عدد 18-عن الفقد والافتقاد

ماجد وهيب

الحياة تاريخًا طويلًا من الفقد ثلاثية نجيب محفوظ نموذجًا

2020.11.01

الحياة تاريخًا طويلًا من الفقد ثلاثية نجيب محفوظ نموذجًا

منذ ولادة الإنسان وحتى يموت ويفقده الآخرون، يكون هو نفسه قد جرَّب الفقد، بأشكاله المتعددة، أكثر من مرة. بالموت؛ وهو أوضح أشكال الفقد، يفقد أناسًا أعزاء، جمعتهم به صلة دم أو علاقة صداقة أو زمالة أو حب، وليس بالموت وحده يفقد الإنسان عزيزًا عليه، فالدنيا تتفنن في الطرق التي تُفقدنا بها الأعزاء نهجر الأوطان، نتخاصم، تختلف دروبنا واهتماماتنا، تلهينا الحياة، تتعدد الأسباب والنتيجة واحدة، نفقد ونُفقد. والفقد نفسه، هذا الشعور الذي يداهمنا بقسوته من حين إلى آخر وكأننا جئنا لنجربه هو أكثر من غيره، ليس فقط فقد الأشخاص، فنحن نفقد أيضًا مشاعر ونفقد أحلامًا، نعاني الفقد المادي والمعنوي، وليس بمقدور أحد أن يحكم أي أنواع الفقد أشد قسوة، فجميعها تأخذ منا حتى نُفقد نحن في النهاية، لنتحول من فاقدين إلى مفقودين إلى الأبد. ربما تكون حياتنا بأكملها هي المشوار الذي علينا أن نقطعه حتى نتحول من فاقدين إلى مفقودين. ولأن الروايات خيال يبنيه الروائي على أرض من واقع، ويسجل فيها مصائر شخصياته وتقلباتهم وما تفعله الحياة فيهم، لا بد أنهم سيعانون الفقد بأي شكل من أشكاله وإلا ما كانت في الرواية حياة، فمن الممكن أن تجد إنسانًا لم يتذوق الندم قط، ولا جرَّب لوعة الحب طول حياته، لكن يستحيل أن تجد إنسانًا لم يعانِ الفقد ولو مرة واحدة على الأقل، إنه أسهل الأبواب وأضمنها لدخول الدراما إلى حياتنا، فهو، في أوضح أشكاله، يجيئنا عن طريق الموت، والموت حقيقتنا الكبرى التي لا تقبل جدلاً. وإذا كنا نريد أن نكتشف الفقد كتجربة إنسانية في رواية، فليس أفضل من روايات الأجيال؛ لما فيها من زمن ممتد يتتبع مصائر مجموعة كبيرة من الشخصيات، وفي الأدب العربي تحتل ثلاثية نجيب محفوظ مركز الصدارة في هذه النوعية من الروايات.

