مراجعات
رياض حمّاديالخرافة في “صاحب المقام” وأفلام أخرى
2019.01.07
الخرافة في “صاحب المقام” وأفلام أخرى
ثار الجدل حول فيلم "صاحب المقام" بسبب موضوعه، وفكرته المأخوذة من الفيلم الإسرائيلي "مكتوب Maktub". الفيلم من تأليف إبراهيم عيسى، ومن إخراج محمد العدل، وعُرض على الإنترنت في 30 يوليو 2020. وهو، من وجهة نظري، أضعف أفلام إبراهيم عيسى، لأسباب عديدة من بينها ترويجه للأضرحة. ثم إنه أضعف مقارنةً بفيلم "مكتوب" لأوديد راز، وفيلم "للحب قصة أخيرة"، لرأفت الميهي. تشترك الأفلام الثلاثة في الموضوع نفسه، وتختلف في المعالجة الفنية ونتائجها، بين فيلم ينتصر للخرافة، كما هو "صاحب المقام" وآخر يميل إلى إدانتها، كما في فيلم "للحب قصة أخيرة"، أو يقف منها موقفًا محايدًا، كما في فيلم "مكتوب".
نزاع المادية والروحانية
يحيى حسين الرمالي "آسر ياسين" رجل أعمال يتسم بعقلية تجارية، لا مكان للعواطف في تعامله مع موظفيه ومع زوجته وطفله. تتضح شخصيته هذه من المشهد الأول، في أثناء تعامله مع اختطاف أحد موظفيه في العراق، ومن خلال علاقته الجافة بزوجته وطفله. يمتلك يحيى شركة تخطط لبناء كمبوند، لكن تعترضهم مشكلة مقام الشيخ "هلال"، على الأرض التي ستُبنى عليها المدينة.
يفتتح الفيلم بمشهد يعرض فيه موقفين متعارضين من المقام. يبرز هذا التعارض في لقطة لنظارة يحيى، يظهر في عدستها اليمنى "حليم" وفي عدستها اليسرى أخوه التوأم "حكيم"، ويؤدي الدورين بيومي فؤاد. حليم مع هدم المقام، لأنه، كما قال "خرافة وضد الشرع"، بينما يعتبر حكيم المقام مقدسًا ولصاحبه كرامات، ثم إن المصلحة، بتعبيره، تقتضي ألا يعادي يحيى الأولياء. المبرر الدرامي للشخصيتين التوأم هو إظهار هذا الموقف المزدوج من الأضرحة داخل الأسرة الواحدة. يتدخل يحيى ليرجح كفة حليم، فيسأل "هو سيدُه هلال دا مشهور؟ ولي بجد وليه طريقة؟" ليُميز بهذا السؤال بين الولي الحقيقي والولي الدجال، وهو تمييز شاهدناه من قبل في فيلم رأفت الميهي، كما سنرى.
يتم التخطيط لهدم المقام بالاستعانة بالسلفيين -الأعداء التقليديين للصوفية- بالتبرع لمساجدهم، وبوسائل التواصل، من خلال حملة حسابات مزيفة تروج إلى أن "الأضرحة حرام وعفى عليها الزمن" وأن "الشيخ هلال حرامي". بعد هدم المقام يهبط سهم الشركة في البورصة، كحال بقية الشركات، وبزيادة عليها في النسبة، 25 %. ويُفسير الهبوط بأنه نتيجة طبيعية لحركة البورصة، وبأن سهم الشركة سبق له أن هبط من قبل. يسأل يحيى، بتهكم "عدَّى تلات أيام على هدم سيدي هلال بتاعك دا، ولا حصل ليا أي حاجة! ولا شُلَّت يداي ولا رجلاي، عادي، أنا كويس!" يجيب حكيم "أُمال اللي بيحصلنا في البورصة دا تسميه إيه؟! هو أنت فاكر إن الأولياء بياخدوا حقهم زي الناس العاديين كده في وقتها؟! ماكانوش يبقوا أوليا!" يضحك يحيى وحليم، وفي اللحظة نفسها تدخل السكرتيرة لتبلغهم أن فيلا الساحل احترقت بسبب ماس كهربائي. ينظر حليم لأخيه حكيم ويسأله "أنت مش قلت إن الأولياء ميخدوش حقهم في وقتها" يرد حكيم، بنبرة انتصار "مدد!".
صورة الطب وانتقام صاحب المقام
لن يتوقف "مدد" الولي، أو انتقامه، عند هذا الحد. في المشهد التالي تسأله زوجته راندا (أمينة خليل) "إيه حكاية المقام اللي انت هدِّيته ده؟" يجيب "دا كلام فاضي. أوليا وأضرحة، ناس برة القرن الواحد والعشرين!" وبعد ثوانٍ يجد يحيى راندا وقد سقطت مغمى عليها على أرضية الحمام، نتيجة نزيف في الدماغ.
