أعداد خاصة

نيفين علوان

الثورة والصحافة.. صراع الكلمة والحرية في 1919

2019.05.01

مصدر الصورة : ويكيبديا

الثورة والصحافة.. صراع الكلمة والحرية في 1919

تعتبر الصحافة المصرية أحد أهم الآليات التي مهدت الطريق لثورة 1919م؛ فقد ارتبطت الصحافة ارتباطًا عضويًّا بثورة 1919، وهي بهذا المنطلق المرجع الرئيسي لأحداث الثورة؛ خصوصًا وأن الصحف المصرية سجلت بجميع اتجاهاتها أحداث الثورة بما حوتها من اختلافات وانقسامات وأحداث، فلم تستطع جهة أخرى بخلاف الصحف تسجيل حوادث ثورة 1919.

فقد كانت الصحافة المصرية منذ صدورها في شكلها الرسمي، بصدور الوقائع المصرية عام 1828، وإلى يومنا هذا، مرآة لحركة التاريخ في مناحيها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية(). وقد اضطلعت الصحافة المصرية وهي ما تزال في طور النشأة، بإيقاظ الشعور الوطني لدى المصريين، كما حملت على كاهلها منذ نشأتها، عبء نشر الوعي وتنوير الأذهان.وقد شاركت في هذه المهمة الصحف الشعبية والصحف الرسمية أيضًا، فكانت الصحافة أفضل وأقوى أدوات الاتصال، التي حملت أفكار وآراء رواد الفكر المصري الحديث، في معاني: الوطن، والوطنية، والوحدة الوطنية، بين المصريين على اختلاف عقائدهم الدينية، وأنظمة الحكم المطلق والمقيد، وحرية التفكير والتعبير، وحقوق المواطن وواجباته(). وعن طريق المقال والخبر الخارجي الذي ينقل إلى قارئ العربية صورة لما يجري في الخارج من نشاط سياسي، وإداري، واقتصادي، وعسكري، وثقافي، واجتماعي، ظهرت المقارنة التلقائية في الفكر بين ما وصل إليه الوعي الوطني في دول أوربا وأمريكا، وما هو عليه في مصر(). 

في الفترة من أواخر الحرب العالمية الأولى، إلى اعتقال زعماء الوفد في مارس 1919ونفيهم، دخلت الصحافة المصرية دائرة الصراع مع الاحتلال، ممثلًا في سلطته العسكرية ورقابته الصحفية، وتمكنت سلطات الاحتلال من السيطرة على الصحافة المصرية بالإضافة والحذف، فكانت تصدر البلاغات الرسمية التي تخدم مصالح الاحتلال بغض النظر عن الحقيقة، وتطلب من الصحف نشرها، دون مناقشة أو تعليق، وفي الوقت نفسه، تحذف أي مادة تتعارض مع السياسة الاحتلالية، أو تخبر القارئ ما يدور في الواقع، ولهذا كان إلغاء مراقبة الصحف وسائر المطبوعات، أول رغبة يقدمها زعماء الشعب لممثل دولة الاحتلال، في مقابلة 13نوفمبر1918().

لقد منعت الرقابة النشر الخاص بمساعي سعد زغلول وزملائه، ومطالب الشعب التي قدموها للمندوب السامي البريطاني، ثم تأليف الوفد وحركة توكيلاته، حتى اسمه والانتماء إليه، ومساعيه لإبلاغ العالم بمطالب مصر، كما قامت الرقابة بعرقلة وتقييد نشر أنباء أزمة منع الوفد من السفر، واستقالة الوزارة، واعتقال سعد وزملائه ونفيهم، ومع هذا تمكنت الصحف من الكتابة في قليل من القضايا والمعاني التي تخدم المسألة المصرية، مثل الديمقراطية ومبادئ ولسن وضرورة تحقيقها، وفضحت المحاولات البريطانية للسيطرة على الصحف والقوانين والقضاء في مصر(). 

ومع اندلاع الثورة في 9 مارس 1919 دخلت الصحافة الوطنية في مواجهة عنيفة مع سلطات الاحتلال، والرد على صحفه، فتعرضت تحت وطأة الأحكام العرفية للحذف والتعطيل، فكما هو معلوم عمل الاحتلال منذ أواخر القرن التاسع عشر، على استقطاب الصحف؛ بهدف توجيهها إلى تجنب نشر المواد الصحفية المعارضة لوجوده وسياسته، وهو ما فعلته بنجاح صحيفتا «الوطن»، و«المقطم»، اللتان وضعتا كل إمكاناتهما في خدمة سياسة الاحتلال وأهدافه، وقامت سياستهما على أساس أن البريطانيين احتلوا مصر، ولن يخرجوا منها إلا بإرادتهم أو بفعل قوة تفوق قوتهم، فلا نفع للمصريين من معارضتهم لبريطانيا واستعانتهم بالدول الأخرى، وأن مصلحة دولة الاحتلال تتوافق مع آمال المصريين، لذلك يعملون على تنظيم أمور مصر وإصلاحها، وحتى ينال المصريون استقلالهم، عليهم التعاون مع بريطانيا لترقية تعليمهم ومعارفهم واكتساب ثقة المحتلين لينجزوا وعدهم بالجلاء(). 

