المرايا

فينو

الباحثون عن عمل في دبي زمن الكورونا

2021.04.01

فينو

فينو

شارك عبر

ترجمة: عبد الرحيم يوسف

الباحثون عن عمل في دبي زمن الكورونا

القادمون إلى المجهول

في منتصف ديسمبر ٢٠٢٠، عاد صديقي (ت) إلى دبي من مصر على أمل استعادة عمله القديم أو الحصول على عمل جديد. ذهبت أنا وابن خاله لنستقبله في المطار.

كان (ت) قد غادر البلد في إجازة بدون مرتب منذ نهاية أغسطس، لكنه ظل بدون عمل منذ شهر أبريل. كان يعمل موظفا في خدمة العملاء في مطار دبي، وهي الوظيفة التي كان يجد فيها تحديا ومتعة، مثله في ذلك مثل كثير من زملائه السابقين الذين سأتعرف عليهم لاحقا. هؤلاء العاملون في الأمن والاستقبال وخدمة العملاء وغيرها من الأدوار الشبيهة، كانوا ينتمون إلى قوة عمل خدمية عمالية كبيرة تدير واحدا من محاور الطيران العالمية. منحتهم طبيعة عملهم إحساسا بالعالمية بسبب احتكاكهم مع مختلف أنواع المسافرين، والمهارات التي اكتسبوها والتي فاقت الوضع المالي والتعاقدي لعملهم.

لسوء حظ (ت) وزملائه، أصبح الطيران هو القطاع الأشد تأثرًا على نحو فادح بسبب جائحة كورونا. عندما خضعت الإمارات العربية المتحدة لإغلاق كلي لمدة ثلاثة أشهر في أواخر مارس ٢٠٢٠، أُغلق المطار بأكمله. وعندما أعيد فتحه أخيرا في الصيف، عادت عمليات التشغيل على نطاق محدود للغاية. حتى يوليو، عاش (ت) بلا دخل في سكن الشركة، حيث كان عقد عمله مستمرا، لكنه بلا عمل ولا مال. اعتمد هو وزملاؤه على التبرعات الخيرية الخاصة في الحصول على الطعام. في يوليو، غادر (ت) سكن الشركة الفارغ على نحو مخيف؛ ذلك السكن الذي كان فيما مضى يأوي أكثر من ألف شخص، ولكن في النهاية، لم يبق إلا ثمانون شخصا، وانتقل إلى حجرة خاصة حيث سمح له صديق من قريته بالإقامة مجانا. قرب نهاية أغسطس منحته الشركة إجازة بدون مرتب، وعاد على متن طائرة إلى مصر.

بحلول ديسمبر، بدأ يعاد فتح خطوط الطيران تدريجيًّا من أجل الموسم السياحي الشتوي، ومع ذلك كانت اثنتان فقط من صالات المطار الثلاث هما العاملتان، وكان أغلب عمال المطار السابقين ما زالوا خارج العمل. في الوقت نفسه، كان المزيد والمزيد من بين هؤلاء الذين غادروا الإمارات خلال الربيع أو الصيف يعودون إلى دبي طالما أن تصاريح إقامتهم ما زالت صالحة، على أمل العثور على عمل.

كانت الخطة (أ) بالنسبة له هي أن تستدعيه شركته إلى العمل من جديد في حالة استئناف عمليات التشغيل في المطار. وكانت خطته (ب) أن يجد عملا في شركة أخرى، ويُفضَّل أن يكون هذا في المطار؛ لأنه كان العمل الذي يعرفه ويفضله. أما في أسوأ الحالات كانت خطته (ج) أن يحصل على مكافأة نهاية خدمته من صاحب عمله، وهي المكافأة التي ستكون كافية فقط لسداد ديونه، والعودة إلى مصر. كان تصريح إقامته سينتهي في منتصف فبراير، وبعد ذلك تتبقى لديه فترة سماح قدرها ثلاثون يوما. كان ذلك هو كل ما لديه من وقت.

في العقد الأول من الألفية الجديدة، أصبحت الإمارات العربية المتحدة أول دولة خليجية تسمح للباحثين عن العمل بالوصول بتأشيرات سياحية، والتي كان بمقدورهم تحويلها إلى تصاريح إقامة بمجرد عثورهم على عمل. وقد أصبحت التأشيرات السياحية سبيلا متزايد الأهمية بالنسبة للمغتربين على كافة مستويات الدخل، رغم النفقات المدفوعة مقدما للسفر، والسكن، وتكاليف المعيشة، والتي تتجاوز بسهولة المصاريف التي كان يجمعها وكلاء العمل. في الوقت نفسه، يسَّرت الإمارات قواعد الكفالة. اليوم، يمكن للشركة التي تتعاقد مع أحدهم أن تعمل هي نفسها ككفيل، ونقل الكفالة لم يعد معتمدا على عطف الوكيل وحسن نيته، بل أصبح إجراء إداريا روتينيا - مقابل رسوم.

