سجالات

أحمد حسن

الدين والرهاب والتمييز الديني.. صراعات السلطة والهيمنة

2021.06.01

الدين والرهاب والتمييز الديني.. صراعات السلطة والهيمنة

فتح الصديق عمر الشافعي باب هذا السجال بمقاله «الهوس بالإسلام بين الغيرة والرهاب» في العدد ١٩ من مجلة «مرايا»، وشارك الصديقان عمرو عبد الرحمن وسامح نجيب في السجال، عمرو بمقاله «الوجه الآخر للإسلاموفوبيا.. اليمين الديني ورؤيته للغرب في عالم المسلمين» في العدد ٢٠، وسامح بمقاله «الهوس بالإسلام أو حيرة المثقف التنويري» في العدد ٢١، وقد تابعت المقالات الثلاث وأرى أن جميعهم قدم نقاطًا مهمة للتعلم وأخرى للاختلاف، كطبيعة الكتابة السجالية بوجه عام. غير أن مدخل عمر الشافعي انصب تحديدًا على مسلمي الغرب، وبشكل خاص المسلمين المهاجرين إلى الدول الغربية، وما يعانون من تمييز، والنظر إليهم كإرهابيين محتملين، وخطر يهدد ليس فقط المؤسسات الرسمية أو المواطنين البيض الأوروبيين، بل القيم الأساسية الأوروبية مثل الحريات الشخصية وحرية التعبير والمساواة بين العقائد وعلمانية الدولة. بالدوران حول مصطلح (الإسلاموفوبيا) يطرح عمر ثنائية إشكالية تشكِّل عائقًا في مواجهة التحرر والحقوق الأساسية للإنسان، رؤية الغرب (الخوف من الإسلام) ورؤية المسلمين المتحمسة، غربًا وشرقًا، بدرجات تصل أحيانًا إلى حد الهوس الانتحاري والقتل (الغيرة على/ «الدفاع عن» الإسلام). ولا تنحصر الإشكالية في رؤية خاطئة هنا أو هناك، الأهم هو ما يحدث من توظيف لتلك الرؤية عالميًّا في تشريعات وأفعال تتراوح ما بين أعمال إرهابية وتشريعات استبدادية وحروب، هذه الثنائية مدفوعة بكل من فهم خاطئ «تشويه متعمد أحيانًا « للآخر، ومصالح إمبرياليات أو نظم رجعية.

سعى عمر الشافعي لكشف جذور تلك الحالة في بعديها المتصارعين، ويستنتج أن (الإسلاموفوبيا اليوم هي أساسًا الغطاء الأيديولوجي لتلاقي سلطوي وعنصري بين يمين الوسط وأقصى اليمين)، ويحدد مهمة اليسار الجذري في (أن يكون في طليعة النضال ضد هذا التلاقي اليميني الجديد، وضد الإسلاموفوبيا التي يقوم عليها) وكماركسي يؤكد على أن هذا (لا يعني تجنُّب توجيه النقد إلى الإسلام أو تحليل أزمته المحتملة). وفي المقابل يذهب إلى أنه (مطلوب فهم الأسباب التاريخية التي يبدو معها هذا الدين وأنصاره، بشكل متزايد، خارج التاريخ وخارج قيم عصرنا الأساسية. ولعل المحور الرئيسي الذي ينبغي أن تدور حوله الأسئلة المطلوب طرحها في هذا السياق هو «خصوصية» الإسلام) موجهًا اللوم إلى اليسار الرافض للعنصرية ضد المسلمين، كونه يهرب من سؤال خصوصية الإسلام (بنفي أي خصوصية للإسلام) مشددًا على أن تكون إجابة السؤال (داخل التاريخ) لتحقيق هدف البحث (عن الأسس والبدائل التي يمكن أن تجعل المسلمين، من داخل المنظور الإسلامي أو من خارجه، جزءًا أكثر فعالية من النضال الإنساني التحرري).