أول الفاقدين في ثلاثية محفوظ هو ياسين، فاقد أمه وهي على قيد الحياة. الرواية تبدأ وهو فاقد لها منذ أحد عشر عامًا، هجرها بسبب سلوكها وعاش مع أبيه وزوجته. ربما يكون محفوظ وهو في مرحلة الإعداد لثلاثيته أراد أن يكون للسيد أحمد عبد الجواد ابن شبيه به في كثير من صفاته، ففكر كيف يمكن لتربية أحمد عبد الجواد القاسية ولطبيعة شخصية أمينة أن يخرجا ابنا مثل ياسين؟ ربما رأى أن ذلك غير ممكن، فلم يجد حلاً غير أن يُدخِل تعديلاً على تاريخ السيد أحمد عبد الجواد ويجعل له زوجة سابقة أنجبت له ياسين، زوجة على النقيض من أمينة، وفيها ما يمكن أن تأخذه أنثى من شخصية أحمد عبد الجواد، الابن يهجر أمه منذ صغره وينتقل للعيش مع أبيه ويكبر بعيدًا عنها، هكذا يمكن لياسين أن يأخذ الكثير عن أبيه، ومن هنا نستطيع أن نعرف كيف أثَّر فقدانه لأمه على طباعه وشخصيته. ورغبة في الدقة يمكننا القول إن التاريخ الحقيقي لفقدان ياسين لأمه بدأ قبل أن يهجرها، بدأ منذ علم بعلاقتها بالفكهاني، هنا فقد صورتها كأم، فقدها معنويًّا، فلم يبق غير أن يهجرها بجسده ليفقدها ماديًّا، ليتم الفقد في صورة أكمل، وكذلك فقدته هي أيضًا وأثَّر ذلك عليها. لما علم ياسين بنيتها في الزواج وزارها، قال لها إنه يتمنى لو يستطيع قتلها، فردت في حزن بالغ، كما يصف محفوظ «لو فعلتها لأرحتني من حياتي». وقبل هذه الجملة قالت له أيضًا «إنني أرغب في مودتك من أعماق قلبي، وطالما تمنيتها، وكم سعيت إليها فرددتني بلا رحمة». المشهد يصوِّر ببراعة شديدة لقاءً بين اثنين يفقدان بعضهما البعض، وأي اثنين؟ إنهما أم وابن بينهما أحد عشر عامًا من الغياب. بعد ذلك ستظهر الأم في مشهد أخير عند موتها. «لست إلا مُعذبًا، لا وحشًا ولا حجرًا»، يصف محفوظ شعور ياسين وهو في الطريق إليها، وحين رآها على الفراش في مرضها «ملأه شعور صادق بالرحمة غابت في حرارته آلامه المزمنة كما تغيب في أحوال نادرة ظاهرة مرضية ميئوس منها». تسأله هل تحبني، فيجيبها بنعم. فرق كبير بين لقائه السابق بها عند علمه بزواجها، وبين لقائه بها وهي على فراش المرض، كأنه يلقى أم طفولته التي أحبها قبل أن تواريها عن قلبه الآلام». تموت الأم ويصبح فقدها أبديًّا وكاملاً، لكنه فقد يصفي قلب ياسين نحوها ولو قليلاً، هكذا يفعل الموت، يواري الإساءات في نقطة أعمق فلا يبقى بداخلنا غير الرحمة والشفقة، فما بال إذا كان المفقود هنا هو الأم؟ هنا أيضًا تحولت الأم من فاقدة لابنها إلى مفقودة إلى الأبد.

تعرَّض ياسين للفقد أيضًا عندما عرف حقيقة أبيه، الأب شديد الطباع الصارم يملك وجهًا آخر يخفيه عنهم، وجهًا يجعله يعرف النساء ويسهر مع الراقصات ويغني ويضرب على الدف. هذه المعلومات الجديدة التي عرفها ياسين عن أبيه أفقدته صورة أخرى كان لا يعرف سواها، وهذا النوع من الفقد المعنوي نتعرض له كثيرًا في حياتنا، نكتشف شيئًا لم نكن نعرفه عن أحد فنفقد بما عرفنا احترامنا لهذا الشخص ربما، أو ثقتنا فيه، أو نفقده كمثل وقدوة تحتذى بها. في المقابل كان أحمد عبد الجواد حريصًا كل الحرص ألا يفقد صورته كأب مستقيم عند أبنائه، ربما ينبع هذا من خوفه أن يُفقد كمثل وقدوة، حتى إنه، في الجزء الثالث، لما عرف من صديقه علي عبد الرحيم أن ابنه كمال يتردد على بيت جليلة التي كان يعرفها هو، وقال له محمد عفت إنها ربما عرفت هو ابن مَن، وحكت له عما كان بينها وبين أبيه، ردَّ أحمد عبد الجواد «لا قدر الله ولا كان»، لكنه فقد، دون أن يعلم، هذه الصورة. كم مرة يحدث هذا في حياتنا؟ نظن أن سرًّا ما نخفيه عن الآخرين، حتى نحتفظ بالصورة التي ترضينا في أذهانهم، ولا نعلم أن ما نظنه مخفيًّا ليس كذلك، وأننا فقدنا تلك الصورة التي لا نريد أن نفقدها.

