مراجعات
عمار أبو الفتوحالحداثة والخريطة والدولة
2017.11.01
الحداثة والخريطة والدولة
عرض كتاب "الدولة الخرائطية: الخرائط والإقليم وجذور السيادة"، تأليف جوردن برانش، ترجمة جلال عز الدين وعاطف معتمد، نشر الشبكة العربية للأبحاث والنشر2017.
حظيت ظاهرة الدولة باهتمام المتخصصين في معظم مجالات الفكر الإنساني، من الفلسفة والعلوم السياسية، إلى القانون والتاريخ والاجتماع والأنثربولوجيا والمجالات البينية كالاقتصاد السياسي وغيره. ولا يزال الاهتمام بها وبكل ما يتصل بها، مستمرًا إلى اليوم. والكتاب الذي نعرض له، يقدم مقاربة جديدة، تلقي الضوء على جانب مهم من قصة الدولة لم يتم التعرض له من قبل، وهو دور الخرائط في تشكيل السلطة الإقليمية الحديثة.
على الرغم من تعدد التعريفات التي وضعت للدولة، إلا أن هناك ثلاثة أركان مُجمع عليها، وهي: الشعب والإقليم والسلطة السياسية. ويركز برانش على "الإقليم" باعتبار "الإقليمية" هي أخص خصائص السلطة الحديثة، وهي ما ميزها بشكل حاسم عن السلطة السياسية القروسطية. ولا بد لكل من يتصدى بتقديم نظرية عن الدولة، أن يبدأ بسؤال النشأة- بالنظر إلى كون السؤال هو مفتاح الظاهرة: متى وأين وكيف نشأت الدولة؟
يرى جوردن برانش، أستاذالعلاقات الدولية بجامعة براون، أنه يقدم إجابة جديدة تخالف الإجابة الشائعة في حقل العلاقات الدولية، القائلة بنشأة الدولة مع صلح وستفاليا (1648م). وتقول أطروحته، باختصار، إن الخرائط ساهمت بدور محوري في تشكيل النظام الدولي الحديث، القائم على "الدولةالإقليمية الحديثة" كنظام حصري للحكم والسيادة، عن طريق تغيير تمثيلات الفضاء السياسي لدي الحكام ومختلف الفاعلين السياسيين. وأن ذلك حدث بشكل غير مقصود، وتدريجي، وبعد مرور فترة كبيرة على وستفاليا، وتحديدًا في بدايات القرن التاسع عشر، مع مؤتمر فيينا ومعاهدة باريس (1815-1814).
يستخدم برانش للتدليل على نظريته منهجي التحليل السردي وتتبع العمليات، بتطبيقهما على المادة التاريخية، التي تمثلت في تاريخ الكارتوغرافيا (علم الخرائط)، والتاريخ السياسي لأوروبا ونشاطها الاستعماري، وأخيرًا المفاوضات ومعاهدات السلام بين الدول الأوروبية (حيث تكشف نصوص المعاهدات عن البنية المعيارية الكامنة في أفكار الفاعلين السياسيين حول السلطة وممارستها، مما يمكّن من رصد التغير في أفكار السلطة السياسية) ثم يقوم بتطبيق مقاربته على فرنسا كحالة نموذجية.
بعد الفصل التمهيدي، الذي يجمل فيه الكاتب ما فصّله في بقية الكتاب، يبدأ الفصل الثاني بصياغة مقاربة لوصف الأنظمة الدولية والتغير النظامي، لتوضيح طبيعة التحول في السلطة السياسية -على مستويي الأفكار والممارسة- الذي نتج عنه النظام الدولي الحديث، المكون من دول إقليمية حصريًّا. يبدأ برانش في التحقق من أفكار وممارسات السلطة القروسطية والسلطة الحديثة، من خلال التركيز على الحكم: من يحكم؟ لمن الحكم على أي مجال؟ كيف يُعرَّف هذا المجال؟ كيف يتم الفصل ما بين أرباب السلطة المختلفين؟ بالإجابة على هذه الأسئلة بالنسبة للسلطتين القروسطية والحديثة، يتضح طبيعة التحول.
