًا رئيسيًا آخر للوباء؛ تنفق إيران ما يقرب من سبعة أضعاف ما ينفقه الفرد في كينيا على الصحة، لكن المرض يهدد هناك بالفعل بإرباك المستشفيات، مع وجود أدلة تشير إلى أنه انتشر لبعض الوقت بين السكان قبل بذل أي جهود لاحتوائه113.

الاستجابة الاشتراكية

يجب أن تحتوي الاستجابة الاشتراكية للأزمة على الكثير من الحس الوبائي السليم. فبمجرد أن ينتشر الڤيروس بشكل كافٍ لجعل الجهود الأولية في الاحتواء غير واقعية، تصبح الأولوية المركزية إما لإبطاء انتشاره أو القضاء عليه. يستخدم علماء الأوبئة في بعض الأحيان «رقم التكاثر الأساسي» (R0) للإشارة إلى عدد الأشخاص الذين يحتمل أن يصابوا بالڤيروس ، في ظروف لا يكون فيها أحد محصنًا. إذا كان رقم التكاثر الأساسي أقل من واحد، فإن المرض سيزول. وإذا كان أكبر من واحد، سوف يميل، في البداية على الأقل، إلى الانتشار. وقد قُدِّر رقم التكاثر الأساسي للڤيروس المسبب لـكوﭬيد-19بأنه يقع في المتوسط بين 2.0-2.5.

هناك أمران مهمان لفهم رقم التكاثر الأساسي، وهما، أولاً: لا أحد محصن.

في وقت كتابة هذا التقرير، لم يكن من الواضح إلى أي درجة يصبح أولئك الذين يتعافون من كوﭬيد- 19 محصنين. وإذا كان الأمر كذلك، فإلى أي مدى تكون هذه الحصانة دائمة114. ثانيًا: رقم التكاثر الأساسي ليس مفهومًا بيولوجيًّا بحتًا؛ إنه «تقدير لنسبة العدوى، بما هو دالة للسلوك البشري والخصائص البيولوجية لمسببات الأمراض»115. لذا، فبالإضافة إلى طبيعة الڤيروس، فإنه يعتمد أيضًا على استجابة الناس لانتشار الڤيروس والإجراءات التي يتخذونها للحماية منه.

كما لوحظ أعلاه، يبدو أن التحول في سياسة الحكومة في بريطانيا قد حدث، جزئيًا على الأقل، بسبب الورقة التي كتبها فيرجسون وزملاؤه في الكلية الملكية. والتي أقرَّت بأن سياسات التخفيف يمكن أن تؤدي إلى أكثر من نصف مليون حالة وفاة في بريطانيا، مع الأخذ في الاعتبار التأثير الإضافي لسوء الخدمات الصحية116. ومع ذلك فهم مستمرون في النقاش حول المرض دون ملاحظةالصعوبات الضخمة التي ينطوي عليها: «لم يسبق من قبل أن تم القيام بأي تدخل في مجال الصحة العامة له مثل هذه الآثار التخريبية على المجتمع، لمثل هذه الفترة الطويلة من الزمن.. أما كيف سيستجيب الناس والمجتمعات فهو أمر ما يزال غير واضح»117.

وسواء ثبت أن القضاء على الڤيروس ممكن أم لا، فهناك أسباب قوية للسعي إلى تقليل رقم التكاثر الأساسي للڤيروس. بادئ ذي بدء، قد يؤدي هذا إلى «تسطيح منحنى» التفشي، مما يقلل من الدرجة التي تصبح فيها الخدمة الصحية غارقة في التعامل مع الحالات الخطيرة، خصوصًا مع استمرار التأثير على مدى عدة أشهر. ثانيًا: يمكن أن تنخفض ذروة تفشي المرض في الصيف، عندما تقل فرص تزامنه مع ذروة الإنفلونزا الموسمية.

ثالثًا: قد يستغرق الأمر وقتًا أطول حتى يتم تطوير لقاح؛ على الرغم من أنه يبدو من غير المحتمل أن يكون اللقاح قيد الإنتاج حتى عام 2021، وذلك في السيناريو الأكثر تفاؤلاً حتى الآن118. لذلك يجب أن تكون الأولوية الفورية هي الحد من انتشار كوﭬيد- 19، مع الأخذ في الاعتبار حماية الفئات الأكثر ضعفًا.