ومع الجهد الملحوظ الذي بذله الشافعي في محاولة بحث المسألة بردها إلى التاريخ الفعلي وكشف جوانبها الإشكالية لدى طرفيها فإنه يمكن تقديم الملاحظات التالية:

١- انشغل الشافعي بمشكلة الإسلام في عين الاستشراق الغربي وتوظيفاته، وبوجه خاص منتجه المسمى (إسلاموفوبيا) مرددًا فكرة الخوف من الإسلام أو المسلمين باعتبارها حالة مرضية توظفها وتعظمها الإمبرياليات وأجنحتها اليمينية عند اللزوم، مشددًا على (أن الإسلاموفوبيا حقيقة لا شك في وجودها وتفاقمها في الغرب خلال العقود الأخيرة. لكن مع وقوع الأزمة الاقتصادية العالمية في ٢٠٠٧-٢٠٠٨، تجذرت الإسلاموفوبيا أكثر داخل النسيج الاجتماعي والسياسي). وهي رؤية تكاد ترى الإسلام عقيدة مطهرة من الدعوة إلى ممارسة العنف ومن خطاب الكراهية والعداء لما هو غير إسلامي، ومن ثم جاء الموقف الغربي عصابيًّا ومهووسًا في موقفه من الإسلام والمسلمين. والواقع أن الإمبرياليات تستثمر في حالة قائمة بالفعل سواء بتوظيفها لصالحها أو بتحفيزها. نقصد هنا حالة أنتجها تاريخ من الأوهام النرجسية الميثولوجية من جهة، سواء الميثولوجيا الإسلامية أو ربيبتها المسيحية، وكليهما خلف لليهودية القائمة على فكرة الانتقاء الإلهي لشعب معين دون الآخرين، ومن جهة أخرى تاريخ استعماري/إمبريالي في مقابل برجوازيات أقل تطورًا.

٢- توظيف ظاهرة لها جذورها التاريخية وأسبابها الواقعية لا يضعنا أمام عصاب غربي قوامه خوف متوهم من الإسلام بوجه خاص، صحيح تمامًا وجود سعار يميني يغذي الظاهرة ويمد ظلالها إلى قطاعات من الجمهور الأوروبي، لكن الأمر أكثر تعقيدًا من رده إلى مجرد فوبيا، فهناك موجات الهجرة إلى المستعمرات والهجرة العكسية إلى المستعمرين في مرحلة ما بعد الاستعمار، ولذلك تداعياته الإشكالية في العلاقة بين الأعراق والعقائد، هل يمكن نسيان لافتة (ممنوع دخول الصينيين والكلاب) التي كانت تعلقها مطاعم ومحلات أوروبية، أو تاريخ التمييز العرقي الذي عاناه السود ولا زالت آثاره فاعلة حتى الآن، أو التمييز الأوروبي ضد اليهود في حقب سابقة، التمييز ضد المهاجرين باعتبارهم سببًا في البطالة وليس فقط في تشويه الثقافة والعادات الأوروبية والذي كان ولا يزال أحد روافع الاتجاهات الفاشية. كل موجة هجرة واسعة يصاحبها نزعات عنصرية وعدوانية سواء كان مصدرها القوى المحافظة في المجتمع المضيف، أو الطبقة الوسطى التي تخشى المزاحمة أو التعرض لمزيد من الانهيار. جذريًّا تكمن أزمة الإنتاج الرأسمالي بلا شك، وفي كل أزمة كبرى تتعرض لها الرأسمالية تستدعي روث التاريخ وتتغذى عليه، وتحاول نسبة الأزمة إلى عنصر خارج نظام آثارها، عدو خارجي، شغب وإضرابات معطلة للآثار، فائض سكان أو زيادة أعداد المهاجرين. في الظرف التاريخي القائم تتفاقم أزمة الرأسمالية ومن ثم ترتبك تحالفاتها وعداءاتها وتتغير بمعدلات سريعة، الموقف من الإسلام وتحديدًا جماعات الإسلام الجهادي أو السياسي، وبشكل غير مباشر الإسلام الدعوي، يدخل ضمن تلك التموجات، من حليف مدعوم وداعم إلى عدو.