ثمة فقد آخر يحدث، لكنه فقد مؤقت، عندما يعاقب السيد أحمد عبد الجواد أمينة بإرجاعها إلى بيت أمها عقابًا لها على خروجها دون إذنه. هنا الأبناء يفقدون أمهم، والأم تفقد أبناءها وبيتها، فيكون كل منهم فاقدًا ومفقودًا في الوقت نفسه. ربما يكون هذا الفقد المؤقت هو أكثر أنواع الفقد التي نتعرض لها في حياتنا، وهو في مدته، التي نعرف مسبقًا أنها لن تدوم إلى الأبد، يداهمنا بشعور عميق بالوحشة والشوق وعدم الارتياح، إنه الفقد الذي يسببه الاعتياد والألفة، إننا نتعرض لمثل هذا الفقد عندما يسافر شخص عزيز علينا اعتدنا لقاءه باستمرار سفرًا عرضيًا لمدة تطول أو تقصر، نتعرض أيضًا له عندما يُغيِّب المرض شخصًا ما. هذا الفقد المؤقت، عندما يكون المفقود هو الحبيب، تدور عنه أكثر أغانينا، ما ينتابنا من شعور بالشوق والحنين بسببه كان ملهما لكثير من شعرائنا الغنائيين، فكتبوا عن الأحبة الذين يلوعهم غياب المحبوب ولو ليوم. في ثلاثية محفوظ جرَّبت أمينة، وهي المحبة لزوجها، الفقد المؤقت للحبيب بهذا الغياب، وجربت إلى ذلك فقد الأبناء والبيت الذي ألفته، على الرغم من أن الأبناء لم ينقطعوا عن زيارتها كل مساء، وهي غالبًا لم تكن تراهم وهي في البيت إلا في مثل هذا الوقت، لكن محفوظ يصف شعورها «إلا أنها باتت تشتاق إليهم اشتياق المغترب في بلد بعيد إلى أحباب فرّق الدهر بينه وبينهم». وجرب الأبناء فقدها أيضًا إلى حد جعل ياسين يقول لها «نحن الآن لا بيت لنا، ولن يكون لنا بيت حتى تعودي إليه». وكما يكون هذا الفقد موجعًا وهو قائم، يكون انتهاؤه مفرحًا، وهكذا كان وقع انتهائه على نفوس الأبناء والأم أيضًا عندما لان قلب أحمد عبد الجواد وذهب إليها وأعادها إلى بيته. وكما أن مشاعر الشوق في ظل استمرار الفقد المؤقت ألهمت كثير من شعرائنا الغنائيين، فإن مشاعر الفرح بعودة الحبيب بعد غياب ألهمتهم أيضًا، وكتبوا أغنيات تؤكد فرحة المحب لانتهاء هذا الفقد المؤقت.

ثمة فقد من نوع آخر يحدث بزواج عائشة وخديجة. إنه الفقد الذي يغيِّر مكان من نفقده ويغيِّر بعض صفاته، لكنه لا يمنعنا من أن نراه من حين لآخر لنطعم بلقائنا به شوقنا إليه. في إحدى رواياته يقول ديستويفسكي ما معناه إن هناك من الآباء من يشعرون بالكُرْه نحو أزواج بناتهم، ربما السيد أحمد عبد الجواد ليس من هذه النوعية من الآباء، لكنه حتى وإن لم يكن منهم فلا شك إنه ككل أب أحس بأن البيت فقد شيئًا بزواج بنتيه. هذا النوع من الفقد هو من سنن الحياة، نعتاد عليه مع الزمن، لكن في أوله يداهمنا بشعور بالوحشة والاغتراب، للفاقد والمفقود، الأهل يفقدون وجود بنتهم وهي تفقد بيت أبيها ومن فيه لكن مع الوقت يصير بيت الزوج هو البيت الأول، هذا نفسه هو ما حدث مع أمينة، عندما خرجت من بيت زوجها وعادت لبيت أمها أحست بالوحشة وكأن بيت أمها ليس هو البيت الذي تربت فيه وعاشت بين جدرانه سنواتها الأولى. إنه فقد تحولنا من أبناء إلى أزواج ومن أزواج إلى آباء، الابنة تُفقد من أبويها كابنة، ثم هي نفسها تنجب فتتحول من ابنة إلى أم، ولما تكبر بنتها وتتزوج تتحول هي نفسها من مفقودة إلى فاقدة لبنتها، فتجرب ما جربته أمها من قبل. أمينة قبل أن تفقد بنتيها فُقدت بزواجها من أحمد عبد الجواد، وهكذا أخذت الحياة دورتها معها. إننا دائمًا ما نلعب الدورين، في كل الثنائيات، الجاني والمجني عليه، الظالم والمظلوم، الفاعل والمفعول به، الفاقد والمفقود.. إلخ.