يقف الأطباء في المستشفى عاجزين عن علاج راندا، فيقترح يحيى علاجها خارج مصر، فيجيب الطبيب: "صدقني مش هتفرق" يسأل الطفل ياسين يحيى "ليه حصلها كل ده؟" فيجيب الطبيب: "نزيف المخ بيجي في أي وقت وبدون سبب"! وفي مشهد لاحق يصف الطبيب حالتها بقوله: "هي كويسة بس مفيش أي تحسن للأسف"! وعندما تتدهور حالتها يقول "تطور يقلق، مفيش سبب واضح للتشنجات... عموما ربنا يستر". يصنف الطبيب التشخيص إلى نوعين "في طريقتين للكلام عن حالة راندا: الطريقة المصري اللي كله تمام وزي الفل، والطريقة الإنجليزي اللي بتقول المرض وأعراضه. طبقًا للتحاليل والأشعة اللي قدامي هي المفروض تكون فاقت وبكامل وعيها، بس في شي غريب بيمنع حدوث ده! بس اطمن إن شاء الله خير"! وعندما تفيق من الغيبوبة تقول لها "روح" يسرا "أنت في العناية المركزة، جالك نزيف في المخ ودخلتِ في غيبوبة والحمد لله ربنا قومك منها".
يقف الطب عاجزًا في أغلب الحالات المرضية الواردة في الفيلم. في حالة هاجر يسأل يحيى: "هي ماتت ازاي؟" فتجيبه نجوى (إنجي المقدم): "ماحدش من الدكاترة عرف عندها إيه! اللي قال نازلة واللي قال حمى. خذناها وروحنا بيها على أم المصريين قالولنا روحوا بيها على أبو الريش، ما لحقناش". وفي محاولة للتوفيق بين جهل بعض الأطباء وعلم آخرين، تخرج زينب، أخت هاجر التوأم، وهي تسعل فيسعفها يحيى إلى المستشفى، وهناك تشخص حالتها بأنها مرض "كاواساكي"-المرض نفسه الذي تسبب في موت هاجر- وبأن زينب ستشفى منه بالعلاج خلال أسبوعين.
أراد صناع الفيلم باختيار هذا المرض القول بوجود أمراض يعجز الطب عن تشخيصها وشفائها، على الرغم من أن مرض كاواساكي اكتُشف للمرة الأولى في عام 1976. والخلاصة هي غياب التفسير العلمي للمرض في أغلب الحالات، والمستشفى مكان شكلي، أما الشفاء فمن الله أو بوساطة الأضرحة. هذا العجزُ واجهه رفعت في مرضه بالقلب، كما سنرى لاحقًا في فيلم رأفت الميهي.
أكثر من مصادفات
هذا الربط بين هدم المقام وهبوط البورصة وحريق الفيلا ومرض راندا وخسارة الشركة لأرض العلمين، لا يمكن أن يكون وليد المصادفات. فكلها ابتلاءات هدفها هداية يحيى إلى طريق الروحانية، وهو هدف نبيل لو أنه عولج بأسلوب فني آخر يصب في صالح الروحانية، ولا يدين العلم.
تتجسد الروحانية في شخصية "روح"، فتظهر في أزياء مختلفة، زي طبيبة، وزي شرطية، وزي عاملة نظافة، وملابس امرأة شعبية. وتظهر ليحيى في أماكن متعددة؛ لتشير إلى أن الروح في كل مكان. كان يفترض ألا تتجسد الروح إلا ليحيى وحده؛ لأنه المعني بالهداية، كحال العديد من الأفلام الأجنبية التي تُجسد الروحانية، لكن هذا لم يحدث، فنجد آخرين يرون "روح" ابنه ياسين، والممرضة التي تخبره بأن "روح" ولدت في المستشفى ومن يومها لم تغادره!
يصاب جهاز العناية المركزة بخلل فيتساءل يحيى عما يحدث، تصمت الممرضة بما يشير إلى عجزهاعن التفسير، فتوجِّه "روح" يحيى إلى ما ينبغي فعله لكي تشفى زوجته "روح زور اللي أنت مزعلهم وصالحهم"! وهذا ما يفعله في المشهد التالي عند مقام الحسين. يقف يحيى حائرًا فيما ينبغي فعله فيجيبه رجل يقرأ القرآن "صلِّ لربنا وادعي إن ربنا يشفيها، واقرأ الفاتحة لسيدنا الحسين". تعكس ملامح يحيى استغرابًا مما قاله الرجل، فيجيبه "مهو لبس حضرتك ما بيقولش إنك جاي علشان رزق، وسنك مبيقولش إنك جاي علشان أولاد. باين عليك حبَّيب وجاي علشان واحدة بتحبها" ولا تخفى الإشارة الصوفية في هذا المشهد.
بعدها يقرر يحيى زيارة ضريح السيدة نفيسة، ثم يطلب ملفًا فيه كل أسماء الأضرحة والأولياء في مصر! حتى هذه المرحلة يحيى غير مؤمن بما يفعله، نشاهد ذلك في ابتسامته وهو يدعو أمام ضريح الحسين فتعاقبه امرأة "هالة فاخر" بصفعة على خده قائلة "عشان تِحرَّم تعمل كده". تُفسر "روح" الصفعة بقولها ليحيى "ربنا بعتهالك عشان تكسر غرورك"! ثم يزور الكنيسة ويشعل شمعة في إشارة إلى الوحدة الوطنية.