كان تأثير الثورة على اتجاهات الصحف المصرية في مصلحة الاتجاه الوطني، فقد كسبت الثورة بعض الصحف التي كانت مع السلطات الحاكمة، أو بمعنى آخر تنظر إلى الحركة الوطنية ومطالبها بفتور وحذر، بينما لم تنجح سلطات الاحتلال في استمالة أية صحيفة وطنية إلى صفها(). وتنوعت الانتماءات السياسية لجميع الصحف واختلفت مواقفها،  دون وجود ارتباط بين الانتماء الوطني والاتجاه  السياسي، فمن صحف  المصريين مثًلا، أيدت  «مصر»  و«النظام»  الثورة،  وعارضتها  «الوطن»(). 

وحرصت كل قوة سياسية على أن توفر لنفسها الصحف التي تعبر عن آرائها ومواقفها، وتنشر مبادئها وأفكارها، وذلك بإصدار الصحف الجديدة، أو استئجار بعض الصحف القائمة في مقابل دعمها ماديًا وصحفيًّا(). وتمثلت الصحف التي سيطرت عليها بشتى الوسائل القوتان السياسيتان الوطنيتان الكبيرتان، الوفد والحزب الوطني، في صحف: «النظام»، و«مصر»، و«الأمة»، و«الأفكار»، وهي أكثر الصحف شدة في معارضة الاحتلال ومعاونيه من المصريين، وكانت بالتالي أكثر الصحف تعرضًا للحذف والمصادرة والإغلاق، أما الصحف المؤيدة للسياسة البريطانية، مثل «الوطن» و«المقطم»، فكانت في مأمن من ذلك(). 

في ضوء ذلك فإن صحافة ثورة 1919 شهدت بطبيعة الحال، في ظل السلطة العسكرية لبريطانيا، عدة معارك ما بين الصحف الداعمة للحراك الثوري المعادية للاحتلال، وتلك الممالئة للاحتلال والمعارضة للثورة.وهذا المقال يُحاول إلقاء الضوء على بعض هذه المعارك الصحفية من خلال الاعتماد على ثلاث صحف أساسية من صحف ذلك الوقت، اثنتان منها مؤيدتان للثورة وهما صحيفتي «مصر»، و«وادي النيل»، والثالثة من الصحف المؤيدة للاحتلال، وهي صحيفة «الوطن».

وأتخذ في هذا السياق ثلاثة محاور أساسية: أولها الموقف من مشاركة الشباب من الطلبة، وثانيها مشاركة السيدات في التظاهرات، وثالثها الوحدة الوطنية، التي دعمتها مقالات النائب سينوت حنا، وأقلقت مضاجع السلطة آنذاك.
 مشاركة الشباب

في البداية يجب ملاحظة أن صحيفة «الوطن»المتعاونة مع سلطات الاحتلال كانت أسبق الصحف إلى نشر أخبار اندلاع الثورة، في عددها الصادر في مساء الاثنين 10مارس1919م، تلتها بقية الصحف(). وبطبيعة الحال فإن هذه الصحيفة أدانت -مثل صحف الاحتلال الأخرى كالمقطم-التظاهرات، وجردتها من باعثها الوطني، وحاولت إبعاد كل من الشباب أو الطلبة والمرأة عن الثورة.

وقد تجاهلت «المقطم» لسان حال الاحتلال، أحداث 9 مارس ووصفت التظاهرات بأنها «شغب» يقوم به «جمهور من الغوغاء»، وادعت «أن كل من يتبع هذه التظاهرات يتأسف من وقوعها ومن ترك الطلبة لدروسهم والاشتغال بمثل هذه الأمور التي تعطل أوقاتهم وتضر بمستقبلهم من غير طائل فيجدر بآباء التلاميذ أن ينصحوهم بالتفرغ إلى دروسهم والاشتغال بها»، بل زادت هذه الصحيفة على ذلك وذكرت «أن أهم مظاهر الحركة ... انصراف الرعاع  إلى الاعتداء على المخازن ومحال الأعمال...»، ثم وجهت نداءً إلى «عقلاء الأمة وأعيانها» لإيجاد «حل للمشكلات الحالية على وجه يرضي الأمة ويقي البلاد شر الفتنة ويمهد السبيل للاتفاق والوئام مع الحكومة البريطانية»(). 

