دراسات

عمرو عبد الرحمن

الدولة كقصة خيالية حول طبيعة المفهوم الماركسي للدولة وراهنيته في عالم اليوم

2018.05.01

الدولة كقصة خيالية حول طبيعة المفهوم الماركسي للدولة وراهنيته في عالم اليوم

الاستعادة الحالية لماركس ومفارقاتها

مع مئوية كارل ماركس الثانية، يتجدد اكتشاف منهج الرجل وتحليله وتنبؤاته بشأن الاقتصاد الرأسمالي، خصوصًا في ظل الأزمة الراهنة التي لاحت بوادرها منذ عقد كامل، ولا نزال نعايش تداعياتها حتى اليوم. يتردد اسم ماركس عند مناقشة موضوعات مثل أثر تفاقم التفاوت الاجتماعي، أو اللا مساواة الاجتماعية، على النمو الرأسمالي، جدوى سياسات التقشف المتبعة حاليًا في مختلف أرجاء المعمورة، أثر هيمنة رأس المال المالي على تكوين رأس المال ومستقبل تلك الهيمنة، والقائمة تطول. ولا يتوقف الجدل، الإيجابي في أغلب الأحيان، عند حدود المؤسسات الأكاديمية، بل يمتد حتى المعاقل الصحفية والسياسية لأيديولوجية الليبرالية الجديدة المهيمنة، بما في ذلك صندوق النقد الدولي

ولكن على الرغم من ذلك، فنادرًا ما نلمح اسم ماركس في الجدالات بشأن الظواهر السياسية المرتبطة بتلك الأزمة الرأسمالية الطاحنة مثل انفجار الانتفاضات الشعبية الكبرى في العالم العربي، وتراجع الجاذبية الأيديولوجية للديمقراطية الليبرالية، وصعود الشعبويات الوطنية، واليمين السياسي عمومًا، في المراكز الرأسمالية الغربية، والعودة الظافرة للسلطوية البيروقراطية في عدد من مجتمعات الجنوب العالمي أو البلدان التي كانت تابعة للمعسكر السوفيتي، وحتى في البلدان التي ما تزال ترفع راية الاشتراكية بدرجات مختلفة، هذا بخلاف الخروج المعمم على المعايير القانونية الصارمة للقانون الدولي لحقوق الإنسان -التي بشرت بها نفس النخب الليبرالية الجديدة منذ انهيار الاتحاد السوفيتي-  في سياق الحرب الممتدة على الإرهاب.

يبدو الأمر هنا كما  لو أن ماركس ليس لديه ما يقوله حول تلك الظواهر، على الرغم من علاقتها المباشرة بالأزمة التي يُستدعى الرجل للتعليق عليها. يظهر ماركس في عودته الجديدة كمجرد مفكر اقتصادي ألمعي من القرن التاسع عشر صاحب نبوءات رؤيوية بشأن الرأسمالية وليس كفيلسوف موسوعي ومناضل عملي يقدم منهجًا متماسكًا ومكتملاً بشأن دراسة الظواهر الاجتماعية ورؤية سياسية لتجاوز أشكال التنظيم الاجتماعي والسياسي الراهن باتجاه بناء عالم جديد.

ولا يقتصر هذا التجاهل على إنتاج ماركس “السياسي”، ولكنه كذلك يمتد إلى تجاهل إنتاج الماركسيين الفكري في الماضي القريب جدًا؛ حين احتلت المقاربات الماركسية للدولة، والقانون بشكل عام، مكانًا مركزيًّا من الجدالات الفكرية والسياسية حتى منتصف ثمانينيات القرن الماضي مع أسماء كلويس آلتوسير ونيكوس بولانتزاس، قبل أن تحل محلها الرؤى الديمقراطية الليبرالية، أو ما بعد البنيوية بتنويعاتها، خصوصًا دراسات مدرسة دراسات ما بعد الكولونيالية، أو الرؤى المحافظة أو “الجمهورية” الجديدة. وبالتالي، فهذه الاستعادة لماركس تُظهر فكره مبتورًا إذ لا يكتسب مدخله لتحليل الظواهر الاقتصادية معناه وتميزه إلا في ارتباطه بمنهجه المادي المتميز نفسه والذي يعتبر نقد الدولة في المجتمع الرأسمالي المتحقق ومشروعه السياسي لتجاوزه حجر الزاوية فيه.

بعبارة أخرى، فبينما تبلغ الأزمة درجة من الحدة تجعل من المستحيل تجاهل النخب الثقافية المهيمنة لتحليلات ماركس ونبوءاته “الاقتصادية”، لم يبلغ البديل السياسي درجة من النضج والجذرية الذي يدفع باتجاه اكتشاف التصورات الماركسية عن الدولة والقانون والتغيير السياسي وإعادة طرحها على بساط البحث كما كان الحال في الماضي القريب.

تساهم هذه الورقة في الجدل بشأن راهنية فكر كارل ماركس في مئويته الثانية، بإلقاء الضوء على هذا الجانب المنسي، والمحوري من فكر الرجل وإبراز راهنيته وقدرته على الاشتباك الفعال مع الكثير مع أسئلة عصرنا السياسية. وتبدأ بإعادة بناء عناصر الفهم الماركسي للدولة في كتابات ماركس نفسه أو كتابات العديد ممن حملوا لواء التقليد الماركسي، باشتقاق هذه العناصر من منهج ماركس الشامل في دراسة الظواهر الاجتماعية، ثم إبراز ملامح تمايز وانفصال هذا المنهج عن المهيمن على عالم الجدل السياسي الحالي في العالم، وأخيرًا البحث فيما يمكن أن يقدمه هذا المنهج من إجابات على الأسئلة السياسية الكبرى لعصرنا، خصوصًا في عالمنا العربي.

منهج ماركس: من المجرد إلى العيني.. وبالعكس!

لا يمكن الوقوف على عناصر فهم ماركس للدولة دون استيعاب منهجه المتميز في دراسة الظواهر الاجتماعية ككل. من المعروف أن المنهج الماركسي ينطلق من قلب مفاهيم الديالكتيك الهيجلي رأسًا على عقب ليتحول الديالكتيك المثالي لهيجل –الذي يرى في العالم العيني تحققًا ملتويًا ومركبًا للفكرة المجردة- إلى ديالكتيك مادي يرى في الفكر نفسه، أو أشكال الوجود الاجتماعي المختلفة، “تعبيرًا” عن مسار العلاقات الاجتماعية المركبة.

ربما لم تتعرض فكرة في التاريخ لالتباسات وغموض في فهمها، على يد المنتمين لها قبل الخصوم، كهذا الإعلان الفلسفي المدوي. يعود ذلك جزئيًّا بالطبع للصياغات الهيجيلية نفسها التي استخدمها ماركس، خصوصًا في كتاباته الأولى والتي يصعب الوقوف على معانيها بدون استيعاب مجمل التقليد الهيجلي. ولكنه يعود كذلك، وهو الأهم، إلى تأخر ماركس النسبي في الانشغال بمسائل المنهج، أو كيفية تفعيل رؤيته الفلسفية في حزمة من المقولات المنهجية التي يمكن توظيفها في تحليل الظواهر. لم تكتمل رؤية ماركس للمنهج إلا مع كتابه “مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي” والذي ظهر في العام 1859 تمهيدًا لعمله الموسوعي “رأس المال”. هنا فقط يضع ماركس بشكل جليّ ملامح منهجه عبر التأمل في كتاباته السابقة، ويستطيع أن يميز موقعه بشكل كامل عن التقاليد الهيجلية. وبدون استيعاب هذا العمل ستبقى قراءة ماركس مفتوحة على أشكال مختلفة من الالتباس والغموض.

نقطة البدء لدى ماركس في “نقد الاقتصاد السياسي” هي التعامل مع المفهوم المجرد الذي يطرح نفسه على الفكر بوصفه تجريدًا Abstraction. لا يتعامل ماركس إلا مع المفاهيم الموجودة بالفعل والتي تطرح نفسها بوصفها إما ترجمة دقيقة لحركة العالم المادي كما هو (النزعة التجريبية التي هيمنت على الاقتصاد السياسي مثلاً في القرن الثامن عشر) أو تَعَيُّن مركب لفكرة (التصورات المثالية كما سبق الذكر). لا يهتم ماركس بنحت مفاهيم جديدة من العدم عن طبيعة الوجود أو الطبيعة الإنسانية، وهو ما يتسق مع فهمه المذكور بأن الوجود هو ابن العلاقات القائمة بالفعل.

يبدأ ماركس من المفاهيم المجردة المطروحة بهدف تفكيكها، أي ردّها لعناصرها المؤسسة وربط هذه العناصر بغيرها في سلاسل منفصلة تحليليًّا، والبحث في شروط إمكان هذه السلاسل نفسها تاريخيًّا -أي استكشاف الظروف المادية التي جعلت هذه الفكرة ممكنة من الأصل أو مطروحة على الذهن والشروط التي سمحت بارتباطها بغيرها في شكل سلاسل. هذا ما يقود تاليًا لاكتشاف علاقات اجتماعية يؤدي كل منها للآخر في حركة لا نهائية ويشكل كل منها شروط إمكان لعناصر الفكرة المجردة. ثم تأتي العودة مرة أخرى عبر إعادة تركيب تلك المفاهيم بعد تبيان شروطها الاجتماعية كوصف، أو “لقطة ثابتة”، لكلية ممتدة ومتغيرة من العلاقات الاجتماعية Conceptual Totality.

هنا يصبح المفهوم مركب لعدد آخر من المفاهيم Synthesis التي تعد بدورها مركبًا لمفاهيم أخرى وهكذا، وصولاً لمفهوم معبر عن كلية من العلاقات الاجتماعية. المفهوم هنا ليس تعبيرًا عن جوهر أو حقيقة الظاهرة الاجتماعية ولا تعبير عن فكرة مؤسسة في مسارها، بل هو بالأحرى ترجمة للصور والمدركات الحسية المبعثرة كما هي في حركتها الواقعية عبر بنائها في شكل مفاهيم، أي: نقل التعيين من الواقع إلى مرتبة الفكر. يلخص ماركس منهجه في معادلته الشهيرة: المجرد Abstraction ˿ العيني Concrete ˿ العيني في الفكر Concrete in thought.

هذا الوضع المعقد للمفاهيم المجردة بالقطع محتجب على الفاعلين في حركتهم اليومية في الواقع. وبالتالي يفترض الجميع الواقع كتجريد يمكنّهم من الفعل والحركة. يجري افتراض أو تجريد علاقات العمل لتتحول لنموذج يمكن بناء التعاقدات عليه، يجري افتراض وجود المجتمع نفسه حتى يمكن اشتقاق حقوق لأفراده من هذا الافتراض، وهكذا. ولكن لا علاقات العمل ولا المجتمع تكتسب لنفسها وجودًا متميزًا يعبر عن نفسه بشكل مباشر وشفاف. وطالما أن الإحاطة بالواقع كما هو ممتنعة على الإنسان في حركته اليومية، فهذه الإحاطة الكاملة تصبح ممتنعة كذلك على ذهن المفكر الذي لا يمكنه التعالي على وجوده المادي نفسه.

يسلِّم ماركس باستحالة تمثيل الواقع بشكل كامل في الفكر أو على وجه التحديد باستحالة استيعاب حركة الواقع في المفهوم سواء كان هذا المفهوم مجرد انعكاس للواقع أو إنشاء للواقع نفسه. ويعلن ماركس بوضوح أن ما نعرفه عن العالم هو محض تجريد مواز للتجريد الذي يحدث في حركة الفاعلين. يفترض الفاعلين العالم، أو ينتجوه مجردًا، كشرط من شروط فعلهم الاجتماعي، ويفترض الفكر العالم ويعيد إنتاجه مجردًا كشرط من شروط الفهم.  ما يقوم به ماركس هو تفكيك تلك المفاهيم المجردة عن العالم والبحث وراء عملية تشكلها ثم إعادة بنائها مرة أخرى كتجريد واعي بذاته إن جاز التعبير. وهذا هو المنهج الوحيد من وجهة نظر ماركس الذي يتواءم مع العالم وفقًا للطريقة التي يعرض بها العالم نفسه علينا: ككلية غير قابلة للاستيعاب. يضرب ماركس مثالاً على منهجه باختبار تحليل الاقتصاديين الكلاسيكيين لمفهوم السكان.

إذا أخذنا السكان نقطة انطلاق، سنكون بصدد مفهوم ضبابي لكل معقد، وعبر الاقتراب أكثر سنصل بشكل تحليلي لمفاهيم أكثر بساطة؛ ومن هذه الوحدات العينية المتخيلة نتحرك أكثر فأكثر باتجاه تجريدات بالغة الشفافية حتى نصل إلى أكثر المفاهيم بساطة. ومن هناك من الضروري أن نبدأ الرحلة في الاتجاه المعاكس حتى نصل مرة أخرى إلى مفهوم السكان، والذي لن يبدو هذه المرة مفهومًا ضبابيًّا عن الكل، ولكن ككلية محددة تشتمل على عدد من المحددات والعلاقات. المفهوم العيني يكتسب “عينيته” من كونه عبارة عن مُركب لعدد من التعريفات، ومن ثم يكتسب القدرة على تمثيل وحدة معقدة ذات جوانب متعددة ومتنوعة. تظهر تلك الوحدة للفكر تلخيصًا ونتيجة، وليس نقطة بداية، على الرغم من كونها نقطة انطلاق في الواقع، ومن ثم نقطة انطلاق للإدراك والتخيل. العملية الأولى تحلل الصور الذهنية لمفاهيم مجردة، والعملية الثانية تنطلق من المجرد عن طريق الفكر باتجاه إعادة إنتاج الموقف العيني”. (مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي: 122).

وبالتالي فالمنهج المادي التاريخي يختلف بشكل حاسم وجذري عن الديالكتيك الهيجلي في عدم السعي وراء استيعاب التاريخ، أو العالم في حزمة شاملة ونهائية ومكتملة من المفاهيم “المادية” في مواجهة استيعاب العالم في حزمة من المفاهيم “المثالية”. المادية التاريخية تختلف عن الديالكتيك الهيجلي في تسليمها باستحالة استيعاب العالم في أي وحدة مفهومية أساسًا، وأن كل ما يمكن أن ننتجه من تحليلات هو “لقطات” ثابتة لمسار خاضع للتحول الدائم إذا كان لهذا الفهم المادي أن يخلص لماديته للنهاية.

لهذا كان هيجل أسيرًا لوهم أن العالم العيني هو نتاج للفكر الذي ينتج مركبه، وعمقه، وحركته. في المقابل، فمنهج الانطلاق من المجرد للمتعين يشير ببساطة إلى الطريقة التي يستوعب بها الفكر العالم المتعين ويعيد إنتاجه كمتعين في مجال الفكر أو كتصنيف عقلي ملموس. هذه الحركة ليست بحد ذاتها حقيقة تطور العالم المتعين بأي شكل من الأشكال. على سبيل المثال، فأبسط التصنيفات الاقتصادية وهي القيمة التبادلية تفترض وجود سكان ينتجون تحت ظروف مادية معينة، وشكل متميز من أشكال العائلة، أو الجماعة أو الدولة...إلخ. القيمة التبادلية إذن لا يمكن أن توجد إلا كتجريد في علاقة أحادية الجانب مع كل عضوي محدد..... الكل المتعين منظورًا إليه ككلية مفاهيمية، كتصنيف عقلي، هو في الواقع نتاج للتفكير والاستيعاب، ولكنه ليس ناتجًا عن فكرة تتطور بشكل عفوي وتفعل فعلها خارج وفوق التفكير والخيال. إن الكل هنا هو نتاج استيعاب وتحويل المدركات والصور لمفاهيم. الكل هنا كوحدة مفاهيمية هو نتاج العقل المفكر الذي يستوعب العالم بالطريقة الوحيدة التي يتيح بها العالم نفسه للعقل، وهي طريقة تختلف عن الاستيعاب الفني، أو الديني، أو العملي لهذا العالم” (مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي: 123).