تسببت جائحة كورونا في زيادة مفاجئة في إضفاء الطابع النيوليبرالي على سوق العمل منذ أوقفت الإمارات إصدار تأشيرات العمل من الخارج في مارس ٢٠٢٠ (باستثناءات قليلة) بشكل مؤقت حتى نهاية الجائحة. الطريقة الوحيدة للحصول على تصريح إقامة اليوم هي أن يجري توظيف المرء داخل البلد وعن طريق صاحب العمل المأمول مباشرةً. في خريف ٢٠٢٠، عندما بدأ النشاط الاقتصادي في التعافي، نتج عن عدم توافر تأشيرات العمل نقص متزامن في الوظائف والعمل. كان عدد لا حصر له من الناس خارج العمل، أغلبهم عالق في أوطانهم الأصلية، تنقصهم الوسيلة أو غير راغبين في المجازفة بالعودة. في الوقت نفسه، كانت هناك شركات متلهفة على إيجاد موظفين ما كان باستطاعتهم أن يتعاقدوا معهم إلا داخل البلاد. يتيح هذا فرصة لهؤلاء الذين لديهم الموارد الكافية لأن يكونوا هناك، وخاصةً هؤلاء الذين ما زالت لديهم تصاريح إقامة صالحة يعودون بها إلى دبي. لكن هذا أيضا يجلب معه مخاطرات ومخاوف جديدة.

سرعان ما اضطر (ت) إلى التخلي عن خطته (أ) الخاصة بالعودة إلى وظيفته القديمة. بعد بداية واعدة للموسم السياحي في ديسمبر، اتضح في يناير بالفعل أن عمليات التشغيل لن تستعيد عافيتها أكثر من ذلك لفترة. وبالتالي بدأ يتقدم لكل وظائف خدمة العملاء التي كانت معروضة، مقدما سيرته الذاتية إلى نظم التقديم (أون لاين) ومتواجدا في المقابلات الشخصية أينما أمكنه ذاك. كانت الجهة رقم واحد على قائمته شركة منافسة في المطار. وكان كثير من زملائه قد ذهبوا إلى هناك. دُعي إلى مقابلة شخصية في مقر سكن الشركة، وذهبتُ معه. عُرضت عليه الوظيفة بالفعل، لكن الزملاء هناك حذروه من أن أجر العمل لوقت إضافي لم يكن يتم الحصول عليه بسبب جداول الورديات غير المنتظمة، وقالوا أيضا إن السكن نظيف لكن به قيود مزعجة: لا توجد مطابخ، وغير مسموح للعاملين بقضاء الليل خارج السكن، وإذا تركوه لأكثر من ثلاث ساعات في النهار، عليهم تقديم اختبار (بي سي آر) سلبي. وكانت نصيحتهم هي: «دوَّر، ولو ما لقيتش أي حاجة تانية، تعال هنا.»

كان قد تلقى بالفعل عرضا أفضل، كموظف خدمة عملاء في شركة متعهدة، عاملا من مكتب حكومي، لكنه لم يكن واثقا في الأمر. كان نوعا جديدا من ملفات العمل، ولم تشمل الوظيفة سكنا ولا مواصلات. كان المرتب أفضل، لكن لم يكن بمقدوره أن يعرف إلى أي حد هو أفضل؛ لأنه كان يعتمد جزئيا على العمولات المكتسبة من تعاملات العملاء. وجد (ت) في الموضوع عبئا لا يمكن تحمله من المجهولات. لعله لم يكن ليضعه ضمن اختياراته، لولا الأقارب والأصدقاء العاملين في وظائف الطبقة الوسطى في منطقة دبي الحضرية، الذين قالوا له إنها وظيفة أفضل بكثير من وظيفته في المطار. ورغم ذلك، كان مترددا. اتصل بصديق محامٍ أكد له أن العقد الذي قُدم له غير محدد المدة بالفعل، وأنه يستطيع ترك العمل مرة أخرى دون غرامات تعاقدية. بدأ البحث عن مكان للنوم في سكن مشترك، وهو يحسب نفقات الانتقالات ومسافات السير من محطة المترو -في حرارة الصيف، مسافات السير مسألة لها أهميتها الكبرى- ومعدلات الأسعار في محلات السوبرماركت، وملأ صفحات من الورق بالحسابات. قدَّر أنه خلال الشهور الستة الأولى، ستكون مدخراته الصافية أقل منها في المطار، لكن بعد ذلك سيتحسن الوضع. عندئذ اتصلت به الشركة وسألته إن كان يستطيع البدء في العمل خلال يومين. اشترى بدلة (من متطلبات العمل، وتمثل تكلفة إضافية) وبدأ العمل.

أقر (ت) لي وللآخرين بأنه شعر بالتردد لأنه لم يكن قط باحثا عن وظيفة من قبل. في مصر كان موظفا حكوميا يحصل على مرتب ضعيف. وسفريات عمله السابقة إلى الخليج نظمها وكلاء عمل في مصر؛ حيث كان يصل ومعه عقد وتأشيرة، ويعود إلى مصر في نهاية عقده. وقد ذكر لي بالتفصيل ما ساهم في إثارة الضغط الهائل الذي شعر به: أولاً الموقف الجديد تاريخيا الذي أحدثته كورونا، ثانيا أنه أصبح باحثا عن عمل للمرأة الاولى في حياته، ثالثا أنه قبِلَ وظيفة في قطاع لم يعمل به من قبل، رابعا أنه ينتقل للمرأة الاولى إلى سكن ليس بمثابة مخيم للشركة ولا يديره صديق من القرية.