توصي منظمة الصحة العالمية بإجراء اختبارات واسعة النطاق للكشف عن كوﭬيد- 19، وكذلك العزلة الطوعية لأولئك الذين تظهر عليهم الأعراض، ويلي ذلك تتبع المخالطين والحجر الطوعي لأولئك الذين كانوا على اتصال وثيق بهم. كل هذه الخطوات ينبغي تدعيمها بـ«التباعد الاجتماعي». الذي يعني تغييرات في السلوك؛ كالوقوف على بعد أكثر من مترين من أي شخص، وتجنب المصافحة وغيرها من أشكال الاتصال الجسدي.. إلخ. وهذا يعني أيضًا تجنب تجمع الناس على مقربة من بعضهم البعض. هذه الإجراءات مهمة للغاية في حالةكوﭬيد- 19، لأن الڤيروس يمكن أن يصيب شخصًا دون أن تظهر عليه أي أعراض.

السؤال هو؛ ما أفضل السبل لتحقيق ذلك في المجتمع الرأسمالي؟ والجواب يعني تطوير استجابة قائمة على الطبقية، بديلاً للنهج المتهاون، أو التخطيط الفوقي التي اعتمدتها الحكومات حتى الآن.

الأثرياء لا يجدون صعوبة كبيرة في عزل أنفسهم. يمكنهم ببساطة الفرار إلى المخابئ أو أماكن العطلات في طائراتهم الخاصة، وغالبًا مع أطبائهم الخاصين.119

أما بالنسبة للطبقة العاملة، فالأمور أكثر صعوبة. إن أهم نقاط تركيز الناس في معظم المجتمعات الرأسمالية هي أماكن العمل؛ إذ يوجد نحو 90 بالمائة من الموظفين البريطانيين في أماكن عمل تحتوي 10 أشخاص أو أكثر، ونصفهم تقريبًا في أماكن عمل تحتوي 100 شخص أو أكثر120. لذلك، من غير المعقول المطالبة بتنفيذ التباعد الاجتماعي دون التفكير في إغلاق أماكن العمل. بطبيعة الحال، هناك بعض أماكن العمل الضرورية للتعامل مع الوباء؛كالمستشفيات على سبيل المثال، ولكن يمكن أن يمتد هذا إلى توليد الطاقة وإمدادات الغذاء وإنتاج المعدات الطبية التي تشتد الحاجة إليها. وهنا يجب تحويل أماكن العمل إلى الإنتاج الأساسي أو إغلاقها تمامًا. وإذ دعت الحاجة إلى مواصلة العمل، يجب تعقيم أماكن العمل بانتظام، والعمل في ظروف تضمن حماية صحة الأشخاص، بما في ذلك السماح للمصابين بالعزل الذاتي. كما يجب فرض رقابة على الأسعار لمنع بعض أصحاب الأعمال من التربح على حساب صحة الناس.

ومع ذلك لا يمكن اتخاذ تدابير عزل شاملة، إذ لا يزال هناك إكراه اقتصادي على العمل. ويجب ضمان دخل للناس طوال فترة الوباء. في ميزانيتها الأخيرة، سمحت الحكومة البريطانية بالإجازات المرضية مدفوعة الأجر للموظفين المتأثرين بـكوﭬيد- 19، ولكنها حُدِّدت حاليًا بنحو خمس متوسط الدخل الأسبوعي. وبالنسبة لعدد كبير من العمال أصحاب الدخل والواحد فقد أصبحوا في موقف صعب، علاوة على ذلك، فإن العديد ممن يعملون أعمالاً حرة «مزيفة» -كسائقي أوبر أو عمال خدمة توصيل الطلبات للمنازل Deliveroo، لكن الفئة تشمل أعدادًا أكبر بكثير؛ إذ تشمل عمال البناء والمقاولين- لا يحق لهم الحصول على إجازات مرضية مدفوعة الأجر. لقد تُركوا لمحاولة تحصيل نسبة ضئيلة من المزايا حتى وإن كانوا مؤهلين للحصول عليها. يستتبع إغلاق المدارس أيضًا أعدادًا كبيرة من الأشخاص الذين لا يستطيعون العمل بسبب مسؤوليات الرعاية.

السبب الرئيسي وراء تخلف الحكومة البريطانية عن معظم الدول الأوروبية في إغلاق المدارس هو أن مستشاريها أخبروها أن إغلاق المدارس لمدة أربعة أسابيع سيقلل الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 3 في المئة121. لذا فعلى اليسار أن يطرح فكرة حصول الوالدين على أجر كامل إذا أجبروا على البقاء في المنزل لرعاية الأطفال.