طبق ماركس هذا المسار بصرامة في اشتباكه الطويل مع الواقع على مدار أربعة عقود. جميع المفاهيم التي تعامل معها ماركس من “قيمة”، “فائض قيمة”، “ريع”، “ربح”، “دولة”، “مجتمع مدني”..إلخ،  لم تكن مفاهيم اخترعها ماركس، ولكنها تجريدات تبلورت  قبل ماركس بقرن من الزمان على الأقل. ومن ثم كان الانشغال بها باعتبارها المفاهيم المتاحة بالفعل لفهم حركة المجتمع. ولكن البحث في هذه المفاهيم المجردة اقتضى تفكيك عناصرها نفسها ليصل ماركس لحزمة من أربع علاقات: الإنتاج، والتوزيع، والتبادل، والاستهلاك، ثم العودة للإنتاج مرة أخرى. يصل ماركس من خلال تفكيكه أن العمليات الأربع هي في النهاية عملية إنتاج من نوع ما بما يقوده لمستوى أعمق وهو البحث في كيفية هذا الإنتاج (مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي: 117). وبينما يفترض الاقتصاد السياسي حتى ماركس أمثلة مجردة لأفراد أحرار متساويين لتأسيس المعادلات المختلفة للعمليات الأربعة، يتوصل ماركس من خلال بحثه التاريخي أن هذه النماذج هي تجريد لعلاقات أعقد يؤدي كل منها إلى الآخر: الفرد “أ” يشغل موقعًا من عملية التوزيع تتيح له الوصول لأدوات إنتاج غير متاحة للفرد “ب”، وبالتالي فوزنه في عملية التبادل يختلف وقدرته على الاستهلاك بالتبعية تختلف. ينفذ البحث لمستوى أعمق وهو كيفية تشكل العلاقات الاجتماعية التي يشغلها “أ” و “ب” قبل البحث في واقعة تبادلهما. هنا يقود البحث لمفهوم التقسيم الاجتماعي للعمل، والذي يظهر مرة أخرى في الاقتصاد السياسي نتاجًا طبيعيًّا للندرة أو حتى للاختلافات الطبيعية بين البشر، بينما لا يرتضي ماركس بأي افتراض مجرد لا يخضع للبحث التاريخي الصارم، فيتوصل إلى أن حالة الندرة أو التوزيع الطبيعي المفترضان هي حالات نشأت تاريخيًّا كعلاقات قوة كسرت الوحدات الأولية للتنظيم الاجتماعي التي اتسمت بنفاذ متساوي لمختلف الأفراد لأدوات الإنتاج وأنتجت نفاذًا متفاوتًا، وأن هذا الفصل لم يكن ليتم إلا بحكم تطور بعينه في قوى الإنتاج المتاحة نفسها أنتج بدوره حالة الندرة تلك كبناء اجتماعي.

هنا يعيد ماركس ترتيب كل المفاهيم التي ورثها من الاقتصاد السياسي بشكل مختلف تمامًا. فنقطة البدء هنا تتحول من نقطة التبادل المجردة بين الأفراد إلى استكشاف طبيعة قوى الإنتاج المتاحة في مرحلة تاريخية بعينها، ثم اكتشاف علاقة البشر بهذه القوى أو النمط المميز لارتباطهم بها، واكتشاف طبيعة علاقات الإنتاج وارتباط كل منها بالآخر وارتباطها بغيرها من العلاقات الاجتماعية، حتى نصل لوصف دقيق لكلية العلاقات الاجتماعية القائمة وشروط إمكانها معًا بوصفها تجريدًا يمكّن الأفراد من التفاعل فيما بينهم -أي  نمط الإنتاج والتكوين الاجتماعي الناتج عن مفصلة أنماط إنتاج مختلفة مع بعضها البعض في وحدة زمانية ومكانية محددة قابلة للوصف وجمع ذلك كله ينتج ما ندركه كنمط إنتاج عالمي الطابع. يعبر ماركس بشكل مكثف عن هذا المسار في السطور الافتتاحية من مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي “سأقوم بفحص نظام الاقتصاد البرجوازي وفقًا للترتيب التالي: رأس المال، وملكية الأرض، والعمل المأجور؛ والدولة، والتجارة الدولية، والسوق العالمي. والظروف الاقتصادية المشكلة لوجود الطبقات الثلاث الكبرى التي ينقسم لها المجتمع البرجوازي أفحصها تحت العناوين الثلاثة الأولى؛ أما ارتباط العناوين الثلاثة التالية فيبدو شارحًا لنفسه في الواقع”. (مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي: 3).

هذا الوصف، كما يتضح من صياغة ماركس، هو وصف لكلية وليس لجوهر أو حقيقة، هو وصف ناتج عن تركيب عدد من المفاهيم التي تتمفصل بدورها مع بعضها البعض كما سبق الذكر: أو هو العيني كما يتجلى للفكر كما يذكر ماركس. ويقوده ذلك بدوره إلى الاعتراف بأن تحليله للإنتاج هو دائمًا تحليل لعملية خاصة أو محددة، وأن تحليلاً للإنتاج العام هو شيء ممتنع أو مستحيل ولا يمكن التحقق إلا إذا ارتددنا للفهم المثالي للعالم مرة أخرى.

يبدو، والحال كذلك، أنه كي نتمكن من الحديث عن الإنتاج يجب أن نتتبع جميع مراحل النمو التاريخية، أو نعلن من البداية أننا نفحص مرحلة تاريخية خاصة، ولتكن على سبيل المثال مرحلة الإنتاج البرجوازي الحديث. كل حقب الإنتاج تشترك في ملامح أو تصنيفات معينة. “الإنتاج بشكل عام” هو محض تجريد، ولكنه تجريد معقول إلى الحد الذي يمكننا من تعريف تلك الملامح وتجنب التكرار لا أكثر ولا أقل. ولكن مفهوم “الإنتاج بشكل عام”، أو الجوانب المشتركة التي كشفت عنها المقارنة، هي نفسها مركبات متنوعة تحتوي على عناصر وتصنيفات مختلفة.... وبالتالي، فمن الضروري أن نميز تلك المفاهيم حتى لا نغفل الخلافات الجوهرية الموجودة بين مراحل الإنتاج.... وكما أنه لا يوجد “إنتاج بشكل عام”، فكذلك لا يوجد “إنتاج عام”. الإنتاج موجود دائمًا كفرع خاص للإنتاج (على سبيل المثال إنتاج زراعي أو تربية دواجن، أو تصنيع) بالأحرى يمكننا الحديث عن “كل منتج”.... إنتاج بشكل عام ˿ إنتاج خاص ˿ كل منتج” (مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي: 113)

لم يكن البحث التاريخي وراء تشكل المفاهيم المجردة متاحًا إلا بسبب هذا التجريد نفسه الذي بلغ أوجه مع الرأسمالية. فتطور قوى الإنتاج أدى إلى تطور مذهل في القدرة على التجريد بشكل غير مسبوق في التاريخ تقريبًا، وذلك بالتحديد نتيجة التدمير الشامل لجميع الروابط الاجتماعية التي حكمت العالم الاجتماعي للفرد. مع تدمير الروابط الحرفية وتحرير الفلاحين من العلاقة التي ربطتهم بالأرض ثم ربطت المدن بالريف نتيجة التطور التكنولوجي وتكثيف الحركة والتبادل بين الموقعين، ومع التدمير الدائم للملكية وانتقالها بشكل دائري ولا نهائي تقريبًا حتى وصلنا إلى ظهور أسواق المال حيث إن ما يتم تداوله هو “حقوق” لموجودات وليس الموجودات نفسها. كل ذلك أدي لمستوى أعلى من تجريد العلاقات الاجتماعية سمح بتطور البحث التاريخي نفسه إذ مدّه بمفاهيمه اللازمة والتي كانت ممتنعة على الفكر فيما سبق. ولكن هذا التجريد نفسه وما أنتجه من ثورة مفاهيمية سمحت بتمثيل الماضي المتعين في الفكر على النحو السابق شرحه، هو ما سمح بنقد هذه المفاهيم المجردة نفسها لتكتسب في المنهج الماركسي طبيعة مزدوجة: من جانب هي أدوات للتحليل ومن جانب آخر هي موضوعات للنقد.

هذا المسار من بلورة المفاهيم كموضوع للنقد، أي الكشف عن شروط إمكانها التاريخية وما تنحيه جانبًا من إمكانيات وما تنتجه من تناقضات، هو ما يقود الفكر عمليًا خارج إطاره المجرد الذي يسعى لاستيعاب العالم في المفاهيم وينتهي به إلى واقع إنتاج الناس لحياتهم بشكل اجتماعي ليسهم في هذه العملية كفكر واعي بطابعه المادي والتاريخي.

هذا تحديدًا هو ما قاد ماركس منذ كتاباته المبكرة للانخراط المباشر في حركة الطبقة العاملة، والتي بدت له بوصفها الحامل التاريخي الطبيعي لعالم جديد قيد التشكل بحكم تجريدها من كل تحديد ثقافي أو ديني أو مهني ممكن في العالم البرجوازي والنظر إليها كمجرد قوة عمل مادية مجردة قابلة للاستغلال، ومن ثم تحويلها بشكل موضوعي لطبقة عالمية تحمل في تكوينها العنصر الوحيد الذي يربط البشر ببعضهم بعضًا في كلية العالم الرأسمالي - العمل. بعبارة أخرى، فقد فتحت الرأسمالية إمكانيات عالم جديد يتجاوز التحديدات القومية والدينية والعرقية والمهنية بين البشر بحكم تطور قواها المنتجة وإن كانت علاقاتها الاجتماعية ذاتها لا تزال تعطل ميلاده. وبالتالي، فمن غير المتصور أن تتصدى البرجوازية لدفع تطور يفضي إلى نهايتها كطبقة؛ وحدها البروليتاريا تقدر على التصدي لتلك المهمة. ومن ثم فمنذ نقده لنظرية القانون عند هيجل في عام 1843 وهو لم يزل يافعًا، يصل للخلاصة أن لا مستقبل للفلسفة بدون الالتقاء بالبروليتاريا التي تشكل روحها المطلوبة بالقدر الذي تشكل به الفلسفة عقل البروليتاريا (مقدمة في نقد نظرية الحق/القانون: 11).  هنا تكتمل العناصر التي يمكن بها فهم منهج ماركس وخلاصاته في التعامل مع الدولة.

ماركس والدولة... الهروب من النظرية العامة

في ضوء المنهج السابق، يمكننا الآن فهم تبعثر تحليلات ماركس لمسألة الدولة في المجتمع الرأسمالي وتوزعها على عدد من الدراسات التي تناولت موضوعات مختلفة، ليس بوصفها قصورًا أو عدم اكتمال بقدر ما هي تجسيد عملي لمنهجه نفسه الذي يحجم عن تقديم نظرية عامة بشأن جوهر مفترض للظواهر الاجتماعية. ما نراه في كتابات ماركس هو تحليل عيني و“جزئي” للدولة في سياقات تاريخية محددة، ولكنها تحليلات تشتمل على العناصر المنهجية التي تمكننا من إنتاج تحليلاتنا الخاصة والجزئية كذلك. صحيح أن ماركس نفسه قد أعرب في ثنايا الكثير من النصوص والخطابات عن نيته في إنتاج عمل مستقل عن الدولة في المجتمع البرجوازي، ولكن أخذًا في الاعتبار تحديده لمنهجه في “نقد الاقتصاد السياسي”، يمكن القول إن عمله المستقل هذا عن الدولة لم يكن ليخرج عن حدود وصف العناصر المشتركة بين تجارب الدول العينية والمحلية والجزئية.

في هذا السياق، يمكن الحديث عن تحليل ماركس لثلاث نماذج رئيسية للدولة في سياقات تاريخية وجدت كلها بأوروبا الغربية عقب الثورات الديمقراطية الكبرى: الدولة في مرحلة تأسيس الجمهوريات البرلمانية والملكيات الدستورية، وصعود السلطويات البيروقراطية في منتصف القرن التاسع عشر كظاهرة متميزة تختلف عن الملكيات المستبدة (ظاهرة البونابرتية)، ثم الدولة في مرحلة الثورات البروليتارية، وهزيمتها، خصوصًا عقب صعود وهزيمة كوميونة باريس.

 أ- الدولة البرلمانية الحديثة:

السياق الأول هو سياق تأسيس الجمهوريات البرلمانية والملكيات الدستورية وما ارتبط بهما من بلورة القانون البرجوازي الحديث في وجهيه الخاص (مجال العلاقات المدنية بين أفراد الدولة الواحدة أو أفراد الدول المختلفة) والعام (مجال العلاقات مع الدولة في شقها الجنائي والسياسي أو الدستوري ومجال العلاقات بين الدول). مبتدأ التحليل لدى ماركس هنا كما أسلفنا هو المفهوم المجرد للدولة، بوصفها مجالاً متميزًا للعلاقات بين المواطنين المجردين المتساوين أمام القانون والذين تنبع أفعالهم من إرادة ذاتية مستقلة ويشكلون معًا سيدًا واحدًا ذا إرادة حرة ومستقلة بدوره هو الأمة، وتمثل الدولة بسلطاتها الثلاثة المنفصلة هذه الحرية وهذه الإرادة.

يحاول ماركس في كل من “المسألة اليهودية” الصادر في 1843 و”الأيديولوجية الألمانية” الصادر في   1845 -والذي كتبه مع رفيقه إنجلز-  تفكيك هذا المفهوم عن الدولة إلى عناصره الأولية والبحث في شروط إمكانها كما أسلفنا. إن فهم معنى الدولة كما وصل إلى ماركس في الأدبيات المثالية الألمانية أو أدبيات نظرية العقد الاجتماعي (هوبز ولوك وروسو) لا يكتمل إلا بفهم ما يقف في مواجهتها أو ما تتمايز عنه الدولة وهو مفهوم “المجتمع المدني”. ويستخدم ماركس التعبير الألماني الذي لا يعرف الفصل اللفظي ولا الدلالي بين المجتمع المدني والمجتمع البرجوازي، والاثنان يعنيان مجال العلاقات الخاصة بين الأفراد، بعيدًا عن المجال العضوي الأولي وهو العائلة أو القبيلة أو روابط الدم بشكل عام، وبعيدًا كذلك عن مجال العلاقات مع الدولة، أو المجتمع السياسي، وهو مجال وجود هوية جديدة “مصطنعة” بالمعنى الإيجابي للكلمة.

لم يكن التمايز بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي على هذه الدرجة من الوضوح على مستوى الفكر كما أصبح مع الرأسمالية. بالنسبة لماركس وإنجلز، فالمجتمع المدني في السياقات السابقة على الرأسمالية كان منفصلاً بشكل كامل عن الدولة ولكنه خاضع بشكل كامل، كذلك للدولة في تنظيمه الداخلي: بمعنى أن الأفراد في هذا المجتمع كانوا غير ذوي صفة داخل المجتمع السياسي إلا لو انتموا لفئات بعينها وظيفتها هي الحكم حصرًا (فرسان، أرستقراطيات مالكة أو أرستقراطيات عسكرية، نبلاء...إلخ). لم يكن للفرد العادي أو عضو المجتمع المدني أي فرصة للانتساب إلى المجال السياسي ما لم يكن منتسبًا لأي من هذه الطبقات. الشكل الوحيد للتأثير في المجال السياسي هو التبعية المباشرة لأي من تلك الطبقات، وهو ما كان بمثابة القانون الاجتماعي في المجتمعات الإقطاعية. ولكن في المقابل، فالدولة بالرغم من استقلالها الكامل، أو ربما بسببه، كانت تُخضع المجتمع المدني لسلطتها، عبر التحكم المباشر في الإنتاج والتوزيع والتبادل والاستهلاك كذلك، على النحو الذي يجعل الموقع الاقتصادي مساويًا تقريبًا للموقع السياسي: قن ومالك، عضو طائفة حرفية وشيخ طائفة، عبد وسيد... إلخ.

ولكن ما الذي أنتج هذا الوضع؟ بالغوص إلى طبقة أعمق في التحليل يصل ماركس وإنجلز إلى البحث في تقسيم العمل المنشئ للانفصال بين الدولة والمجتمع المدني. يوظف ماركس وإنجلز عددًا من المقولات التاريخية والأنثروبولوجية لتفسير ذلك الفصل بضرورة تنظيم شئون الملكية المشتركة للمجتمعات العضوية وهي التي حولت الملكية المشتركة لملكية عامة سواء للمنتجات أو لأدوات الإنتاج ثم خصخصة هذه الملكية العامة، إن جاز التعبير، عبر أفعال الدولة، والتي تعود لتضمن تلك الحقوق الناشئة عن هذا التخصيص، وهو ما أنتج سريعًا الملكية الخاصة والعبودية. الدولة بهذا المعنى هي نتاج تقسيم العمل الاجتماعي والذي تعود لتنتجه على نحو موسع عبر أفعالها وتدخل عليه تعديلات جوهرية. عبر هذا المسار تشكلت العلاقات الاجتماعية المميزة للمجتمع العبودي في الإمبراطوريات القديمة المعروفة والتي عرفت اكتمالها في الإمبراطورية الرومانية. وعبر التوتر بين الريف والمدينة الرومانية ينهار هذا الشكل مُفسحًا الطريق أمام تنظيم للسلطة العامة مماثل للتنظيم العسكري للشعوب الجرمانية الغازية والذي نقل مراكز السلطة الفعلية للريف في مواجهة المدينة. وفي الحالتين كان التحول محدد بتطور قوى الإنتاج، أو محدودية هذا التطور إن جاز التعبير، وهو ما فرض طابع محلي للغاية على أشكال التنظيم السياسي والوعي السياسي المصاحب له. ينتظم الناس في المجتمعات قبل الرأسمالية على أسس طائفية أو جهوية حيث يمثّل الاثنان الحواضن الاجتماعية لعملية إنتاج الحياة. يقول ماركس في هذا الصدد:

ما طبيعة المجتمع القديم؟ يمكن وصفها بكلمة واحدة: الإقطاع. كان المجتمع المدني القديم سياسيًّا بشكل مباشر - بمعنى أن عناصر الحياة المدنية كالملكية والعائلة ونمط العمل تم رفعها لمصاف العناصر المؤسسة للحياة السياسية في شكل ألقاب، ومكانات، وأوضاع اجتماعية وطوائف. على هذا النحو فقد حددت تلك الأوضاع علاقة الفرد بالدولة ككل، أو علاقته السياسية - أي علاقة اختلافه واستبعاده من باقي مراتب المجتمع”. (المسألة اليهودية: 14).