وبدهي ألا ترضى صحيفة «الوطن» عن حوادث 11 مارس، فتقول إن مصر لا يمكنها نيل آمالها «عن طريق الحركات العنيفة على الإطلاق. بل إن قدر لها أن ترتقي شرفًا وسعادة فليس الطلبة هم الذين يسعدونها بإضرابهم عن دروسهم وطوافهم في الشوارع واختلاطهم بالغوغاء، ففي البلاد رجال حنكتهم التجارب وملأهم الدهر علمًا وفهمًا وزادهم الاختبار معرفة بالضار والنافع من الأمور. وهؤلاء هم الذين يطلب منهم وحدهم أن يخدموا حظ مصر ويتولوا رعايتها ويقودوا سفينتها في وسط الأنواء والعواصف بمهارة الربان الحاذق»(). 

وقد لجأت «المقطم» إلى سلاح الكذب، فزعمت«أن جانبًا كبيرًا من تلاميذ المدارس لما رأوا أن الغوغاء أفسد ت تظاهراتهم وعمدت إلى أذى الناس، نفروا واشتد سخطهم فنفضوا يدهم وعادوا إلى منازلهم متبرئين من أعمال يترفعون عنها بتربيتهم العائلية ومقام أهلهم في الهيئة الاجتماعية وتهذيبهم في بيوتهم ومدارسهم»(). 

كما نشرت «الوطن» مقالًا في صفحتها الأولى بعنوان «ما أصابنا من النكبات بسبب تلك الحركات» تصف فيه الثورة بالحركة «الهوجاء» قام بها الغوغاء، وتحاول فيه تضليل الرأي العام عن طريق القول إن أحداث الثورة تسببت في مد العمل بالأحكام العرفية، وتدهور التجارة المصرية، وانهيار السياحة، بالإضافة إلى ما خلفته من أرامل وأيتام. ثم توجه حديثها للقارئ بقولها: «وما كان أغنانا عن جلب هذا الأذى لأنفسنا لو أن الذين قاموا بهذه الحركات والتظاهرات حسبوا حسابًا لأعمال هؤلاء العامة والغوغاء... فهل تأكد، الآن مواطنونا الكرام ماذا جلبته هذه الحركات والمشاغبات من الويلات والنكبات وهل ابتدأوا يصدقون ما قلناه عند أول قيامها من وجوب الخلود إلى الهدوء والسكينة والعمل بمشورة العقلاء والحكماء من أبناء وطنهم»(). ثم في مقالها الصادرفي 29مارس 1919، بعنوان «ما جرته علينا التظاهرات»، تدس هذه الصحيفة السم في العسل؛ وذلك عن طريق تأليب الآباء والجماهير بشكل غير مباشر، على شباب الثورة، الذي وصمته بالغرور ().

هذا عن صورة صحف الاحتلال، أما فيما يختص بالصحف الوطنية فإنها قد والت أنشطتها المتنوعة في مقاومة الاحتلال والرد على صحفه، فتصدرت أخبار الثورة الصفحات الأولى من الصحف الوطنية؛ فتحث صحيفة «وادي النيل» المصريين على الهدوء في مقالها الافتتاحي الذي تقول فيه «إذا سمع العالم عنا الآن أن لدينا تظاهرات يرمى بها المتظاهرون إلى غاية لا ينكرها عليهم أحد لأنها مغروسة في الطبائع الإنسانية، وهي غاية حب الوطن، وحب الوطن من الإيمان، فلا يمكن أن يصدق هذا العالم أن التظاهرات شابتها شوائب تنافي ما عرف عن المصريين في جميع عملهم من الحكمة والسداد والاعتماد على الإقناع بالبرهان والشعور الهادئ الذي ظهر صامتًا وكان صمته أفصح من كلامه...» وهي تدافع عن مسلك المصريين خلال الثورة، ثم تختتم حديثها بأن على كل مصري واجبًا مقدسًا «هو أن يحرص على سمعته وعلى استبقاء العطف عليه، فبحق مصر وبحق الإخلاص للوطن نستحلف كل مصري أن يخلد إلى السكينة ويعدها إحدى وسائل النجاح...»().

مشاركة السيدات

اعتبرت مشاركة السيدات في الثورة والثناء عليها من المعارك المهمة التي خاضتها الصحف الوطنية، في مواجهة الجهود المكثفة للاحتلال وصحفه للحد من مشاركة السيدات؛ لإدراكهم خطورة دور المرأة كداعمة ومؤثرة في البيت، أمًا، وزوجةً، وابنةً، وبالتالي في الشارع الثوري؛ فإذا لم تؤمن السيدات بالثورة، ما سمحن لبعولتهن وأولادهن بالانضمام في صفوفها.