وهو في مقام الإمام الشافعي، يتذكر أنه زاره حين كان طفلاً بصحبة والده. هناك يشاهد الناس وهي تضع الرسائل في مقصورة الإمام الشافعي، فيسأل يحيى رجلاً في المسجد "محسن محيي الدين"، والذي كان زميل والده، فيخبره بأنها جوابات البسطاء للإمام الشافعي طلبًا للشفاعة والشفاء من المرض وتفريج كربهم وحل مشكلاتهم. يسأله يحيى "وبتتحل؟" يجيب "المشكلات ما بتتحلش، مسيرها تنتهي، وساعتها بتتحل". ولا يخفى في هذا الجواب توجيه الناس للصبر، بدلاً من حثهم للسعي بالأخذ بالأسباب! يطلب منه يحيى أن يأخذ الجوابات ليحل للناس مشكلاتهم، قائلاً "آن الأوان للإمام الشافعي أن يرد على الجوابات". يناوله الرجل صندوق الجوابات قائلاً "أنت رسول الإمام دلوقت يا يحيى.. كل ما تفتح للناس شباك ربنا سبحانه وتعالى هيفتح لك باب".
يبدأ يحيى بفتح الرسائل والبحث عن أصحابها. أول رسالة كتبتها هنادي "فريدة سيف النصر"، تطلب فيها أن يمنحها الله علامة على قبوله توبتها قبل موتها، وهذا ما يتحقق بوصول يحيى بعد مرور ثلاثين سنة. ثاني رسالة من عبدالحميد "إبراهيم نصر" يطلب فيها من الإمام الشافعي إعادة ابنه فرج المختفي منذ سنوات طويلة. هذه الحالة مأخوذة حرفيًّا من فيلم "للحب قصة أخيرة"، حيث عبد العزيز "عبد الحفيظ التطاوي" يعيش على أمل رجوع ابنه سامي المتغيب منذ سنوات. والفارق أن فرج يظهر في الأخير نتيجة تحريات قام بها لواء بإيعاز من يحيى. وفي فيلم "مكتوب"، نشاهد الطفل أفيسار وهو متيقن من ظهور أبيه، الذي لا يعرفه، وهو ما يتحقق في الأخير. وفي مساعدته للحالة الخامسة يدَّعي يحيى أنه من برنامج جوائز تليفزيوني؛ لكي يقدم للمرأة مبلغًا من المال. وهذه الطريقة مأخوذة من فيلم "مكتوب"، كما سنرى.
يطلب يحيى تفسيرًا من "روح" عن سبب تدهور حالة راندا، مع أنه صالح الناس وحل لهم مشكلاتهم، فتخبره "روح" ألا يتشرط على ربنا، وتوضح له الفرق بين الصفقة والتجارة "الصفقة صفقة، تبيع تكسب، تشتري، إنما مع ربنا مش مهم إنك تكسب من التجارة، مكسبك الحقيقي تجارتك مع ربنا". لكن التجارة مع ربنا، كما يصورها الفيلم، لا تتم إلا بوساطة الأضرحة، وهذا تأكيد على صدق الشفاعة وعلى كرامات الأولياء!
في مديح الخرافة وهجاء العلم
الهدف هو علاج روح يحيى، لا علاج جسد زوجته. وبحسب تعبير "روح" لراندا فإن يحيى: "ماشي في السكة اللي هيلاقي فيها روحه. علشان كده أنا عايزاك تفضلي في الغيبوبة شوية كمان"؛ هنا يتم فصل السبب عن النتيجة. وينتهي الفيلم بإعادة يحيى بناء مقام الشيخ هلال،على الرغم من أنه يعلم أنه ليس وليًّا، وأنهم لم يجدوا داخل المقام، عند هدمه، أي شيء، كما عبَّر حليم. يختتم الفيلم بيحيى وهو عند مقام الشافعي يضع رسالة عليها اسمه. كان بالإمكان تفادي هذه النهاية الفادحة بنهاية أجمل، في الدقيقة الأربعين بعد المئة، بموت راندا، لتشير القصة بهذه النهاية، المتخيلة، إلى ضرورة مساعدة الأغنياء للفقراء، ومساعدة الناس لبعضهم، بغض النظر عن النتائج المرجوة.
معالجة فيلم "صاحب المقام للخرافة"، مقارنة بفيلم "للحب قصة أخيرة" وفيلم "مكتوب"، يُعد ردة فكرية. يقف إبراهيم عيسى في فيلميه السابقين (مولانا) و(الضيف) ضد الإسلام السياسي، لكنه لا يمانع، في "صاحب المقام" من إرضاء جمهوره الذي يعتقد بشفاعة الأولياء!
يضع هذا الفيلم العلم في مرتبة أدنى من مرتبة الشيخ "وليّ الله". ويستبدل العلم/الطب بالدعاء وزيارة الأضرحة والمقامات. وأخطر ما في هذا الفيلم هو خلطه بين الروحانية والدجل، بين الله والشيوخ، وينتصر للتدين الشعبوي، مخالفًا بذلك موقف الدين نفسه من التبرك بالأولياء. الفيلم دعاية رخيصة للخرافة، ولو قرأناه من منظور العلاقة بين الشكل والمضمون لوجدنا تكلفًا في بناء قصته، من أجل فكرة محددة سلفًا هي الانتصار للخرافة، ليس لعلاج مرض الأجساد وعلل الأرواح فحسب، بل ولمناكفة السلفية الدينية بدعم الصوفية، وهو ما يصب زيتًا في أتون صراع المذاهب الدينية.