كانت السلطة القروسطية تخلط ما بين مجموعة من الأسس الإقليمية وغير الإقليمية، ومن أبرز صور السلطة غير الإقليمية نظام العلاقات الإقطاعية بين السادة والأتباع المبنية على شبكات الولاء الشخصيوالاستتباع التي كانت تنحدر من الملوك إلى الفرسان الأدنى شأنًا.وكانت السلطة أيضًا تُفهَم على أنها "سلطة على مجموعة من الأشخاص والأشياء" (القلاع والإقطاعات والأديرة والقساوسة ..إلخ) وليس على "إقليم" معين، وكان يُنَص على ذلك صراحة في نصوص المعاهدات. كانت السلطة تشع من مركز قوي إلى الخارج، وتضعف كلما بعدت عن المركز، وتُعَرَّف بالنسبة إلى هذا المركز، مما أنشأ حدودًا فضفاضة بين الممالك، غير مقطوع بصلتها لحاكم معين، مما أنتج بدوره تداخلاً في السلطات في كثير من الأماكن، كان يتعسر الوصول لتسويات بشأنها.
ومن الجوانب الأخرى التي تختلف فيها السلطة القروسطية عن السلطة الإقليمية الحديثة، الدرجة العالية للتمايز بين الأماكن المختلفة، حيث كانت تُعامَل المدن المركزية وتحكم بطرق مختلفة تمامًا عن الريف والبلدات الخاضعة المحيطة. وقد عكست ممارسات صنع المعاهدات أيضًا تعقيد السلطة السياسية القروسطية، إذ كانت المعاهدات توقع بشكل شخصي بين فاعلين مختلفين، بحيث لا يلتزم بها من يأتي بعدهما، مما يعني غياب الطابع المؤسسي لممارسات السلطة.
أما السلطة الحديثة، فيرى الكاتب أنها بدأت في الظهور في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وترسَّخت وأصبحت السلطة الوحيدة المعترف بها، بدءًا بالمعاهدات ما بعد النابليونية، أي في بدايات القرن التاسع عشر. وقد جاء مبدأ "الدولة" الخاص بالنظام الثوري الفرنسي معبرًا عنها، حيث تم تعريف الدولة بأنها "سلطة ذات سيادة حصرية ممارَسة من قِبل حكومة وحيدة على إقليم محدد بوضوح". أعيد بناء مفهوم الحكم الإقليمي بوصفه فضاءً معرفًا نحو الداخل من الحدود، لا نحو الخارج من المركز (كما كان من قبل). وشهدت هذه الفترة أيضًا الإيقاف النهائي للسلطات المتداخلة أو المشتركة التي وجدت في أجزاء عديدة من القارة.
يعتبر مبدأ التجانس أحد أهم الاختلافات التي يتميز بها التصور الحديث للسلطة، فكل النقاط الواقعة داخل حدود الدولة تعتبر على القدر من الأهمية نفسه، ولا يمكن التفريط في شبر واحد منها، وإلا اعتبر ذلك نقضًا لمبدأ السيادة التي تقوم عليه الدولة أساسًا. أما السلطة القروسطية، فلم تكن تولي اهتمامً كبيرًا للحدود والأماكن غير المركزية، ولم تكن تعتبر فقدانها خسارة أصلاً في أغلب الأحوال، إذ كانت السلطة معرَّفة على أماكن بعينها وفقط. إذن، كيف حدث هذا التحول؟
يرى برانش أن التغيير يحدث وفقًا لعلاقة بنيوية تبادلية بين ثلاثة عوامل: تمثيلات الفضاء السياسي، والأفكار التي يحملها الفاعلونفي تنظيم السلطة السياسية، وممارسات الفاعلين السياسية السلطوية التي تظهر تلك الأفكار. وهي العلاقة التي حكمت تأثير الكارتوغرافيا الحديثة في أفكار الفاعلين عن السلطة السياسية وممارساتهم لها. فإذا كانت السياسة تُمارس وفقًا للطريقة التي يُدرَك بها العالم، فإن ذلك يعني أن الخريطة تمثل نقطة الانطلاق للممارسة السياسية. كانت الرؤية القروسطية للفضاء المكاني تتميز بمعلمين رئيسيين؛ الأول:أن العالم كان يُفهَم باعتباره نسقًا من الأماكن الفريدة أكثر من كونه مساحة أو اتساعًا هندسيًّا، والثاني: أن المكان كان يُدرك وفق مفاهيم الزمن والمسافة. ويرتبط كلا المعلمين بالتصوير الفوتوغرافي وبالوصف النصي للأماكن المستخدمين في تلك الفترة، ونستطيع أن نرى ذلك على سبيل المثال، في خريطة فرنسا أدناه التي تعود لعام 1460. حيث كانت فرنسا كما يراها صانع الخريطة، عبارة عن عدد محدد من المدن المركزية الهامة، التابعة للنبلاء والإقطاعيين التابعين للتاج الفرنسي، ولا يمكن رؤية حدود واضحة لفرنسا، ولا الفضاء المكاني، بل هناك أماكن بعينها. كما أن أحد أهم خصائص الخرائط القروسطية، أنها كانت خاضعة للتصورات الدينية عن العالم والتاريخ، وليس للمعلومات الجغرافية الصرفة، مما استتبع أن يتم تمييز أماكن بعينها عن أماكن أخرى، فعلى سبيل المثال، كانت القدس دائمًا هي مركز الخريطة.