(ت) سريع التعلم، ويبدو أنه سيتفوق قريبا وينجح في عمله الجديد. ومع ذلك لو كان لديه الخيار، لم يكن ليترك وظيفته في المطار، ولا كان ليترك وظيفته ذات المتطلبات الأقل والمرتب الأفضل والتي كان يعمل بها في أبو ظبي من عام ٢٠١١ إلى ٢٠١٣. كانت تلك الوظيفة تقدم له أفضل أجر حصل عليه في حياته: ٣٥٧٠ درهم مع السكن وتوفير وجية واحدة يوميا، مقارنةً بوظيفته في المطار حيث كان يحصل على ٢٥٠٠ درهم بالإضافة إلى ٥٠٠ درهم شهريا تقريبًا وفقا لمقدار العمل لوقت إضافي، مع توفير السكن (يساوي الدرهم الإماراتي ٤.٢٨ جنيها مصريا [بسعر الصرف في بداية مارس ٢٠٢١ وقت ترجمة المقال -المترجم]). أما العقود الجديدة للشركة المنافسة في المطار فتعرض مرتبا يبلغ ٢٢٠٠ درهم فقط (في أعقاب تخفيض واسع النطاق للمرتبات بنسبة ٢٠-٢٥٪ في الإمارات بسبب الجائحة في عام ٢٠٢٠)، ومقابل العمل لوقت إضافي لا يتم دفعه حاليا. تأتي وظيفة (ت) الجديدة بعمولة على تعاملات العملاء فوق مرتب قدره ٢٥٠٠ درهم (يرتفع ليصبح ٣٠٠٠ بعد ستة أشهر)، لكنه لا بد أن يدفع مقابل سكنه ومواصلاته. من المحتمل أن توفر له هذه الوظيفة أعلى أجر له حتى الآن، لكن حتى في هذه الحالة ربما يتمكن من توفير مبلغ أقل مما كان يمكنه توفيره في أبو ظبي منذ عشرة أعوام بسبب تكلفة المعيشة الأعلى. وبالتالي لدى (ت) أسباب وجيهة كي يبقى شاعرا بالحنين إلى تلك الأيام الطيبة الخوالي؛ أيام تأشيرات العقود، والشروط الخاضعة للنظام، والمرتبات الشهرية المتوقعة.

شركة سياحية تبيع الحرية

خلال النصف الثاني من فترة إقامتي، عشت في سكن مشترك أغلبه رجال مصريون في عجمان، والتي تعد فعليا امتدادا وضاحية لتجمع دبي العمراني. عجمان أرخص، وأكثر شعبية، مليئة بالحيوية وصالحة للعيش، وبها نسبة أكبر بكثير من المغتربين العرب عن دبي، لكن بدون النظام الإسلامي المحافظ للآداب العامة الذي يميز الشارقة باعتبارها المقابل ذا التوجه العائلي والأكثر عروبية لدبي التي يهيمن عليها مبدأ اللذة والجنسيات الجنوب آسيوية. ثلاثة من زملائي في السكن كانوا يعملون في ورشة سيارات متخصصة، بينما كان كل الباقين باحثين عن عمل، وكان هناك بعض التذبذب بين أشخاص قادمين وأشخاص ذاهبين.

واحد من المشتغلين في الورشة هو (ب). يعيش في عجمان منذ عام ٢٠١٣، بينما تعيش زوجته وطفلاه في قريته الأم في مصر. كان هو زعيم الحجرة: فهو يحتفظ بالعقد مع صاحبة البيت (التي تؤجر الشقة ذات حجرات النوم الثلاث حجرةً حجرة لمصريين وإثيوبيين وسودانيين وآخرين من غرب أفريقيا يتشاركون المطبخ والحمَّامات وتربطهم علاقات ودية أحيانا ومتوترة غالبا) ويجمع الإيجار من ساكني الحجرة. هو في الأصل من نفس قرية (ت)، وحجرته أول محطة توقف متاحة للأشخاص القادمين من القرية بعد وصولهم بحثا عن عمل. عاش (ت) في حجرة (ب) لمدة ثلاثة أسابيع إلى أن انتقل إلى سكن قريب من عمله الجديد في دبي. في الوقت نفسه، استمر آخرون في الوصول، جميعهم متوترون ومؤرقون، كما كان (ت) وقت وصوله.

أولهم بترتيب الوصول كان (ن) من مدينة في دلتا النيل، حيث جاء في منتصف ديسمبر؛ لأن دخله كسائق خاص في مصر لم يعد يمكِّنه من إعالة أسرته. كان يبحث عن أي عمل. لكن كان من الصعب العثور على شيء. عاد من موقع بناء في أبو ظبي بعد ثلاثة أيام لأن السكن كان مزدحما للغاية وسيئا حتى أنه لم يتمكن من النوم. وثمة عمل آخر في موقع بناء في عجمان احتاجه فقط لمدة يومين ليحل محل عامل غائب، وبعد ذلك لم يعد بحاجة لخدماته. بعد بحث طويل، تلقى عرضا كمساعد في موقع بناء آخر، لكنه كان بحاجة إلى تأشيرة خاصة به. انتهى به الأمر إلى الاستدانة وتسديد مبلغ كبير من المال كي يحصل على تصريح الإقامة بعقد وهمي عبر شركة سياحة.