المعجزة في سياقها الدنيوي
تقوم فكرة فيلم "مكتوب Maktub "2017، على توظيف التشاؤم والتفاؤل والمعجزة في سياق دنيوي، تنتصر فيه للأخذ بالأسباب، ولا تدعو للخرافة، أو تقلل من شأن العلم والطب. في "مكتوب" لا مقام ولا أولياء ولا شيوخ، ولا أئمة أو أضرحة. ولا يتم التعامل مع حائط المبكى بقداسة، كالتي تعامل معها "صاحب المقام" مع أضرحة الأولياء الذين توسلت بهم الرسائل وذكرتهم "روح"، في صيغة تشبه الدعاء، ربما من أجل إرضاء أتباع الأولياء "مدد يا سيدنا يا حسين، مدد يا صاحبة الشورى يا أُم هاشم، مدد يا رفاعي، مدد يا سيد يا بدوي، مدد يا جبالي، مدد يا باب الرسول يا باب القبول".
تشوما وستيف يُحصِّلان الأموال لصالح رجل عصابات يدعى إلكاسلاسي، ويستعملان العنف في أثناء عملهما، إلى درجة جعلتهما مكروهان من قبل الناس. وهما في طريقهما إلى المطعم تسقط سمكة من السماء، فيفسرها تشوما على أنها نذير شؤم مقترحًا عدم الدخول إلى المطعم، لكن إصرار ستيف يدفعه للدخول. وبعد تناولهما الطعام يحدث تفجير إرهابي، لكنهما ينجوان منه. يقترح تشوما الذهاب إلى حائط المبكى للتعبير عن شكرهما بالنجاة. وهناك يكتشف ستيف أن تشوما أصيب بالصمم، فيأخذ ورقة محشورة في الجدار ويكتب فيها ما لم يتمكن تشوما من سماعه. يدفعهما الموقف للتفكير في مهنتهما فيقرران الاستقالة والسفر إلى أمريكا واستثمار المبلغ الذي كان بحوزتهما في أثناء التفجير.
بالمصادفة يكتشف شوما ما هو مكتوب خلف الورقة: رجل، يُدعى أخيكام شنتوف، يطلب من الله أن يساعده في إعادة إحياء علاقته بزوجته. في اللحظة التي يقرر فيها شوما وستيف مساعدة الرجل يستعيد شوما سمعه. يحللان سبب سوء علاقة الرجل بزوجته فيكتشفان أن السبب هو عمله لساعات طويلة وقلة الراتب. سلطتهما التي كانا يستعملانها في الشر يستثمرانها في الخير. يذهبان إلى مقر عمل شنتوف ويطلبان من المدير صرف علاوة له ومنحه إجازة، وبعد رفضه يهددانه فيستجيب لهما. يطلبان من شنتوف أن يأخذ زوجته إلى مطعم ومقهى، وبذلك تحل أول مشكلة. يعبر أخيكام عن شكره قائلاً لهما بأنهما ملاكان مرسلان من الله.
اللذة التي يشعران بها بعد مساعدة شنتوف ستكون محركهما لعمل الخير، وهو ما يشير إلى أن سلوكهما هذا سيستمر. يقرران سحب ورقة أمنية أخرى من حائط المبكى. يتنكر تشوما في زي امرأة ليتمكن من الدخول إلى قسم النساء ويسحب ورقة. يشاهدان امرأتين، إحداهما كبيرة في السن والثانية شابة جميلة، فيدفع ستيف تشوما لأخذ رسالة المرأة الشابة الجميلة، بقوله "حتى الجميلات يعانين من المشكلات"، في هذا الاختيار إشارة إلى أن ستيف ما يزال يتصرف كبشر يغويه جمال المرأة حتى وهو في مكان مقدس. في رسالتها تشكو دُنياشا حاجتها إلى المال وتطلب من الله أن يساعدها في إقامة مراسم بلوغ مشرفة لابنها بوريس؛ لكي يحبه زملاءه الذين يضربونه في المدرسة. يطرقان باب المرأة ويدعيان أنهما ينظمان حفلات البلوغ وأن اسم ابنها بوريس اختِير في اليانصيب وأنهما سيقيمان الحفل مجانًا. لا يخبرانها شيئا عن رسالتها التي وضعتها في حائط المبكى وإنما يظهران لها رسالة أعداها مسبقا موجهة من مجلس المدينة تؤكد فوز ابنها بالجائزة.
عند هذه المرحلة نكتشف أن لستيف زوجة اسمها "ليزو" وطفلاً اسمه "أفيسار"، وتشوما يساعدهما بالمال مدعيًا أنه مُرسل من ستيف. ويُوضع ستيف وتشوما أمام أول اختبار لتخليهما عن شهوات الجسد. في أثناء إقامة حفل بلوغ بوريس يبقى ستيف مع دنياشا بينما يذهب تشوما إلى بيت ليزو وفي يده علبة كعك. تطلب ليزو من تشوما المبيت معها وكذلك تفعل دنياشا مع ستيف لكنهما يرفضان فينجحان في الامتحان.
الحالة الثالثة لامرأة تدعى بروريا، في الأربعين من عمرها، تطلب في رسالتها من الله أن يرزقها طفلاً؛ كي لا يتخلى عنها زوجها. يُعبر ستيف عن العجز في تحقيق أمنيتها، بقوله: إنها مشكلة طبية، ووحده الله قادر على ذلك، وأن الرسالة تذكير لهما من الله بأنهما بشر لا آلهة. لكن إلحاح تشوما يدفعه للتفكير في حيلة يتمكنان بهما من إيصال بروريا إلى المستشفى وهناك يخبرهما الطبيب بأن المشكلة في زوجها لا فيها. وبالمصادفة يكتشف تشوما لاحقًا حلا لهذه المشكلة في أثناء شرائه حزمة من النعناع من بائع خضروات وبهارات يدعى زكريا، يبيع كذلك مادة منشطة جنسيًّا.