وينتهي الجزء الأول من الثلاثية بفقد أكبر؛ وهو فقدان فهمي بالموت في ريعان شبابه. مرة أخرى الموت، لكنه هذه المرة أشد قسوة، موت الأبناء موجع أكثر، يقول عنه الأبنودي في قصيدته الشهيرة (يامنة): «اوعى تعيش يوم واحد بعد عيالك/ اوعى يا عبد الرحمن/ في الدنيا وجع وهموم أشكال وألوان الناس ما بتعرفهاش أوعرهم لو هتعيش بعد عيالك ما تموت/ ساعتها بس هتعرف إيه هو الموت». ينقطع أحمد عبد الجواد عن أصدقائه مدة ثم يلبي الدعوة لكنه يحرم النساء على نفسه خمس سنوات، أما أمينة فحزنها أشد، تلوم زوجها في داخلها على أنه عاد للسهر لكن تعود وتذكر كلام أمها «ليس حزن الرجال كحزن النساء، ولو صح أن نحكم على القلوب بقلب الأم لبدت القلوب أحجارًا». هي أيضًا قد فقدت أمها بعد موت فهمي، لكن الحزن على الابن أكثر. هذا فقد يكسر، فقد غير متوقع. ربما أكثر ما يوجعنا في موت الناس شبابًا هو أنه يفقدنا الثقة في الغد، يذكرنا بأن ثمة غدر في الرحلة، غدر يباغتنا على غفلة منا كقاطع الطريق، غدر بالآمال والتوقعات والأحلام، فالصغير الذي يخطط ويطمح يخطفه الموت كأن الموت يريد أن يقول إنه صاحب الكلمة العليا هنا. إذا كنا عند كل موت نشعر بأننا ضعفاء وصغار ولا حيلة لنا، فموت الصغار يجعلنا نشعر بأننا أقزام وأكثر ضعفًا وأقل حيلة. في موت الصغير موت لشعورنا بالأمان، موت لليقين، وتأكيد على أنه ليس هناك قانونًا ثابتًا، إذا اعتبرنا أن موت الناس كبارًا، بعد تأدية الرسالة، بعد الاستمتاع بالحياة، هو القانون الثابت. وفي موت الصغير هدم لإيماننا بأن ثمة أشياء من الممكن أن تسير وفق تخطيطنا. إننا بفقد الصغار نفقد أيضًا ثقتنا في أي شيء، وعلى الرغم من كثرة تجارب الفقد المماثلة نعود ونثق بعد أن يبرد الوجع وتغرينا الحياة، نثق لأنه يطيب لنا أن نستثني أنفسنا، ونقول إن الدنيا لن تفعلها معنا كما فعلتها مع أناس من قبلنا. هذه أيضًا من سنن الحياة. الحياة تمضي كما ستمضي في الثلاثية. ولأن كل إنسان قبل أن يُفقد يفقِد، فقد فهمي قبيل موته مريم، الفتاة التي أحبها ورفض أبوه زواجه منها، ثم فقد حبها؛ نبذه، بتعبير ياسين، مع حادثة الجندي الإنجليزي، لكن القدر لم يمهله وقتًا يتجرع فيها مرارة هذا الفقد.

وينتهي الجزء الأول من الثلاثية بصوت كمال وهو يغني «زوروني كل سنة مرة حرام الهجر بالمرة»، إنه المقطع المناسب عند كل حالة فقد نمر بها، هو المقطع الذي ما كان لياسين أن يغني سواه عند فقد أمه، وهو المناسب لأمه أيضًا وهو يهجرها أحد عشر عامًا، وهو المناسب لأمينة عند زواج عائشة وخديجة وهو المناسب للعروسين أيضًا، وهو المناسب كذلك لأمينة عندما طردها أحمد عبد الجواد عقابًا لها، لكن الموت هجر بالمرة، هجر لا عودة فيه. ترك محفوظ بطله أحمد عبد الجواد مع المقطع يأتيه بصوت كمال، وتركنا نحن نتخيل كيف كان وقعه عليه، وكيف يكون وقع مثل هذه الأغاني علينا نحن في العموم عندما تتكئ كلماتها على الجرح فتذكرنا بما فقدنا ومن فقدنا. الثلاثية بها الكثير من هذه الأغنيات التي تعبر عن حالات الفقد الكثيرة التي يعانيها الإنسان في حياته، سواء كان فقدًا ماديًّا أو معنويًّا، ففي بداية الجزء الثالث سيأتي صوت من الراديو يغني والعائلة مجتمعة «يا عشرة الماضي الجميل يا ريت تعودي». أليس هذا المقطع جديرًا بأن يغنيه أي منا عندما يحن لماضٍ ولى وفقده؟