بدأ هذا النمط الإقطاعي في التفكك بسبب الحروب الخارجية والأوبئة والأزمات المالية الطاحنة للريف وتوسع التجارة الخارجية في نفس الوقت لعدد من المدن وتوافر فوائض معقولة سمحت بظهور الملاك الحرفيين الكبار الذين لا يعملون بأيديهم وما ارتبط بذلك من ظهور -على استحياء-  للإداريين، ثم توظيف الفائض في الطفرة الصناعية، وفتح فرص عمل جديدة في المدن وتحويل سكان الريف والملاك الحرفيين الصغار بشكل متزايد لعمالة مأجورة. كل ذلك سمح بإطلاق يد الطبقات المسيطرة اقتصاديًّا في التحكم أكثر فأكثر في شروط علاقات العمل بعيدًا عن تدخل الدولة على النحو السابق ذكره في المجتمعات السابقة على الرأسمالية. خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر كان يتخذ المجتمع المدني شكله المعروف وقت كتابة ماركس وإنجلز لعملهما ويواجه أجهزة دولة ما زالت تحتفظ بطابعها الإقطاعي ويتحكم فيها الطبقات القديمة ذاتها والتي كانت في سبيلها للاختفاء من المجتمع المدني.

هذا التفاوت في التطور بين المجتمع المدني والدولة أدى لنتيجتين ستطبعان التطورات اللاحقة للدولة بطابعها حتى الآن: الأولى هي إدراك المثقفين البرجوازيين –أي المنحدرين من تلك الطبقات الجديدة- للأفراد الناتجين عن هذا الواقع الجديد كأفراد معزولين وغير مرتبطين بأي روابط اجتماعية، ومن ثم ظهور الفرد المعزول المجرد كموضوع للفكر القانوني والسياسي. والثانية، هي إدراك سعي البرجوازية لتحرير المجتمع المدني مما تبقى من سلطة الدولة –أي استكمال إطلاق يدها في الاستغلال عمليًّا-  بوصفه ليس سعيًا طبقيًّا ضيقًا ولكن بوصفه سعيًا عامًا يمثل طموح تلك المدن التي نمت وكذلك علاقاتها الجديدة مع الريف، باعتبار الجميع “أمة واحدة” تتطابق حدودها مع حدود سيطرة البرجوازية الجديدة أي سوقها المحلي. هنا لا تدرك البرجوازية نفسها كطبقة؛ إذ أن المتحكمين في الدولة يواجهونها “كعوام”، فتدرك نفسها على هذا الأساس بوصفها هي نفسها “العام” والذي سيغدو أمة.

كل طبقة جديدة تسعى لوراثة طبقة سابقة عليها في مواقع الحكم تكون مضطرة لتمثيل مصلحتها كمصلحة عامة لكل أعضاء المجتمع، أي تمثيلها في شكل مثالي: يجب أن تضفي على أفكارها طابع العمومية... أي طبقة تتصدى لمهمة الثورة تظهر منذ البداية -على الأقل بحكم مواجهتها لطبقة أخرى- ليس كمحض طبقة ولكن كممثل لعموم المجتمع؛ تظهر كعموم المجتمع مواجهًا الطبقة الحاكمة. هي تتمكن من فعل ذلك بحكم ارتباط مصالحها مع مصالح مختلف الطبقات غير الحاكمة، إذ تحت ضغط الظروف السائدة لا تتمكن من إدراك مصالحها كمصالح خاصة.... وبالتالي فبحكم تحولها من مجرد “مكانة” لطبقة اجتماعية، أصبحت البرجوازية مضطرة لتنظيم نفسها لا على المستوي المحلي فحسب، ولكن على المستوى الوطني، ولإضفاء طابع العمومية على مصالحها الخاصة”. (الأيديولوجية الألمانية: 21 و 22)

الوعيان معًا –إدراك الفرد الناتج عن عملية الرسملة بوصفه فردًا مجردًا وإدراك البرجوازية في علاقتها بباقي الطبقات كأمة- أنتجا في التحامهما مفهوم الإرادة الحرة. فكما أسلفنا أنتج هذا التطور تعقد المعاملات إلى الحد الذي أصبحت فيه الحقوق مجردة إذ لم يعد موضوعها بالضرورة مُستحوذًا عليه من قبل المالك ولكنه يتمتع بحقه في هذا الموضوع بغض النظر عن وجود الموضوع من عدمه، ويمكن أن يتصرف في هذا الحق بالتبعية. هذا المستوى غير المسبوق من التجريد هو ما جعل الإرادة الحرة هي موضوع التفكير القانوني في القانون الخاص، بمعنى أن الأسئلة أصبحت تدور حول فساد الإرادة الحرة من عدمه وشروط تحققها وما إلى ذلك. وفي المقابل، فالإرادة الحرة لمجموع الأفراد المتساويين أصبح التفكير فيها ممكنًا بالتبعية في مواجهة الدولة، ومن ثم تشكل معيار الإرادة الحرة لتقييم أشكال الحكم المختلفة، وغدا الحكم علاقة تعاقد مماثلة لعلاقات التعاقد في المجال الخاص عنوانها هو: الدستور وحكم القانون، وبالطبع احتكار الدولة للعنف الشرعي كضامن للعلاقات في المجال الخاص (الأيديولوجية الألمانية: 32).

هنا يشدد ماركس وإنجلز على أن هذا التمايز الفعال بين الدولة والمجتمع المدني، والذي تحقق عمليًّا مع الثورات البرجوازية الرئيسية، يهتز سريعًا بمجرد انتصار البرجوازية، إذ أن انتفاء الآخر الإقطاعي الذي وحدها كطبقة قائدة مع الطبقات الأخرى كـ“أمة” وسمح لأفكار مثقفيها أن تجد أرضية خصبة، سرعان ما يبلور وعيها الخاص كطبقة في مواجهة عموم السكان، وخصوصًا البروليتاريا، ومن ثم سرعان ما تسعي لإخضاع الدولة لمصالحها الخاصة التي لم تكن لتعي بها على هذا النحو إلا بعد انتصارها.

هذا التماثل بين حكم طبقة معينة وحكم أفكارها، يصل لنهايته الطبيعية عندما يكف حكم الطبقة عن أن يكون الشكل الذي ينتظم فيه المجتمع، أو بعبارة أخرى عندما تنتفي الحاجة لتقديم المصلحة الخاصة كمصلحة عامة أو تقديم مبدأ “المصلحة العامة” كمبدأ حاكم من الأصل” (الأيديولوجيا الألمانية: 22)

هذا الانتصار وتبعاته هو ما يحلله ماركس في المرحلة الثانية من مراحل تطور الدولة.

ب- صعود السلطوية البيروقراطية أو الظاهرة البونابرتية:

يشكل العام 1848 تطورًا محوريًّا في تحليل ماركس للدولة، إذ أنه العام الذي شهد استكمال آخر محطات الثورات الديمقراطية، متمثلة في انتزاع سلطة الدولة من يد البرجوازية المالية المتحالفة مع ملكية لويس فيليب في فرنسا، وفي الوقت نفسه القمع الشامل لباقي مكونات الثورة الشعبية نفسها بدءًا بالطبقة العاملة وحتى البرجوازية الصغيرة انتهاءً للتسليم بسلطوية جديدة –منتخبة- هي سلطوية نابليون الثالث. هذا المسار المتلاحق للأحداث هو ما سمح لماركس بأن يطور من تصوراته عن انقلاب البرجوازية لطبقة خاصة وتخليها الكامل عن قيادة باقي طبقات الأمة بمجرد انتصارها.

يحلل ماركس في كتابه “18 بروميير لويس بونابرت” الصادر في 1852، هذا المسار السريع والمتلاحق للأحداث عبر منهجيته المتميزة نفسها. يبدأ من التعامل مع “البونابرتية” كما تبدو له على الصعيد المفهومي المجرد بوصفها تمثيلاً للحكم اللا طبقي أو لاستقلال الدولة المطلق عن المصالح الطبقية الضيقة والحكم باسم الشعب مباشرة. يسحب ماركس هذا المفهوم المجرد عبر محطاته التاريخية للبحث في شروط إمكانه والعلاقات بين عناصره المختلفة. يقوده البحث إلى أن الفكرة نفسها كانت تحلق في كتابات الجمهوريين الذين احتلوا موقعًا هامشيًّا من المجال السياسي طوال حكم لويس فيليب. هذه الفكرة حول سلطة لا طبقية بشكل كامل تشكلت كرد فعل على التطابق الكامل بين سياسات لويس فيليب وفئة البرجوازية المالية كما سبق الذكر، وهو ما أدى لظهور الدولة كما لو كانت ملكية خاصة يجب تحريرها. هنا يلحظ ماركس بذكاء أن خلف الفكرة الجمهورية كانت تكمن فكرة “الإمبراطورية” في الواقع، بوصفها الطور الأخير من أطوار الثورة الفرنسية الكبرى قبل عهد الاسترجاع الصريح Restoration. وهو ما سمح للفكرة بأن تلعب دورها في رفع مصالح باقي الفئات البرجوازية كمصالح للأمة ككل عبر دمجها هذه المرة مع مصالح الفئات البيروقراطية العسكرية، والتي شهدت نموا متزايدًا مع تمايز الدولة وتمركزها والذي شرحه ماركس في الأيديولوجيا الألمانية.

هذا التحالف القوى، الذي وجد ضالته في الفكرة الجمهورية، على الرغم من ميل مختلف الشرائح البرجوازية لأحد أجنحتي الملكية المتصارعتين، أدى للإطاحة بلويس فيليب عبر قيادة جموع شعبية من مختلف الطبقات كالعادة. إلا أن هذا الحلف نفسه وقع أسير نجاحه السريع إن جاز التعبير. فهذا النصر الخاطف والذي لم يكن ليتم إلا باستدعاء الطبقة العاملة بقوتها العددية الهائلة، مع البرجوازية الصغيرة كذلك، قد ولد ثورة توقعات هائلة في صفوف العمال ودفعهم إلى الضغط المباشر على الجمعية التأسيسية من أجل إعلان “الجمهورية الاجتماعية”. هنا مع هذا النصر، والتهديد، تتخلص البرجوازية سريعًا من وعيها القيادي، وترتد إلى الوعي بمصالحها كطبقة خاصة، والتي لم تكن لتدركه لولا التهديد القادم من الطبقة العاملة. ومن ثم كان اللجوء السريع للجيش لقمع الاحتجاجات العمالية العاصفة بعد شهور قليلة فقط من الإطاحة بملكية فيليب، ثم استدعاء الجيش نفسه للإطاحة بممثلي البرجوازية الصغيرة السياسيين في العام التالي، ثم الانقلاب على حق الاقتراع العام نفسه.

خلال هذه العملية، يتبلور كذلك وعي البيروقراطية العسكرية بنفسها كفئة متميزة تتحكم في غول جبّار أنتجته البرجوازية بالتحديد عبر الإصرار على تخارجه من المجتمع المدني- أي جهاز الدولة البيروقراطي بشقيه العسكري والمدني. هنا يتبلور الوعيان ويتنافران سريعًا لتُخضع البيروقراطية البرجوازية مستغلة جزع الأخيرة ورعبها من مسار التجذير الذي افتتحته هي نفسها بثورتها، وتنصاع البرجوازية صاغرة في النهاية. والمحصلة هي تشكل ظاهرة جديدة وشكل متميز من أشكال الدولة، يسك ماركس تعريفه وهو “البونابرتية”، بوصفها شكل من أشكال التمثيل السياسي لمصالح البرجوازية عبر إخضاع البرجوازية نفسها وباقي الطبقات لسلطة بيروقراطية الدولة. البونابرتية هي شكل من أشكال انتصار البرجوازية عبر قمع الصراع الطبقي ككل وعبر الحكم بالمراسيم من خلال بيروقراطية الدولة دونما توسط سياسي وبالافتئات على الديمقراطية البرلمانية، وليست شكلاً من أشكال الحكم “اللا طبقي”. البونابرتية هي تعبير مركب عن العيني في مجال الفكر عبر تفكيك ظاهرة لويس نابليون وتتبع عناصرها تاريخيًّا في ظل الصراع الطبقي القائم ثم إعادة بناءها ككلية من العلاقات.

كانت البونابرتية إيذانًا بمرحلة جديدة من تجذر الصراع الطبقي في فرنسا وأوروبا بشكل عام عقب تخلي البرجوازية الفاضح عن إدعاء قيادة الأمة، وصعود البيروقراطية كفاعل مستقل على قدم المساواة مع البرجوازية واتضاح القوة الضاربة للطبقة العاملة في المدن الكبرى بشكل عملي بعد أن كانت فكرة أو إمكانية نظرية في الأعمال السابقة على 1848. هذه المرحلة الجديدة كانت موضوع للتحليل الماركسي كذلك.

ج- الدولة في مرحلة الثورات البروليتارية:

تشكل الثورة العمالية في باريس والتي أفضت لتأسيس “كوميونة باريس” الشغل الشاغل للكتابات الأخيرة لماركس تقريبًا، وخصوصًا “الحرب الأهلية في فرنسا” (وهو عبارة عن سلسلة من تقارير كتبها ماركس للجنة التنفيذية لأممية العمال الأولى في 1871) و”نقد برنامج جوته” الصادر في 1873. في “الحرب الأهلية في فرنسا” يفصّل ماركس استنتاجه الذي انتهى إليه في “18 بروميير” عن تضخم الجهاز البيروقراطي للدولة بوصفه عامل حاسم مؤثر على مسار الصراع الطبقي في أوروبا ككل. فمسار تجربة الكوميونة توضح بما لا يدع مجالاً للشك أن تضخم الجهاز القمعي للدولة سيصبح حجر عثرة كؤود أمام أي تطور للنضال البروليتاري، وبالتالي فأي انتصار سياسي تحققه الطبقة العاملة أو تكون في سبيلها لتحقيقه سيتكسر على صخرة هذا الجهاز القمعي والذي يمكن تعبئته لسحق أي انتفاضة عمالية في المستقبل. وبالتالي لا يكفي هنا تحييد هذا الجهاز بهدف تحقيق انتصار سياسي ولكن ينبغي تفكيك هذا الجهاز القمعي للدولة نفسه سريعًا، وبدون ذلك لا يمكن التفكير في التحول الجدي للاشتراكية.

ولكن الطبقة العاملة لا يمكن أن تضع يدها ببساطة على ماكينة الدولة سابقة التجهيز وتطوعها لخدمة أغراضها. فالدولة المركزية بأدواتها الممتدة من جيش عامل، وشرطة، وبيروقراطية، ورجال دين، وقضاء –وهي الأدوات التي صُنعت على مثال تقسيم العمل المنهجي والهرمي– تعود بأصولها لزمن الملكية المطلقة لتخدم الطبقة الوسطى الصاعدة كسلاح ضارب في صراعها ضد الإقطاع. ولكن مع ذلك ظل تطورها مثقلاً بكل نفايات العصور الوسطى من مكانة متوارثة، وامتيازات محلية، واحتكارات طوائف لمهن بعينها. الانطلاقة العملاقة للثورة الفرنسية في القرن التاسع عشر قد جرفت في طريقها كل تلك الآثار الباقية من الزمن القديم ونقّت التربة من آخر الشوائب أمام تطور صرح الدولة الذي شُيد خلال عهد الإمبراطورية الأولى”(الحرب الأهلية في فرنسا: 33)

فالاشتراكية، من حيث هي نمط إنتاج متميز، تقوم على ديمقراطية الإنتاج والتوزيع، يعني أن فائض القيمة الناتج عن العمل لا يجري الاستحواذ عليه في مسار إعادة إنتاج دورة رأس المال، بل يعني إعادة توزيعه وتخصيصه بشكل ديمقراطي من قبل المُنتجين. بالتالي فتقسيم العمل البرجوازي في الاشتراكية في طريقه ببساطة للاختفاء، ومعه جهاز الدولة نفسه الذي لم ينشأ إلا لإدارة تقسيم العمل وفصل المنتجين عن أدوات إنتاجهم كما سبق الذكر. وهنا يجب العمل على تفكيك جهاز الدولة بالتوازي مع تلمس الملامح الجديدة لنمط الإنتاج في الممارسة. ومن هنا يحيي ماركس خطوة الكوميون في تحويل العمل لمعيار وحيد للأجر ومن ثم القضاء، ولو لأسابيع محدودة، على ظاهرة البيروقراطية المتفرغة لإدارة الشئون العامة للسكان لتتحول الخدمة العامة لمرحلة في حياة كل عامل في الكوميون: بضعة شهور لا أكثر وعلى أساس تطوعي، يعود بعدها للعمل مرة أخرى. وكذلك الحال مع الجهاز القمعي للدولة، والذي جرى التنبه له سريعًا عبر تفكيك الشرطة والاعتماد على الحرس الوطني التطوعي والقائم على التداول تمهيدًا لظهور “الشعب المسلح” الذي لا تتحول فيه مهمة حفظ الأمن لمرتبة اجتماعية متميزة. هذه الخطوات، مع الخطوات الموازية لتصفية تقسيم العمل البرجوازي، تشكل جناحي التصور الاشتراكي الجديد عن المجتمع.