في الرسالة الرابعة يتمنى أفيسار أن يكون تشوما هو والده. كان ستيف قد هجر ليزو لاعتقاده أنه عقيم، وأنها خانته، لكن نتيجة الفحص تظهر أن أفيسار هو ابنه، وأنه كان قد تناول الوصفة نفسها التي يبيعها زكريا. ويكتشف إلكسلاسي أن تشوما وستيف كانا يخدعانه فيلقي القبض عليهما ويعذبهما وفي اللحظة التي يوشك فيها على قتل أحدهما، نسمع طلقا ناريا فنكتشف أن القتيل هو إلكسلاسي نفسه، وأن من قتله هو ذراعه اليمين الذي عرف أن زوجته حامل، وأن هذه الزوجة ليست سوى بروريا، المرأة التي ساعدها تشوما وستيف، وبهذا تُغلق الدائرة في إشارة إلى أن من يعمل خيرًا يلقى خيرًا. في صاحب المقام يتم إغلاق الدائرة بمساعدة "أمل" من قبل الحالات التي ساعدها يحيى من قبل.
تلاقح الابتكار والتقليد
لا يكمن الإبداع الفني في الابتكار فحسب، بل وفي التقليد كذلك. السينما حقل جيد لامتحان النجاح أو الفشل في الابتكار والتقليد -هذه فكرة يتناولها فيلم "نسخة طبق الأصل" لعباس كياروستامي- ويمكن قياس تقدم الأمم عبر خيالها وروحها الكامنين في أعمالها الفنية. الفكرة ملكٌ لصاحبها، ويُغفر للمقلد إن تفوَّق بجعل النسخة كالأصل أو أجمل. وقد قيل "من أخذ شيئًا واسْتَرَقَّهُ، فهو حقَّهُ" فإن نحن وضعنا فيلم "مكتوب"، في ميزان المقارنة مع "صاحب المقام"، لفاز الأول بكفة الابتكار ولفشل الثاني في التقليد.
تشير كلمة "المقام" في عنوان الفيلم، إلى الكيان المادي، الضريح، ولها دلالة معنوية للمقام "العالي". والتورية في كلمة "مكتوب"، تشير من جهة إلى الرسائل، ومن جهة ثانية تشير إلى القَدر. الكوميديا في فيلم "مكتوب" عفوية ونابعة من الموقف، خلافًا للكوميديا المفتعلة في صاحب المقام، كما هي في مشهد يحيى مع سعيد وزوجته "الملاك الطاهر"، ومشهد جورج ويحيى مع الأمن عند بوابة الكنيسة. الموسيقى التصويرية في "صاحب المقام" تحجب الحوار في بعض المشاهد، ويغلب عليها الطابع الروحاني، بينما الموسيقى في "مكتوب" حيوية راقصة، تناسب إيقاع الفيلم الكوميدي. أغلب المشاهد في "مكتوب" خارجية نهارية بإضاءة طبيعية، وتسود في "صاحب المقام" المشاهد الداخلية والإضاءة التي تعكس نور المقامات. والتصوير داخل المساجد وخارجها أشبه بدعاية لإغراء الناس بالتوجه إليها، وهذا ما ليس في فيلم "مكتوب" الذي يتحدث عن شابين يشعران بالذنب فيسعيان للتكفير عنه بوسائل بشرية دون أن يفقدا طبيعتهما تمامًا، أو يتحولا إلى ملاكين، ودون أي ترويج للمقدسات أو للخرافات.
معالجة الفكرة في "صاحب المقام" لا تدرك أهمية السينما ودورها التنويري، أو أنها تُسخِّر هذا الدور من أجل إرضاء التدين الشعبوي وخلط الدين بالسياسة. وهذا ما لم يقع فيه فيلم "مكتوب". في "مكتوب" الخطاب في الرسائل موجه إلى الله مباشرة، ومساعدة تشوما وستيف للناس تتم دون إخبارهم بأنهما رسولان من عند الله، كما لا يخبرانهم عن رسائلهم؛ كي لا يحدث هذا الربط بالمقدس، بينما في فيلم "صاحب المقام" الرسائل موجهة لأصحاب الأضرحة، ومساعدة الناس تتم بإخبارهم أن يحيى رسول الإمام الشافعي. في فيلم "مكتوب" الرسائل طازجة، يبحث تشوما وستيف عن الرسائل التي يضعها أصحابها للتو؛ ليتمكنا من مساعدتهم حالاً، وهي في "صاحب المقام" قديمة، مر على بعضها عقود. تتحقق في فيلم "مكتوب" فكرة أن مساعدة الناس ستقود حتمًا لمساعدتك، بينما في "صاحب المقام" يحيى يساعد الناس من أجل إرضاء الأولياء فيساعدوه في شفاء زوجته.