أما الرؤية الحديثة للفضاء المكاني، التي جاءت نتيجةً لتطبيق التقنية الإحداثية البطلمية التي تصوّر العالم على شبكة من خطوط الطول ودوائر العرض، فترى الأرض سطحًا متجانسًا وقابلاً للتقسيم، وتتباين الأماكن المختلفة كمًّا لا كيفًا وتصلح أي نقطة فيها لأن تكون مركزًا للخريطة. فنتيجة للرؤية الإحداثية البطلمية تصبح كل النقاط متساوية وتختفي أي أفضلية أو أهمية لنقطة على غيرها، وهذا يتيح سهولة في التقسيم.
ولكن هنا ملاحظة مهمة، وهي أن الخبرات المباشرة للنخب الأوروبية بالأماكن والفضاء الأوروبي صعَّبت تقبلهم لهذه الرؤية وتطبيقها على الداخل الأوروبي. حيث كانت المميزات التي تحظى بها أماكن معينة، كالمدن المركزية، على غيرها راسخة في اللا وعي والوجدان الأوروبي، كما أن الشبكات المعقدة للسياسة والاقتصاد والعلاقات الاجتماعية على الأرض زادت من صعوبة انتقال هذه الأفكار للممارسة والتطبيق. وعلى الجهة الأخرى، كان من السهل تطبيق هذه الأفكار عند تقسيم العالم الجديد (الأمريكتين) بين القوى الأوروبية، بالنظر إلى تساوي كل الأماكن والنقاط وتجانسها في نظر النخب الأوروبية، وعدم وجود خبرات مباشرة بهذا الفضاء تضفي ميزة لمكان على غيره.
من هنا يرى برانش -موافقًا أرندت في تحليلها للشمولية، وأندرسن في تحليله للقومية- بأن الرؤى الحداثية وجدت طريقها للتطبيق في الممارسات الأوروبية في العالم الاستعماري، قبل أن تُطَبّق في الداخل الأوروبي. ويثبت برانش ذلك من خلال العودة لنصوص المعاهدات ومفاوضات السلام، بدءًابمؤتمر آراس (1435) وحتى مفاوضات القرن الثامن عشر، مرورًا بمعاهدة كاتو-كمبريزي (1559)، ثم وستفاليا (1648)، والبرانس (1659)، وأوترخت (1713)، حيث كانت كل هذه المعاهدات تشهد استمرارًا للأفكار والممارسات القروسطية عن السلطة السياسية فيما يخص الفضاء السياسي الأوروبي. بلإن هناك مفارقة صارخة في معاهدة أوترخت. ففيما يتعلق بالداخل الأوروبي كانت الرؤية القروسطية التي تتعامل مع "الأماكن" على أنها سيدة الموقف هي السائدة، بينما كان تقسيم الأمريكتين يتم وفقًا للرؤية الحديثة للفضاء المكاني.
أما بداية الانتقال الحقيقي إلى النمط الحديث للسلطة السياسية في الداخل الأوروبي فقد أتت في مؤتمر فيينا ومعاهدة باريس، حيث تم استبعاد كل أنماط السلطة غير الإقليمية وعدم الاعتراف إلا بالسلطة الإقليمية، وتم تعيين الحدود هندسيًّا وجغرافيًّا بدقة.