لا يجب السعي لتحقيق هذه المطالب باسم «مصلحة وطنية» وهمية، ولكن لمصلحة الطبقة العاملة، حتى لو كانت تعرض النمو الاقتصادي أو جني الأرباح للخطر. ولأنهم معادون لمصالح الطبقة الرأسمالية، فقد يحتاجون إلى السعي من خلال العمل الجماعي. وتوجد حاليًا بوادر جيدة في أقسام الطبقة العاملة.

خرج عمال رويال ميل Royal Mail في لندن في منتصف مارس للمطالبة بمطهرات اليد والقفازات لحمايتهم من الڤيروس. ونظَّم العمال في جلاسكو اعتصامًا إذ لم توفر لهم مطهرات اليدين أو الماء الساخن. كما أضرب عمال النظافة الذين يعملون في القطاع الخاص في مستشفى لندن بسبب عدم دفع الأجور، موضحين غباء إهمال النظافة في المستشفى في تلك المرحلة.

كما قامت العديد من الجامعات، تحت ضغط من أعضاء النقابات العائدين من إضرابهم الأخير، بنقل مطالبها عبر الإنترنت122. وهكذا لا يجب أن تشهد هذه الأزمة تعليقًا للصراع الطبقي، بل تصعيده. خصوصًا وأنه مع تزايد إغلاق أماكن العمل وعزل الناس أنفسهم، يتزايد التحدي المتمثل في رعاية الفئات التي تحتاج إلى رعاية. كان أحد الجوانب المشجعة للأزمة إنشاء مجموعات «المساعدة المتبادلة»، والتي كانت منظمة إلى حد كبير عبر فيسبوك Facebook أو واتس آب WhatsApp. تعرف مجموعتي المحلية نفسها بالتالي:

في أوقات الأزمات، نحتاج إلى بعضنا البعض.. سيكون تبادل المساعدة ضروريًّا للكثيرين، ولكن الأهم من ذلك كله، للفئات التي تحتاج إلى الرعاية في مجتمعنا. سنسعى إلى مساعدة الناس في الوصول إلى الطعام، والحصول على الأدوية، بالإضافة إلى مهام أخرى، خصوصًا بالنسبة للمسنين والمعوقين و/ أو الذين يعانون من ضعف المناعة. لن يتم التسامح مع أي تهاون.. ينبغي أن نُظهر أن مدينة ليستر متضامنة في مواجهة الشدائد.

وكذلك يطرح والاس وجهة نظره «إن الحجر الصحي الذاتي، مع الدعم المناسب، ومراقبة الأمور من قبل ألوية الحي المدربة، وشاحنات إمدادات الغذاء التي تنتقل من باب إلى باب، والإعفاء من العمل والتأمين ضد البطالة، كل هذه خطوات يمكنها أن تذكي روح التعاون»123 بالنسبة للاشتراكيين الذين أغلقت أماكن عملهم، يصبح التحول من النشاط القائم في أماكن العمل إلى العمل من خلال الهيئات الخاصة بالأحياء أمرًا مهمًا. إذ يمكن لهذه الهيئات التنسيق مع العاملين في مجال الرعاية الصحية والنقابات والمنظمات المجتمعية للمساعدة في تطوير استجابة حقيقية للطبقة العاملة في مواجهة الأزمة. ومن أجل توفير الموارد لها بشكل صحيح، يمكنهم طلب التمويل من الحكومة المحلية أو الوطنية.

لا يجب أن يقتصر النشاط في مجتمعات الطبقة العاملة على وظائف الرعاية الأساسية والدعم. كما أن هناك مشكلة حادة بشكل خاص حول الإسكان. ومثلما أشار إنجلز في القرن التاسع عشر، فإن المنازل المزدحمة تنشر الأمراض. ومن المؤكد أن هذا هو الوقت المناسب للدفع من أجل الاستحواذ على المخزون الضخم من المنازل الفارغة في مدن مثل لندن لصالح الملكية العامة، خصوصًا وأنها منازل مغلقة من أجل الاستثمار124. ومن ثَم يمكن استخدامها لإيواء المشردين، أو كأماكن للحجر الصحي.