في الجزء الثاني يكبر كمال، ليجرب هو أيضًا فقدًا يخصه وحده، فبعد أن فقد فهمي، ولم يكن تلقيه لذلك الفقد كتلقي أبويه ولا بقية إخوته بسبب صغر سنه، حتى إن أمينة قالت «لا لوم عليه، رفقًا بالقلوب الغضة»، يفقد عايدة بزواجها من آخر. صحيح أنه لم يحلم يومًا بامتلاكها مثلما يحلم كل المحبين، لكنه بزواجها فقد صورة لها حفظها في خياله، فيقول عن ذلك «ألم لا لفقد الحبيب فإنك ما طمحت يومًا في امتلاكه، ولكن لنزوله من علياء سمائه، لتمرغه في الوحل بعد حياة عريضة فوق السحاب، لأنه رضي لخده أن يقبل ودمه أن يسفح ولجسده أن يبتذل». فقدان الحب الأول، في العموم، الذي يقول عنه أبو تمَّام «نقِّل فؤادك حيث شئت من الهوى ما الحب إلا للحبيب الأول»، ليس بالفقد الهين، فما بالك إذا أصاب شخصًا مثل كمال، له مثل قلبه ومثل حبه، فهو لم يكن يلقب عايدة بالمحبوبة وإنما بالمعبودة من شدة حبه لها. إن هذا الفقد، فقد المحبوب بوجه عام، موجود في تاريخ أغلب الناس رجالاً ونساءً، ومن الحب ما يكسر عند فقده، لا يقتل لكنه ينهش في الروح ويثقب القلب.

كمال سيفقد كثيرًا في حياته، ربما هو أكثر الفاقدين في شخصيات الثلاثية، قبل أن يفقد عايدة فقد فكرته عن ضريح الحسين، وقال في ذلك «لا زلت أؤمن بالله، أما الدين؟ أين الدين؟ ذهب كما ذهب رأس الحسين». إنه هنا الفقد الذي يسببه لنا الوعي، فنفقد ما نصدقه من أساطير وحكايات في الطفولة. كم من حكايات جميلة صدقناها في الطفولة فلما كبرنا وعرفنا أنها لا حقيقة فيها أصابنا الذهول وربما شعرنا بأن الأرض زلزلت من تحتنا؟ في شجاره مع حسن سليم فقد أيضًا ما يشعره من اعتزاز بمهنة التجارة، تجارة أبيه خسرت أمام الارستقراطية، إنه هنا الفقد الذي نعانيه عندما نظن أنفسنا في مرتبة أعلى ثم نكتشف أن هذه المرتبة ليست عليا كما نظن، إنه فقد للمكانة التي بنيناها لأنفسنا، أو التي توهمنا أنفسنا فيها. بعد كل هذه التجارب من الفقد التي مر بها كمال ماذا يكون قد فقد في الأساس؟ ربما البراءة، أو نفسه في طفولته، هذه النفس الطفولية نفقدها جميعًا عندما نكبر. يقول العلم إن خلايا الإنسان تجدد نفسها كل سبعة أعوام، ألا يعتبر هذا فقدًا؟ أليس تطور شخصياتنا، هو نفسه فقد؟ ألم يفقد كمال عندما شرب الخمر الصورة الأخرى منه التي رفضت الخمر في حفل زفاف عايدة، ولما فقد إيمانه بالدين ورأس الحسين فقد صورته التي أحبت الحسين طفلاً فقصده مستعطفًا ليعيد أمينة إلى البيت بعدما طردها السيد عبد الجواد لزيارتها الحسين دون إذنه، ألا يكون بالوعي قد فقد شفيعًا إذا جاز التعبير؟ وعندما عرف النساء ألم يفقد صورته التي سألت في حفل زفاف عايدة إن كان ما يقال عن ليلة الدخلة صحيحًا أم لا؟

وفي نهاية الجزء الثاني من الثلاثية يفقد زعيمه السياسي سعد زغلول. إن هذا الفقد ليس فقدًا لشخص تربطنا به علاقة دم أو صداقة أو زمالة، لكنه موجع مع ذلك. عندما يكون الزعيم السياسي أملاً للناس يكون فقدانه فقدان للأمل، هكذا أحست الجماهير التي خرجت تبكي عبد الناصر في جنازته، إنهم لا يبكون ناصر في حد ذاته وإنما يبكون الأمل الذي فقدوه بفقده، الأمل في أن تنصلح أمور البلاد على يد هذا الزعيم فينصلح حالهم هم، فإذا فقدوه فقدوا أملهم في صلاح حالهم.