إلا أن هزيمة الكوميون تعود لعوامل متعددة منها محلية التجربة نفسها واقتصارها على حدود باريس وعدم قدرتها على تجاوز تلك الحدود بحكم ظروف الحصار والحرب الفرنسية- البروسية، ومن ثم فُرض عليها مواجهة قوة قمعية ضاربة متمثلة في الجيوش البروسية وما تبقى من الجيش الإمبراطوري الفرنسي معًا وفي ذات الوقت. ومن جهة أخرى، أعفت محلية التجربة “الكوميونة” من أن تطرح على نفسها أسئلة أكثر تعقيدًا بكثير، وهي أسئلة القيادة أو الهيمنة، أو كيفية تصدي الطبقة العاملة لقيادة كافة الطبقات الخاسرة من هذا النمط أو ذاك من أنماط النمو الرأسمالي في سياقات محددة، وهي الأسئلة التي طرحت وستطرح على كل طبقة صاعدة في المجتمع المدني كما فصّل ماركس نفسه في “الأيديولوجيا الألمانية” و“البيان الشيوعي”.

هذه الأسئلة طرحها ماركس في نهاية “الحرب الأهلية” على عجل وأعاد إنجلز التأكيد عليها في مقدمته للطبعة التالية من نفس الكتاب. وعاد ماركس للتفكير فيها في معرض تعليقه على برنامج الحزب الاشتراكي العمالي الألماني، والمعروف ببرنامج “جوته”. يتحدث ماركس هنا مرة أخرى عن التناقض غير القابل للحل بين شكل الدولة كما تطور في المجتمع الرأسمالي وطموح الاشتراكية، وهو التناقض الذي سيعود لطرح نفسه مرة أخرى عند كل انتفاض محتمل للبروليتاريا، أي التناقض بين شكل قائم على فصل المنتجين عن أدوات إنتاجهم وتقنين مصادرة فائض القيمة وبين نمط إنتاج قائم على الإدارة الديمقراطية للإنتاج والتوزيع.

يجادل ماركس هنا بأن الخيال القانوني الذي يسعى لتمثيل العلاقات الاجتماعية بوصفها علاقات تعاقدية بين أفراد أحرار متساويين لا يعترف في أفضل الأحوال إلا بالأجر المتساوي ولكنه لا يمكن أن يستوعب المعيار الاشتراكي وهو معيار لا يقصر نفسه على توزيع ناتج العمل بالتساوي ولكنه يتقدم لإعادة هيكلة مجمل عملية الإنتاج، وهي مسألة لا يحتوي الفكر القانوني البرجوازي على عدّة مفاهيمية مؤهلة لاستيعابها من الأصل.

الحقوق، بطبيعتها، تتشكل عبر تطبيق معيار موحد؛ الأفراد غير المتساويين (وهم لن يكونوا مختلفين ما لم يكونوا غير متساوين) قابلين للتقييم المشترك فقط إذا ما تم النظر إليهم من وجهة نظر واحدة وموحدة -على سبيل المثال عبر النظر إليهم جميعًا كعمال لا أكثر ولا أقل. ولكن حتى من وجهة النظر تلك، فهناك عامل متزوج وآخر أعزب، وعامل لديه أطفال أكثر من الآخر، وهكذا. وبالتالي، فمع أداء متساوي لأعمال متساوية، وأجور متساوية واستهلاك متساوي بالتبعية، سيظل هناك عامل أغنى من الآخر. ومن ثم لتجاوز كل هذه العقبات، فالحقوق بدلاً من كونها متساوية، يجب أن تكون في الواقع غير متساوية” (نقد برنامج جوتة: 11)

وهنا يتقدم ماركس خطوة إضافية وأكثر تعقيدًا للتفكير في الخيال الوطني والذي طابق ما بين حدود الجماعة الوطنية وحدود السوق الرأسمالي باعتباره هو نفسه عائق في عملية بلورة النمط الجديد للإنتاج إذ أنه مبدأ منظم لانتزاع فائض القيمة لمصلحة المجموع المتخيل ذاك، أو لمصلحة الجماعة الوطنية. ومن ثم فاستعادة فائض القيمة هذا يقتضي التصادم المباشر مع هذا المخيال لإعادة رسم حدود الدولة نفسها بالمخالفة مع التقسيمات الوطنية القائمة، خصوصًا مع ميل رأس المال للاندماج متجاوزًا الحدود الوطنية ومُسخرًا الإطار الوطني لتحقيق غرض واحد وهو الإبقاء على الطبقة العاملة مفككة. وهنا يأتي مأثوره الشهير عن الدولة بوصفها قصة خيالية ليس بالمعنى المجازي ولكن بالمعنى المادي كما سبق الذكر، أي الدولة بوصفها تجريدًا لازمًا لإعادة إنتاج علاقات الإنتاج الرأسمالية على الصعيد العالمي. وبالتبعية، فبدون تفكيك هذا المفهوم وتجاوزه لن تطرح الاشتراكية نفسها على الصعيد العملي وستظل حبيسة أسوار اليوتوبيا.

من الواضح أن الطبقة العاملة حتى تتمكن من النضال يجب أن تنظم نفسها في الداخل كطبقة وأن تنظر لبلدها كساحة حالية للصراع -أخذًا في الاعتبار أن صراعها هذا هو وطني فقط من حيث الشكل وليس من حيث المضمون. فإطار الدولة الوطنية اليوم -على سبيل المثال الإمبراطورية الألمانية– هو مستوعب اقتصاديًّا في إطار السوق العالمي ومستوعب سياسيًا في إطار النظام الدولي” (نقد برنامج جوتة: 13)

إعادة بناء تصور ماركس للدولة:

هذا العرض السريع، والذي لا يفي معالجات ماركس الثرية حقها، يمكننا من تلمس ملامح تصور ماركس المتميز عن الدولة في ضوء منهجه الذي سبق ذكره، ويمكننا كذلك من توضيح مواطن اللبس التي وسمت المعالجات الماركسية التالية له. يمكن بشكل عام القول بستة ملامح رئيسية تكشف عنها تلك التحليلات. يمكن تقسيم تلك الملامح لحزمة مفاهيمية أو منهجية، تخص الدولة ككل كظاهرة تاريخية، وأخرى موضوعية، تخص الدولة الرأسمالية على وجه التحديد. ونعتمد في تقسيمنا ذاك على خلاصات عالم الاجتماع البريطاني بوب جيسوب Bob Jessob في كتابه عن النظريات الماركسية في الدولة (جيسوب 1982) وإن كنا نضيف إليها بغرض التوضيح لا أكثر.

أولاً: من ناحية المنهج والمفهوم

١- الدولة كظاهرة اجتماعية تاريخية هي عبارة عن كلٍ مؤسسي تتمايز مكوناته وعلاقاتها البينية عن باقي مؤسسات المجتمع وتحوذ لنفسها منطقًا خاصًا يتحدد بتطور القوى المنتجة وما تتيحه من إمكانيات للتوسع والنمو لهذا الكل، وكذلك بعلاقات الإنتاج السائدة أو التقسيم الاجتماعي للعمل والتي تحدد درجة تمايز هذا الكل عن باقي العلاقات الاجتماعية، كما يعود هذا الكل ليحدد بدوره كل من تطور القوى المنتجة وطبيعة علاقات الإنتاج ذاتها. العلاقة بين الطرفين هي علاقة تحديد متبادل لا يمكن اختزال أحدهما في الآخر. يتضح ذلك كما رأينا من تحليل ماركس وإنجلز لتطور الدولة التاريخي وانتقالها من المرحلة الإقطاعية للرأسمالية والأدوار المختلفة التي لعبها هذا الكل المؤسسي في هذه العملية وما فرضته عليه هذه العملية من تمايز وارتباط أدى في مرحلة الثورات الديمقراطية للقضاء على الانفصال الكامل بين المجالين وإخضاع المجتمع المدني لسلطة الدولة.

٢- دور هذا الكل المؤسسي في عملية تحديد علاقات الإنتاج وتطور قوى الإنتاج، علاوة على تكوينه الداخلي والعلاقة بين مكوناته، تتحدد بدورها في سياق تطور الصراع الطبقي في المجتمع ككل كما تسهم بدورها في تحديده. الصراع الطبقي في أطواره المختلفة، مفهومًا هنا كعملية تبلور بمقتضاها الطبقات وعيها بذاتها كطبقات منفصلة في المقام الأول أو كحامل لهويات جمعية تتجاوز موقعها من علاقات الإنتاج أو هويات عابرة للطبقات. هنا كذلك رأينا قدرة التحليل الماركسي على رصد التراوح بين الهويات العامة/الشعبية، والفردية/الاستقلالية، التي استبطنتها وعممتها البرجوازية في مرحلة صعودها عبر جهاز الدولة، وبين الهوية الجزئية/الاقتصادية التي طورتها في مرحلة انتصارها وفرضتها بشكل صراعي على باقي القوى الاجتماعية (“18 بروميير” و”الأيديولوجيا الألمانية” مثالان كاشفان كذلك). الصراع الطبقي، والحال كذلك، لا يدور خارج الدولة في مجال المجتمع المدني حصرًا ولكنه يخترقها على كافة المستويات سواء عبر الصراع للسيطرة على “سلطة الدولة” وما تتيحه من إمكانيات جبّارة، أو عبر مشاركة البيروقراطية بالأصالة عن نفسها سواء كفئة تعي مصالحها بشكل خاص كباقي الطبقات أو كفئة ممثلة لهوية جمعية أو كفئة في تحالف مع باقي الفئات في مشروع للهيمنة.

٣- الدولة بهذا المعنى لا تحتوي على جوهر ثابت يمثل حقيقتها. فهي ليست فاعل مستقل يتشكل بمعزل عن علاقات الإنتاج ولا يمكن تمثيلها كفاعل بدون التباسات نظرية وتحليلية هائلة (كالقول مثلاً إن الدولة تفعل كذا وكذا أو صياغة استراتيجية سياسية تظهر فيها الدولة بحد ذاتها كعدو، كما في حالة الفوضوية أو الرؤى الليبرالية المتطرفة، أو كحليف، كما في حالة الاشتراكية الديمقراطية المعاصرة)، والدولة كذلك ليست جهازًا موحدًا أو متناغمًا أو محايدًا، إذ أن العلاقات بين مكوناته على درجة من التفاوت قد تصل حد التنافر أحيانًا (كما رأينا في المواجهة بين السلطة التنفيذية والبرلمان في “18 بروميير”)، كما أنها بالطبع ليست مجرد انعكاس للبنية التحتية من علاقات الإنتاج على النحو الذي يمكننا أن نشتق دورها وتكوينها بشكل ميكانيكي من البحث في طبيعة البنية التحتية، بل قد تصل العلاقة مع البنية التحتية حدّ الصدام، وإلا ما رأينا ثورات برجوازية تسعى لتحجيم سلطة الدولة في التدخل في المجتمع المدني.

ثانيًا: من ناحية الموضوع أو الدولة الرأسمالية خصوصًا

1- يتوقف دور الدولة في إعادة إنتاج علاقات الإنتاج الرأسمالية على تطور القوى المنتجة ومجريات الصراع الطبقي في كل سياق تاريخي على حدة. الدولة وإن كانت تتحدد بمستوى النمو العام لقوى الإنتاج إلا أنها تتطور وفقًا لمنطقها الخاص والمتمايز (وليس المستقل) عما يحدث في المجتمع المدني. القدرة على تحقيق التناغم بين مساريّ التطور يتوقف على القدرة على تنظيم هيمنة أو قيادة متماسكة تتمكن بها طبقة أو تحالف طبقي من تعميم هوية بعينها ونمطًا من الممارسة الإدارية والسياسية يحقق هذا التناغم. هذه الحالات قليلة في التاريخ إذ أن الطبقات الأخرى لا تحتل موقعًا متلقيًا أو خاملاً بشكل تام وعادة ما تسعى لتنظيم هيمنة مضادة أو على الأقل عرقلة مسار مشروع الهيمنة القائم. وكل ذلك مضافًا إلى توزع البيروقراطية بين تلك المشاريع، أو إمكانية تدخلها كفاعل مستقل، يترك آثاره على العلاقة بين الدولة والمجتمع المدني. هذا التفاوت في التطور هو ما يجعل الاشتراكية ممكنة من الأصل إذ أنه يخلق عدم استقرار دائم يسمح للطبقة العاملة بأن تبلور نفسها كفاعل تاريخي مستقل يسعى للسيطرة على سلطة الدولة وتوظيفها في التحويل الاجتماعي، مع إعادة هيكلتها هي ذاتها، أو تدميرها في مرحلة لاحقة.

2- ما نراه من رسوخ ملامح الأيديولوجية القانونية/الوطنية علاوة على “الاحتكار المشروع” للقمع في الغالبية العظمى من تجارب الدول القائمة بالفعل ليس ناتجًا عن ملامح جوهرية مشتركة في جهاز الدولة البرجوازي، أو الحديث، بقدر ما يعتبر هو نفسه أحد نواتج الصراع الطبقي المركبة والراسخة. مكاسب الطبقة العاملة التي انتزعتها في سياق صراعها الطبقي تم نحتها في بناء الدولة عبر نفس الأدوات الأيديولوجية الدستورية والوطنية كحقوق اقتصادية واجتماعية، وحتى وقت قريب كان ثلث العالم تقريبًا يسير باتجاه مختلف تمامًا في الفكر القانوني يختلف جذريًا عن الخطاب القانوني البرجوازي. علاوة على أن الشواهد التاريخية المتواترة تثبت أن الطبقات المسيطرة الاقتصادية بمجرد أن تدرك نفسها كطبقة خاصة على شفير الانهيار (أو الانتصار كذلك) فهي نفسها سرعان ما تتخلى عن هذه الأيديولوجية. وينطبق هذا التوصيف كذلك على مسألة “الاحتكار المشروع” للعنف، إذ أن هذا الاحتكار نفسه يعد ترتيب بعينه للعلاقات بين أجهزة الدولة لم يكن من الممكن تصوره بدون التضخم البيروقراطي والتعقد الهائل في علاقات الإنتاج، كما أن هذا المفهوم، كما الأيديولوجية الوطنية/الدستورية، تم التخلي عنه مرارًا في مسار الصراع الطبقي طوال القرن العشرين على وجه التحديد لمصلحة المليشيا سواء كانت حمراء أو سوداء أو أي لون آخر!

3- على هذا الأساس فظهور التناقض الكامل والجذري بين ملامح المشروع الاشتراكي وملامح الدولة القائمة بالفعل لا ينبع من خصال جوهرية كامنة في بنية هذه الدولة بقدر ما يرتبط بتطور وعي الطبقة العاملة وقدرتها على شن حربها الخاصة على جهاز الدولة ومدى وعي البرجوازية بنفسها كطبقة خاصة. هذا التناقض بين المشروع الاشتراكي والدولة هو أحد أعراض الصراع الطبقي مرة أخرى.

التصورات الماركسية للدولة بعد ماركس: الوقوع في غرام النظرية مجددًا

في ضوء الفهم السابق لتصور ماركس عن الدولة يمكننا تحديد أوجه الالتباس أو الغموض التي وسمت غالبية المعالجات الماركسية بعد ماركس لموضوع الدولة وساهمت في ترسخ الانطباع أن ماركس لم يطور مفهوم خاص بالدولة. مرة أخرى، وبقدر غير قليل من التبسيط، يصيب بوب جيسوب في تحديد مصدر الالتباس في المعالجات الماركسية التالية على ماركس في استسلامها لغواية إنتاج نظرية عامة وشاملة ونهائية عن الدولة بالمخالفة لملامح منهج ماركس نفسه الذي يشدد على استحالة استيعاب العالم في المفهوم وأن كل التحليلات للظواهر الاجتماعية هي تحليلات جزئية وخاصة.

بالقطع كان لهذا الاندفاع أسبابه في الواقع من تطور الرأسمالية نفسها لمرحلة إمبريالية تتميز باندماج الرساميل الوطنية ومن ثم عدم تطابق حدود الدولة، أو الجماعة الوطنية، مع حدود السوق الرأسمالي، وما ارتبط بهذا التطور من استقرار طويل للرأسمالية وأنماط حكم بعينها لم تقطعه الثورة الروسية الكبرى بقدر ما ساهمت في تدعيمه عبر تسريع وتيرة التحالف بين الرأسمالية الإمبريالية والطبقة العاملة في المراكز الرأسمالية الغربية. وهذا الاستقرار الطويل هو ما حفزّ البحث عن ملامح جوهرية أو عامة لكل الدول في نمط الإنتاج الرأسمالي. ومن جهة أخرى، فالجمود الستاليني نفسه في الاتحاد السوفيتي كان مسئولاً عن الترويج لنظرية عامة عن الدولة تُطرح على قدم المساواة مع النظريات الليبرالية والجمهورية كجزء من أدلجة الماركسية، بالمعنى السلبي للكلمة، أي تحويلها من منهج مرن ومنفتح في التحليل إلى عقيدة مكتملة ومكتفية بذاتها و“صالحة لكل زمان ومكان”. بعبارة أخرى، كانت الماركسية ضحية هزيمتها وانتصارها في آن واحد!