وبدأ الأمر باقتراح قدمته صفية زغلول أن تقوم النساء بتظاهرة وطنية في مستهل ثورة 1919، وعند عرض الفكرة على الوفد، رأت أغلبية الأعضاء أن خروج المرأة إلى الشارع وقاحة، وكان رأي الأقلية أنها تقدر الوطنية التي أملت فكرة التظاهرة، ولكن أغلبية الشعب تستنكر خروج النساء إلى الشوارع، مما يعرض الرأي العام إلى الانقسام في مسألة فرعية، بينما هو مجمع على الهدف الأساسي؛ طلب الاستقلال، كما أن تظاهر النساء، قد يدفع الإنجليز إلى اتهام الثورة بالخروج عن الإسلام، فتنفض أغلبية الجماهير عن الثورة، وكانت الأغلبية التي رفضت تظاهرة النساء رفضًا «دبلوماسيًّا» مؤلفة من سينوت حنا، وأحمد لطفي السيد، وعلي ماهر، ومصطفى النحاس، والدكتور حافظ عفيفي، ثم انتصر رأي السيدات، وقمن بتظاهرة يوم 16/3/1919(). 

 ولم يقتصر الأمر على ذلك إذ تلى ذلك تظاهرة أخرى في العشرين من الشهر نفسه، وكتبت صحيفة «وادي النيل» عن ذلك تحت عنوان (الحياة الاجتماعية)، قائلة «فتحت فضليات المصريات باب حياة جديدة للمرأة المصرية، فلم تعد هذه المرأة قعيدة الدار، حبيسة الجدران، ولا حليفة المكنسة والطست والمطبخ، ولم تعد أيضًا أسيرة اللهو بالثوب الموشي والمئزر المطرز، ولكنها دلت على أنها تتناول كل واجب في وقته، وعادت تستأنف سيرة المرأة الشرقية الأولى أيام كانت تجلس مجالس العلم فيتلقى عنها الرجال ما شاءوا وتقوم على المنابر مقام الخطيب... فيسمع منها الناس سحر البيان...»(). 

وقامت المرأة المصرية بدور فعال في الكتابات الصحفية آنذاك، وعلى سبيل المثال كتبت أمينة محمود الرفيعي مقالًا مهمًا في صحيفة «وادي النيل» بتاريخ 19أبريل 1919، تحث فيه السيدات على الاستمرار في الثورة، وتثني على دورهن فيها(). 

ويبدو أن تأثير حديث النساء إلى النساء في خضم هذه الثورة أمر أدركته أيضًا صحف الاحتلال. وكما أدانت هذه الصحف التظاهرات، وجردتها من باعثها الوطني، حاولت أيضًا إبعاد المرأة عن الثورة، عن طريق المواربة، مستخدمة في ذلك الخطاب النسائي؛ بنشر مقال للسيدة (مفيدة حنا) في صحيفة «الوطن» تحت عنوان «النهضة النسائية وحالتنا العمومية» تذكر فيه المرأة المصرية بأن صحيفة الوطن أول صحيفة ناصرت المرأة المصرية في تخويلها حقوقها، كما وقفت مع تعليمها، بل أن نهوض المرأة المصرية «من قبطية ومسلمة» ظهر جليًّا في ظروف كثيرة...فنبغ منهن الكاتبات والشاعرات «وأني أود أن تستمر عقيلاتنا الفاضلات وسيداتنا المصونات صارفات مجهوداتهن في طلب المزيد لتحسين حالتهن الاجتماعية وترقية شؤونهن العمومية فلا يطلبن الطفرة وينشدن المستحيل ويتدرجن في أعمالهن تدرجًا معقولًا رشيدًا». ثم تناشد صاحبة المقال النساء بضرورة أن «يلتفتن إلى دورهن كأمهات وزوجات، فإذا ما وصلن إلى هذه الدرجة المطلوبة من الرقي والتقدم عندئذ يأخذن في التفكير عما إذا كان يجوز لهن أن يدخلن في معترك الأعمال السياسية وينلن نصيبهن منها أم لا»(). 

وعلى الرغم من المجهودات المكثفة للإنجليز للحد من النشاط النسائي، فإن النتيجة كانت مزيدًا من الثورة، وأسهمت المرأة في إضراب الموظفين، إذ باركته ودفعته، فذهبت السيدات ووقفن على أبواب الدواوين؛ لمنع الموظفين المتخاذلين من الدخول إلى مكاتبهم(). 