لم يكن (ن) الشخص الوحيد الذي يتعامل مع شركة سياحة. وصل (ف) من قرية (ت) في بداية يناير، ولديه نقطة بداية أفضل. كان يمتلك معرضا للسيارات في المنطقة الريفية التي جاء منها، لكنه أصبح مدينا في أعقاب صراع مرهق ومدمر على الميراث، وفي النهاية باع جزءا من مشروعه وسيارته الخاصة ليسدد ديونه، وسافر إلى دبي بتأشيرة سياحة لمدة ثلاثة شهور. في الوقت الذي يبحث فيه (ت) وزملاؤه السابقون في المطار وكذلك (ن) عن عمل بمرتب ثابت، يسعى (ف) لصنع بداية جديدة بالعمل الحر، أولا كسائق وبعد ذلك كتاجر سيارات مرة أخرى كما يأمل. هذا طريق يتطلب فترة أطول من الاستعداد والبحث، وتكاليف أعلى. كثير من الآخرين لا يستطيعون تحمل هذه التكلفة - من بينهم (ن) الذي عمل كسائق في مصر، لكنه على الأقل حاليا غير قادر على تحمل تكلفة رخصة القيادة في الإمارات. كانت خطوة (ف) الأولى هي الحصول على تصريح إقامة خاص به. في الإمارات، ترتبط تصاريح الإقامة بعقود العمل (مع قليل من الاستثناءات لذوي الامتيازات)، لكن (ف) كان بحاجة لتصريح إقامة يسمح له بالعمل حرا. بعد حصوله على تصريح، يمكنه القيام بالدروس النظرية واختبار القيادة من أجل رخصة سائق في الإمارات لأن رخصته المصرية غير معترف بها هنا. وأتى به هذا إلى شركة السياحة نفسها.

لكن كيف انتهى الأمر بكل من (ن) و(ف) إلى هذه الشركة في المقام الأول؟ كان هذا بفضل (د) من المغرب، الساكن الوحيد غير المصري في حجرتنا المشتركة. وصل (د) إلى دبي منذ أكثر من عام بهدف الحصول على وظيفة جيدة بمرتب جيد، واستخدام هذا كأساس لطلب تأشيرة سياحية إلى كندا والولايات المتحدة. لكن كوفيد-١٩ تدخل، وقد قضى ما يقرب من عام بلا عمل تقريبًا، لكنه يملك تأشيرة إقامة تعرِّفه كمدير في شركة - في الحقيقة نفس الشركة التي اصطحبنا إليها في زيارة ذات أصيل في منتصف يناير.

استقبلتنا (ج)، وهي امرأة مصرية ودودة ومرحة في الثلاثينيات من عمرها، شرحت لنا الصفقة. مقابل مقدم قدره ٤٠٠٠ درهم، ومبلغ آخر قدره ٥٠٠٠ درهم يُسدد على أقساط على مدى أربعة شهور، تقدم شركتها عقدا وهميا (توفره شركة تبيع حصتها غير المستخدمة من تصاريح العمل إلى شركة السياحة) وتصريح إقامة لمدة عامين. تعمل الشركة ككفيل لعملائها، وبنبرتها المحترفة كمسؤولة مبيعات أوضحت (ج) أنهم يقومون بكل العمل الإداري الذي يحتاجه العميل، ويعتنون به، وكلما احتاج موافقة الكفيل على شيء ما ستوافق الشركة دائمًا. تُسمى هذه الخدمة «التأشيرة الحرة»؛ وربما ينطبق هذا على ثمنها أيضا، حيث يصل إلى أكثر من ضعف تكلفة تصريح الإقامة العادي.

بالكاد تمكن (ن) من تحمل كلفة هذه الخدمة، لكن عرض العمل الوحيد الجاد الذي تلقاه تطلب منه ترتيب أمر تصريح إقامته. لذا لم يكن أمامه اختيار غير الموافقة على دفعة أولى وأقساط شهرية تسمح له بالأكل والشرب طوال الشهور الأربعة التالية، لكن بقية مرتبه ستذهب لسداد ثمن التأشيرة. ليس قبل نصف عام من وصوله يمكنه توقع أن يرسل أي أموال إلى زوجته في مصر. أخبرته (ج) أن المرتب البالغ ٢٠٠٠ درهم والمعروض عليه في وظيفته المأمولة سيكون قليلا جدا بالنسبة لتأشيرة حرة. ونصحت بأن يبقى في تلك الوظيفة فقط حتى يجد عملا أفضل. وذكَّرتنا قائلة: «ودي ميزة التأشيرة الحرة: الحرية.»

مثل هذه التأشيرات يعلَن عنها في وسائل التواصل الاجتماعي وفي لافتات ملصقة على نواصي الشوارع، وعليها طلب كبير لأنها تحرر المرء من المآزق التي غالبا ما تنشأ حين يكون صاحب عمل المرء هو أيضا الكفيل وبهذه الصفة يمكنه أن يسبب مشاكل مختلفة وتسويفات. بالنسبة للبعض، مثل (ف) الذي يريد أن يصنع بداية جديدة كتاجر سيارات، تقدم هذه التأشيرات فرصة مثالية. لكن بالنسبة لآخرين، من بينهم (ن)، التأشيرة الحرة ضرورة باهظة الثمن في غياب طرق قانونية للحصول على عقد بتأشيرة. وتضيف بهذا عبئا إلى حِمل ثقيل بالفعل على أكتاف رجال يرون دورهم وقيمتهم الأساسيين في قدرتهم على فتح بيوتهم، وبناء مستقبل لأطفالهم.