صور البحث عن نظرية عامة للدولة بالمخالفة لمنهج ماركس تنوعت وإن كان يمكن جمعها، تحت منزلقات منهجية ثلاثة. المنزلق الأول، وهو الأقدم والأشهر، والمتمثل في اعتبار ما يحدث في الدولة كانعكاس ميكانيكي لتطور قوى الإنتاج وتوازنات القوى في لحظة تاريخية بعينها، ومن ثم فالاستراتيجية السياسية المناسبة للتعامل مع الدولة كانت تُشتق مباشرة من تصور مسار هذا التطور والتوازن في المستقبل. هذا الفهم هو ما تبناه منظرو الأممية الثانية، والحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني، وأشهرهم كاوتسكي بالطبع، واستمر مهيمنًا حتى نهاية الحرب العالمية الأولى قبل أن يعاد استنساخه، بالكثير من التعقيد والتعديل، مع صعود أحزاب الاشتراكية الديمقراطية غداة الحرب العالمية الثانية. والأغرب أن نفس الفهم قدر جرى استنساخه كذلك، مع درجات من الاختلاف كذلك، لدى المنظرين السوفييت أنفسهم، بدءًا بـ“بوخارين”، على الرغم من أن استيلاء البلاشفة على السلطة لم يكن ليتم دون مخالفة لينين العلنية والحاسمة لخط الأممية الثانية النظري.

هذه الفكرة مثلاً قادت منظري الأممية الثانية (مثلاً كاوتسكي في كتيبه عن الثورة الروسية الصادر في 1918) إلى الإلحاح أن ثورة اجتماعية تطيح بعلاقات الإنتاج الرأسمالية عبر الاستيلاء على سلطة الدولة كخطوة أولى أساسية هي مسألة مستحيلة، ولن تنتج في الواقع إلا رأسمالية من نوع جديد مفتقرة للملمح الديمقراطي الذي انتزعته الطبقة العاملة الأوروبية. الفكرة المحورية هنا أن الثورة العمالية التي بشر بها ماركس لا يمكن أن تتحقق ما لم تستنفذ البرجوازية مهماتها التاريخية في تطوير قوى الإنتاج ودفعها لنقطتها النهائية عبر توسع الطبقة العاملة لتشكل غالبية السكان العظمى ومن ثم تزيل سلطة البرجوازية بشكل حاسم وسلمي، وعندها فقط تتحلل سلطة الدولة بشكل تلقائي.

يتضح هنا الإشكال المنهجي المزدوج الذي تعاني منه هذه الرؤية. فمن جهة أولى، يرى هذا المنهج في تطور البرجوازية مسارًا خطيًا صاعدًا من كونها طبقة عامة إلى طبقة خاصة، ويربط هذا المسار بعامل واحد وهو استنفاذ تطور قوى الإنتاج، في حين أن ماركس كان واضحًا في تحليله سواء في “الأيديولوجيا الألمانية” أو  “18 بروميير” أن تخلي البرجوازية عن طابعها العام وانحطاطها لطبقة خاصة هو تطور مرتبط بالضغط عليها من أسفل وليس بالضرورة باستنفاذ مهمة تاريخية بعينها، وهو أمر دعمته الشواهد في فرنسا 1848 والثورة الروسية في 1917 ثم اتضح بشكل جلي في مجتمعات الجنوب حديثة العهد بالاستقلال حيث انحطت البرجوازيات الوطنية بإيقاع أسرع بكثير من المتصور وبدون إنجاز أي مهمات تنموية تاريخية على النحو الذي حولها لكومبرادور فعلي. ومن جهة أخرى، لا يولي هذا التصور اعتبار يذكر لأي طبقات أو فئات أخرى في التكوين الاجتماعي البرجوازي بخلاف الرأسمالية والعمال. فيغفل مثلاً الدور المتميز للبيروقراطية كفاعل بالأصالة عن نفسها في مجرى الصراع الطبقي يجب استكشاف استراتيجياته بشكل مستقل، وكذلك الدور المحتمل للفلاحين، الذين دعموا صعود نابليون الثالث للسلطة، ناهيك بالطبقات القديمة غير الرأسمالية أساسًا والتي تستمر في الوجود، بأشكال مختلفة، في التكوين الاجتماعي البرجوازي.

محصلة هذا المنزلق في النهاية هو الاستيعاب داخل التصورات الليبرالية الاجتماعية بشكل أو بآخر أو داخل التصورات القومية، بالذات في مجتمعات الجنوب حديثة الاستقلال: تتحول التصورات الماركسية في الحالة الأولى لهامش نظري يستدعيه مثقفو الرأسمالية وقت الأزمات لشرح ما التبس عليهم من آليات عمل اقتصادهم الرأسمالي نفسه، وفي الحالة الثانية تتحول الماركسية لمحض نظرية في التنمية تبحث في الشروط اللازمة لإطلاق قوى الإنتاج المحتجزة بعد تحرير الدولة من هيمنة البرجوازية، ولكنها لا تقدم شيئًا يذكر في فهم  آليات عمل دولة ما بعد الاستقلال نفسها.

المنزلق المنهجي الثاني الذي وسم أغلب التحليلات الماركسية بعد ماركس، هو ما يمكن وصفه بالاختزالية Reductionism، أي اختزال التحليل الماركسي المعقد لتكوين الدولة وأدوارها المحتملة إلى أحد جوانبه واعتباره هو الجانب المحدد بحكم التعريف لباقي الجوانب أو السيناريوهات الممكنة لتشكل الدولة وأدوارها المختلفة. تحليل لينين في “الدولة والثورة” يعد مثالاً واضحًا على هذا الميل، حيث يختزل تكوين الدولة المعقد في الوظيفة القمعية في التحليل الأخير التي تجُبّ ما عداها وتحوله لمجرد أوهام أيديولوجية.

من الممكن بالطبع تفهم تصورات لينين في سياقها الثوري وحجاجه المرير مع منظري الأممية الثانية الذين استمروا في كيل النصح للبلاشفة بعدم التقدم للاستيلاء على السلطة –والاستسلام للذبح على يد مناصري الرجعية القيصرية بالتبعية- إلا أنه من غير المفهوم استمرار هذه التحليلات مع ترسخ المصالحة التاريخية بين الرأسمالية الإمبريالية والطبقة العاملة عقب الحرب العالمية الثانية. تجد تلك التحليلات أصداءها في أعمال الكثير والكثير من الجماعات الماركسية الجذرية ووصلت أوجهها في نهاية السبعينيات كرد فعل على تحول التحليلات الماركسية المتأثرة بخط الأممية الثانية إلى رديف للاشتراكية الديمقراطية، ومع الجمود السوفيتي الذي كان تمهيدًا للتحلل الكامل للتجربة في نهاية الثمانينيات.

المنزلق المنهجي الثالث، وربما الأكثر تعقيدًا وشيوعًا، هو التقاط نموذج واحد من تحليلات ماركس المتفرقة للدولة ورفعه لمرتبة “النموذج” بألف لام التعريف، واعتبار مختلف الأشكال الأخرى إما تجارب غير مكتملة على طريق الوصول لهذا النموذج النهائي أو أنها انحراف عن هذا النموذج يجد تفسيره في خصوصيات التطور الرأسمالي في كل حالة على حدة. النموذج الأشهر على هذا الميل التحليلي نجده في كتابات ما يعرف بمدرسة “منطق رأس المال” (مثلاً أعمال المنظرين الألمان الغربيين يواكيم هيرش Joachim Hirsch، إليمر آلفاتار Elmer Alvatar، بيرنهارد بلانكي Bernhard Blanke) ونلمح آثاره في معالجات لويس آلتوسير وتلاميذه، أو ما يعرف خطأً بالماركسية البنيوية.

لا تنطلق تلك المعالجات من تحليل ماركس العيني لتطور الدولة في سياقات بعينها بوصفه تحليلًا “خاصًا”، ولكنها تنطلق من تحليل ماركس لمنطق التبادل السلعي في “رأس المال”. بدءًا بأعمال المشرع والفقيه القانوني السوفيتي يفجيني باشوكانيس Pashukanis جرى الانتباه لملحوظة ماركس غير المكتملة في رأس المال عن أن السلع لا تذهب لتبيع نفسها في السوق بقدر ما أنها يجب أن تتمفصل مع مراكز قانونية لفاعلين بعينهم. هذه المراكز هي التي يجري إعادة إنتاجها على مستوى الأيديولوجية الدستورية/الوطنية بوصفها مصدر كل السلطات وفقًا لمبدأ الإرادة الحرة كما سبق الذكر. ومن ثم يشتق باشوكانيس، ومدرسة منطق رأس المال، شكل الدولة القائم من شكل التبادل السلعي المعمم في نمط الإنتاج الرأسمالي، ويصل إلى استنتاج أن الجمهورية البرلمانية هي الشكل المثالي لحياة دورة رأس المال؛ إذ يتماثل الفرد المجرد ومعاملاته المجردة مع منطق التداول المجرد للقيم في الرأسمالية. وهو ما يعني أن الدولة في الممارسة تتحول لرأسمالي مجمع، أو مكثف، يتدخل أحيانًا للحفاظ على إعادة إنتاج دورة رأس المال، بالمخالفة في الكثير من الأحيان لإرادة الرأسماليين الأفراد، وهو ما يفسر كذلك استقلال الدولة النسبي في النهاية. نصوص مثل “١٨ بروميير” الذي جرى التعرض له آنفًا يجري قراءتها على هذا النحو بوصف البونابرتية شكلاً متميزًا من أشكال تدخل الدولة ضد إرادة الرأسماليين الأفراد.

يذهب نيكوس بولانتزاس Nicos Poulantzas كذلك في اتجاه متقارب ولكن مع اختلافات ذات دلالة، خصوصًا في كتاباته الأولى وقت التأثر الشديد بأفكار لويس آلتوسير مثل “السلطة السياسية والطبقات الاجتماعية” الصادر في 1969، إذ يرى أن الدولة هي كل مؤسسي محدد شكليًا بالأيديولوجية القانونية/الدستورية ولا يمكنه أن يتحرك بالمخالفة لها وإلا انهار تماسك النظام الاجتماعي الذي يتدخل هذا الكل لحمايته في النهاية. وجوهر عمل هذه الأيديولوجيا بالنسبة لبولانتزاس هو “التفريد” Individualiztion  – بمعنى خلق تصور عن العلاقات الاجتماعية ليس بوصفها علاقات بين حوامل لعلاقات الإنتاج سابقة على تكوين الإرادات الفردية ولكن بوصفها علاقات بين ذوات حرة متساوية- والتعميم Popularisation –بمعنى دمج هذه الذوات في وحدة وطنية متعالية على الطبقات وتوحيد الرأسمالية نفسها كطبقة في هذه العملية.

على الرغم من الجاذبية النظرية الظاهرة لهذه المعالجات، إلا أنها لا تصمد أمام محك البحث التاريخي، وذلك بحكم تجاهلها النسبي للصراع الطبقي بالمعنى السابق شرحه وهو العملية المسئولة عن خلق ذلك التنوع في أشكال الدولة التي تراها تلك المعالجات كانحرافات أو نماذج في طور التكوين. تدخّل البيروقراطية في مواجهة سلطة البرجوازية السياسية في سياق ثورة 1848 لا يمكن تفسيره وفقط بضرورة الحفاظ على دورة رأس المال، فدون التصاعد اللافت والسريع لحركة الطبقة العاملة المستقلة لم يكن هذا التدخل ممكنًا من الأصل، علاوة على أن الأزمة الاقتصادية في تلك الفترة لم تكن بالحدّة المتصورة مقارنةً بأزمات أخرى لم تفض بالضرورة إلى هذا الشكل من أشكال السلطوية البيروقراطية (أزمة الرأسمالية في سبعينيات القرن الماضي على سبيل المثال أفضت لتفكيك سطوة البيروقراطية وليس العكس).

وفي السياق نفسه، يجري الخلط في الكثير من الأحيان بين التحديد الذي يفرضه تطور قوى الإنتاج على جهاز الدولة البرجوازي وبين اعتبار أن المجال الاقتصادي هو “المحدد في نهاية المطاف” كما يذهب آلتوسير. تحديد قوى الإنتاج هنا يفرض قيودًا على الإمكانيات الإدارية والقمعية والأيديولوجية لجهاز الدولة ولكنه لا يحدد وجهة حركته بالضرورة، هو تحديد سلبي إن جاز التعبير وليس تحديدًا إيجابيًّا. أما مسألة رسوخ الشكل القانوني/الدستوري للعلاقات الاجتماعية فيجد تفسيره في علاقات الهيمنة السياسية الراسخة كما سبق الذكر والتي يعاد إنتاجها على الصعيد العالمي مع اندماج رأس المال وتجاوزه حدود السوق الوطني عبر غابة مؤسسية من القواعد والأجهزة ولا يمكن ردّه إلى جوهر ثابت للدولة الرأسمالية، وإلا لما استطعنا تفسير وجود نماذج للنمو الرأسمالي لا تتبع هذا النموذج كمجتمعات الخليج العربي وإيران. الخروج من هذا المطبّ النظري يجري تفسيره بأن هذه التجارب هي مجرد نماذج غير مكتملة للنمو الرأسمالي، وهو ما لا يمكن القبول به إطلاقًا مع الدور المتصاعد لتلك الفوائض على الصعيد العالمي.

على الرغم من شيوع تلك المنزلقات المنهجية الثلاثة، إلا أن السير على خطى ماركس الست سابقة الشرح قد أنتج كذلك فتوحات ملهمة طوال القرن العشرين. يمكن هنا الإشارة إلى خيط رابط مثلاً بين أعمال جرامشي، وبولانتزاس نفسه في مرحلته المتأخرة، والمتأثرين بهم سواء من الماركسيين الجدد (بوب جيسوب Bob Jessob، بول هيرست Paul Hirst، وبيري هيندز  Barry Hindess) أو ما يعرف باتجاهات “ما بعد الماركسية” (مثلاً إرنستو لاكلاو Ernesto Laclau وشانتال موف Chantal Mouffe )، والتي لا تعدو أن تكون، من وجهة نظري، إلا إحياء لفهم ماركس نفسه للدولة، مع تحفظات كثيرة بالطبع.

يتميز جرامشي عن أي منظر ماركسي آخر في القرن العشرين بقدرته الفائقة على وضع الدولة في سياق الصراع الطبقي دون الانجرار لاعتبار الدولة مجرد ظاهرة تابعة لما يجري في المجتمع المدني من صراعات، بل يتتبع هذه الصراعات نفسها داخل جسم الدولة ويبحث عن آثارها في تكوين الهويات العابرة للطبقات. كل العدّة المفاهيمية الشهيرة لجرامشي جرى بلورتها عبر هذا التصور. مفاهيم مثل “الكتلة التاريخية” و“الهيمنة”، مثلاً، هي مركبات تسعى لتلمس مسار صعود تحالف طبقي تحت قيادة طبقة، أو قسم من طبقة، بعينه وسيطرته على جهاز الدولة عبر تسييد هوية وطنية أو شعبية. وتماسك هذا التحالف، أو هذه الكتلة التاريخية يعبر عن نفسه عبر عملية الهيمنة نفسها، على النحو الذي يتحول فيه هذا التحالف إلى طبقة عامة (وفقًا لتعبير ماركس وإنجلز) أو ممثلاً للشعب والأمة وفقًا لتعبير جرامشي. الهيمنة كذلك يعاد إنتاجها على كافة المستويات بما في ذلك المستوى الفردي عبر غابة من العلاقات المؤسسية والتي يسميها آلتوسير “الجهاز الأيديولوجي للدولة”، من مؤسسات تعليمية وإعلامية وثقافية، دون أن يتم ذلك بشكل واعي بالضرورة من قبل تلك الكتلة التاريخية. بل أن الوظيفة الأيديولوجية للدولة تتسع لتشمل جميع مؤسساتها بما في ذلك المؤسسات الأمنية والقضائية دون القدرة على التنبؤ بمحتواها سلفًا إذ يبقى ذلك متوقفًا على تحليل خصوصية كل مشروع للهيمنة بعينه في سياق تاريخي ومكاني خاص.

كذلك فتحت أفكار جرامشي إمكانيات لتصور هيمنة متماسكة لا تقتصر على المستوى الوطني ولكن تمتد للمستوى الإقليمي والعالمي كذلك نتيجة تداخل رأس المال، والكتل التاريخية بالتبعية. أفكار مثل “الكتلة التاريخية الأطلنطية” مثلاً، استطاعت أن تقرأ “النيو ليبرالية” بوصفها مشروعًا متميزًا للهيمنة تشكل عبر استيعاب متبادل لأجنحة مختلفة من الرأسمالية على ضفتي المحيط، ويطرح نفسه في صيغة عالمية متجاوزة لرأس المال الاحتكاري الوطني.