يشير "محسن محيي الدين"، في الفيلم، إلى أن عدد الرسائل قلَّ، في إشارة تحمل معنيين: أن اعتقاد الناس في الخرافة ضعف مع الزمن، أو أن مشكلات الناس قلَّت. ويبدو أن إقبال الناس على هذا الفيلم سيزيد من عدد الرسائل، في انتظار أن يأتي "سانتا كلوز" الشافعي ليحل للناس مشكلاتهم ويحقق أمانيهم.
للخرافة قصة أخيرة
في فيلمه «للحب قصة أخيرة» 1986، يقدم لنا رأفت الميهي قصة حب تتحدى العقبات الاجتماعية: الفقر، والطبقية، والرفض الأسري، لكنها تقف عاجزة أمام المرض. ومن خلال هذه العقبة يُنهي الميهي قصته بنظرة تبدو قاتمة لمصير الإنسان، العاجز بين الطب «العلم» والخرافة. يتخذ الميهي من هذه القصة مدخلاً لنقد الخرافة، ومن عجز شخوصه وتأملاتهم وسيلة لتشريحها، مستعينًا بالتفكير العقلاني والدين الوسطي، وبرأي الطبيب، والمدرس، والإنسان العادي، وكأن العنوان ومضامين القصة رسالة تحوي الكلمة الأخيرة في هذا الموضوع.
صراع العلم والإيمان
يعاني رفعت "يحيى الفخراني" من مرض في القلب، وأمام عجز الطب عن شفائه تلجأ النساء إلى العذراء، وإلى الشيخ التلاوي. يرينا الميهي كيف أن المصادفة تسهم في تعزيز الخرافة، عندما تتحسن صحة رفعت في البداية، وإذا كانت المصادفة لا تكفي لإقناع الناس فإن الكذب قد يفي بالغرض، وهذا ما يفعله حين يتفق رفعت مع الدكتور حسين "عبدالعزيز مخيون"، على كذبة حدوث خطأ طبي في تشخيص المرض. لم يكن هذا هو الهدف الأساسي من الكذبة، لكنها أدت الدور المطلوب في النهاية.
خلافًا لما هو شائع، فإن العنصر الحاسم في ازدهار الخرافة ليس الجهل، وإنما العجز، عجز الطب تحديدًا عن تقديم جواب شاف لسؤال المرض. تسأل سلوى "معالي زايد" طبيب القلب، الدكتور حسين عما تبقى لزوجها من عمر؟ فيتهرب الدكتور حسين من السؤال، ويخبرها بعد إلحاح بأن "الطب ما يقدرش يحدد حاجة زي كده". تقول سلوى "الطب ما يقدرش يحدد، وما يقدرش يعالج، أُمال يقدر على إيه؟!" الدكتور حسين نفسه يعاني من تلعثم في الكلام، يشهد بعجز من نوع آخر، لكن مشكلته تحلها "الغازية"، فيزول تلعثمه وهو يخاطبها أن تبقى معه في البيت. وسنرى أثر هذا التغيير بعد ذلك على وجهه وفي ملابسه الملونة، وإقباله على الحياة.
الخرافة والدين
المعالجة السينمائية لموضوع شائك كالخرافة يُقابل عادةً بردود فعل رافضة وغاضبة، ولهذا قدم الميهي رؤية توفيقية حرص فيها على ألا يصطدم بالدين بشكل مباشر، فنراه يؤكد، من خلال شخوصه، على الفارق بين الدجل والشعوذة من جهة، والدين من جهة أخرى، وبين "شيوخ المنْصر" النصابين، وبين شيوخ الإسلام.
تقول سلوى وهي تخاطب زوجها رفعت "جايز التلاوي دا يكون دجال، نصاب، لكن ربنا حاجة تانية، أكيد حاجة تانية". تضع سلوى حكمها على التلاوي بين احتمالين بما يتوافق مع شخصيتها الرومانتيكية الحالمة، وشخصيتها المترددة، بين التصديق والتكذيب. لكنها فيما يتعلق بالله حاسمة.
ويقول صالح "أحمد راتب" مخاطبًا أُم رفعت "تحية كاريوكا" "الناس كلها عارفة إن التلاوي كداب، وإن اللي حواليه دول مش شيوخ إسلام، دول شيوخ منصر والإسلام بريء منهم". وفي محاولة لتنفير المتلقي من الدجل والمشعوذين يقول رفعت، وهو يصف منظر الشيخ التلاوي، بعد زيارته له في الضريح "اللي شفته شيء قبيح يا سلوى.. مخلوق ظهره مقوس.. عينيه مغمضة على طول؛ من الرمد المزمن. مخلوق متكوم على كرسيه في ركن زاوية، ريحة النتانة طالعة منه، لما قربت منه حسيت إنه مفيهوش أي حاجة تدل على إنه ولي، أو حتى شيخ طيب، ممكن يعمل معجزات".
صُوِّر المشهد داخليًّا -بلقطة "اثنين في واحد"، لقطة متوسطة تصور شخصين في الإطار نفسه- في غرفة مظلمة، مع شريط من الضوء، يتسرب من مصدر خارجي، على عيون رفعت وسلوى. نرى الشيخ التلاوي بعيني رفعت، وكأنه بزاوية التصوير هذه شاهد ينظر إلى التلاوي، بما يسمح للمُشاهد أن يرى صدق ما يقال في عيني رفعت. الخطاب نصًّا موجه لسلوى، لكن الهدف من خلال هذه الزاوية هو المُشاهد. لا يصف رفعت التلاوي بكلماته فحسب، ولكن بتعابير وجهه، وخاصة بعينيه، لتقول لنا اللقطة: إن العيون لا تكذب.