يكشف الوباء أيضًا الحالة الخطيرة للخدمة الصحية الوطنية (NHS) بعد عقد من التقشف وعقود عديدة من الخصخصة والتسويق. تمتلك بريطانيا عددًا قليلاً من الأسرة العناية المركزة؛ أي 2.8 سرير لكل ألف شخص، مقارنة بكوريا الجنوبية التي تملك 11.5 سريرًا، وألمانيا التي تملك 8.3 سريرًا، وإيطاليا التي تملك 3.4 سريرًا وربما أقل.
على المدى القصير، يمكن أن يؤدي استغلال المستشفيات الخاصة، على النحو الذي اقترحته نقابة GMB، إلى تخفيف الضغط نسبيًّا125. كما يجب أن يصاحب هذا برنامج ضخم للاستثمار في الرعاية الصحية. تتطلب الاستجابة الفعالة للأزمة تعبئة الموارد والشعوب على حد سواء، إذ يتطلب تتبع المخالطين والتعقيم، وكذلك النشاط الأساسي وهو رعاية المرضى، عمالة مكثفة. خلال تفشي السارس في تورنتو، والذي لم يكن يشبه كوﭬيد- 19 على أي معيار انتشر الڤيروس من شخص إلى آخر في المناطق المكتظة بالمستشفيات، بسبب نقص المرافق التي يمكن فيها عزل الناس علاوة على نقص الموظفين بسبب تخفيض ميزانيات الصحة126. ويجب الانتباه أيضًا إلى حماية العمال في هذه المناطق، الذين عانوا نسبة بالغة من الإصابات في إيطاليا بسبب عدم كفاية أو معدات الحماية الواقية127.

 يحتاج موظفو الرعاية الصحية والاجتماعية أيضًا إلى الوصول إلى تتبع المخالطين وفحصهم للتأكد من أنهم لا ينشرون الڤيروس بين المرضى والسكان.

كما يجب تحويل موارد شركات الأدوية، إلى جانب مختبرات الجامعات، لخدمة أبحاث اللقاحات والعلاجات المحتملة الأخرى؛ ويجب أن يتم ذلك بشفافية كاملة ومساءلة عمومية، وأن تُخلص اللقاحات من وطأة الملكية الفكرية التي تعطل إنتاج اللقاحات والاستفادة بها128. لذا يجب إنتاج أي لقاح على نطاق واسع، وإتاحته بتكلفة الإنتاج، وتداوله بحرية في نصف الكرة الجنوبي.

بشكل أعم، ومع تطور الأزمة المزدوجة؛ كوﭬيد- 19 والانكماش الاقتصادي، من المحتمل جدًّا أن تُجبر الحكومات، على مضض، على إنقاذ قطاعات من الاقتصاد. وهنا يجب على اليسار أن يضغط من أجل القيام بذلك إلى أقصى حد ممكن، بالترافق مع السيطرة الديموقراطية من قبل العمال، بدلاً من العمل وفقًا لإملاءات الدولة الرأسمالية، التي كشفت عن القيود التي يضعها النظام الرأسمالي على تنظيم الإنتاج.

وبقدر ما إن الرأسمالية مولدة للأوبئة وغير قادرة على الاستجابة لها بشكل كافٍ، بقدر ما هي غير قادرة على تلبية الاحتياجات الأخرى لسكان الكوكب الذي يبلغ عددهم 7.5 مليار نسمة.
وقد تكتسب الطروحات بشأن اقتصاد مخطط مستدام، تحت سيطرة ديمقراطية، وطروحات بالتحول الاشتراكي، جمهورًا أكبر مع تعمق الأزمة.

وأخيرًا، هناك حاجة للدفاع عن كباش الفداء ضد موجة العنصرية التي انتشرت بعد الأزمة. فهناك تاريخ طويل من تصوير الأوبئة باعتبارها من صنع «الغرباء الأجانب». وقد عانى الشعب اليهودي من المذابح بعد اتهامه بنشر الطاعون الدبلي في القرن الرابع عشر. وفي الولايات المتحدة في القرن التاسع عشر، كان يُنظر إلى المهاجرين الإيرلنديين باعتبارهم حاملين للكوليرا، في حين كان يُنظر إلى السل باعتباره «مرضًا يهوديًّا».