وأنوِّه هنا بإشارة عبد الرحمن فهمي في مراسلاته مع سعد باشا، إلى اشتداد نهضة السيدات في الحركة الوطنية اشتدادًا يبشر بحسن الحال والمآل، فلقد اجتمع بالكنيسة المرقسية، نيف وألف سيدة من العائلات الكبيرة والبيوتات القديمة، وألفن لجنة سمينها، لجنة الوفد المركزية للسيدات، وذلك بالانتخاب السري، الذي أسفر عن انتخاب حرم شعراوي باشا رئيسة، ومعها أربعة عشر سيدة؛ كحرم محمود باشا رياض، وعمر باشا سلطان، وحرم الدكتور خياط، وحرم الأستاذ ويصا واصف، وحرم فهمي بك ويصا(). 

ومن التظاهرات النسائية اللافتة تظاهرة يوم 16يناير1920م؛  لتحية سينوت حنا، بعد رفع الإقامة  الجبرية عنه، قامت من ميدان المحطة إلى فندق شبرد، هتفن لسينوت بك المقيم بها، وللوفد ورئيسه وللاستقلال التام، وحرية مصر، ولما وقع نظر السيدات، على بعض الضباط الإنجليز الذي كان يتقدمهم أحد الجنرالية  صحن بأعلى أصواتهن باللغة الإنجليزية، «لتحيا مصر حرة، ليحيا الاستقلال التام، ليحيا الوفد المصري، ليحيا سعد باشا زغلول، ليسقط ملنر، ليخسف الله الأرض بملنر». ثم استمرت المظاهرة في مسيرتها نحو نادي رمسيس، وهتفت السيدات باللغة العربية للاتحاد بين عناصر الأمة، وهناك أتى البوليس الإنجليزي، ومعه نفر من البوليس المصري، وفرقهن إلى منازلهن، وكانت المظاهرة مشيًا على الأقدام(). 

الوحدة الوطنية في مقالات سينوت حنا

أما المعركة الأخيرة والأهم التي يتناولها المقال فهي معركة الحفاظ على الوحدة الوطنية؛ فقد لجأت سلطة الاحتلال لإشعال الفتنة الطائفية بين المصريين والأقباط في محاولة منهم للتلاعب بمشاعر المصريين لوأد الثورة والاحتجاجات المصرية في مهدها، وهي لعبة سياسية اعتادت عليها تلك السلطة، لتحقيق مصالحها السياسية، منذ حادثة دنشواي والنعرة الطائفية التي أعقبتها، واغتيال بطرس غالي والفتنة الطائفية سنة 1910م، إلا أن المصريين نجحوا في تجاوز هذه العقبة، وأفشلوا مخططات الإنجليز لإشعال الفتنة الطائفية، وهو ما تجلى بوضوح في قيام الشعب بكل فئاته في ثورة 1919.

كانت الوحدة الوطنية بين المسلمين والأقباط في ثورة 1919، صفة مميزة للثورة ومن أبرز إنجازاتها، وكان تيار الثورة، القائم على الوطنية دون الدين، شديدًا إلى درجة مكنته من إزالة الخلافات والشكوك(). وكان دور الصحافة المصرية الوطنية في أثناء الثورة، بنشر الاجتماعات المتعددة بين الأقباط والمسلمين في دور عبادتهم، من أهم العوامل التي أدت إلى بروز ظاهرة عمق وقوة الوحدة بين أبناء الوطن الواحد مختلفي الديانات، ووقفت الصحافة بقوة لإفساد كافة محاولات الاحتلال لضرب الوحدة الوطنية المصرية وتفتيتها؛ سواء بإصدار القرارات المهددة لهذه الوحدة كتعيين يوسف وهبة رئيسًا للحكومة، أو بإعلان السياسات وإصدار التصريحات، التي تبث الانقسام بين أبناء الوطن الواحد، كالنص في تصريح 28 فبراير1922م على حماية الأقليات، وأفلحت الصحافة الوطنية في الرد على افتراءات سلطة الاحتلال وصحفه، والاتهامات التي وجهوها للشعب الثائر، لإثارة الشكوك والخلافات بين طوائفه المختلفة، وضرب وحدتهم، وكان في مقدمتها صبغ الثورة بالصبغة الدينية العامة، واتهامها بالتعصب الديني الإسلامي، واتهام الأقباط بالانضمام لها خوفًا من المسلمين، وإثارة الصراع على الوظائف العامة ، لنشر مشاعر الغيرة والحقد بينهم(). 

وكانت الصحف الوطنية تحرص على نشر اللقاءات بين المسلمين والمسيحيين، ومن ذلك ما نشرته صحيفة «وادي النيل» في 7 أبريل 1919، تحت عنوان «في الكنيسة القبطية»، من أنه قد «اجتمع صباح أمس في الكنيسة القبطية الكبرى بالإسكندرية نحو 4000 من المسلمين والأقباط، وفي مقدمتهم كبار رجال الدين من القسوس والعلماء وكبار رجال الفريقين من المحامين والأطباء والتجار...»(). 