مفهوم آخر كمفهوم “الثورة السلبية”، يسكه جرامشي لوصف حالة من “الحرب الطبقية” التي يشنها حلف عاجز عن تنظيم هيمنة متماسكة، بحكم خصوصيات التطور الرأسمالي، ويستبدل ذلك بحرب معلنة على أي محاولة للهيمنة المضادة، وذلك عبر تفكيك كافة أشكال التنظيم الاجتماعي الممكنة ونشر أيديولوجية فردانية مبتذلة تعزز الانسحاب من المجتمع وتركز على خصوصيات كل طبقة على حدة، وفي مرحلة معينة قد تتطور “الثورة السلبية” لحرب طبقية من الكل ضد الكل إن جاز التعبير (شيئًا من ذاك القبيل رصده ماركس مبكرًا جدًا في تحليله السريع للدولة البروسية في منتصف القرن التاسع في معرض نقده لفلسفة القانون عند هيجل، وهي الحالة التي أسفرت عن استمرار الطابع الإقطاعي لسلطة الدولة هناك حتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر). هنا لا يتحول التذرير أو التفريد لخاصية جوهرية في جسد الدولة الرأسمالية، كما كان يذهب بولانتزاس في أعماله المبكرة، بقدر ما يصبح خاصية مرتبطة بطور محدد من أطوار التطور الرأسمالي والصراع الطبقي، وهو ما أنتج الحالة الفاشية على سبيل المثال في إيطاليا.

مفاهيم “الهيمنة” و”الكتلة التاريخية” و”الثورة السلبية” اغتنت كذلك على يد بولانتزاس نفسه في أعماله المتأخرة و”ما بعد الماركسيين” عبر تلقيحها بإسهامات مدارس أخرى غير ماركسية مثل تحليلات ميشيل فوكو الشهيرة عن “السلطة” أو إسهامات التحليل النفسي –وبشكل خاص جاك لاكان- عن بنية اللاوعي. بولانتزاس على سبيل المثال، حاول الإفادة من تحليلات فوكو لعمل السلطة على المستوى الميكروسكوبي للأجساد بهدف تطوير فهم كيفية عمل وتمدد سلطة الدولة في أطوار مختلفة، وكذلك بالطبع أثر هذا العمل في تجريد لمرتبة الفرد المعزول نفسه كموضوع، ومحرك، للبناء القانوني الحديث. من جهة أخرى أفاد لاكلاو وموف وتلامذتهما، من تصورات لاكان عن “الرمزي” و”الخيالي”، بوصف الأول هو بناء مجرد في الذهن للعلاقات الاجتماعية يحتله الفرد بمجرد خروجه للعالم ويقوم بتفعيله في حركته الواقعية، في حين أن الثاني هو أفق غير قابل للوصول إليه يحفز الأفعال على الذات وفي المحيط الاجتماعي. هنا بالطبع نلحظ تناصًا واضحًا مع تصورات ماركس في “نقد برنامج جوته” و”مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي” عن الدولة والمجتمع بوصفهما بنى متخيلة تمكن الحركة الواقعية أكثر من كونهم موجودات عينية.

ما أضافه لاكلاو وموف، وبدرجة أكبر بالطبع سلافوي جيجك، هو التركيز على مفهوم “الحقيقي” Real  The لدى لاكان، والأخير ليس بنية ولا أفق مفترض ولا جوهر يكمن تحت البنى الواقعية بقدر ما هو الحد النهائي لكل الأبنية الرمزية والخيالية والذي يحتم انهيارها في لحظة من اللحظات ويضفي على هذا الانهيار صفة “الحدث” Event، الذي يعود دمجه مرة أخرى في بنية رمزية وخيال جديد إما كحدث مؤسس أو كـ“تروما” تطارد البنى الجديدة. هذه الفكرة أثرت تحليل الأيديولوجية وفتحت أفقًا كبيرًا أمام تصور كيفية عملها ليس كبنية يجري تلقيها واستبطانها بشكل آلي، ولكن كبنية تشتغل على اللاوعي بقدر ما تشتغل على الوعي، أي تحفز مخاوف ومشاعر مقموعة وفانتازيات تنظم كلها علاقة الفرد بواقعه الاجتماعي على نحو بعينه.

في المجمل، وبالرغم من الاختلافات الكبيرة بين تلك المعالجات وبعضها البعض، يفتح هذا الخط أفقًا واسعًا لاستئناف البحث الماركسي في الدولة في عالم اليوم دون الاستسلام لغواية “النظرية العامة” والنهائية، ولكنه بحث ينخرط في تحليلات خاصة وجزئية تكمل بعضها البعض وتلهم استراتيجيات سياسية متنوعة وفعالة في مواجهة أسئلة ملحة كصعود اليمين الشعبوي والسلطوية البيروقراطية التي بدأنا بها مقالنا. ولكن قبل محاولة استكشاف إمكانيات تلك التحليلات، يجب التعريج سريعًا على موقع منهج ماركس في فهم الدولة من خريطة المدارس الحالية غير الماركسية بشأن الموضوع، وإبراز مواطن تفرده التي تكفلت التحليلات المذكورة آنفًا بصقلها وتطويرها.

ماركس والمناهج المعاصرة في فهم الدولة:

يخضع المناخ الأكاديمي، والفكري عمومًا، لهيمنة ثلاثة تيارات رئيسية بشأن النظر للدولة في العالم الرأسمالي: الديمقراطية الليبرالية، التقليد الجمهوري في طبعتيه الجذرية والمحافظة، الاتجاه ما بعد البنيوي بتفريعاته ومنها مدرسة دراسات ما بعد الكولونيالية ودراسات التابع Subaltern Studies. الآن يمكننا فحص هذه الاتجاهات وقدرتها على الاشتباك النقدي مع أسئلة عصرنا السياسية بمقارنتها مع التصور الماركسي المطروح أعلاه.

بالطبع لا يزال قصب السبق معقودًا للديمقراطية الليبرالية منذ بداية تسعينيات القرن الماضي، وعلى الأرجح ستطول تلك الهيمنة بعض الوقت. بالطبع تطورت الديمقراطية الليبرالية المعاصرة عن صورتها الكلاسيكية التي عاصرها واشتبك معها كارل ماركس، وذلك بحكم تنوع التركيبة السكانية نفسها المكونة للجماعات الوطنية في المراكز الغربية التي تحولت إلى “موزاييك” عرقي وديني يختلف جذريًّا عن قوميات القرن التاسع عشر، وكذلك بحكم تعقد وتنوع البناء القانوني الذي ورثه هؤلاء المنظرون، والذي يلخص حوالي قرنين من صراع طبقي ممتد نحتت فيه الطبقة العاملة وغيرها مكتسباتها في شكل حقوق أساسية تقف على قدم المساواة مع الحقوق المدنية والسياسية التي ساهمت في تشكيل الفرد المعزول المجرد الذي تحدث عنه ماركس طويلاً، وبالطبع قبل ذلك، بحكم تغير تركيب رأس المال والعلاقات بين الفئات المهيمنة داخل الرأسمالية بعد حقب من التعولم الإمبريالي الاحتكاري ثم النيوليبرالي.

كل هذه العوامل تقود الديمقراطية الليبرالية المعاصرة إلى إفساح المجال لهويات فردية وجماعية شديدة التنافر لبلورة خطابها والتعبير عن نفسها على قدم المساواة. تتجاور مثلاً أشكال جديدة من الهويات والميول الجنسية مع هويات دينية الطابع تطرح تصورًا محافظًا أو جماعاتيًا Communitarian عن المجتمع ككل. ويترافق ذلك بالتبعية مع تخفيف الحمولة الوطنية لحدودها الدنيا في الفكر الديمقراطي الليبرالي المعاصر، حيث لا تظهر الدولة بوصفها ممثلاً لجماعة وطنية متماثلة أو معبرًا عن إرادة عامة حرة وواعية بذاتها –كما كان الحال في الطبعات الكلاسيكية من ذات المنظور- ولكنها تظهر كممثل للمجتمع المدني على تنوعه وتناقضاته، وتتحدد وظائفها بالأساس بالتوسط بين هوياته المتنوعة على النحو الذي يحول دون انحدارها لهاوية الصدام الأهلي أو ربما الحرب الأهلية. من هنا يأتي كذلك التركيز المفرط على حكم القانون وعمل المحاكم بوصفها كلها آليات آمنة، وفقًا لتعبير جون رولز John Rawls، لاستيعاب تلك الهويات والرؤى والبحث في كيفية التوفيق بين رؤاها في المبادئ الدستورية المستقرة أو ابتداع مبادئ جديدة تسهل من هذه العملية. ويتراجع بالتالي البحث في شروط تشكيل الإرادة العامة الحرة، أو ضمان حكم الأغلبية، بل يمكن القول إن “استبداد الأغلبية” يصبح بحد ذاته الهاجس الحاكم لاجتهادات المنظرين الديمقراطيين الليبراليين مثل رولز وكيمليكا Will Kymlicka وبدرجة أقل يورجن هابرماس. ولكن على الرغم من تطور الديمقراطية الليبرالية إلا أنها، حتى الآن، لم تستطع القطع مع افتراضاتها الأنطولوجية التجريبية التي تتعامل مع المفاهيم والظواهر القائمة بوصفها تعبيرًا مباشرًا وشفافًا عن ماهية الواقع أو حركته. الهويات المجردة لا تظهر هنا كمُركب من مفاهيم وعلاقات أخرى لكل منها شروط إمكانها التي يجب البحث عن كيفية تشكلها تاريخيًّا، بقدر ما تظهر كهويات واقعية مكتملة ومكتفية بذاتها، ومن ثم تنعدم الفروق تقريبًا بينها جميعًا. المثلية الجنسية والهوية الدينية مثلاً متماثلان في نظر الفكر الديمقراطي الليبرالي المعاصر إذ يعتبر كل منهما مجرد “هوية” ينبغي البحث في كيفية تنظيم حضورها في المجال العام.

في المقابل، يدفعنا منهج ماركس سابق الشرح باتجاه تفكيك التجريدات الهوياتية المطروحة علينا والبحث في عناصرها المؤسسة وشروط إمكان كل منها وعلاقتها بغيرها على النحو الذي يمكننا في النهاية من إعادة بناءها كعيني في مجال الفكر وليس كحقيقة. حاولنا مثلاً من خلال العرض المختصر لأفكار جرامشي، وحملة لواءه النظري، تفسير تشكل هويات عبر طبقية، أو فوق طبقية، من خلال عملية تشكيل كتلة تاريخية وهيمنة متماسكة، أو، على العكس، عبر فشل هذه الهيمنة وانحطاط هذه العملية إلى ثورة سلبية تقود حربًا طبقية بهدف تفكيك أي محاولة تنظيم اجتماعي.

لا تنكر التصورات الليبرالية واقعة الهيمنة الثقافية ولكنها تتعامل معها بنفس الحس التجريبي/الوضعي إذ لا تبحث في شروطها المؤسسة، فتتحول الهيمنة الثقافية لمحض هيمنة جماعات ثقافية أو دينية ينبغي مواجهتها. إلا أنه من المستحيل منطقيًّا تصور هيمنة لا يترتب عليها مصالح اقتصادية متعينة في شكل نصيب من فائض القيمة الاجتماعي، إذ يعني ذلك أننا بصدد جماعة بشرية بلا داعمين، أو لا تسعى هي نفسها لإعادة إنتاج وجودها الاجتماعي في أبسط معانيه. ومن ثم، ينبغي التشديد هنا أن أي هيمنة دينية أو ثقافية تتشكل في ظل حاضن مادي يؤدي لتوزيع غير متوازن للمكاسب الاقتصادية ومن ثم لبلورة هويات طبقية على ضفافه. ومن ناحية أخرى، فعملية الهيمنة الثقافية نفسها كـ“إنتاج” فهي ككل عمليات الإنتاج الاجتماعي محكومة بتطور بعينه في قوى الإنتاج يجري توزيعه بشكل غير متفاوت وفي مجري الصراع الطبقي، ومحكومة كذلك بعلاقات إنتاج اجتماعية تحدد محتوى هذه الهيمنة ووجهتها. هذا التوزيع المتفاوت هو ما قد يسرع من وتيرة بلورة هويات على حساب أخرى أو يكسبها قدرة على التعبئة على حساب هويات أخرى. ومن نافل القول إن جهاز الدولة نفسه منغمس في عملية التوزيع غير المتساوي لكل من أدوات الإنتاج الثقافي والمكاسب العينية لعملية الهيمنة الثقافية.

الغريب أن هذه البديهيات تغيب عن ذهن المنظرين الليبراليين بينما يستوعبها المواطنون في المراكز الغربية المأزومة الحالية، ويدركون ببساطة خريطة المصالح التي تنتعش في ظل هيمنة الفكر الليبرالي التعددي Pluralistic، والتي تسهم في إعادة إنتاجه كذلك، من تحالفات رأسمالية عابرة للحدود وخاضعة لهيمنة رأس المال المالي بالأساس على ما يتسم به من مرونة وسيولة، على باقي مكونات رأس المال المحددة جغرافيًّا كالصناعة والزراعة والتجارة المحلية. ويكون رد الخاسرين بالتالي هو في شكل عنصرية مضادة أو تمحور ذكوري مضاد، يهدد وحدة الجماعة الوطنية التي تسعى الديمقراطية الليبرالية للحفاظ عليها. هنا نتقدم خطوة في التحليل، ويصبح السؤال المحوري حول الهويات الجمعية الجديدة المطروحة على الدولة ليس هو كيفية التوفيق بينها بما يحول دون تحاربها، بقدر ما يصبح عن شروط إمكانها الاجتماعية نفسها في محيط الصراع الطبقي ومن ثم البحث في كيفية التوفيق بينها عبر مشروع هيمنة مضاد يستهدف تجاوز الشروط المنتجة لصراعها من الأصل.

في مواجهة الصعود القومي والديني والذكوري المتطرف لا تملك الديمقراطية الليبرالية إلا المحاضرات في الحقيقة، وينعقد رهانها مرة أخرى على قدرات عجائبية مفترضة لجهاز الدولة الأيديولوجي في مواجهة التهميش والتفاوت الاجتماعي بخطاب التسامح وقبول الآخر! بعبارة أخرى، تجرد الديمقراطية الليبرالية نفسها من الأسلحة اللازمة للدفاع عن وجودها.

في المقابل، تقدم الرؤى الجمهورية في صيغتها المحافظة (فيليب بيتيت Philip Petit) أو الجذرية (حنا آرندت ووريتشارد بيلامي Richard Bellamy وكوينتين سكينر Quentin Skinner) صورة المرآة المعكوسة للتقليد الديمقراطي الليبرالي. ففي مواجهة الاهتمام المفرط بحكم القانون والتأسيس الدستوري للتعدد والميل للتوفيق بين الهويات المتعارضة، يسعى التقليد الجمهوري إلى إحياء المكون العمومي للديمقراطية القائمة أو تلك الحزمة من الممارسات الساعية لتشكيل إرادة عامة جديدة تتعالى على الهويات الجزئية، فبدون تلك الإرادة العامة تنحط الدولة وتصبح مجرد مطية للمصالح الخاصة دون دفاع يذكر عنها من قبل مواطنين مذررين ولا تجمعهم هوية ناظمة.

يبدو التقليد الجمهوري هو الأكثر إغراقًا في الاعتبارات المعيارية، ومن ثم الأقل قدرة على تحليل الواقع والاشتباك النقدي معه. فتفتقر المعالجات الجمهورية لتصور عن التكوين الداخلي للدولة بما يشرح أسباب مشاركة البيروقراطية الفعالة بالأصالة عن نفسها، أو بالوكالة، في تحويل الدولة لمطية للمصالح الخاصة. وبالتالي من غير المفهوم كيف ستحول تلك البيروقراطية نفسها لعنصر فاعل في إحياء الإرادة العامة مرة أخرى، أي في التنازل عن امتيازاتها. بخلاف ذلك، تفتقر تلك الكتابات لأي تصور عن التكوين الاجتماعي للكتلة التاريخية الجديدة المفترض بها إحياء الإرادة العامة أو السيادة الشعبية أو وجهة مشروعها للهيمنة. بعبارة أخرى، يفتقر التقليد الجمهوري، بالرغم من نواياه الطيبة، لأي عناصر مطلوبة لتشكيل نظرية عن الدولة سواء كانت عامة أو جزئية.

التقليد الأخير المهيمن هو التقليد ما بعد البنيوي بتفريعاته المختلفة والذي يكاد يحتكر الموقع النقدي في الجدالات الأكاديمية والفكرية حاليًا، خصوصًا في المراكز الغربية. لا تولي هذه المعالجات اهتمامًا مركزيًّا لسلطة الدولة أو لمسألة الدولة عمومًا، بقدر ما ينصب اجتهادها على علاقات وممارسات السلطة/القوة كما تمارس على الأجساد في محيطها الفيزيائي أو في محيط اللا وعي. يظهر هنا التأثير الكاسح لأفكار ميشيل فوكو عن ممارسات السلطة/القوة بوصفها منتجة لكل من العلاقات الاجتماعية والذوات التي تتولى حملها وتفعيلها. بل يذهب فوكو إلى أن العلاقة الباطنية بين الفرد وذاته، كما تظهر في محيط الممارسات الجنسية أو الأخلاقية مثلاً، هي نفسها محض استبطان لممارسات قوة تشكلت قبل وجود هذا الفرد. ومن ثم فالتحليل ينصب هنا على تقنيات عمل السلطة/القوة في مستويات ومجالات مختلفة في خلق الذوات وعلاقاتها ثم يعود التحليل للدولة مرة أخرى كتركيب يتمفصل على نقاط تماس عمل هذه المجالات نفسها، ليس تعبيرًا عن إرادة عامة حرة وليس انعكاسًا محضًا للعلاقات في تلك المجالات كبنية تحتية تمثلها الدولة.