كان الإيطاليون في القرن العشرين كبش فداء لانتشار شلل الأطفال129. وقد جرى العرف أن تُسمى الأمراض نسبة إلى أصلها المفترض؛ على سبيل المثال الإنفلونزا «الإسبانية»، أو «الروسية»، أو «الهونج كونجية»، أو «المكسيكية». وغالبًا ما ارتبطت التصورات عن «الغرباء الذين يجلبون الأمراض» بالتنافس بين الإمبرياليات. والوباء الحالي ليس استثناءً؛ فهو مرتبط بالاشتباك المستمر بين الصين والولايات المتحدة. لذلك يُطلق ترامب على الڤيروس المسبب لكوﭬيد- 19 الڤيروس «الأجنبي» أو «الصيني»130.
وقد أثار ارتباط كوﭬيد- 19 بالشعب الصيني موجة من الهجمات العنصرية في بريطانيا والولايات المتحدة وأماكن أخرى، وتحمل عبئها الأكبر الطلاب الصينيون الذين ساعدت الرسوم الدراسية الباهظة التي يدفعونها على إبقاء نظام التعليم البريطاني واقفًا على قدميه.

لذا يجب على أي استجابة اشتراكية متماسكة أن تواجه محاولات التمييز العنصري المصاحبة لتفشي المرض، بخلق كبش فداء من بين مجتمعات المهاجرين، ومقاومة إغلاق الحدود، وهو ما لن يفعل الكثير لإبطاء انتشار الڤيروس، خصوصًا بعد أن فات الأوان، وانتشر بالفعل في معظم المجتمعات.

خاتمة

تشكِّل الإجراءات المقترحة هنا الخطوط العريضة للمطالب الفورية التي قد يتخذها اليسار استجابة لوباءكوﭬيد- 19. الذي للأسف،لن يكون الوباء الأخير الذي يهدد حياتنا، بل قد لا يكون حتى الأكثر فتكًا. نحن موجودون في عالم مؤهل لانتشار مثل هذه الأمراض، سواء نشأت في أسواق رطبة في ووهان، أو في مزارع الخنازير الصناعية في أوروبا، أو مصانع الدجاج في الولايات المتحدة.

لذلك، إلى جانب هذه المطالب الفورية، هناك حاجة إلى استجواب أعمق للنظام الذي يولد الأوبئة. كما يقول روب والاس:

يجب إنهاء الأعمال التجارية الزراعية كوسيلة للتكاثر الاجتماعي إلى الأبد، إذا كان ذلك حتى فقط من أجل الصحة العامة. يعتمد الإنتاج الكبير لرأس المال على الممارسات التي تعرض البشرية جمعاء للخطر، مما يساعد في هذه الحالة على تفشي وباء جديد. لذلك يجب أن نطالب بإدارة النظم الغذائية بطريقة تمنع الكائنات الخطيرة المسببة للأمراض من الظهور أساسًا. وهو ما سيتطلب إعادة دمج إنتاج الغذاء مع احتياجات المجتمعات الريفية أولاً. كما سيتطلب ممارسات بيئية زراعية تحمي البيئة والمزارعين الذين يزرعون طعامنا. اختصارًا؛ يجب أن نداوي الصدع الأيضي الذي يفصل بين بيئتنا واقتصاداتنا.. لدينا كوكب علينا الفوز به131.

ولتحقيق مثل هذا التحول، وليس هذا فقط، بل لتخليص العالم من الانقسام الطبقي والعنصرية والصراع الإمبريالي وتغيرات المناخ الكارثية، يصبح من الواضح أكثر فأكثر أن الانقطاع عن نهج الرأسمالية بأكمله مطلوب. وبشكل بديهي يجب أن يكون خيارنا النهائي بين الاشتراكية أو البربرية الذي شاع في أوساط اليسار لعقود..كوﭬيد19- هو تحذير؛ يخبرنا أن الساعة المناسبة قد حانت.

1- شكر وتقدير لكل من أليكس كالينيكوس Alex Callinicos وإيزم شونارا Esme Choonara ومارتن إمبسون Martin Empson وتشارلي كيمبر Charlie Kimber وريتشارد دونللي Richard Donnelly وجون بارينجتون John Parrington لتعليقاتهم على المسودات الأولية لهذه المقالة.

2- الفيروسات هي ببساطة أجزاء من الشفرة الوراثية (DNA أو RNA)، وهي محفوظة في غلاف واقٍ، ويمكنها أن تتكاثر فقط داخل خلية كائن حي. بمجرد الإصابة، قد يكون الجهاز المناعي للمضيف قادرًا على التكيف مع الڤيروس، مما يمنحه مناعة ضد العامل الممرض المحدد. ومع ذلك، يمكن أن تتحور الشفرة الجينية التي تشكل الڤيروس، مما يخلق أشكالاً جديدة من الڤيروس.