ينبش الميهي في جذور الخرافة، ويستعير قصة المثل "احنا دافنينه سوا" ليكشف كيفية نشأة الخرافة. يقول الأستاذ في المدرسة، عبد الله "محمد درديري" "شوف يا أستاذ رفعت، لو تعرف أصل التلاوي مش ممكن تقول إنه من الصالحين اللي ربنا أحيانا بيحدث المعجزات من خلالهم.. التلاوي كان شيخ منصر، من قطاع الطرق، زي خلق الله وعباده مات، وأصحابه دفنوه هنا وسلموا نفسهم للحكومة، ولما مرت الأيام وجه قوم يعمروا الحتة ولقوا مقبرة وحواليها هِوْ، قالوا ده لازم شيخ من الصالحين، فعملوا حوالين الضريح سور ومولد وهيصة وزمبليطة. آدي كل حكاية التلاوي".
ما يؤخذ على هذه الرؤية التوفيقية هي الترضيات التي تأتي على حساب الهدف من العمل. يحاول الميهي هنا التفريق بين الأولياء الصالحين، وبين التلاوي النصاب. لكن: كيف يمكن التفريق بين الولي الصادق والمزيف؟! وهل هناك فعلا أولياء صالحين يجترحون المعجزات؟! فإن كانوا موجودين حقًا، فما هي الخرافة؟ ولماذا يوجه إليها الميهي معول النقد؟!
لعل الميهي لم يكن قادرًا على عرض عمله دون هذه الترضيات، التي تقلل من قيمة نقد الخرافة، إلا أن العمل ككل مِعْول فني يسهم في رفع الوعي بها. لم يكن بمقدور الميهي نقد كل شيوخ الدجل بأسمائهم الحقيقية، فقدمهم من خلال اسم مخترع هو الشيخ التلاوي، أما الخرافة في المسيحية فتختزل في التبرك بالعذراء. الخرافة هنا عنصر يوحد المصريين، مسيحيون ومسلمون، فلا فرق بينهم في اللغة، أو الملابس، أو الأسماء، وهم في مواجهة العجز واحد، وعزاؤهم واحد.
زمن بلا معجزات
لا يعالج الميهي عجز الإنسان وخوفه من منظور محلي فحسب، وإنما يعطي له بُعدًا إنسانيًّا وفلسفيًّا. فقلب رفعت لا علاج له حتى في الخارج، ما يعني أن المجهول الذي يتربص بالإنسان ليس مشكلة محلية فحسب. كما أن الجهل ليس هو المشكلة، فالناس يعلمون أن الشيوخ كذابون، كما جاء على لسان صالح، وما يدفعهم إلى أحضان الخرافة والتوسل بالدجالين هو العجز والفقر، ورغبة اليائسين في تحقيق آمالهم، ولا يقتصر الاعتقاد بهؤلاء على الفقراء والأميين، بل والمتعلمين كذلك.
يوهمك رأفت الميهي، من خلال مرح رفعت وتفاؤله، بخاتمة ينتصر فيها قلبه ليكون الحب هو المعجزة. لكن لا معجزات هنا، لا الحب يصنع المعجزات، ولا العلم، ولا الخرافة. وفي هذه الخاتمة اليائسة تشخيص واقعي، قد نرى فيها دعوة للاستسلام، لو أن الميهي اكتفى بتشخيص المرض وإدانته.
تشخيص أمراض المجتمع
رأفت الميهي طبيب يشخِّص أمراض المجتمع من خلال عتبة هي قصة الحب، ليتعمق في المشكلة الأهم، أو أمراض المجتمع الحقيقية، وعلى رأسها الاعتقاد بالخرافات. اعتقاد سببه العجز، وعلاج العجز لن يكون بحرمان اليائسين من عزائهم الوحيد، وذلك بتحطيم مقام الولي التلاوي، كما حدث في نهاية الفيلم، بمداهمة قوات الشرطة للمقام وحرقه، وتفريق الناس وضربهم. ينتهي الفيلم بمشهد لسلوى وهي تحطم بمعول عرش التلاوي، ومقامه من الداخل، وبمجموعة من النساء يتوسلن إليه في الخارج، في إشارة إلى أن الحل لا يكمن في تحطيم المقام ولا في إقناع الناس أن هذه خرافات، ولكن في تقديم بديل يطمئن إليه الناس، وهذا ما تلمح إليه قصة الفيلم. والفارق كبير بين نهاية تهدم المقام، من الداخل -في إشارة إلى الهدم المعنوي- وبين نهاية تبنيه، ماديًّا ومعنويًّا، كما في فيلم "صاحب المقام".