وكما فقد كمال في نهاية الجزء الثاني، فقدت عائشة أيضًا. مرة أخرى الموت، يأخذ هذه المرة ثلاثة هم أعز الأعزاء، ربما هي أقسى حادثة موت في الثلاثية، أقسى من موت فهمي، وستفقد عائشة بسبب هذا الفقد أشياء أخرى. إنه هذا النوع من الفقد الذي إذا وقع تقع بعده سلسلة طويلة من الفقدان، تنفرط كنتيجة حتمية كما تنفرط حبات العقد. عائشة ستفقد نضارتها وضحكتها وجمالها. «كانت زين أيامها»، كما تردد أمينة في بداية الجزء الثالث، فترد هي قائلة عن نفسها «ثم صارت عبرة الأيام». هذا أيضًا فقد تصاحبه عادات جديدة يكتسبها المرء، فاعتادت عائشة التدخين، وتساهلوا معها في ذلك إشفاقًا عليها ورحمةً بها. لو لم يحدث ما حدث وفقدت ما فقدت هل كانت عائشة، بنشأتها وتربيتها وبكونها ابنة أحمد عبد الجواد، ستكتسب عادة مثل عادة التدخين؟ وهل كان البيت سيتساهل معها في أمر كهذا؟ لو أن أحدًا قال لأحمد عبد الجواد إن ابنتك ستصبح مدخنة يومًا ما، ولو قالها لعائشة وهي في بيت أبيها قبل أن تتزوج، ما كان أحدهما سيصف القائل إلا بالجنون والعته، لكن الزمن تغيَّر، وما وقع التغيير هنا إلا بسبب الفقد الذي تجرعت مرارته. ونحن في حياتنا ألا نتعرض لمثل الفقد؟ ألا يحدث أن نفقد شخصًا، أو شيئًا، يكون من المعزة لدرجة أن يغيرنا فقدانه إلى النقيض ويضيف علينا صفات ما كانت يومًا من صفاتنا وسلوكيات ما كانت يومًا من سلوكياتنا؟

في الجزء الثالث نعرف، أول ما نعرف، ما أصاب أحمد عبد الجواد من فقد لصحته. أصابه الوهن بعد الجبروت والقوة، فبات غير قادر على صعود السلم العالي، فانتقلوا جميعهم إلى العيش في الطابق السفلي تيسيرًا عليه. وكما فقد أحمد عبد الجواد فقدت أمينة، فجف عودها واشتعل رأسها شيبًا. إننا هنا أمام الفقد الطبيعي والمنطقي، فقد الشباب وحيويته. لكنه، مع منطقيته هذه، أكثر فقد نخاف منه على أنفسنا، نخاف الكبر والعجز وألا تسعفنا صحتنا، لكن متى كان خوفنا يمنع الحياة من أن تأخذ دورتها؟ كما نفقد نحن حيوية الشباب يفقد المكان أيضًا، فنفقد معه ذكريات، وكأننا نفقد المكان نفسه حتى وإن بقينا فيه، ملامحه التي عرفناه بها لما تتغير يصبح مكانًا آخر، تهدم بيوت وتبني غيرها، ترتفع عمارة مكان بيت ويحل دكان محل آخر، وهكذا جرى في الثلاثية، هُدم بيت محمد رضوان وأعيد بناؤه عمارة مكون من أربعة أدوار باسم بيومي الشرباتلي.

