رؤى
أحمد يوسفالتكنولوجيا ومستقبل السينما: بين المهندس والفنان
2018.01.01
التكنولوجيا ومستقبل السينما: بين المهندس والفنان
هل يمكن أن يصدق أحد تلك الحادثة التي تؤرَّخ بها كل الدراسات عن تاريخ السينما لمولد هذا الفن؟ ففي أحد مقاهي باريس، بالقرب من نهاية القرن التاسع عشر
قام الأخوان لوميير بتقديم أول عرض جماهيري لشريط سينمائي على شاشة يراها مكبرة جمع كبير من الناس، وكانت اللقطة تسجل قدوم قطار من عمق الكادر مقتربًا تجاه المتفرجين، ليقفز هؤلاء من أماكنهم خوفًا من أن يدوسهم القطار! كانت التكنولوجيا السينمائية آنذاك تكتفي بأن تفخر بتسجيلها "الحركة" في الصورة على هذا النحو، وكانت تثير الانبهار بل ربما الرهبة أيضا لدى المتفرجين. أما اليوم، فإن التكنولوجيا السينمائية تزداد كل عام عشرة أضعاف ما كانت عليه في العام السابق، في متوالية هندسية لا تتوقف أبدًا، في محاولة لتقديم وجبة بصرية سمعية للمتفرج تثير شهيته، بعد أن اعتاد على العديد من الحيل السينمائية التي لا تحتاج من الفنان الآن سوى أن يضغط بأصابعه على أزرار الكمبيوتر!
كان المتفرج عند مولد السينما يجلس في مقهى غير مجهز إلا بآلة عرض، تعتبر اليوم شديدة البدائية، ومع ذلك يصدق ما يراه على الشاشة كأنه يعيشه في الحقيقة، بأن يضيف له من خياله سمات الواقع، والآن أصبح العرض السينمائي يشبه نوعًا من ممارسة السحر، بدءًا من الشاشات العريضة التي قد تمتد لتحيط المتفرج من كل الجهات، مرورًا بتحقيق الإحساس بالبعد الثالث والعمق والمنظور، وانتهاء بإضافة مؤثرات تجعل المتفرج يشم رائحة الدخان وهو يشاهد لقطة لحريق، أو ترتج به قاعة العرض في لقطة لزلزال. ورغم كل تلك الحيل السينمائية التي يحاول بها صناع الأفلام استدراج المتفرج، فإن هذا الأخير أصبح يصيبه الملل بسرعة، مما يستدعي الإسراع بالبحث عن تقنية جديدة لإثارة انبهاره، لينتهي الأمر إلى سباق لا ينتهي أبدًا، بين مهندسي تقنيات السينما من جانب، وفناني صناعة الأفلام من جانب آخر، سباق الرابح الأكبر فيه هو المتفرج!
لكن ذلك يثير أسئلة جوهرية حول مستقبل السينما، صناعة وفنًا. وكما يجب أن نتوقع فإن الإجابات تختلف اختلافًا كبيرًا تبعًا لموقف الفنانين وتصورهم لرسالتهم الأساسية. فالفنان السينمائي الذي يرى أن مهمته ومهنته تنحصران في الترفيه عن المتفرج، وتقديم جرعة من التسلية له، يرى الأمر على نحو مختلف عن الفنان الذي يؤمن بضرورة تقديم رؤية للعالم، تدفع المتفرج لاتخاذ المواقف. ولا غرابة أن تكون التكنولوجيا المبهرة والمعقدة في خدمة الفريق الأول على نحو أوضح، حيث قاعات العرض المجهزة بكل وسائل التأثير في المتفرج. ولتتأمل ما يقوله المخرج جيمس كاميرون، صاحب فيلم "تيتانيك"، عن أن التكنولوجيا سوف تتيح للفنان أن "يضع المتفرج على حجره"، هكذا بالنص، بمعنى أن الفنان سوف يقوم بتدليل المتفرج وإبهاره إلى أقصى حد ممكن. كما أن جورج لوكاس، صاحب "حرب النجوم"، يرى أنه لا مستقبل للسينما إلا في دور العرض الكبرى فقط، وأن الفيلم الواحد سوف يمتد عرضه إلى بضعة شهور على غرار مسرحيات برودواي. وعلى الناحية الأخرى هناك الفنانون الذين يصنعون "الأفلام المستقلة"، التي أصبحت بفضل التكنولوجيا أيضًا متاحة للجميع، دون الحاجة إلى ميزانيات ضخمة، وصناعة أفلام مرتفعة التكاليف، كما أتاحت التكنولوجيا أيضًا إمكانية عرض الأفلام على الأجهزة المنزلية، بحيث لا يشكل التوزيع عائقًا أمام وصول الأعمال السينمائية للمتفرج.
