رؤى

مصطفى عبد الظاهر

التليفزيون وثقافة الرأسمالية الجديدة

2017.09.12

تصوير آخرون

التليفزيون وثقافة الرأسمالية الجديدة

ينطوي إدراك الحياة الاجتماعية والسياسية، فيما ينطوي، على تصور محدد عن الزمن. وكي تؤسس جماعة سياسية تصورًا عن ذاتها وعن موقعها في العالم، لتحدد من خلاله مصالحها وأعداءها وطرق استمرارها وأشكال نموها الواجبة، عليها أن تتخذ موقفًا محددًا من تاريخها، ومن التاريخ ككل. لذلك، كان المؤرخ البريطاني إريك هوبزباوم يقول «إن المؤرخين للقومية كزارعي الخشخاش للمدمنين؛ هم المصدر والمورد الرئيسي».

إن ما يفعله المؤرخون هو أنهم يقدمون للجماعة السياسية طريقة مميزة تمكنها من أن تتصور ذاتها وتبني ذاكرتها الجماعية، عبر قراءة انتقائية للتاريخ تراه على أنه وحدة متماسكة لا يشوبها انقطاع. فجذور الأمة ضاربة في التاريخ لم تتغير، على أرض محددة لم تتغير، والشعب له قيم وسلوكيات واحدة لا تتغير.

الحداثة والزمن

 إلا أن تصور تاريخ الجماعة السياسية لا يُشكِّل وحده تصور الجماعة السياسية عن الزمان. فالعيش في العصر الحديث، بإيقاعه السريع، وتباعد مسافاته، وانفتاح فرصه، وإمكاناته الهائلة، يزرع في الإنسان وعيًا بأن العالم سريع ولابد من اللهاث للحاق به، ويزرع فيه من ثَم رغبة ملحة في التسابق على الفرص وتغيير المواقع والمنافسة على المكتسبات.

هنا يمكننا القول إن الحداثة استبدلت ذاكرة الإنسان. حيث أنها قدمت له أفقًا جديدًا ليرتجل قصة حياته من جديد، لكن على أساس مؤقت ومُجدوَل؛ أساس زمني مرتبط بما يضطره إليه نشاطه اليومي، وعمله بالمؤسسات، واحتكاكه بنشاطات الدولة التنظيمية التي غزت نطاقات الحياة الاجتماعية كافة.

لقد تعلمت الرأسمالية في الفترة الممتدة من ستينات القرن التاسع عشر إلى سبعينات القرن العشرين أن تتخلى عن الفوضى والبدائية التي أنذرت بنهايتها، وتعلمت الشركات في هذه الفترة فن الاستقرار، فخططت لضمان عمر طويل لأعمالها وزيادة أرباحها وزيادة عدد العاملين فيها، وعملت المؤسسات، سواء البيروقراطية الحكومية أو التجارية، منذ هذه الفترة فصاعدًا كجيوش، لكل شخص فيها مهمة محددة مرتبطة بجدول زمني وخطة استراتيجية وقواعد إجرائية وتراتبية إدارية وتنظيم محدد.

ويقع «الزمن» في القلب من هذه العملية الحثيثة؛ الزمن القابل للتوقع لضمان زيادة الأرباح وتجنب تقلبات السوق وركود السلع، مما مكَّن الناس من تخيل حياتهم كسرديات أو قصص ذات بداية ومتن ونهاية عبر مراحل الحياة البيروقراطية، من الدراسة إلى الترقي الوظيفي وحتى التقاعد، بالإضافة إلى جدولة الحياة عبر المطبوعات الرسمية والصحافة التي تجمع الأخبار من أماكن شتى من العالم في صفحة واحدة تتقادم بنهاية يوم صدورها لتصبح بلا قيمة.

لقد تضمنت الحداثة –أي العيش ضمن الشروط الاجتماعية والنفسية للرأسمالية– تصورًا محددًا حول التاريخ والزمن. فقدمت لنا التاريخ التنويري الذي يستند إلى البحث في أرشيف الذاكرة الإنسانية لمقارنة «الماضي» بما وصلت إليه الحداثة من تقويض للنزعات السحرية الأسطورية، والإعلاء من شأن الهيمنة الإنسانية على الطبيعة، والنزوع إلى التنظيم والجدولة والمأسسة. أما الماضي من وجهة نظر الحداثة، فهو وحدة متماسكة من الأحداث تؤدي حتمًا إليها وإلى ما آلت إليه من «تطور».