ولكن على  الرغم من الانطلاق من نقطة صحيحة وهي تصور تشكيل العلاقات الاجتماعية والذوات المشكلة لها كعملية مادية شاملة غير قابلة للاختزال في أحد مكوناتها (الدولة، الاقتصاد، القمع...إلخ) وغير قابلة للاندراج تحت قانون عام، إلا أن الهوس بتجنب أي مفهوم قد يستشف منه طابع “الكلية” أو “الجوهرانية” يقود هذه التحليلات عادة إلى التخلي الطوعي عن مواطن قوتها ذاتها. فعلى سبيل المثال، ووفقًا لمنهج ماركس سابق الشرح، لا يمكن عزل ممارسات القوة الأولية واعتبارها نقطة تحليلية مكتفية بذاتها ننطلق منها، فممارسة السلطة نفسها، كعملية مادية في المقام الأول، تتحدد بتطور القوى المنتجة كما أنها لا تشتغل على جسد أو لا وعي معزول ولكن دائمًا ما تكون “مادتها الخام” جزءًا من علاقة سابقة عليها سواء كانت تلك العلاقة مأزومة أو مستقرة. يصعب تصور أن العلاقات الاجتماعية السابقة والقوى المنتجة المحددة لها لا تتداخل مع آليات عمل السلطة وتفرض عليها وجهات بعينها ونواتج مختلفة لعملها في السياقات المختلفة.

أكثر من ذلك، فنحن نعلم الآن أن العلاقات الاجتماعية المذكورة ليست أكثر من بناء خيالي ينظم الوجود الاجتماعي للأفراد، فإذا اتفقنا أن هذه العلاقات تفعل فعلها في آليات عمل السلطة الميكروسكوبية، فهي لا تفعل فعلها إلا ككونها بناء رمزي أو خيالي ملهم ومنظم لسلوك الفرد. وإن لم يكن هذا التجريد هو نتاج هيمنة طبقية عبر جهاز الدولة بقدرته الهائلة على اختراق البنى الاجتماعية كافة فماذا يكون، أو من أين يأتي؟

يعود التخلي الطوعي عن العدّة المفاهيمية المادية لينتج الكثير من الغموض والتشوش عند تعاطي ما بعد البنيوية مع سؤال الدولة. فمحاولة تصفية وعزل “ممارسة السلطة” عن أي سياق سابق يقود إلى تصور ممارسة تعسفية للسلطة لا تستهدف خدمة أي مصالح اجتماعية سابقة عليها. تصبح الدولة هنا حاوية مؤسسية لممارسة السيادة، والسيادة هنا، كما السلطة، لا تُعرف كشيء يجري مراكمته أو انتزاعه ونقله، ولكن تعرف بالمعنى الشميتي بوصفها القدرة على الاستثناء أو القدرة على تفعيل التناقض المؤسس للسياسي ما بين معسكر “الصديق” ومعسكر “العدو”. ولكن الاستثناء، كما السلطة، لا يصلح كنقطة تحليل معزولة أو صافية. فالاستثناء نفسه كمفهوم هو محض تجريد يمكن تفكيكه وتتبع مسارات تشكله في سياق تمايز الدولة عن المجتمع بحكم تقسيم العمل - وهو التمايز الذي بلغ أوجه في القرن الثامن عشر كما سبق الذكر- والذي سمح من الأصل بتشكل النظرة السياسية للمجتمع من موقع الدولة كمحيط يمكن إغلاقه وعزله وفقًا لثنائية الصديق والعدو. ومن ثم فشروط إمكان الاستثناء يجب البحث عنها في مكان آخر- في التناقضات بين الدولة والمجتمع المدني وفي محيط الصراع الطبقي بالمجمل الذي يجعل من الاستثناء استراتيجية ممكنة لتحالفات طبقية في لحظات تاريخية بعينها.

المشكلة الأكبر لدى التحليلات ما بعد البنيوية هي العمى المعياري التام، أي افتقارها لأي تصور حول “ما ينبغي أن يكون”. نقد العطب المعياري هنا ليس تكرارًا لاتهامات ما بعد البنيوية بالعدمية الأخلاقية أو ما شابه؛ ليس هذا ما يعنيني هنا. ولكن مشكلة العطب المعياري هنا أنه يصادر إمكانية أي تصور عن أي ممارسة سياسية. تقر التحليلات ما بعد البنيوية بأن الحركة الواقعية للذوات تقتضي تجريدًا مفترضًا يشكل أساسًا لفعلها، حيث يجري افتراض وجود الدولة مثلاً في هذا السياق حتى يمكن بلورة استراتيجيات للفعل الاجتماعي، ولكنها تساوى تقريبًا بين أشكال الدولة المختلفة بوصفها جميعًا حاويات للسيادة أي حاويات لاستثناء قائم أو محتمل.

على سبيل المثال، يتخبط وائل حلّاق، وهو مفكر ذائع الصيت حاليًا في عالمنا العربي، في سعيه للعزل والتجريد التام لكل من الدولة الحديثة والدولة في التصورات الإسلامية الكلامية والفقهية عبر التركيز على المفاهيم المؤسسة، وغير القابلة للتوفيق، بين الكيانين. ولكنه ينتهي في النهاية إلى مطالعة قارئه باستحالة مزدوجة: استحالة التكيف مع الدولة الحديثة كمسلم واستحالة إحياء مفهوم دولة الإسلام الذي انتفت علاقات السلطة المنشئة له. والاستحالتان تقودان لسياسة مستحيلة بالتبعية. ولكن كما تحدث ماركس في “نقد برنامج جوته”، وحده نقد الدولة الراهنة من موقع مستقبلي هو ما يمكننا من رصد تناقضاتها التي تسمح بتجاوزها (نقد برنامج جوته: 19)، في حين تحتجب تلك التناقضات على العين التي تفحص الدولة من موقع ما قبل حداثي، أو ما بعد حداثي متوهم. والموقع المستقبلي بالطبع هو التنظيم الاشتراكي للمجتمع الذي تتجلى إمكانياته من قلب تناقضات الواقع.

يقود هذا العطب المعياري إلى استيعاب الاجتهادات ما بعد البنيوية بسهولة نسبية إما في الفكر الديمقراطي الليبرالي أو في فكر اليمين المحافظ: في الحالة الأولى تستنكف التحليلات ما بعد البنيوية عن الانخراط في أي مشروع مضاد للهيمنة الطبقية إذ أنه محكوم بإنتاج ثنائية الصديق والعدو “القمعية”، ومن ثم تنخرط في مسار إعادة إنتاج الهويات الفردية والجمعية كهويات معزولة تنتظر من النخب الحاكمة استيعابها عبر الآليات القضائية والدستورية، وفي الحالة الثانية تستسلم التحليلات ما بعد البنيوية لتأييد عدمي –ينطوي على إعجاب خفي- لكل مشاريع الهيمنة الرجعية الساعية لإحياء مفاهيم الإرادة العامة والسيادة الشعبية كهويات صافية متناغمة خالية من التناقض الطبقي.

بعبارة أخرى، بتنكرها لكل أو بعض ملامح منهج ماركس الستة، تجرد التصورات المعاصرة للدولة نفسها طوعًا من العدّة المفاهيمية التي تؤهلها للاشتباك النقدي المبدع مع أسئلة العصر السياسة، وإن كانت تستمر في الهيمنة بطبيعة الحال ليس لقدرتها التحليلية ولكن بسبب غياب أي هيمنة مضادة تستعيد الفهم الماركسي للدولة وتفرضه على بساط البحث.

ماركس وأسئلة عصرنا السياسية:

نعود هنا إلى ما بدأنا به مقالنا من راهنية منهج ماركس في التعامل مع الدولة وقدرته على الاشتباك النقدي مع المطروح من أسئلة سياسية مرتبطة بالأزمة الاقتصادية الحالية في العالم، وليس فقط قدرته على تقديم تحليلات نافذة لطبيعة الاقتصاد الرأسمالي ومستقبله. يهيمن حاليًا سؤال عام تندرج تحته العديد من الأسئلة الفرعية، عن تآكل الجاذبية الأيديولوجية للديمقراطية الليبرالية بعد ثلاثة عقود من الهيمنة وما يرتبط بهذا التآكل من صعود لليمين القومي الشعبوي أو السلطويات البيروقراطية سواء في الجنوب العالمي أو في محاضن الكتلة الاشتراكية السابقة. تتنوع الإجابات التي تقدمها المدارس الثلاث المهيمنة على المشهد الأكاديمي والفكري وتتنوع أوجه قصورها كذلك.

كما حاولنا الشرح مرارًا في السطور السابقة، لا يسعى التحليل الماركسي لتقديم نظرية عامة أو شاملة بقدر ما يسعى لتقديم تحليلات خاصة أو جزئية تتكامل مع بعضها البعض. ومن ثم فنقطة البدء هي وضع تلك الظواهر في سياقات عالمية مختلفة للكشف عن اختلافاتها نفسها قبل إعادة بناءها في الفكر مرة أخرى. السلطوية البيروقراطية في مصر مثلاً تختلف عن تجارب أخرى شهدت صعودًا لنفس تركيبة ممارسات الحكم في بلدان أخرى في العالم العربي، وما يمكن شرحه في العالم العربي يختلف بالطبع عما يمكن رصده في أجزاء أخرى من العالم. فقط عبر هذه التحليلات يمكن تكشف المشترك داخل تلك الظاهرة ليس كجوهر ثابت ولكن كتكرار ناتج عن تمفصل عوامل أخرى.

إذا تعاملنا مع مصر على سبيل المثال –وهو المثال الوحيد الذي ستتعرض له المقالة بحكم محدودية المساحة-  فيجب أن نبدأ من فحص المفاهيم المجردة المطروحة على الذهن عبر تفكيكها لعناصرها ثم البحث في شروط إمكان كل من هذه العناصر. السلطوية البيروقراطية كما تُطرح علينا كمفهوم تعني احتكار عملية صنع القرار في الدولة من قبل قمم بيروقراطية عسكرية أو أمنية أو إدارية، أو شبكة من كل تلك العناصر، يحركها إيمان عميق بعجز الهياكل السياسية عن تمثيل مصالح المجتمع بشكل دقيق ومن ثم فتسعى إلى تجسيد هذه المصالح عبر القرارات الإدارية وترى في الحكم عملية فنية وليس صراع مصالح في سياق مفتوح. ويتم تحصين هذا الاحتكار بحزمة من الترتيبات الدستورية والتشريعية والمؤسسية التي تصادر مبدأ الفصل بين السلطات وعدد من الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية الأساسية، علاوة على احتكار الإعلام والتضييق على المتبقي منه، وقد يصل الأمر حد ممارسة القمع بشكل منهجي لمواجهة أي محاولة لتغيير تلك الترتيبات.

السؤال التالي هو حول كيفية تضفير هذه العناصر مع بعضها البعض والشروط التي سمحت لها بالاندماج. هذا سؤال إجابته في مجال الصراع الطبقي، مجال مشاريع الهيمنة الناجحة أو الفاشلة. في مصر، فالجماعة التي تقوم على أمر هذا النمط من الحكم تتشكل من عدد من القمم البيروقراطية العسكرية حصرًا والتي ترتبط مع عناصر من البيروقراطية الأمنية أو الإدارية بعلاقة رعاية وتبعية، ولكن الأخيرة لا تعتبر شريكًا فعليًّا بأي حال من الأحوال. والموقع المتميز لتلك المجموعة العسكرية تشكل على مدى زمني طويل قبل ثورة 2011 على النحو الذي أدى بتلاحق الأحداث السريع إلى وقوع الثمرة ناضجة في حجر تلك النخبة. الجيش منذ يوليو 1952 وهو يتشكل من جمهرة من خلفيات برجوازية صغيرة ريفية على الأغلب ومدنية في بعض الأحيان. وحافظت النخب المتتالية منذ هزيمة 1967 قدر الإمكان على استبعاد الجيش من الدائرة الضيقة لصنع القرار حرصًا على عدم تكرار سيناريو الصدام الشهير بين عامر وناصر وهو ما أفضى جزئيًّا للهزيمة.

هذه العزلة كانت لها نتائج مزدوجة ومتناقضة في الواقع. فمن جهة أولى، ومع الاتجاه إلى السلام مع إسرائيل وتحول النخب الحاكمة يمينًا والشروع في شراكة استراتيجية مع الولايات المتحدة وتفكيك أجهزتها السياسية التعبوية ذاتها بحكم تشرب تلك الأجهزة بروح وطنية يسارية (كالاتحاد الاشتراكي العربي)، جرى التوسع في إدماج الجيش كقوة فاعلة في السوق الرأسمالي كجزء من تحييده كقوة مسلحة يخشى انقلابها، ولتقليل نفقات التسليح في الوقت نفسه عبر تمكينه من الاكتفاء الذاتي. وبالتالي، كانت عزلة القمم البيروقراطية العسكرية عن دائرة صنع القرار بالمعنى الضيق للكلمة بمثابة باب خلفي لشراكة، ازدادت عمقًا مع الوقت، مع القطاعات المسيطرة من الرأسمالية المصرية منذ نهاية الثمانينيات، أي رأس المال المالي والاحتكارات المرتبطة به في مجال البنية الأساسية والطاقة واستيراد السلع الأساسية. وأدى ذلك من ضمن ما أدى إلى تشرب تلك البيروقراطية العسكرية –ذات الخلفية البرجوازية الصغيرة التي تستبطن شعورًا بالنقص تجاه البرجوارية العليا- بالتصورات الليبرالية الجديدة إذ تحولت لفاعل في السوق الرأسمالي نفسه.

وبالتالي مع زيادة الغموض حول خلافة مبارك في مقاعد السلطة، كانت القيادات العسكرية تدرك نفسها بوصفها جماعة مؤتمنة على مصير الدولة وإن كانت مهمشة من دائرة صنع القرار على الرغم من امتلاكها لأدواته. وهذا التهميش يجري لحساب شركائها من شبكة الرأسمالية المالية والرأسمالية المحلية ذات الطابع الاحتكاري. إلا أن هذا التهميش لم يترجم نفسه في تبني رؤى سياسية واقتصادية مختلفة عن المهيمن من رؤى الليبرالية الجديدة إذ أن هذه القمم البيروقراطية شريكة لتلك القطاعات ذاتها. وعلى هذا الأساس، تبلورت فكرة ضرورة نقل إدارة جهاز الدولة ليد النخبة العسكرية التي تستطيع أفضل من غيرها تأمين المسار النيوليبرالي –الذي أصبح هو نفسه طريق حماية الجماعة الوطنية من التفكك من وجهة نظرها.

هنا نرصد اختلافًا جوهريًّا عن المسار الذي اتخذته نخبة يوليو 1952 العسكرية كذلك، إذ أنتجت عزلة نخبة يوليو 1952 الكاملة –عن المجال السياسي والسوق- خصومة غير قابلة للحل مع كافة مكونات المجال السياسي الهش والمأزوم في العصر الملكي وأفكاره الليبرالية في السياسة والاقتصاد معًا. وبالتالي، كانت وجوه نخبة يوليو 1952 تكن إعجابًا واضحًا بأفكار التخطيط المركزي الذي يؤمنه حلف طبقي واسع مع الطبقة العاملة الحضرية وصغار الفلاحين بهدف رفع القيود التي تحول دون إطلاق قوى الإنتاج، عبر تحرير رأس المال في الريف من خلال برامج الإصلاح الزراعي وتعديل قوانين الإيجارات وصولاً للتأميم في بداية الستينيات. النخبة العسكرية عشية 2011 كانت تدرك دورها من وجهة نظر أضيق بكثير بوصفه قاصر على استعادة النظام العام دونما تغيير يذكر في علاقات الإنتاج ولا وجهة التراكم الرأسمالي نفسها.

على الجانب الآخر، فمسار الليبرالية الجديدة وتفكيك الكتلة التاريخية التي تشكلت على مدار خمسينيات وستينيات القرن الماضي كان ينتج خاسرين جدد، بالأساس من شرائح وفئات المهنيين والبرجوازية الصغيرة المتعلمين تعليمًا عاليًا والذين كانت تضيق أمامهم الفرص أكثر فأكثر، خصوصًا مع تراجع معدلات استيعاب العمالة المصرية بالخليج. أزمة تلك الشرائح والفئات، وغياب أي هيمنة أيديولوجية متماسكة للحلف الحاكم، كان يدفع بتلك الجماعات في اتجاهين متفاوتين في الأوزان النسبية بطبيعة الحال: الاتجاه الأول هو اتجاه التيار الإسلامي والآخر هو ما يمكن تسميته بالتيار الديمقراطي العام، الذي يسعى لقدر من الانفصال بين الدولة والمصالح الطبقية الخاصة ويعبر عن ذلك بلغة غامضة تدمج بين الإيمان بالحريات العامة، في حدود بالطبع، وشعار “العدالة الاجتماعية”. وكان المعسكران بدورهما عاجزين عن تنظيم أي هيمنة متماسكة.