ولا يقف الفقد عند هذا الحد، فالزمن يُفقدنا أيضًا طباعًا كما يُفقدنا قوة الشباب وحيويته، وهكذا حدث مع أحمد عبد الجواد. الزوج الذي طرد زوجته في الجزء الأول عقابًا لها على زيارتها الحسين دون إذنه، فقد في الجزء الثالث هذه الصرامة، وتساهل مع زوجته في ذلك فصارت لا تكف عن زيارة الحسين. ويُفقدنا الزمن أيضًا مكانة كانت لنا، فقدها أحمد عبد الجواد مع كبر الأبناء والأحفاد «يذكرونه بأن شخصه يتراجع رويدًا عن مركز الاهتمام الذي كان يستأثره». هذا فقد يصيبنا في كبريائنا ربما، في الأنا التي اعتادت مركز الصدارة فإذ بها تتوارى إلى الخلف، وإن كان قد جاء هنا في الثلاثية وأصاب أحمد عبد الجواد بسبب الكبر وتفرع غصون العائلة، فقد يصيب آخر عند فقدان مركز مرموق، وظيفة كانت ترضي أناه ويشعر فيها بأنه مركز الاهتمام، أو عندما يفقد المال والثراء. هذا الفقد هو الذي أصاب في الثلاثية آل شداد. «لم تعد لأم صديقنا إلا خمسة عشر جنيهًا شهريًّا من ريع وقف، وقد انتقلت إلى شقة متواضعة في العباسية»، هذا ما يعرفه كمال من صديقه إسماعيل عن مصير عائلة معبودته. فُقد القصر، فُقد الجاه والثراء. إنه فقد لنمط حياة وأسلوب معيشة.

ولا تكف الحياة عن أن تصيب كمال بالفقد، فنراه في الجزء الثالث فاقدًا لأحلامه، هو الذي حلم أن يكون مفكرًا ويؤلف كتابًا كبير الحجم عن الإنسان، انتهى به الحال ككاتب مقالات في مجلة الفكر، لا أكثر ولا أقل، لكنه حقق حلمه في المعرفة والاطلاع. إننا هنا أمام فقد الأحلام، تحقيق الذات، وهو من أكثر أشكال الفقد وجعًا. عند محمد منير أغنية شهيرة يقول مذهبها «لو بطلنا نحلم نموت». ربما في الكلام وجه من الصحة، لكن ماذا لو حلمنا وتعلقنا بأحلامنا وعجزنا عن تحقيقها وفقدناها؟ ألا يكون في فقدانها موت لنا؟ ماذا نفقد عندما نفقد أحلامنا؟ ألا نفقد جزءًا منا؟ ألسنا حينما نرسم حياتنا منعمة بأحلامنا ثم نفقد هذه الأحلام، نكون قد فقدنا الحياة التي تمنيناها؟ ثم هل يقدر أحدنا على تحقيق كل أحلامه؟ ألا يفقد الإنسان، مهما حقق من أحلام، حلمًا ما؟ بعض الأحلام تُنسى أو يحل آخر محلها، أو لا نتعلق بها تعلقًا كبيرًا فتكون نصف أحلام إذا جاز التعبير، فلا يصيب فقدانها بالحزن البالغ، ولكن من الأحلام ما نتعلق بها تعلقًا شديدًا فيكون في فقدانها حسرة وألم لا حد لهما. كمال جرب أيضًا فقدان الأصدقاء، ففقد، أول ما فقد، صديقه شقيق عايدة، وكان سفر الصديق هو السبب في هذا الفقد. إنه الفقد الذي يحدث لنا كثيرًا. البحث عن الرزق، عن حياة أفضل، يدفع للسفر، فنفقد ونُفقد، ومن الأصدقاء من يكون فقدانهم خسارة كبيرة، وفيه يكون كلاهما فاقدًا ومفقودًا في الوقت نفسه.

بانتهاء الثلاثية يطل الموت مرة أخرى، يموت أحمد عبد الجواد فتفقده أمينة، تفقد عشرة عمرها، ويفقده الأبناء. ثم تموت أمينة نفسها. الوالدان اللذان جربا فقدان فهمي، فُقدا هما في النهاية، هذه هي الحياة، تظل تفقد وتفقد لتصبح أنت نفسك في النهاية مفقودًا إلى الأبد، ومن فقدك اليوم سيفقدونه غدًا. لو كان للرواية جزء رابع ربما كنا سنشهد موت كمال أو ياسين. ماذا يحمل لنا فقد الوالدين معًا، أو أحدهما؟ إنه يعطينا، أول ما يعطينا، لقب يتيم، لقب موجع، يعرف قسوته من جربه. إنه يجيء حاملاً فقدانا ضمنيًّا للسند تختلف حدته من شخص لآخر، ويُفقدنا بالطبع ذكريات لا نهائية، وهكذا يحم الفقد المادي، فقد الجسد بالموت، في داخله فقدًا معنويًّا أيضًا. إذا كنا نحزن، نحن الأبناء، عند فقد الوالدين، فإن الشخص الذي لا ينجب ربما يحزن لأنه يتخيل أن موته لن يكون فارقًا عند أحد، ليس له أبناء سيشعرون بفقد عظيم عند موته كما أحس هو عند موت والديه. لقد جرَّب الفقد ويريد أن يكون له أبناء يجربونه مثله. هذه ليست قسوة، ولا أنانية، بل هي غريزتنا التي تجعلنا محبين لأن نكون مفقودين عند موتنا، حتى لا يكون موتنا سيان عند الجميع. إننا، على الرغم من الألم الذي نجربه عندما نكون نحن الفاقدين، نحب أن يكون موتنا فارقًا ومؤثرًا عند أحد، لهذا يحزن الشخص الوحيد ويقول في نفسه إنه لما يموت لن يجد من يحزن عليه ويشعر بفقدانه.