3- منظمة الصحة العالمية.

4- منظمة الصحة العالمية. 2020. من المرجح أن يكون عدد الوفيات لكل إصابة أقل بكثير، إذ لا يتم الإبلاغ عن بعض الإصابات. وهناك أيضًا اختلافات كبيرة بين البلدان، تعكس، على سبيل المثال، مدى العبء على أنظمة الرعاية الصحية.

5- Morens,Dazak and Taubenberger,2020, pp1-2

6- لا يزال الڤيروس قادرًا على التحور في الطيور، ولكن، لأنه حميد نسبيًا وينتشر بسهولة، فمن غير المرجح أن سلالات جديدة ستحل محل الأشكال السائدة – دهنر، 2012، ص 26-27.

7- دهنر، 2012، ص 28-29.

8- دهنر، 2012، ص 12.

9- بشكل أساسي فالخفافيش هي الخزانات الرئيسية لڤيروسات ألفا كورونا وﭬيروسات بيتا كورونا.

10- هيو وآخرون، 2015

11- دهنر، 2012، ص 33-34

12- ماكنيل، 1976، ص ص 69-131

13- ماكنيل 1967، ص 103.

14- من المحتمل أن تغيرالمناخ قد عجل بزيادة أعدادا لقوارض الحاضنة للمرض، ودفعهم إلى الخروج من موطنهم الطبيعي وقربهم من البشر، وهو تذكير بالعواقب المحتملة الناتجة عن تغير المناخ الذي تدخل فيه الإنسان اليوم - شيرمان، 2007، ص 73 -74.

15- ماكنيل، 1967، ص 132- 145.

16- ماكنيل، 1967، ص 149.

17- نيل، 1976، ص ص 176 - 180. يشير جاريد دايموند (1999، ص 159 - 163، 178، 213) إلى أن معظم الحيوانات الكبيرة المناسبة للتوطين تم العثورعليها في أوراسيا، في حين انقرضت العديد من الثدييات الكبيرة الأصلية في الأمريكتين منذ نحو 13000 عام. اللاما والألبكة هي الاستثناءات الرئيسية، على الرغم من أن تدجينها لم ينتشر أبعد من جبال الأنديز. تميل هذه الحيوانات أيضًا إلى أن تبقى في قطعان أصغر من نظيراتها الأوراسية، وتربى خارج المنزل.

18- ماكنيل، 1967، ص 180.

19- كارترايت وبيديس، 2004، ص 79.

20- كارترايت وبيديس، 2004، ص 80، شيرمان، 2007، ص 56.

21- علق الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط على كارثة الإنفلونزا التي ضربت مدينة كونيسبرج عام 1782: «إن المجتمع الذي وضعت فيه أوروبا نفسها والسفن والقوافل التي ترسلها في كل مكان تنشرالعديد من الأمراض في جميع أنحاء العالم».

22- دانتون، 1995، ص ص 405 - 413.

23- شيرمان 2007، ص 56.

24- شيرمان 2007، ص 107.

25- شيرمان 2007، ص 107.

26- دنهر، 2012، ص 51.

27- إنجلز، 1975، ص 365.

28- إنجلز، 1988، ص ص 337-338.

29- فلكنيو وآخرون، 2018.

30- ديفيس، 2006 أ، ص 146 - 148. لم تقتصرالأوبئة التي أصابت نصف الكرة الجنوبي بسبب الإمبريالية علىأ ولئك الذين يؤثرون بشكل مباشرعلى الناس. وصل الطاعون البقري إلى أفريقيا من قبل الماشية الهندية التي جلبها المستعمرون الإيطاليون إلى إريتريا في شرق أفريقيا في ثمانينيات القرن التاسع عشر. فانتشرت حتى جنوب أفريقيا، حيث كانت تسافرعبر طرق عربة الثيران، وتتحرك بسرعة 20 ميلاً في اليوم، فدمرت المجتمعات التي تعتمد على الماشية في الحليب واللحوم والجلود والروث للتدفئة والطبخ والقوة الدافعة أو كوسيلة للتبادل – فولفو، 1993. كان المرض كارثيًا؛ إذ توفي أكثرمن 5.2 مليون رأس من الماشية جنوب نهر زامبيزي. وكانت النتيجة مجاعة كبرى، وبعد ذلك، توغلت الأمراض في غاباتا لسافانا، مما خلق ظروفًا مثالية لذبابة التسي تسي، وجلبت طاعونًا جديدًا ألا وهومرض النوم - Chuang،2020؛ فانديربوش، 2010. 