وسوف أستند في هذا المقام على مقالات «النائب الحر سينوت حنا» الكاتب بصحيفة «مصر»؛ إذ دخل سينوت حنا المعركة ضد الاحتلال البريطاني، ولجنته ومحمد سعيد رئيس الحكومة بسلسلة مقالات عنوانها «الوطنية ديننا والاستقلال حياتنا»، وهي مقالات أخذ يكتبها في البداية على صفحات صحيفة «مصر»، الوفدية، فتحت عنوان «موقف الوزارة حيال لجنة ملنر»، كتب يقول: إن طلب محمد سعيد تأجيل حضور اللجنة إلى مصر حتى تسوى المسألة بين تركيا وإنجلترا، يخدم مصلحة الإنجليز وحدهم، ويضع مصير مصر تحت خطر عظيم، لأن في مقدور بريطانيا أن تحصل من تركيا على ما يوافق رغبتها، فرئيس الحكومة قد حكم على مصر بأن تكون تحت الحكم البريطاني، وإنما أجل تنفيذ الحكم إلى أشهر قلائل، وهو أمره لا تقره الأمة، فيناشد سينوت حنا، رئيس الحكومة، مقاطعة اللجنة أو إعلان استقالته، مشددًا على أن اللجنة «متى حضرت الآن فعملها مقضي عليه بالفشل التام»، ثم يشير إلى أنه لو كانت الجمعية التشريعية قائمة، لطالبت الوزارة بالانضمام إلى الأمة في مطالبها، ويقول إن الصحف هي السبيل الوحيد لهذه المطالبة في ظل غيبة التمثيل النيابي(). 

وقد أثار سينوت حنا تعليقات الصحف التي تراوحت بين التأييد والمعارضة، بينما اتخذ قسم الصحافة بدار الحماية البريطانية بمصر، من هجوم سينوت حنا على سياسة رئيس الوزراء، دليلًا على أن كتلة سعد زغلول على درجة كبيرة من القوة، وأن الوقت الحاضرغير موات للقيام بمحاولة لتفتيتها.()

ثم نشر مقال بعنوان «الأمة تترقب بيان الوزارة» في 13أكتوبر1919م()، أعقبه تصريح محمد سعيد في اليوم نفسه، أن حكومته طلبت تأجيل حضور اللجنة، ثم طلبت منعها من الحضور، فإذا حضرت رغم هذا «يكون معناه أنه لا قيمة لنا أنا والوزارة في نظرهم... وأننا لا نستطيع أن نحكم البلد»، فكتب الأستاذ سينوت حنا مقال بعنوان «الأمة والوزارة»؛ يبين فيه أن الحكومة «تسعى للظهور في المظهر الذي يرضي الأمة... لأن الحركة المصرية الحاضرة، أصبحت في قبضة الرأي العام... غير أن محمد سعيد لم يكن صريحًا؛ فهو تارة يقول إنه طلب تأجيل اللجنة، وحينًا يقول إنه طلب منع حضورها» وعلى أية حال فهو يقول للإنجليز «نحن لا نقبل حضور لجنتكم الآن، لأننا ما زلنا نعتبر مسألتنا مرتبطة بتركيا وغيرها، ولكنكم إذا انتهيتم من هذه الدول قبلنا المناقشة مع لجنتكم» وهو ما ترفضه الأمة المصرية. ()

ثم طالب الوزارة بالاستقالة، في مقاليه «المناصب الوزارية سياسية قبل كل شيء»()، و«مصير الوزارة»(). ففي المقال الأول فند الأستاذ سينوت ادعاء الوزارة بأنها إدارية فحسب، وطالبها باتخاذ موقف سياسي إيجابي، أو التضحية بالمناصب. وفي المقال الثاني، عرض سينوت للتصرفات الخاطئة التي ارتكبتها الوزارة، وأكد أنه «لا مفر للوزارة من تأييد الأمة أو الاستقالة»(). 

ولما أذاعت دار الحماية البريطانية بالقاهرة في 14نوفمبر1919م، بلاغًا رسميًّا بقرب قدوم لجنة ملنر إلى مصر، أكد سينوت حنا في حديثه لمندوب صحيفة «التايمز»، نشرته عدة صحف؛ منها «وادي النيل» في 15نوفمبر1919م،  «أن الأمة المصرية متمسكة بطلب الاستقلال التام، وأن كل شيءغير ذلك لا فائدة منه، ولا يمكن أن يهدئ الحركة التي تقوم بها لنيل حقوقها» وعن «مركز الأقباط تلقاء المسلمين إذا استقلت مصر، وهل يندم الأقباط بعد ذلك»، أجاب الأستاذ سينوت بكلمة القمص مرقص سرجيوس «إذا كان المليون قبطي سيصيرون عقبة في سبيل استقلال مصر، فهم على استعداد لقبول الفدية، ولتستقل مصر بأن يضحي هذا المليون في سبيلها».()
وقد قامت صحف الاحتلال بالرد على سينوت حنا؛ إذ تصدت صحيفة «الوطن» في يوم 12ديسمبر1919م، لتسفيه أقواله، وقالت له «ألا يفسر جوابك هذا بأن الأقباط لاينالهم حينئذ غير الذبح والاستئصال من البلاد لو خرج الإنجليز من مصر»(). 