اندثرت بسبب ذلك طرق أخرى من فهم التاريخ بشكل «غير تقدمي»، مثل وجهة النظر التي تقدم التاريخ كتلة جامدة حافلة بالدروس والعبر القابلة للتطبيق، ووجهة النظر التي ترى أن التاريخ يدور في حلقات متسلسلة من صعود وهبوط الحضارات، أو الرؤية الدينية التي تقدم التاريخ خطًا من الأحداث المتوالية التي تتجه بالضرورة نحو الانحطاط الذي يتبعه نهاية العالم.

التليفزيون والرأسمالية

 في هذا السياق، فإن هناك العديد من الممارسات المادية التي تؤثر تأثيرًا بالغًا في تكوين تصورنا وخبراتنا الشخصية حول الزمن، ومن ثم تصورنا عن العالم وموقعنا فيه وأهدافنا المستقبلية. ومن بين تلك الممارسات علاقتنا بالمواد الإعلامية المبثوثة عبر التليفزيون.

نحن ننسى الحقيقة البشرية للمنتج الإعلامي الذي نشاهده. فنحن لا ننظر له بوعي على أنه صناعة بشرية، بل نراه على أنه طبيعة مُعطاة أو شيء له وجود مستقل، دون أن نلتفت إلى أن الذين أنتجوا ذلك المنتج وتلك المادة الإعلامية هم في النهاية بشر مثلنا. يطلق كارل ماركس على هذه الحالة اسم «الموضوعية شبه الوهمية»: فقدان ذاكرة يؤدي إلى نسيان العملية التي أنتجت الشيء نفسه، كما يقول جورج لوكاش.

ويذهب بول لازارسفيلد، عالم الاجتماع النمساوي وصاحب نظرية «تدفق المعلومات»، إلى أن مشاهدة التليفزيون في الولايات المتحدة قد سرَّعت من دمج المشاهدين في المجتمع الرأسمالي عبر تعزيز معاييره وتهميش التحليل المتأني ونشر ثقافة «التعجُّل». لقد كان التليفزيون وقت انطلاقه في أربعينات أوروبا وستينات العالم العربي وسيلة ترفيهية وتثقيفية مُستأنسة إلى حد كبير، فصوره كانت بالأبيض والأسود وموزعة على عدد قليل من البرامج وعدد أقل من القنوات، في جهاز مرتبط بالفضاء المنزلي الأُسري، وبين الأغنياء والميسورين بالأساس، لذلك كان عليه أن ينضبط بمصفوفة محددة من القيم المقبولة لدى جمهوره.

إلا أن الظاهرة التي مثلها التليفزيون تعرضت لنقد شديد منذ بدايتها. فقد ذهب منظرو مدرسة فرانكفورت، خصوصًا ثيودور أدورنو وماكس هوركهايمر، إلى أن ما يقدمه التليفزيون هو شكل قوي من أشكال «الإلهاء» التي تُحول الثقافة الجماهيرية إلى وسيلة سيطرة لم تكن في الحسبان. إذ يذيب التليفزيون شخصية المشاهد ويقدم عالمًا معياريًّا يطبّع الإنسان على قيم الحداثة ويخلق أوهامًا وقناعات زائفة بغية السماح للرأسمالية بالمحافظة على وجودها وإعادة إنتاج قيمها.

مع مرور الوقت، وفي خطوات شديدة السرعة، بات التليفزيون بانتشاره الحثيث مرتبطًا بكل أنشطة الحياة. إذ يكاد يكون من المستحيل أن تتصور الحياة السياسية الحزبية والانتخابات والرياضة والموسيقى والسينما وتسويق السلع بعيدًا عن تفاعلاتها المعقدة مع التليفزيون، إلى الحد الذي دفع المنظر الثقافي النيوزلندي سايمون ديورنج إلى اعتبار الدراسات الثقافية، وهي أحد أهم الحقول العلمية المعنية بدراسة التليفزيون كظاهرة، نمت بالأساس من خلال علاقتها بما أدخله التليفزيون من تغييرات على طبيعة الثقافة الجماهيرية.

كذلك ركز عالم الاجتماع الفرنسي الشهير بيير بورديو في تحليله للتليفزيون على الأبعاد السياسية والثقافية التي يمثلها، معتقدًا أن وسائل الإعلام الحديثة قد أصبحت هي أدوات الضبط الاجتماعي والتحكم السياسي في المجتمعات الراهنة، أو وفقًا لمفهومه الشهير هي أدوات «العنف الرمزي» التي تمارسه الطبقات الاجتماعية المهيمنة تجاه بقية فئات المجتمع لتعيد إنتاج ثقافتها وترسخ من وجودها السياسي عبر «التلاعب بالعقول».

على النقيض من رأي بورديو وأدورنو، يرى رايموند وليامز، وهو أبو الدراسات الثقافية البريطانية، أن التليفزيون لا يُنتج ثقافة، بل يُمثل ثقافة المُجتمع، وأن ما فيه من مثالب ليس أكثر من مثالب المجتمع ذاته.