31- ماكنيل، 1976، ص 185. وكارترايت وبيديس، 2004، ص 149.

32- دنهر، 2012، ص 57.

33- في إسبانيا، التي كانت محايدة في الحرب، كان للصحف حرية الكتابة عن تفشي الإنفلونزا، متجنبة الرقابة الموجودة في البلدان المقاتلة ما خلق الانطباع بأنه كان سيئًا للغاية هناك، وأسس لفكرة أن المرض كان من أصل إسباني. في إسبانيا أطلق عليها اسم “جندي نابولي”، بعد أن أصيب عدد كبير بالعدوى، ولاحقًا سميت بالفرنسية، انظر تريلا وآخرين، 2008. لايزال من غير الواضح أين نشأ التفشي بالفعل، حيث يدعي المؤلفون أنها ربما تكون الولايات المتحدة، أو النمسا، أو فرنسا، وغيرها.

34- دنهر، 2012، ص 60.

35- ليو وآخرون، 2918، ص 463.

36- انظر على سبيل المثال، موريس، كليري، وكلارك، 2017.

37- مونتو وسيلود، 2013. ص 24.

38- دايفز، 2006، ص ص 83-84.

39- دايفز، 2006، ص ص 43-44.

40- مونتو وسيلوود، 2013، ص 44- 45

41- لأسباب تتعلق بالمساحة؛ هذه نظرة عامة، على سبيل المثال، تفتقر لفيروس نقص المناعة البشرية «الإيدز» وجائحة زيكا.

42- والاس. 2016.

43- ديفيز، 2006، ص ص 83، 84.

44- تشانج، 2020.

45- شتراوس، 1998، ص ص 102-103

46- مورنز، دازاك وتوبنبرجر، 2020، ص 2.

47- لوي وتشاو، 2007.

48- والاس وآخرون، 2025.

49- والاس، 2020.

50- دهنر، 2012، ص 121. “السوق الرطبة”، وهومصطلح مشتق من هونج كونج الإنجليزية، هو ببساطة سوقي بيع سلع قابلة للتلف مثل اللحوم والأسماك، على عكس “السوق الجافة” التي تبيع منتجات مثل الملابس أوالسلع الإليكترونية. هذا المصطلح في التغطية الأخيرة يستخدم أحيانًا بطريقة انتقادية، للدلالة على أن عادات الطهي لدى الصينيين مسؤولة بطريقة أو بأخرى عن تفشي المرض. ومع ذلك، هناك الكثيرمن “الأسواق الرطبة” في أوروبا وأمريكا الشمالية. انظر سانت كافيش، 2020

51- دهنر، 2012، ص ص 120-121.

52- والاس، 2009، ص ص 923- 926.

53- ديفيز 2006، ص ص 58-62.

54- والاس، 2009، ص ص 921-922.

55- والاس، 2009، ص ص 921-921.

56- دهنر، 2012، ص 126.

57- دهنر، 2012، ص ص 125-126.

58- والاس، 2009، ص 918.

59- منظمة الصحة العالمية، 2020. تسبب سلالة ثانيةمن الإنفلونزا H7N9، في انتشار الأوبئة المتكررة في الصين، وحتى ديسمبر 2019، تم تأكيد 1568 حالة، و616 حالة وفاة، معظمهم من أولئكا لذين كانوا على اتصال بالدواجن، على الرغم من حالات نادرة أخرى لانتقال العدوى بين البشر. بولس وسوباراو، 2017.

60- والاس، 2009.

61- دهنر،2012، ص142.

62- انظر جودلي، 2010.

63- هو، وآخرون.

64- لين، 2001، ص ص 64-66

65- علي وكيل، 2006، ص ص 497-498.

66- دايفز، 2006.

67- ويلدر سميث، شو ولي، 2020.

68- بيري وآخرون، 2020.

69- هيرميدا وآخرون، 2017.

70- تشانج، 2020.

71- HSBC، 2018، فوربس 2020.

72- والاس، 2020.

73- ستاندايرت 2020.

74- علي وكيل، 2006، ص 500.

75- بيير وآخرون، 2020، ص 8.

76- بيانات IATA، وانج، يانج ووانج، 2019، ص5.

77- تشانج، 2020.

78- بيانات WTO.

79- يانج وهايل، 2020.

80- براور، رافال، شيبرد، ماير، 2020.