وهكذا فإن التكنولوجيا ذاتها لا تفرض مسارًا محددًا وواحدًا لمستقبل السينما، ففي الوقت الذي تتيح فيه عروضًا شديدة الإبهار في قاعات عرض شديدة الفخامة، فإنها تتيح أيضا عروضًا بسيطة على وسائل عرض في متناول الجميع. لكن لكل من هذين المسارين مشكلاته الجمالية، التي سوف تستغرق جهدًا أكبر من الفنانين لحلها، بعد أن جعلهم المهندسون قادرين على تحقيقها. وعلى سبيل المثال، تجعلك الشاشة الدائرية التي تحيط بك من كل جانب تعيش مع أحداث الفيلم كأنك بداخله، وهو بالتأكيد تأثير مبهر، لكن هل يعني هذا أن كل المتفرجين سوف يشاهدون نفس الفيلم؟ فالمتفرج سوف يكون حرًا في أن يركز بصره على جانب ما بينما ينظر جاره إلى جانب آخر، وبكلمات أكثر دقة فإن المتفرج سوف "يصنع مونتاجًا" للفيلم خاصًا به وحده، فهل يمكنك عندئذ أن ترى الفيلم عملاً فنيًّا يهدف بشكل محدد يختاره الفنان لتحقيق التأثير في الجماهير؟
من جانب آخر، فإن الرؤية الفردية بإمكانات تكنولوجية متاحة للجميع تجعل السينما تفقد واحدًا من أهم خصائصها، فالسينما هي الفن الذي يجمع عشرات أو مئات المتفرجين في ظلام قاعة العرض، ليعيشوا تجربة واحدة لتلقي العمل الفني، وهو الأمر الذي لا يتحقق بالطبع عندما تشاهد الفيلم بمفردك. بل يزداد الأمر تعقيدًا مع سمة جمالية أخرى في تذوق الأفلام في دور العرض الجماعية، وهي أن الزمن يمضي دائمًا دون أن تتمكن من إيقافه، ليتوالى السرد كما أراده الفنان، بينما يمكنك في المشاهدة الفردية إيقاف عرض الفيلم، أو حتى الفرجة على مشاهده بالطريقة التي تستهويك، كأن تقفز إلى الأحداث الأخيرة لتعرف مسبقًا كيف سينتهي السرد!
لا تحمل التكنولوجيا فقط حلولاً لمشكلات تواجه الفنانين، وتجعلهم "على تباين موقفهم من الفن السينمائي ذاته" أكثر قدرة على الوصول إلى المتفرج، لكن التكنولوجيا تأتي بمشكلات جديدة أيضًا. إنها على سبيل المثال تتيح قدرًا أكبر من الأفلام على مستوى "الكم"، لكن ماذا عن الـ"كيف"؟ لقد أصبح متاحًا لصانع الفيلم أن يقوم بالتصوير بكاميرا صغيرة في أي مكان، دون الحاجة إلى إعداد يتطلب جهدًا كبيرًا كما كان الحال بالتصوير في الاستوديوهات، عندما كان ضروريًّا استخدام وسائل إضاءة يجب حسابها الدقيق قبل التصوير، واختيار فيلم ذي حساسية محددة. لذلك فإن معظم اللقطات السينمائية أصبحت الآن أقرب للعشوائية، حيث لا يوجد مثلًا اختيار دقيق لزاوية التصوير (فمن الممكن التقاط اللقطة من هذه الزاوية أو تلك)، فإذا كان من الممكن تنفيذ اللقطة دون بناء ديكور خاص بها، والتصوير في أماكن عادية، فإن عنصر التصوير سوف يفقد كثيرًا من قدراته.
تأمل على سبيل المثال فيلمًا قديمًا مثل "المواطن كين" (1941) لأورسون ويلز، الذي يكاد أن يكون "قاموسًا" يجمع الكثير من خصائص التصوير السينمائي، الذي قام به مدير التصوير جريج تولاند، مثل استخدام عمق المجال الذي يتيح لك رؤية الأشياء القريبة والبعيدة في نفس اللقطة بكل وضوح، أو استخدام الضوء والظل، أو زاوية التصوير، وكان ذلك يتطلب جهدًا فائقًا في الاختيارات الفنية، في زمن لم يكن فيه التصوير السينمائي كما هو عليه الآن من السهولة. ومع ذلك فإن التكنولوجيا بسهولتها المعاصرة لا تفرض خفة في الاختيارات الفنية، فالكاميرا الخفيفة المحمولة ذاتها يمكن أن تستخدم على نحو بالغ التاثير، على نحو ما نرى على سبيل المثال في فيلم تيرانس ماليك "شجرة الحياة" (2011)، لمدير التصرير إيمانويل لوبيزكي، الذي يجعلك في أحد مشاهده ترى بعينيك وتعيش تجربة البرزخ بين الحياة والموت.