صلاة الإنسان المقهور
الورَّاق مكان حقيقي، لكنه في الفيلم مكان رمزي لكل مصر، وبتوسيع الدائرة هو مكان لكل إنسان مقهور تتنازعه ثلاثية الفقر والجهل والمرض. وفي مشهد الختام يلخص الميهي آلام المصريين من جهة، والآم الإنسان المقهور في كل مكان، بمناجاة طويلة لسيدة عجوز تقول فيها:
"عبدة وبتغلط، وربنا حنيِّن، والتلاوي عارف كده، والرسول قال كده، والمشايخ بتقول لنا إن ده جه في القرآن، وأنا غلبانة يا تلاوي، وإن مكنتش عارف، ربنا عارف. جوزوني وأنا صغيرة، عيلة ماطلعليش نهد، لكن جبت من العيال خمستاش. عيالي راحو كلهم، اللي النيل خده، واللي الحرب خدته، حتى وابور البحر، لما رحت أتفرج عليه، خد واحد، والمستشفى الأميري خد التلاتة. هعد إيه والا إيه ولا إيه. وقُله هو اللي خالقنا ومخلي الوراق مليانة زرع وخضرة، بس دول لأصحابه، قله إن دول لأصحابه، إحنا غلابة ما بناخدش من الوراق غير المرض، وطوفان النيل والموت، الموت اللي ما بياخدش غير الصغار، ولما نكبر ونعجز، ونقول: يا موت، ما يجيلناش. هو عِند؟ مش بقلك أنا بغلط".
مناجاة هي مزيج من العتاب والرجاء واللوم والغضب، موجه لله، وما التلاوي سوى وسيط، كبقية الوسطاء الواردة صفاتهم في المناجاة، والذين ينالون نصيبهم من النقد المبطن والإدانة غير المباشرة. مناجاة يلخص بها الميهي جذور المشكلة في امرأة عجوز زوجوها وهي طفلة لتنجب خمسة عشر ابنًا راحوا كلهم ضحايا الفقر والمرض، أو نتيجة حوادث تلمح إلى ما يلاقيه المواطن من معاناة في حياته اليومية. ثم حين تطلب هذه العجوز الموت لا تجده، هنا يقابل الميهي بين شاب يطلب الحياة فيدركه الموت، وبين عجوز تطلب الموت فتُمنح الحياة، وكأن الميهي يسخر، على نحو عدمي، من مشكلة أزلية، ومن الموت الذي وصف في قصيدة زهير ابن أبي سلمى بأنه "خبط عشواء".
مقبرة كبيرة اسمها الدنيا
يرتبط الموت عادة بالألوان الترابية، شاهدنا هذا اللون طول فيلم "طعم الكرز" لعباس كياروستامي. وهنا نجد وحدة بين موضوع الفيلم واللون السائد فيه. فالمكان "الوراق" أشبه بمقابر يغلب عليها البيوت الطينية واللون الترابي، ألوان الملابس رمادية أو قاتمة، أو أبيض وأسود.
من العناصر الجميلة في الفيلم أن أغلب مشاهد الفيلم دون موسيقى تصويرية. تتدخل موسيقى محمد هلال في مشاهد معدودة: موسيقى على آلة العود، مليئة بالشجن، بعد عودة رفعت من المستشفى، وهو برفقة زوجته في البيت، موسيقى فرايحي شبه راقصة، بعد إعلان الدكتور حسين لسلوى عن خطأ التشخيص. وسنكتشف لاحقًا أنها خدعة دبرها رفعت مع الطبيب لمنع سلوى من التفكير في الانتحار، وسندرك أن الفرحة في الموسيقى لم تكتمل؛ لأن الخبر غير صحيح من أساسه.
دعوة أخيرة للحياة
يضع الميهي شخوصه أمام مصير مجهول وقاتم، لكنه يطلب منهم أن يعيشوا حياتهم حتى الرمق الأخير. هذا ما نجده في ملامح رفعت وابتسامته وإقباله على الحياة. وفي الوقت الذي يدعونا للحياة ثمة نقد مبطن للإنجاب من خلال اللقطات التي تظهر الازدحام السكاني في العشوائيات، والمعدِّية، ومن خلال رفض رفعت إنجاب طفل كي لا يعيش الحياة نفسها، فيعاني كما عانى هو. في المقابل تتسم أمه بشخصية عملية، تدرك أن مصير ابنها الموت، فتحاول إقناعه بالانفصال عن سلوى ليتزوج من أخرى لينجب منها، وحين تفشل في إقناعه تسعى لإقناع سلوى بالإنجاب، بعد أن تصارحها بحقيقة مرض رفعت وبالكذبة التي لفقها مع الدكتور حسين. وفي هذا التفكير العملي دعوة للحياة رغم الصعوبات والمعاناة.
ربطة عنق الدكتور حسين الملونة، بعد أن حُلت عقدته النفسية، فيها دعوة للحياة. ويمرر الميهي دعوة أخرى من خلال دميانة وهي على فراش الموت. تقول دميانة لجارتها "خدي بالك للنسوان تسرق الأرانب" يدنو منها القس ويقول لها "صلِّي يا بنتي" وهو بذلك يحضرها لاستقبال الموت، فترد "أنا عايزة الدكتور".
الإنسان في هذا الوضع أشد ما يكون خوفًا من الموت، لكن الميهي يقدم لنا شخصية لا تخشى الموت وتتشبث بالحياة. دميانة وهي على فراش الموت تفكر في الدنيا، وتخشى أن تسرق النساء أرانبها بعد موتها، وهذا تفكير دنيوي لا يخشى الموت. تؤكد على هذه الدعوة عندما يدنوا منها القس ويطلب منها أن تصلي، لكنها تطلب الطبيب، وفي هذا الطلب دعوة للتمسك بالحياة وبالعلم، مقابل الدين. فعندما يتوقف الإنسان عن الخوف من الموت، سيفكر بالحياة حتى الرمق الأخير.