وصل (أ) -وهو أيضا من قرية (ت) وصديق له- في بداية يناير، في رحلة ترانزيت أصلا. كانت خطته أن يقضي أسبوعين هنا ثم يكمل طريقه إلى الكويت؛ لأن الكويت حظرت السفر المباشر من مصر، لذا لا بد أن يقضي المسافرون القادمون من مصر ١٤ يوما في دبي. ومع ذلك، أعجبته دبي على الفور بشكل أكبر بكثير وقرر أن يبقى. دعمت هذا القرار حقيقة أن رحلة الطيران إلى الكويت باهظة الثمن للغاية، كما أن الموقف بالنسبة للعمل في الكويت لا يبدو أفضل بحال من الأحوال، وعليه أن يتوقع ١٤ يوما من الحجر الصحي لدى وصوله. والكويت، على عكس دبي، لا تظل مفتوحة ومرحبة بالزوار في منتصف الجائحة. بدلا من ذلك، تفعل كل ما بوسعها لتمنع انتشار الفيروس. وهذا يجعل الدخول إلى الكويت صعبا ومكلفا. بالمقارنة فإن البقاء في المنطقة الحضرية لدبي سهل، بتأشيرة سياحية يمكن إما تجديدها أو تحويلها إلى تأشيرة عمل مقابل رسوم. لكن سرعان ما تلقى (أ) قدرا كبيرا من الإحباط عندما أدرك أنه في عروض العمل القليلة في المطاعم (مجال عمله) التي تمكن من العثور عليها، كانت المرتبات منخفضة، والسكن باهظ الثمن، والتكلفة العامة للعيش في منطقة دبي الحضرية أعلى منها في الكويت. «في البلد دي تقدر تعيش.. لكن ما تقدرش تحوِّش فلوس هنا.» هكذا علق قائلا لي، مشيرا إلى جودة دبي كمكان حيث يفضل كثير من المغتربين تأسيس أسرة والعيش لمدة طويلة إذا أمكنهم ذلك، بالرغم من ذلك، أجبرته الضرورة المالية على البقاء، لكنه يواجه ضغطا كبيرا بعد رفضه العمل في مطعمين كانا في نظره يعرضان أجرا بائسا لا يكفي لإعالة زوجته الحامل وابنه الذي سيصل إلى سن الدخول إلى المدرسة قريبا في القرية بمصر.

اعترض (ب) على ما رآه انتقائية من (أ) وأنه من الصعب إرضاؤه، قال: «البلد دي أولها قرف.» في رأيه، أي قادم جديد في مستوى الطبقة العاملة في دبي لا يملك خيارا غير قبول أي عمل متاح، ثم يترقى في العمل ببطء. زميله (س) وافقه في رأيه بعبارات شبيهة، وزعم أن القدرة على تحمل العمل الشاق في ظل ظروف قاسية علامة على الرجولة: «ماينفعش تتكبر على أكل عيشك، لازم تبقى راجل في الموقف اللي إنت فيه.» عملهم شاق ومضنٍ. (ب) هو رئيس العمال في فريق من اللحامين، وفي نهاية اليوم تكون عيناه حمراوين من النظر إلى ألسنة لهب اللحام - ليست ألسنة لهب لحامه هو؛ فتلك يراها عبر نظارة واقية، لكن تلك المحيطة به التي يراها كلما أدار رأسه. يتركون السكن في السابعة صباحا ويعودون ما بين السابعة والتاسعة مساء، متعبين وجوعى، وعادة ما يسقطون نائمين بسرعة قبل منتصف الليل، على عكس الباحثين عن عمل الذين يميلون إلى السهر حتى وقت متأخر والنوم حتى الظهر. لكن العمال محظوظون لأنهم لا يضطرون لمواجهة القلق الذي يلاحق الباحثين عن العمل الذين لا يعرفون إن كانوا سيجدون عملا في النهاية ومتى وكيف. عمل سيوفر لهم ما يكفيهم.

الباحثون عن العمل الذين قابلتهم كانوا يقومون بمجازفات مالية كبرى ليحققوا أهم مؤشر للرجولة في مجتمع أبوي: أن يكونوا قادرين على توفير «أكل عيش» أُسرهم. يُرى هذا على أنه دور ذكوري بصفة حصرية، وحتى في الوقت الذي تعمل فيه نساء مصريات كثيرات بالفعل ويقمن بإعالة أسرهن في الحقيقة، إلا أن القيمة الأخلاقية لدور العائل الذكر لها مكانة عالية، ويراها الكثيرون كفرض ديني. أن تكون باحثا عن العمل في دبي في زمن الكورونا فرصة لأن تثبت نفسك كرجل، كي توفر أكل العيش حتى خلال الأزمة. لكنها تحمل أيضا خطر الفشل الذي سينتج عنه انعدام أي دخل لأسرة المرء، وأن تعتمد زوجته على أهلها، وألا يملك أطفاله المال اللازم لمصاريف المدارس أو الدروس الخصوصية. إنه خطر الموت الاجتماعي كرجل، وهو خطر يلوح كمارد أمام الرجال الذين قابلتهم. كلهم تحدثوا عن القلق العاطفي والتوتر العصبي، وعانوا من نوم سيء (على عكس هؤلاء العاملين الذين كانوا ينامون مبكرا). أن يكونوا غير قادرين على العمل وتوفير أكل العيش حالة تعذبهم بطريقة نادرا ما يمكن للعمل الشاق أن يفعلها.