بكلمات أخرى فإن التكنولوجيا ليست وحدها ضمانًا لتطور "فن" السينما، وإن كانت بالتأكيد تطورًا في "الصناعة"، لذلك فإن على الفنانين عدم الاكتفاء بالتطور التكنولوجي لتحقيق الإبهار، بل يجب عليهم استخدامه من أجل رؤية أكثر نفاذًا للواقع. وعلى سبيل المثال، فقد أتاحت "تقنية الغرفة الزرقاء" أن يؤدي الممثل ما يبدو مستحيلاً في الواقع، على نحو ما ترى في فيلم "جاذبية" (2013) للمخرج ألفونسو كوارون، حيث شخصية الممثلة ساندرا بولوك معلقة طوال الفيلم خارج نطاق الجاذبية الأرضية، بما يهددها بضياعها إلى الأبد في الفضاء، فقد قامت بولوك بأداء الحركات وهي معلقة بالأسلاك في استوديو خالٍ تمامًا ذي إضاءة واحدة، ثم تركيب لقطاتها بالكومبيوتر على خلفية تمثل عالم الفضاء الممتد بلا نهاية. ففي مثل هذه النوعية من الأفلام، يتحقق الانبهار للمتفرج في الدقائق الأولى للفيلم فقط، ثم تفقد البدعة التكنولوجية إبهارها، بما قد يهدد بملل المتفرج. ولتقارن ذلك بالرؤية الفلسفية العميقة لفيلم قديم، هو "أوديسا الفضاء" (1968) لستانلي كوبريك، الذي لم يكتفِ بالإبهار في مشاهد فقدان الجاذبية، فقد كان اهتمامه هو الدهشة أمام مصير الجنس البشري. وعلى النقيض، فإن فيلم "حياة باي" (2012) للمخرج آنج لي يستخدم نفس التقنية، للجمع بين صبي ونمر بنغالي، لكن لأن الدراما كانت قوية، لم تفقد التقنية سحرها مع توالي أحداث الفيلم.
لكن التقنية الأكثر استخدامًا الآن وفي المستقبل هي "اقتناص الحركة"، والتي تعني أن يؤدي ممثل حركات معينة يقوم الكمبيوتر بترجمتها إلى شخص آخر، قد يكون افتراضيًا في أغلب الأحوال. ففي سلسلة "ملك الخواتم" (2001 - 2003) للمخرج بيتر جاكسون، قام الممثل آندي سركيس بأداء شخصية تم تحويلها بالكومبيوتر على الشاشة إلى "جولام" أو الغول. وفي فيلم ريدلي سكوت "المصارع" (2000) رحل الممثل أوليفر ريد عن الحياة قبل أن يكمل دوره، فاستعانوا بممثل آخر وتم تركيب وجه ريد بدلًا منه، وبلغ الأمر مدى يجعل بعض صناع الأفلام يتوقعون أن تقوم الشركات السينمائية الكبرى بالاحتفاظ بتفاصيل كمبيوترية لملامح نجوم معاصرين، وصنع أفلام من بطولتهم بعد نصف قرن من رحيلهم! لكن الأكثر استفادة من هذه التقنية هي أفلام التحريك، أو تلك التي تحتوي على كائنات يصعب الجمع بينها وبين الممثلين، ففي فيلم "كتاب الأدغال" (2016) في نسخته الجديدة، تكتسي وجوه الحيوانات كل المشاعر الإنسانية الممكنة، التي تم اقتناصها من ممثلين آخرين ثم تركيبها على حيوانات الغابة.
وربما كان أغرب ما أدت وستؤدي إليه التكنولوجيا السينمائية المعاصرة هو اختفاء بعض المصطلحات وما تعنيه على نحو مثير للدهشة. فإذا كانت "الكاميرا" هي الأداة الجوهرية لتسجيل الشريط السينمائي، فقد أصبح متاحًا الآن صنع أفلام كاملة دون الكاميرات، وبواسطة الكومبيوتر، وبالتالي سوف يختفي ما نسميه الشريط، فالتسجيل الرقمي لا يحتاج إلى أي سليولويد، ولن تكون هناك "شاشة" كما نعرفها اليوم، فهي نقاط ضوئية متناهية الصغر تأتي الأضواء والألوان منها وليس من سقوط الضوء عليها من آلة العرض، وبالتالي فإن الشركات السينمائية الكبرى لن تحتاج إلى إرسال نسخ إلى البلدان المختلفة لعرضها، فهي تستطيع بث هذه الأفلام مباشرة إلى دور العرض بواسطة الأقمار الصناعية.
إن سؤال التكنولوجيا السينمائية اليوم ليس إلى أين "يجب" أن يكون مصير السينما ومستقبلها، بل "ما هو الممكن" أن يحدث في هذا المستقبل، فالتكنولوجيا لا تفرض مسارًا محددًا، بل تقدم إمكانية جديدة، وهنا يبقى على الفنان استغلالها على نحو جاد، وعميق، فالتطور التكنولوجي ليس فقط في التحليق في الفضاء، بل أيضًا في الغوص في أعماق النفس البشرية، التي لا يزال فيها الكثير مما يمكن اكتشافه.