وأمام المعارضة الشديدة التي أبداها الرأي العام للجنة ملنر، وموقف الوزارة منها وعدم استجابة الحكومة البريطانية لطلب محمد سعيد تأجيل مجيئها إلى مصر، وإلحاح الصحف الوطنية على الوزارة بتأييد الأمة أو الاستقالة، قدمت الحكومة استقالتها 15/11/1919، فرحبت معظم الصحف بالاستقالة، ويرى البعض أن مقالات سينوت بك «النائب الحر»، ساهمت في إسقاط الوزارة. وردًا على اشتداد الحركة الوطنية، قامت السلطات العسكرية بإغلاق بعض الصحف الوطنية واعتقال بعض قادة الوفد(). 

وأمام هذا التطور كتب سنوت حنا مقاله المعنون بـ«الثبات الثبات» الذي نشر بصحيفة مصر في يوم 17نوفمبر1919م، وفضح فيها السياسة البريطانية في مصر منذ الاحتلال 1882، وطالب الجماهير بالثبات على موقفها، «ليذوق الإنجليز طعم الفشل»، كما أكد أن «طلبات المصريين منحصرة في الحصول على الاستقلال... فمتى حصلنا عليه، أصبحنا نملك كل الوسائل التي نستطيع بها إسعاد مصر... ووضعنا لأنفسنا نظام الحكم الدستوري التام»(). 

ولما شكَّل يوسف وهبة الوزارة في 21نوفمبر1919م، قوبلت بالسخط والمعارضة، لأن تشكيلها جاء بعد صدور البلاغ البريطاني بتأكيد الحماية ومجيء اللجنة، واعتبر إقرارًا منها بالسياسة البريطانية التي ثارت الجماهير ضدها.وقد تضمن اختيار السلطة العسكرية ليوسف وهبة (القبطي) رئيسًا للحكومة، محاولة لإثارة الفتنة بين المصريين: الأقباط والمسلمين، وتفتيت الجبهة الوطنية المقاومة للاحتلال، والرافضة للجنة ملنر، وكان تقدير السلطة البريطانية أنه لو سكت الشعب عن هذه الخطوة، تحقق الهدوء المنشود لاستقبال اللجنة، وأمكن الادعاء بأن الأقباط يرحبون بلجنة ملنر  ولو ثارت الجماهير ضد الوزارة، يزعم أن الثورة موجهة ضد رئيسها القبطي الذي يرفضه المسلمون، أما إذا اشتدت المعارضة إلى حد اغتيال رئيس الحكومة، يمكن استغلال الحادث في إشعال الفتنة الطائفية(). ولكن القوى الوطنية؛ يتقدمها الأقباط ومنهم سينوت حنا، نجحت في حماية وحدة المصريين(). 

وقد أفسحت الصحف المعارضة للاحتلال البريطاني، صفحاتها لمعارضة وزارة يوسف وهبة؛ فنشرت «مصر» يوم 23نوفمبر1919، مقال سينوت «الوزارة الجديدة»، وقد تحدث فيه لأول مره باعتباره «قبطيًّا ونائبًا عن الأقباط بالجمعية التشريعية وبمجلس أسيوط الملِّي وبالوفد المصري...» ووجه حديثه إلى يوسف وهبة واختتمه قائلًا «يشهد العالم أن وهبة باشا، ما كان في وقت من الأوقات زعيمًا للأقباط، في شئونهم الاجتماعية والملية، ولا ممثلًا لرأيهم أو لرأي فريق منهم»(). 

واستعدادًا لاستقبال لجنة ملنر في مصر، اتخذت السلطة العسكرية البريطانية عدة إجراءات لتخفيف مظاهر المعارضة لها، فمنعت إلقاء الخطب، وهددت باعتقال الوطنيين، وبإغلاق الصحف إذا لم تعتدل في لهجتها، بيد أن صحيفة «مصر»، صدرت على صفحتها الأولى يوم 1ديسمبر1919، مقال سينوت حنا «واجب الوزارة»()، جاء فيه إنذار لوزارة يوسف وهبة قائلًا «إذا أصرت على مناوأة الرأي العام، واجترأت على مفاوضة السلطات الإنجليزية في نظام الحماية، فإن الأمة تبرأ من جميع تصرفاتها، وتكون مفاوضتها باطلة بطلانًا تامًا... ويدعوها إلى الانضمام لصفوف الأمة... وإلا فالاستقالة العاجلة بغير تردد»(). 