وإذا كانت الثلاثية قد خبرتنا عن الفقد في صورتيه المادية والمعنوية، من فقدان الأشخاص، على اختلاف درجة معزتهم وطبيعة صلتنا بهم، إلى فقدان المشاعر والحب والأحلام والصحة، فهي من بدايتها إلى نهايتها تدور وكل من فيها يفقدون الحرية، فزمانها يدور في حقبة كان الوطن فيها، المكان، فاقدًا حريته تحت وطأة الاحتلال، وانعكس هذا بالطبع على الجميع ففقدوا هم أيضًا حرياتهم. في الجزء الأول كان فقد الحرية مباشرًا وواضحًا عندما احتل الجنود الإنجليز الشارع واضطر أحمد عبد الجواد إلى ملازمة بيته لأيام، عانى الحبس بين أربعة جدران. أما أمينة فهي منذ الصفحات الأولى تعاني فقد الحرية على صعيدين؛ فهي أولاً مثل كل المصريين تعيش في وطن محتل فاقد حريته السياسية، فليست حرة، وثانيًا هي فاقدة حريتها بسبب طباع زوجها شديدة الصرامة والتي تحرمها حتى الخروج من البيت، وبالمثل كانت خديجة وكانت عائشة، وحتى الذكور، في ظل جبروت الوالد، كانوا فاقدين لجزء غير قليل من حرياتهم، وليس فقد الحرية بالفقد الهين، حتى وإن كانت الثلاثية لم تقدم لنا شخصية سجين عاني الحبس سنوات، وهو أقسى أنواع فقد الحريات، إلا إن فقد القليل من الحرية حتى وأنت في الشارع، في بيتك، وتمارس حياتك بشكلها الطبيعي، يترك في الإنسان شعورًا بالحزن وبأن شيئًا ما ينقصه، ولأن عالمنا يُبنى وفق قوانين، بعضها يسنها المجتمع، وأخرى تسنها النفس على صاحبها، وأخرى سنتها الطبيعة والأديان وأنظمة الحكم، فجميعنا فاقدون لجزء من حرياتنا لكن تختلف الدرجة من شخص إلى آخر، وتختلف قدرة كل منا على التحايل وهو داخل هذا الإطار، هذا الحبل الملتف حول رقابنا، لاسترجاع أكبر قدر من الحرية المفقودة.

يبقى لنا أن نقول أخيرًا إن الحياة على الرغم من ذلك ليست كلها فقد، حتى وإن كانت تاريخًا طويلًا من الفقد، إذا جاز أن نعرفها على هذا النحو، فهي أيضًا تعطينا ما يبقى معنا إلى الأبد ويروح لما نُفقد في النهاية بالموت، وتعطينا ما يبقى بعدنا حتى بعدما نموت، وأول ما يبقى عبَّر عنه الشاعر فؤاد حجاج، في الأغنية التي كتبها لتتر مسلسل حديث الصباح والمساء «ولا شيء يعطر حياتنا يمد في مداها غير سيرة عاشت لنا أكتر صاحبها ما عاش». هذه السيرة التي تبقى، والتي تصنعنا ونصنعها نحن أيضًا في آن، يدخل ما نفقده في رحلة الحياة كعنصر أساسي من مكوناتها، وهكذا يكون مُكونًا لنا نحن أيضًا؛ لشخصياتنا وسلوكياتنا وطباعنا.