التيار الإسلامي، من جانب أول، هو عبارة عن طيف عريض من المنظمات الشعبية مختلفة الاتجاهات والرؤى وإن كانت الفكرة الغالبة فيها إخوانية الطابع تركز على الإصلاح المتدرج بوصفه طريقًا وحيدًا لحسم أزمة الطبقة الوسطى وانعتاقها الكامل. وعبر هذا التركيز يعاد اختراع فكرة عالمية الإسلام وعدم اعترافه بحدود الدولة القومية كتجريد متخيل يمكّن الفرد الإسلامي من العمل على استبطان فكرة الإصلاح تلك عبر إدراك ذاته كجزء من جماعة أوسع لا تعرف حدود الدولة القومية. وتدعمت هذه الفكرة بالطبع من إفلاس، أو “تفليس”، الأيديولوجية الوطنية مع تحول الحلف الاجتماعي المسيطر يمينًا. أما مضمون هذا الإصلاح في حد ذاته فلا يختلف كثيرًا عن السائد من سياسات إلا من حيث ضمان قدر من الانفتاح السياسي، على النحو الذي يسمح للإسلاميين كجماعة سياسية بالحكم، وقدر أقل من الحريات الفردية بطبيعة الحال. وبالتالي فتفعيل المشروع الإسلامي في صيغته الإخوانية الغالبة لم يكن ليتم إلا بالشراكة مع الحلف الحاكم نفسه الذي يحوز من الموارد والقدرة على النفاذ إلى مواقع صنع القرار ما يسمح بتفعيل أي برنامج إصلاحي إسلامي محتمل. يفسر هذا الوضع المنهج المتضارب الدائم للحركة الإسلامية طوال عقدي الثمانينيات والتسعينات بعرض نفسها دائمًا على النخب الحاكمة بوصفها قادرة على لعب أدوار في مجال صناعة الثقافة تحديدًا أو في المجال الديني، وفي الوقت نفسه منافسة تلك النخبة في كل موقع متاح من النقابات وحتى البرلمان.

عجز التيار الإسلامي عن قيادة كتلة تاريخية -إذا ما استثنينا عامل القمع المعمم بالطبع-  كان مردّه إلي التناقض في الفكرة المؤسسة نفسها. الهيمنة تقتضي مرونة تستوعب حساسيات ومطالبات متنوعة، وتقتضي مجالاً ماديًا محددًا بدقة، أو “دولة” يجب الاستيلاء عليها، في حين أن الفكرة الإسلامية نفسها، وبحكم انتفاعها من مخيال مفترض غير قومي بالأساس، قد تنجح في بناء طائفة مغلقة أو “أخوية” ثقافية وليس تيار عريض ومرن و“متلون” -بالمعنى الإيجابي للكلمة- ولكنه موحد في سعيه للاستيلاء على سلطة دولة وطنية محددة. ومن ثم فلم يحصل التيار الإسلامي خلال حضوره الفكري والسياسي الطويل إلا على تأييد انتخابي واضح ووازن، ولكن هذا التأييد الانتخابي بحد ذاته لا يسمح له بالاستيلاء على جهاز الدولة ناهيك بقيادته بفعالية واستقرار.

في المقابل، فحالة التيار الديمقراطي العام كانت على قدر كبير من التفكك منذ لحظة الميلاد. نحن بصدد أخلاط فكرية –مستدعاة على الأغلب من حقب سابقة سواء الحقبة الملكية أو الناصرية-  تعبر عن تخوفات وهواجس للبرجوازية الصغيرة ومتعلميها أكثر ما تعبر عن قيادة فكرية لمجتمع معقد كالمجتمع المصري، وهي هواجس تجاه النخبة الحاكمة وتجاه باقي الطبقات في الواقع بما في ذلك الطبقة العاملة. وكان فعل هذا التيار والحال كذلك بدوره مرهونًا بتقبل الحلف الحاكم.

على الجانب الآخر، كانت الطبقة العاملة الصناعية قد كفت تقريبًا عن الحضور كفاعل سياسي مع تآكل الاستثمار في القطاع العام، وهو المشغل الرئيسي للعمالة الصناعية في مصر، واستوعبها القطاع غير الرسمي الذي لا تسمح علاقات العمل فيه بتشكيل تقاليد نقابية أو سياسية مستقرة، كما استوعب نفس القطاع الفلاحين الفقراء المهاجرين.

بالتالي، يمكن توصيف الحال عشية يناير 2011  كأزمة شاملة في الهيمنة على صعيد الحلف الحاكم وأزمة في الهمينة على صعيد البرجوازية الصغيرة وعجز لممثليها السياسيين من التيار الإسلامي أو القوى الديمقراطية عن تقديم أي خطاب متماسك يسمح بقيادة مشروع بديل، وأزمة أعمق في الحضور السياسي لباقي الطبقات ككل. وكل ذلك يجري على خلفية أزمة اقتصادية عالمية أثرت على المجتمع في صورة تباطؤ للنمو وتراجع لقيمة العملة في اقتصاد يعتمد بشكل شبه كامل على الاستيراد والريع المتولد من حركة التجارة العالمية المأزومة أو السياحة وتحويلات العاملين بالخارج. وكل ذلك انعكس في موجة تضخمية كانت من ضمن الأسباب المباشرة لاحتجاجات 2011، كما أدى بالطبع لتقلص هامش المرونة المتاح أمام الحلف الحاكم سواء من حيث قدرته على استيعاب قوى جديدة بين صفوفه أو تقديم عدد من التنازلات الاقتصادية التي تمتص الإحباط الشعبي. ومن هنا كانت الاحتجاجات الواسعة في هذا التاريخ كفيلة بهز أركان التحالف الحاكم عبر ضرب جهازه القمعي وذراعه السياسي بالأساس دون القدرة على تقديم بديل يحل محله. ومن هنا تبلور توازن الضعف الملائم لوثوب القمم البيروقراطية العسكرية على مواقع صنع القرار واحتكارها التام لها.

الاستراتيجية الأولى المنظمة لعملية الاستيلاء على مفاصل صنع القرار من قبل القمم البيروقراطية العسكرية كانت الشراكة مع الإخوان، حيث يحل الإخوان محل الطبقة السياسية القديمة كذراع سياسية للنخبة العسكرية الجديدة. وهو ما بدأ بالفعل بدرجة معقولة من السلاسة مع تنحي مبارك أخذًا في الاعتبار رغبة الإخوان التاريخية نفسها في التحالف. إلا أن مسار الأحداث التالي لم يكن بسلاسة البدايات، تحديدًا نتيجة التفاوت الفادح في موازين القوى الذي لم يستوعبه الإخوان ككل برجوازي صغير أسير أوهام قوته. وجود الإخوان كشريك سياسي كان يقتضي تحولهم لحزب حاكم بالمعنى المفهوم للكلمة، وبسبب العجز المزمن في الهيمنة سابق الذكر لم يتمكن الإخوان إلا من حيازة أغلبية انتخابية من جمهور إسلامي الهوى ولكنه غير قادر على إسعافهم في معركة التوازنات مع النخبة العسكرية والأمنية. هذا الوضع أنتج توترًا دائمًا على خلاف الاستقرار المنشود الذي كان يطمح له العسكريين: توتر مع الجمهور القبطي المتوجس من الصعود الإسلامي، توتر مع التيار الديمقراطي العام في الحاضن الاجتماعي نفسه للجيش والإسلاميين معًا من الطبقة الوسطى،  توتر مع الرأسمالية الاحتكارية والمالية التي كانت لا تزال تنتظر اختبار توجهات الإخوان المنخرطين في صراعات سياسية مع الجميع، توتر مع النخب الأمنية وهم الأعداء التاريخيين للتيار الإسلامي الذي فشل مرارًا في اختراقهم، وقبل ذلك كله توتر مع حلفاء العسكريين في الخليج، مصدر الفوائض المالية الوحيد المتاح في المنطقة والذي كان يحرك نخبه هلع حقيقي من انعكاس الانتفاضات العربية على استقرار حكمها. وبالتالي توفرت كل الشروط الموضوعية للحظة الثالث من يوليو 2013 وما تلاها من قمع معمم لم يجد الإسلاميين أنصارًا محتملين لمواجهته بحكم عجزهم عن الهيمنة كما سبق الذكر. ثم تلا ذلك بالطبع بعث الروح في نفس الإجراءات الليبرالية الجديدة بشراسة غير مسبوقة، وكلما ازدادت تلك الإجراءات شراسة كلما ازدادت قبضة القمع تشددًا بهدف وأد إمكانية أي احتجاجات شعبية على طراز 2011 في مهدها.

التحليل السابق لا يدعي أنه التطبيق الوحيد الممكن للتصورات الماركسية بقدر ما أن العناصر الواردة فيه قابلة بالطبع لإعادة التشكيل والترتيب للوصول إلى خلاصات أخرى. إلا أنه تحليل يطرح بعضًا من الاستنتاجات المنهجية والمفاهيمية التي يمكن إيجازها في الآتي:

أولاً: يعود مفهوم السلطوية البيروقراطية للظهور بعد العرض السابق للظهور كمركب لمفاهيم وشروط إمكان محددة وليس كانحراف عن معيار عام عالمي في الحكم وليس كصورة غير مكتملة لنموذج قيد التشكل وليس كتعبير عن ميل أصيل في بنية “دولة ما بعد الاستعمار” أو ميل أصيل في وعي النخب القائمة عليها. السلطوية البيروقراطية هنا هي خيار تشكل كرد على أزمة هيمنة مستحكمة لحلف اجتماعي مسيطر في المجتمع المدني وإن كان عاجزًا عن تأمين سيطرته سياسيًّا ولإحباط واسع من قبل مختلف الطبقات الخاسرة من سيطرة هذا الحلف، وفي القلب منها البرجوازية الصغيرة والفئات المتعلمة تعليمًا عاليًا منها. خلقت هذه الحالة توازن ضعف سمح للقمم البيروقراطية العسكرية بمساعدة النخبة الأمنية باحتكار عملية صنع القرار، وتفعيل مسار قمعي يطال الجميع والعصف بالتمثيل السياسي المستقل للحلف الاجتماعي المسيطر نزولاً على رغبته في الواقع.

ثانيًا: لم يتبلور دور العسكريين في تفعيل هذا الخيار انعكاسًا آليًّا لمصالح ورغبات فئات مسيطرة في المجتمع المدني، ولم يتشكل بمعزل عنها في المقابل أو على غير رغبتها تمامًا. هذا الدور هو بالأحرى حصيلة تفاعل طويل واستيعاب متبادل غير سلس بالضرورة بين العسكريين وهذا الحلف الطبقي. ويعد ذلك نموذجًا معبرًا عن موقع البيروقراطية المعقد في التحليلات الماركسية السابق التعرض لها.

ثالثًا: لم تكن العلاقات المؤسسية داخل جسم الدولة على درجة من الوحدة أو التناغم خلال هذه العملية. على العكس، لمسنا ومازلنا نلمس تناقضًا واضحًا بين المصالح المؤسسية للأجهزة السياسية وتلك الأمنية، وبين الأمنية وتلك العسكرية على الجانب الآخر، علاوة على التضارب في بعض الأحيان مع النخب القضائية والإدارية.

رابعًا: العلاقة بين الطبقات المختلفة وممثليها السياسيين المفترضين لم تكن بدورها على قدر كبير من السلاسة بل عكست تفاوتًا تجلى بوضوح في علاقة الإسلاميين بجمهورهم الانتخابي، وما زلنا نلمسه اليوم في علاقة التيار الديمقراطي العام بجمهوره المفترض. وهذا التفاوت نفسه هو عرض على أزمة الهيمنة السابق الإشارة إليها.

خامسًا: سياق الأزمة الرأسمالية العالمي، وتجلياته في السياق المصري، لم يحدد بشكل آلي دور ومواقف الفاعلين في هذا المشهد، بقدر ما فتح فرصًا وآفاقًا للبعض وفرض حدودًا أو قيودًا على البعض الآخر وعزز من إمكانية سيناريوهات وقلل من حظوظ أخرى. وتجلى ذلك على وجه الخصوص في العجز عن استيعاب القوى الإسلامية داخل بنية الحلف الاجتماعي المسيطر والمرتبط عضويًّا بالفوائض المالية الخليجية.

سادسًا: هذا النمط من الحكم ولد من رحم تناقضات حادة وليس خاليًا بدوره من التناقضات والتي ستحدد مسار تطوره في المستقبل، وكذلك الفرص المتاحة من وجهة نظر اشتراكية –أو وجهة نظر المستقبل بلغة ماركس. هناك مثلاً سؤال حول قدرة تلك النخبة العسكرية على إدارة علاقة سلسة مع الحلف الطبقي المسيطر، في ظل رغبة متبادلة من الجانبين في الاستحواذ على أصول الدولة، هناك كذلك سؤال حول قدرة العسكريين على الاستمرار في السيطرة على إحباطات البرجوازية الصغيرة بالقمع وحده دون تقديم تنازلات اقتصادية تذكر بحكم الأزمة الممتدة، هناك سؤال يثور حول قدرة تلك النخبة العسكرية على استمرار احتكار مفاصل صنع القرار في ظل نمو نخبة سياسية جديدة موالية من رحم الاستحقاقات الانتخابية المتتالية ولكن تبحث لنفسها عن نصيب من السلطة يمكنها من الترقي الاجتماعي أو تعزيز مواقعها الاجتماعية، وهناك أخيرًا سؤال محوري حول علاقة تلك النخب العسكرية بحلفائها الإقليميين أنفسهم، ومدى قدرتها على إدارة علاقة سلسة في ظل استحقاقات إقليمية تتوالى ويطلب فيها من تلك النخب إظهار قدر غير ضئيل من التعاون العسكري والأمني قد لا تقدر هي نفسها عليه.

سابعًا: هذا التحليل على خصوصيته وطابعه الجزئي أعاد توظيف عدد من المفاهيم، مثل “توازن الضعف” أو “أزمة الهيمنة”، القابلة بدورها لإعادة التوظيف في سياقات أخرى. وعبر إعادة التوظيف الدائمة قد تترسب مشتركات بين مختلف الظواهر التي يجري جمعها تحت عنوان “السلطوية البيروقراطية”. لا تمثل تلك المشتركات جوهر أو قانون عام ولكنها محض مشتركات منبعها هو التماثل في الظرف الرأسمالي العالمي نفسه لا أكثر ولا أقل.

خلاصة:

    يبدو ماركس في مئويته الثانية في وسائل الإعلام وأروقة الجامعات مثقفًا لامعًا أو أكاديمي منعزل ينخرط في نقاشات متذاكية حول مستقبل العالم ويهلل باستمتاع عبثي طفولي لإمكانية انهياره الوشيكة. بعبارة أخرى، يبدو ماركس في هيئة تمثل انعكاسًا لهيئة المثقف ما بعد الحداثي نفسه: عدميًّا، متذاكيًّا، ساخرًا، ومملاً في كل الأحوال. في المقابل، حاولت تلك المعالجة المختصرة أن تقدم وجهًا آخر لماركس، مناضلاً سياسيًّا ينخرط في تحليل مرهق للواقع من موقع المستقبل الذي يستشرفه عبر تناقضات الواقع نفسه. ومن ثم لا تكتسب تحليلاته أهميتها من “صحتها” أو “ألمعيتها” ولكن من انحيازها للمستقبل نفسه وانخراطها النشط في نضال جماعي مع طبقات بعينها لتجاوز الواقع الكابوسي القائم؛ وهي طبقات توجد بحكم التعريف خارج أروقة الجامعات والمؤسسات الصحفية.

استعادة ماركس الآخر، أو المنسي، كانت من باب إعادة بناء تصوراته عن الدولة ومنهجه المتميز في تحليلها، وهو منهج يختلف عن المهيمن من تصورات ديمقراطية ليبرالية، أو جمهورية، أو ما بعد بنيوية، ولكنه كذلك يختلف عن المناهج السائدة في الأوساط الماركسية نفسها والتي تتسم غالبية معالجاتها بنزوع للبحث عن نظريات شاملة وإجابات نهائية مكتملة عن سؤال الدولة وغيره من الأسئلة. بينما أن إعادة بناء منهج ماركس على النحو المقترح تكشف عن تسليم باستحالة استيعاب الواقع في المفاهيم وأن جميع التحليلات التي تنتج عن هذا المنهج هي محض تجريدات مؤقتة أو عملية تمكننا من الاشتباك العملي مع الواقع من موقع محدد. هذا التسليم محرر للذهن والإرادة من قيود عمرها قرون تتحلل في الواقع ولكن لا تزال تمسك بخناق المثقفين!