وكانت دار الحماية البريطانية تعتبر صحيفة «مصر»؛ لصاحبها تادرس شنودة المنقبادي، «زعيمة الصحف الزغلولية»، فعجَّلت السلطة البريطانية، في صباح يوم 2ديسمبر 1919م، بتعطيلها؛ وكانت مقالات سينوت حنا من أهم الأسباب في تعطيلها، وفقًا لرأي عبد الرحمن فهمي، وفي 3 ديسمبر، كتب عبد الرحمن فهمي، سكرتير عام لجنة الوفد المركزية، تقريرًا إلى سعد زغلول في باريس، بإبعاد سينوت حنا عن القاهرة، وتحديد إقامته بالفشن(). 

ومع صدور بلاغ لجنة ملنر 29ديسمبر، الهادف إلى التقريب بين أماني الأمة المصرية والمصالح البريطانية، أصدرت السلطة العسكرية البريطانية أمرًا، بإطلاق سراح المعتقلين في دورهم وعزبهم. وصرحت لصحيفة مصر بالعودة للصدور، بعد تعطيلها، ولكنها لم تعد إلى نشر مقالات «الوطنية ديننا»، التي كانت من أهم أسباب تعطيلها(). 

وفي 14يناير1920م، ذكر عبد الرحمن فهمي أمر رفع الإقامة الجبرية عن سينوت حنا، ووصوله إلى القاهرة مساء اليوم التالي 15يناير، وتوجه وفد من علماء الأزهر إلى فندق شبرد لزيارة سينوت حنا، وتهنئته بسلامة الوصول، فرد لهم سينوت الزيارة في الأزهر، بصحبة القمص مرقص سرجيوس، اللذان قوبلا بالحفاوة والترحاب(). 

وقد هاجمت صحيفة «الوطن» المعادية للوفد سينوت حنا، فقالت: إنه لا يستطيع فك الخط، وأنه ليس كاتب مقالات «الوطنية ديننا»، ولكن يكتبها له بعض المتطلعين إلى المناصب الوزارية. وأخرى كتبت أن سينوت حنا يهاجم الوزارات في مقالاته؛ حتى تشكل وزارة يتولى هو كل مناصبها(). 

وأصدرت مراقبة المطبوعات، 4مارس1920، قرارًا بفرض الرقابة السابقة للنشر على الصحف، اعتبارًا من يوم 6 مارس، بالتزامن مع إنهاء عمل لجنة ملنر بمصر، وكانت هذه الرقابة ملغاة منذ 28يونيو1919م، وبرر المندوب السامي البريطاني فرض الرقابة التحفظية بما تنشره الصحف باستمرار من المقالات التي تخل بسلطة الحكومة، وفي مقدمتها مقالات «الوطنية ديننا والاستقلال حياتنا»(). 

ورغم القيود الشديدة التي فرضتها السلطة الحاكمة على الأنشطة الوطنية، فإن وزارة يوسف وهبة لم تتمكن من الصمود أمام الحملة القوية التي شنتها الصحف الوطنية ضدها، مستخدمة أهم أسلحتها؛ مقالات سينوت حنا، فقدمت الوزارة استقالتها يوم 19مايو1920م(). 

خاتمة

وهكذا كان تأثير الثورة على اتجاهات الصحف المصرية الوطنية، في مصلحة الاتجاه الوطني للثورة، فعلى الرغم من محاولات السلطة العسكرية للاحتلال، قمع الثورة في مهدها؛ بإحكام سيطرتها على مؤسسات الدولة، الداخلية، والقضاء، والإعلام الموجه في صحفها، بإعلان الأحكام العرفية، وإحكام الرقابة على الصحف الوطنية، بالحذف والتعطيل، فقد استمرت الثورة بجهود أنصارها وصحفها الوطنية، تلك الصحف التي خاضت العديد من المعارك ضد الثورة المضادة والتي يمثلها الاحتلال وأبواقه.

 لقد كانت الصحف الوطنية دافعة لمشاركة الشباب واستمراره وقودًا للثورة، وداعمة للانطلاقة السياسية للمرأة المصرية حتى تأسيس لجنة سيدات الوفد، ثم محفزة وملهمة للوحدة الوطنية للحفاظ على نسيج المجتمع من أجل الاستقلال، وهو الدور الذي قام به «النائب الحر» سينوت حنا وآخرين بنجاح، فقاطع المصريون لجنة ملنر البريطانية، الأمر الذي أرغم دولة الاحتلال على الدخول في مفاوضات لتحديد شكل علاقتها بمصر.