لكن الحقيقة ربما تكون مزيجًا بين الرأيين. فقد كان التليفزيون، بالفعل، كما ذهب وليامز، خير ممثل للعصر الحديث، وذلك من ناحية مأسسة وتنظيم وتطبيع الزمن عبر برامجه المرتبطة بجداول زمنية محددة، ومن ناحية القيم التي يستمدها من الرأي العام. لكن لا يُمكن في الوقت نفسه أن ننفي عن التليفزيون صفة التسييس وكونه أداة من أدوات الهيمنة والسيطرة السياسية والاجتماعية.

فيرتيجو

 مثَّل التليفزيون منذ بدايته وحتى ثمانينات القرن المنصرم رسولاً حداثيًّا، ينذر بإفناء هالة القداسة عن الفنون والثقافة البرجوازية، ويقدم وعدًا وجوديًّا بالجديد الذي تطرح الحداثة نفسها على أنها خالقته. كان التليفزيون خير معبر عن عهد الحداثة عبر الصورة والتسلية والافتتان بالموضة والاستعراض.

إن المشاهد، من خلال تجربة متابعة تلك الصور المتطايرة على الشاشة، التي تُذيب مادية المعروض وتُحوِّل «كل ما هو صلب إلى هواء»، يعتاد على ما يُسمى بالـ«فيرتيجو» أو السرعة البصرية التي تشبه تجربة «زيارة الملاهي». يستلزم البث الإعلامي عبر الصورة إذن، بالضرورة، نسيانًا ثقافيًّا. ويعد الاعتياد على هذا النسيان، جزءًا لا يتجزأ من تجربة المشاهدة، خصوصًا مع إدراك المشاهد لتلاشي العنصر الزمني الذي كان مرتبطًا بوقت الحركة من نقطة لأخرى حسب التعريف الأرسطي، ولتلاشي تجربة المكان ذاتها مع النهم الاستهلاكي المتزايد المتمثل في تلاحق العلامات والرموز والصور.

يطرح جي ديبور في كتابه «مجتمع الاستعراض» أن «الحياة التي تهيمن عليها ظروف الإنتاج الحديثة تحرص على تقديم نفسها في شكل مشاهد استعراضية ضخمة» أو ما سماه «احتكار الظهور»، أي الحرص على تكديس الحملقة والانبهار، وتقديم النفس باعتبارها شيئًا إيجابيًّا لا منازع له ولا سبيل للوصول إليه في منظومة حركية من الدلالات والصور التي لا تكف عن الدوران.

على هذا النحو، تستعدي الصور المتطايرة على شاشة التليفزيون حاضر الإنسان على ماضيه من خلال شوقه إلى «الجديد» وأمله في أن يصبح حديثًا ومعاصرًا ومسايرًا «للموضة». فربما ليست هناك كلمة في ثقافة القرن العشرين تحظى بمكانة كلمة «الجديد» التي صاحبت ظواهر اجتماعية لا تنتهي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ويجب الانتباه هنا إلى أن ظاهرة الجديد ارتبطت بشكل وثيق بالرأسمالية الحديثة. فمع القيود التي يفرضها زمن دورة رأس المال على السلعة بشكلها المادي، اتجه الرأسماليون إلى تجارة الخدمات حيث يختفي الزمن. وليس مصادفة أن كثير من البضائع تُسمى بالسلع المعمرة، إذ أن لها عمرًا ملموسًا، أما خدمات مثل الذهاب إلى السينما أو مشاهدة عرض تليفزيوني فذات أعمار قصيرة للغاية، يجب ترتبط فيما ترتبط باستغلال موضات السوق والحث على الابتكار و«التجديد».

ولتأمين استهلاك المنتج يجب تأمين وقت استهلاك المنتج، من جدولة وارتباط بحب الظهور بالمظهر العصري المساير للموضة، والنهم للتمايز الاجتماعي عبر استحداث أنماط جديدة للعيش، تميز الذين يملكون عن الذين لا يملكون. ومن هنا تحولت الرأسمالية من البحث عن أشخاص مدربين على التعامل مع الماكينات وإدارة المصانع، إلى البحث عن أشخاص خبراء بالتعامل مع «أطفال» نهمين إلى التمتع والاستهلاك.