«الكورونا دي حتنتهي إمتى؟»

خلال الشهر الأول من بحث (ت) عن عمل في دبي، بدا فيروس كورونا كشيء قد حدث في الربيع الماضي. لعلنا كنا سننساه تمامًا لولا الكمامات الإجبارية والنقص المستمر في الوظائف بالمطار. كانت دبي قد اختارت أن تبقى مفتوحة، في حماية نظام الكمامات والتباعد الاجتماعي. ومع ذلك، كان النظام متسيبا نسبيا. فقد ظلت الكافيهات والمطاعم والبارات والمحلات مفتوحة (باستثناء تلك التي أفلست خلال فترة الحظر أو بعدها، وكثرتها تثير الرعب). أغلب الناس يعيشون في سكن مشترك حيث يتعاملون عن قرب. في المسكن الذي أقمت به، وفي مساكن أخرى زرتها، التباعد الاجتماعي مستحيل. ثمانية رجال يتشاركون غرفة - وهذا ترتيب رحب؛ فالغرفة كبيرة ويمكنها بسهولة أن تؤوي خمسة عشر فردا، بل وعشرين. وكان تناول الوجبات المشتركة من أطباق مشتركة أسعد اللحظات العاطفية اليومية التي لم نكن على استعداد للإقلاع عنها. في مترو دبي، وهو أسرع وسيلة مواصلات في المدينة وأكثرها كفاءة، نصف المقاعد فقط مستخدمة للحفاظ على التباعد بين الركاب، لكن الركاب يقفون كتفا بكتف في القطارات ساعة الذروة. وقد دعا هذا البعض إلى التعليق مازحين بأنه من الممكن فقط أن تصاب بكورونا وأنت جالس، لا واقفا.

ومع ذلك، فإن محاولة دبي للحفاظ على الانطباع الذي تقدمه عن نفسها كجزيرة الأوضاع الطبيعية بالتحكم الجيد في الموقف كانت محاولة ناجحة، لأنها كانت شيئا رغب فيه أغلب الناس في المدينة أيضا. فقد كانت لديهم الرغبة والحاجة الملحة لأن يسير العمل كالمعتاد. ولكن قبل رأس السنة تمامًا، قفزت بسرعة أعداد الإصابات -التي كانت قد ظلت مستقرة على نحو إعجازي طوال ما يقرب من شهرين- واستمرت في الصعود سريعا. قبيل النصف الثاني من يناير، أصبح واضحًا على نحو متزايد أن استراتيجية دبي في البقاء مفتوحة اعتمادًا على الكمامات والتباعد نتج عنها موجة جديدة للجائحة على نحو متزايد وخارج السيطرة.

ذات يوم في أواخر يناير، ذهبنا أنا و(ت) وزميله السابق (و) إلى مقابلة شخصية مفتوحة من أجل وظيفة إدخال بيانات في مستشفى خاص. رغم أن (ت) حظي بعمل جديد، إلا أنه لم يشعر بالأمان فيه. كان ما زال في فترة اختبار، وما زال بإمكان الشركة أن تفصله بين يوم وآخر. لذلك، قرر أن يستمر في البحث عن بدائل حتى نهاية فترة اختباره. بعد الوصول بالأوتوبيس من عجمان حيث كنا قد قضينا عطلة نهاية الأسبوع، ذهب (ت) إلى سكنه في حي ديرة بدبي ليغير ثيابه ويرتدي بدلته من أجل المقابلة، وعاد بخبر فاجع. واحد من زملائه في الحجرة خرجت نتيجة فحصه إيجابية بكورونا (في عمله، كان مطالبًا بإجراء التحليل بانتظام). كان الزميل المصاب وحده في حجرته، والسكان الخمسة الباقون للغرفة لا يعرفون أين يقضون الليلة، خائفين من أن يخضعوا للحجر الصحي هم كذلك.

في الليلة السابقة، تلقينا مكالمة هاتفية من (هـ)، ابن الخال الذي أقلَّ (ت) من المطار عند وصوله. كان تحليله قد تبينت إيجابيته للتوّ. لديه وظيفة آمنة، ودخل جيد، وشقة فسيحة سمحت له بالذهاب لإجراء التحليل عندما شعر بالتعب، والبقاء في حجرة وحده طوال مدة الحجر الصحي؛ وهي الموارد التي يفتقر إليها آخرون كثيرون في دبي. قال (ت): «إمبارح بس، كنت باسأل نفسي حيحصل إيه لو حد في سكن مشترك جاتله كورونا، وآهي حصلت دلوقت!» لحسن الحظ عرض عليه صديق سكنا مؤقتا لبضع ليال، وتمكن من الحصول على بعض متعلقاته الشخصية من سكنه، رغم أن صاحبة الشقة حاولت أن تقنعه بأنه لا ينبغي أن يقلق بما أن: «دبي كلها كورونا.»