81- انظر، على سبيل المثال، توز، 2018، ص ص 202- 220.

82- روبرتس، 2020.

83- شونارا، 2017.

84- شونارا، 2018، ص ص 104-105.

85- بلندر، 2020.

86- إيدجكليف، جونسون، وآخرون، 2020.

87- بلندر، 2020.

88- روبرتس، 2020

89- زونج وموزر، 2020.

90- هذه، على أي حال، أسطورة. يعلق بيرجان إيفانز (1954، ص 77) على “أسطورة الكفاءة الفاشية”: “تم توظيف المؤلف كمندوب توصيل من قبل شركة فرانكو بلجيك للسياحة في صيف عام 1930، في ذروة حكم موسوليني، عندما كان يوجد حارس فاشي في كل قطار، ليقدم إفادة خطية مفادها أن معظم القطارات الإيطالية التي سافرعليها لم تكن في الموعد المحدد – أو قريبًا منه”.

91- يوان، 2020، عند ظهور نظام المراقبة الصيني القائم على وسائل التواصل الاجتماعي، انظر زوبوف، 2019، ص ص 388-394.

92- تشانج، 2020.

93- تشانج، 2020.

94- تشانج، 2020.

95- زونج وموزر، 2020.

96- مقتبس من زونج وموزر، 2020.

97- بيركلي وماير، 2020.

98- تاما، 2020.

99- بيرون، 2020.

100- باسكتر، 2020، ديل بانتا، 2020.

101- لاهت، 2020.

102- سكوت، 2020.

103- بوزيلي، 2020.

104- لاندلر، وكاسيل، ومولر، 2020.

105- ستيوارت، بروكتر، صديقي، 2020.

106- هورتون، 2020.

107- وارنر، 2020.

108- ستيورارت، وبوزيلي، ووالكر، وإليوت، 2020.

109- فيرجسون، وآخرون، 2020.

110- كنتيكلينس، 2017.

111- بيلنج، 2020.

112- نوردلنج، 2020، دايفز 2020.

113- بيانات منظمة الصحة العالمية.

114- إذا لم يقمع كوفيد- 19وأصبح دائمًا، كبقية مجموعة الأمراض المعدية التي تصيب البشرية، فقد تصبح “مناعة القطيع” مفيدة في نهاية المطاف. هذه هي الفكرة القائلة بأنه إذا أصبح بعض الناس محصنين ضد مرض ما، فإن هذا يبطئ انتشاره،عن طريق تقليل الأعداد التي يمكن أن تنقله. ومع ذلك، ما لم يتم تحقيق ذلك من خلال برنامج للتطعيم ضده، يجب أن يُنظر إليه على أنه نتيجة مروعة للفشل في وقف انتشارالمرض – وليس الهدف المعلن للحكومة.

115- ديليماتر وآخرون، 2019.

116- حتى في السيناريو الأكثر تفاؤلاً، يتنبأ نموذجهم بنحو ربع مليون حالة وفاة، فيرجسون وآخرون، 2020.

117- فيرجسون وآخرون، 2020، ص 16.

118- بوراني، 2020، فيرجسون وآخرون، 2020.

119- نيت، 2020، راو، 2020.

120- بيانات WERS، 2011.

121- أدامز، 2020.

122- سوشياليست وركر، 2020.

123- والاس، 2020.

124- تشير تقديرات إلى أن المنازل التي تركت فارغة مغلقة لفترة طويلة يصل عددها إلى 216000 منزل في إنجلترا، كوليوي، 2019.

125- GMB، 2020.

126-علي، وكيل، 2006، ص 51. دايفز،2006، ص ص 76، 77.

127- أودون، 2020.

128- بوراني، 2020.

129- كارترايت وبيديس، 2004، ص 29. شيرمان، 2007، ص ص 111-112. كروات، 2010، ص 125.

130- زيمر، 2020، كيو، 2020. يبدو أن بعض المسؤولين الصينيين ردوا بالادعاء بأن الوباء سببه الجيش الأمريكي. مايرز، 2020. وكذلك فعل فيكتور أوربان، الزعيم اليميني الراديكالي المجري، عندما ألقى باللوم على المهاجرين الإيرانيين في نشر كوفيد- 19.

131- والاس، 2020.


* نشر في العدد 166 من مجلة الاشتراكية الدولية (International Socialism)، ونشر على موقعها في 22 مارس 2020

http://isj.org.uk/socialism-in-a-time-of-pandemics/