ويفيدنا عالم الاجتماع الكبير جورج زيمل في تتبع الأسباب الاجتماعية للحرص على الموضة، وهو الأمر الذي عمل التليفزيون على نشر وإرساء معاييره ومعايير تقادمه أيضًا. يرى زيمل أن هناك ثلاثة مواضع تزدهر فيها مسارعة الناس إلى تبني الموضات الجديدة، أولها هو حراك الطبقات الوسطى لأعلى السلم الاجتماعي، إذ تلاحقهم مخاوف السقوط والفشل، أي يلاحقهم عدائهم مع ماضيهم الخاص. ولأن سرعة تقدمهم المعيشي تضمن لهم الصدارة والسبق، فإنهم يرون في مسايرة الموضة إيقاع زمني ملائم لفاعلية حركتهم، كمن ينظر لنفسه في المرآة. وثاني تلك المواضع هو الخاص بالفئات المنبوذة في المجتمع الذين لا تفارقهم مرارة الحرمان والحاجة، والسمة المميزة لهذه الفئة هي أنها تشعر بغضب جارف يدفعها إلى كل تحرر، وإن كان مُستهترًا، عبر أي خيار يخالف ما تبنته الطبقات الاجتماعية الأعلى السابق ذكرها، وهنا تُقدَم لهم الموضة بوصفها نسخة جمالية من هذا الثأر الثقافي. والموضع الثالث، هو المدن الكبرى الحديثة حيث العلاقات الاجتماعية الفردية الخالية من الولاء، التي تدفع لسرعة الاستجابة للانطباعات المتغيرة ونسيان ما كانت عليه قبل لحظات.

أجدد من الجديد

 في مطلع ثمانينات القرن العشرين، أدى صعود الليبرالية الجديدة، بميلها للمضاربة ولتفكيك دول الرفاه الأوروبية وللتركيز على النشاط المالي، إلى تغيرات اجتماعية وسياسية عميقة، الأمر الذي استتبع تغيرًا في تصورنا للزمن وفي النموذج الذي أرسته الحداثة حول الزمن الخطي المتجه بالضرورة نحو التقدم والازدهار والنماء. النموذج الجديد قائم على التفكيك والتسارع شديد الوطأة، وهو ما أدى إلى ضمور التجربة الإنسانية نفسها. ففي تعاملات الناس أصبحت السرعة وتوقع الزوال واستشراف التغير القريب الحتمي والاعتقاد في استحالة دوام أي علاقة هي علامة العصر الذي تخلى عن كل قيمه، حتى قيم الحداثة ذاتها.

وبعد أن كان مشاهد التليفزيون يتابع البرامج والنشرات الإخبارية في مواعيد يومية منضبطة، مرتبطة باتصال صناعة الإعلام الرأسمالي بالمأسسة والتنظيم والسعي إلى ترسيخ معايير محددة وقيم ذات طابع سياسي، أصبح يتعرض لملايين الصور يوميًّا، عبر التليفزيون المرتبط بالإرسال الفضائي وتليفزيون الواقع وتليفزيون الكابل الخاص، وكل هذا يخلق انفتاحًا غير مسبوق في تعدد خياراته وتضاربها، انفتاحًا يمكّن المشاهد، وبضغطة زر واحدة، من أن يتخطى الحدود والحواجز والأماكن والخطابات السياسية والقومية، مما يوصله إلى تصور أن بإمكانه صنع عالمه الزمني الخاص، وتجربته الفردية المميزة، عبر «القفز» إلى المستقبل كلما ضجر من حاضره.

لقد أدت تلك النقلة إلى تصور خاص حول الزمن؛ تصور يصفه زيجمونت باومان «بالسيولة»، ويصفه فرانكو بيراردي «باللا يقين الفائق». هذا التصور يؤدي بالإنسان إلى اليأس بسرعة الضوء من ماضيه، ومن حاضره كذلك، ليطمع أن يجد عزاءه وأمله في «الجديد» التي قد تجود به الصورة/ المستقبل، ليدخل في اللحظة نفسها إلى الحالة ذاتها مرة أخرى، ويكرر هذا إلى ما لانهاية، كما يقول الفيلسوف الإسباني المعاصر خوسيه لويس باردو.

يرى مُنظرو ما بعد الحداثة، مثل جان بودريار وفرنسوا ليوتار فريدريك جيمسون، التليفزيون كخلاصة مركزة لثقافة ما بعد الحداثة؛ تدفق دائم للصور المرئية الضحلة، أو حسب تعبير بودريار «محض ضوضاء وثقب أسود للمعنى، حيث ينطمس المغزى في دوامة نثر لا يفتر من الصور». ولا يقف التليفزيون في وقتنا الراهن عند حد «ابتذال المعنى»، بل إنه يُمكِّن المشاهد، عبر حرية التنقل اللانهائية المتوهمة تلك، من استعداء الأمل في المستقبل، أي الصورة التالية على ماضيه وحاضره وذاته نفسها، وتمكنه هذه الفرصة للتسلية التي لا تنضب من أن «يتسلى» بالفعل، لكن عن ذاته بالعيش في زمن لا يكف عن الركض بلا هدف.