في تلك الحالة المروعة والقلقة التي أثارها هذا المنعطف للأحداث، وصلنا إلى المستشفى الخاص الذي بدا ذا جودة عالية. هناك، أوجز لنا موظف في قسم الموارد البشرية عرض العمل: إدخال بيانات للقاحات كورونا، دوام جزئي: ٣×١٢ ساعة في الأسبوع، ٢٥٠٠ درهم مع تأشيرة لكن دون سكن، مع مواصلات من المستشفى الرئيسي إلى موقع العمل في ضاحية نائية. كانوا يبحثون عن موظفين يمكنهم البدء فورا. سألنا: «فورا؟» فأجاب موظف الموارد البشرية: «نعم، غدا.» وذكَّرنا بأنه عرض جيد لأن كثيرا من الناس يبحثون عن العمل، ووضع كورونا يزداد سوءا بسرعة. وذكر أيضا أنه لو أثبت المرء نفسه في الوظيفة، قد يكون هذا طريقا إلى الحصول على وظائف أخرى بأجر أفضل في المستشفى. كان قرار (ت) و(و) برفض العرض - (ت) لأن وظيفته الحالية أفضل، و(و) لأنه كان يأمل في العثور على وظيفة على مدى أطول: «أنا راجل متجوز، ما أقدرش أتحمل المغامرات.» فيما بعد، بينما كنا نشرب الكرَك -وهو شاي على الطريقة الجنوب آسيوية بالحليب والتوابل، رخيص جدا وشائع في منطقة الخليج- عند كشك شاي، ذكَّره (ت) بأن انتظار عرض أفضل فيه من المغامرة مثل ما في قبول وظيفة مؤقتة.

بعد يومين فقط، فُرض الحجر الصحي على اثنين من زميلات (ت) في العمل بعد أن ثبتت أيضا إيجابية فحصهما. بدأ يخشى إغلاقا كليا جديدا، وأصبح همه الأساسي الحصول على عقده الجديد وتصريح إقامته في أسرع وقت ممكن ليكون على الأقل في الجانب الآمن بعض الشيء.

في نفس توقيت هذه الأحداث تقريبًا، بدأت وسائل الإعلام العالمية الحديث عن الأعداد المتزايدة للإصابات في دبي. خاطبت هذه الوسائل بالأساس الجانب المرفه من الجائحة: السياح الغربيون الذين يقضون وقتا طيبا في المنتجعات الشاطئية والبارات والملاهي الليلية. بهذه الطريقة، أعادت إنتاج صورة دبي العامة عن نفسها كمدينة رفاهية ومتعة عصرية. ردت دبي بمزيد من القيود في المواقع السياحية والترفيهية: مسافات أكبر بين الطاولات وحظر الفعاليات الترفيهية الحية في البارات والمطاعم. مثل هذه الإجراءات يمكن اتخاذها دون التسبب في ركود اقتصادي آخر قد لا يصمد في مواجهته اقتصاد دبي المتقلب. لكن كيف يمكن توفير التباعد في مدينةٍ يسكن معظم سكانها في غرف وشقق مشتركة. خلال الوقت الذي عشته في الغرفة المشتركة في عجمان مع ٧ إلى ٨ رجال آخرين، شخصان فقط (وأنا من بينهما) قاما بتحليل كورونا، وقمنا به كي ندخل أبو ظبي (التي يمكنها بسبب ثروتها البترولية تحمل نظام تحكم في كورونا أكثر تقييدا من دبي). أصيب العديد من المقيمين بالبرد خلال يناير، وفقد واحد أيضا حاستيّ الشم والتذوق لمدة يومين؛ لكن أحدا منهم لم يقم بإجراء التحليل، لأنهم كانوا أكثر خوفا من عواقب تحليل إيجابي سيعترض طريق بحثهم عن عمل، بل ويجعلهم يفقدون دخلهم أو سكنهم. كيف يمكن تحفيز العاملين المغتربين على إجراء التحليل والعزل الذاتي في ظل مثل هذه الظروف؟

كان رهان دبي، وهو رهان بالفعل، أنها ستتمكن من تطعيم ما يكفي من سكانها قبل أن تخرج الجائحة عن السيطرة. وتهدف الإمارات إلى تطعيم أكثر من نصف تعداد سكانها قبيل مارس. لتحقيق هذا، اختارت لقاح سينوفارم المتاح والقابل للتخزين بسهولة، بينما لقاح فايزر-بيونتيك متاح فقط حتى الآن للعاملين في الرعاية الصحية والأشخاص المهمين. لقد استثمرت الإمارات بقوة في لقاح سينوفارم، الذي جرى اختباره أيضا هنا. ولم تُعرض البيانات الخاصة باختبارات سينوفارم بعد على الجمهور، ولهذا ليس من الممكن معرفة إن كانت نسبة الوقاية التي تصل إلى ٨٦٪ -والتي يقال إنه يملكها- صحيحة. على كل الأحوال يبدو أن حملة اللقاح الواسعة والسريعة نجحت في وقف موجة الوباء الثانية، وبدأت أعداد الإصابات والوفيات أن تقل شيئا وشيئا منذ شهر فبراير بعد أن زادت بشدة في يناير.

إلا أن أحدًا في مسكني لم يذهب لتلقي التطعيم حتى نهاية يناير بسبب الشك المنتشر نحوه. (لكن من المحتمل أن يتغير هذا فيما بعد؛ لأن أصحاب العمل بدأوا يطالبون العاملين لديهم على نحو متزايد بأخذ التطعيم). ومع ذلك من المفارقات أن دبي ربما تكون اكتسبت وقاية عبر جيوب من مناعة القطيع التي يبدو أنها ظهرت بشكل غير ملحوظ إلى حد كبير وسط العاملين. لأن العاملين أغلبهم من الشباب والأصحاء (ثمة اختبار طبي كشرط مسبق لتأشيرات العمل، ونادرا ما يتمكن المغتربون المتقاعدون من تحمل البقاء)، فإن عددًا أقل من الأشخاص يموتون أو تتطور لديهم أعراض حادة مقارنة بأي مكان آخر. يمكن لطابق كامل في عمارة سكنية أن يصاب بالمرض دون ملاحظة السلطات، طالما أن أحدا لا يجري تحليلا ولا يحتاج إلى البقاء في المستشفيات. في الشركة التي كان (ت) يعمل بها قبل الإغلاق الكلي، مرض الجميع تقريبًا في سكن الشركة بأعراض مشابهة لكورونا في مارس ٢٠٢٠. في الحجرة المشتركة التي عشت فيها، خمسة من سكانها الثمانية ربما أصيبوا بكورونا خلال الخريف، ثلاثة منهم عندما مرض جميع من في الشقة في أكتوبر، واثنان (من بينهما أنا نفسي) قبل الوصول هنا.

كان زملائي في الغرفة مهتمين بمعرفة ما سأكتبه عن لقائي بهم، وفي واحدة من أمسياتي الأخيرة في عجمان، اجتمع أربعة منهم معي في الغرفة، وقدمت لهم ترجمة عربية مرتجلة لمسودة أولى من هذا المقال. قدموا لي ملاحظات جيدة ومفيدة، وبعد ذلك قررنا أن نتسكع قليلا. تجولنا في شوارع منطقة حديثة البناء، وتوقفنا مرتين لنشرب الكرك عند كشك شاي، متحدثين عن خطط للمستقبل، وتكاليف الإسكان، ورخص القيادة ومساحات صف السيارات، عن الأحلام والمشاعر، وما هو أكثر من ذلك بكثير. كان مزاجنا طيبا وهادئا. عند كشك الشاي التالي، التفت (ف) فجأة إليّ وقال: «يا دوك، عندي سؤال. الكورونا دي حتنتهي إمتى؟» سمع (د) سؤاله وقال معلقا: «الناس كلها هنا بتسأل نفس السؤال.»

غياب اليقين حول احتمالات فرض الإغلاق الكلي، والفتح، والتعافي الاقتصادي المأمول ربما يكون هو أكبر أسباب التوتر بين الباحثين عن العمل الذين قابلتهم. أن تتحمل نقص الدخل لفترة شيء، وأن تدفع ثمن تذكرة الطائرة وتنفق المال على العيش والتنقل في مدينة مرتفعة الأسعار دون أن تعرف إن كنت ستعوضه ومتى، فهذا يعني أن كل خطوة يقوم بها المرء قد يتبين أنها خطوة خاطئة، ولكن عدم القيام بها فيه نفس القدر من المجازفة.

مع اقتراب الحصول على مرتب، يصبح من الأسهل أن تكون مرنًا. وظيفة (ت) الجديدة مرتبها جيد بشكل كاف ليوفر له بعض المرونة. بعد أسبوع من مغادرته سكنه حيث كان زميل الحجرة المصاب ما زال مقيما (لم يكن لديه مكان آخر يذهب إليه)، عُرض على (ت) بارتيشن partition (مساحة فردية منفصلة من غرفة أكبر، ومساحته تكفي فقط لسرير وحقائب المرء) مقابل ١١٠٠ درهم في الشهر. كانت التكلفة أكبر مرتين من إيجار سريره في الغرفة المشتركة، وهو ما يعني أنه لن يتمكن من إرسال إلا أقل القليل أو حتى لن يرسل أي مال إلى الوطن ذلك الشهر. ومع ذلك، فقد قبل به لأنه وفر له الأمان من الخطر المحتمل بأن تتبين إيجابية تحاليل المزيد من رفاقه في الغرفة ويتعرض للحجر الصحي، وهو ما قد يحدث مرة أخرى في سكنه الحالي أو أي سكن آخر مشترك.

في بداية عودته إلى دبي، حاول (ت) أن يجد شيئا طويل المدى ومؤكدا، وانضغط إلى أقصى حد أمام الخيارات غير المؤكدة. والآن، يمكنه التطلع قُدُما مرة أخرى بمزاج أكثر أملاً. للمرة الأولى منذ وصوله، حكى لي المزيد عن البيت الذي كان يبنيه، وشرفة من أجل تجمعات وقت الفراغ في الصيف يأمل أن يضيفها على سطحه. ذات يوم، عندما قابلته بعد العمل حيث كان يشعر الآن بمزيد من الثقة بينما يتعلم سريعا كيف يعمل النظام، قال لي إن كل سفرية للعمل تتكلف مالًا في البداية قبل أن تأتي بفائدة: كان الأمر هكذا كل مرة، وفي هذه السفرية، منح لنفسه مهلة حتى نهاية هذا العام. قبيل ذلك فقط يتوقع أن يدخر بالمعدل الذي يحتاجه لينهي بناء بيته ويوفر التعليم اللازم لابنته. لكن هذا يجعل خطته في الرجوع خلال عامين احتمالاً بعيدا بعض الشيء.

كان يمكن لهذا المقال أن يُختتم بمزيد من التأملات النظرية الأنثروبولوجية المتحذلقة حول زمانية النيوليبرالية، والنمو والأزمة، لكن هذا ليس وقته.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) نُشر هذا المقال تحت هذا الاسم المستعار (فينو) للباحث في موقع Allegra Lab, Anthropology for Radical Optimism، في أربعة أجزاء، وجرت ترجمته بالاتفاق مع الباحث وبموافقة الموقع، كما جرى اختصاره ليناسب سياسة النشر بالمجلة بمعرفة الكاتب والمترجم.