من جهته يقدم الإسلام، عقيدة أو جماعات منظمة جهادية أو سياسية، وقودًا ملائمًا لتلك النار، إنه من جهة ابن الماضي الذي يزعم استحقاقًا مطلقًا على الحاضر والمستقبل، سواء على المستوى المحلي أو العالمي، وممثلو هذا المنظور شكلوا تحديًّا للنظم المحلية الاستبدادية، وأحيانًا عونًا لها في مواجهة الحركات الشعبية، بدرجة لا تقل، بل تزيد، أهمية عن تحديهم للنظم الغربية (الكافرة) وحتى للحركات السياسية الأخرى مثل التيارات اليسارية والليبرالية ومؤسسات دولة ما بعد الاستعمار البرجوازية الهشة.

ليست الصهيونية وحدها التي تشكل عائقًا أمام الثورات أو حركات التحرر في منطقتنا، الإسلام السياسي والجهادي أيضًا خطر وعائق تعلمت شعوب المنطقة درس خطورته بدفع دماء غزيرة. وما فات مقال عمر الشافعي هو الإشكالية الأكثر مقاربة وتعقيدًا، الدور المحلي للحركات الإسلامية الذي برزت خطورته بشكل جلي في ثورات وانتفاضات ما سمي بالربيع العربي، الإسلام كمرجعية ماضوية ملتبسة قدم أيضًا غطاءً أيديولوجيا للقوى الأكثر رجعية والجماعات الطائفية الجهادية المسلحة. وعلى ذلك تستغل أنظمتنا هذا الوضع لتشديد قبضتها ملوحة بخطر البديل الطائفي/ الإرهابي، وتتغاضى النظم الغربية عن الاستبداد الماثل في بلداننا لأنه سيكفيهم شر صعود تلك الجماعات ولو على حساب حقوق الإنسان. النموذج السوري والعراقي والأفغاني والسوداني ونسخه الأقل ضراوة وتنظيم الدولة/داعش والنماذج الأقل قوة، المميتة أيضًا، في مصر ليسوا مجرد دعوة رجعية بل آلات قتل منظمة.

مصطلحات مثل رهاب الإسلام، أو الإسلاموفوبيا تتعامى عن هذا الواقع حين تقصر الظاهرة الإسلامية على التمييز ضد المهاجرين المسلمين في الغرب. لا شك أن مواقف اليمين الغربي مرفوضة تمامًا سواء تعلقت بالعمال والنساء الأوروبيين أو المهاجرين واللاجئين أيا كانت جنسيتهم أو دينهم، إلا أن أدوات وشعارات الدفاع وأنا هنا أخاطب معسكر اليسار والماركسيين، لا يجب أن تتورط في دفاع يكاد يقارب التضامن السياسي مع تلك الجماعات. ليست قضيتنا هي الدفاع عن الإسلام أو أي دين آخر، والسعي لإظهاره بمظهر مقبول، لسنا معنيين بهذا الأمر سوى في نطاق البحوث التاريخية والبحوث المقارنة والقراءات النقدية العلمانية والمادية. إن موضعة الإسلام خارج عصره أو اعتباره أيديولوجية متعدية للتاريخ وصالحه لتكون فعالة خارج شروط تاريخها يتماهى، إن لم يتطابق، مع الرؤية المثالية وحلم رجوع التاريخ إلى الخلف أو كبح حركة الحاضر لحساب هيمنة الماضي، رؤية الجماعات الإسلامية نفسها حول الصلاحية المطلقة في أي مكان وزمان.

يجب أن تنطلق رؤيتنا من الدفاع عن المهاجرين وعن اللاجئين من ضحايا القمع والحروب دون أدنى تمييز وبغض النظر تمامًا عن الهوية أو المعتقد.

والمخرج الذي يطرحه الشافعي ليس طريقًا ملائمًا، في تقديري، سواء للعمل النظري أو السياسي للماركسيين والقوى الثورية اليسارية (الكشف عن خصوصية الإسلام) والمتسم بدرجة ما من الغموض، لا نعرف حتى أي خصوصية يعنيها وعلى أي صعيد، وبدرجة أكبر النتائج التي تصور استخراجها من فهم تلك الخصوصية، إيجاد (الأسس والبدائل التي يمكن أن تجعل المسلمين، من داخل المنظور الإسلامي أو من خارجه، جزءًا أكثر فعالية من النضال الإنساني التحرري)، بغض النظر عن كونها من داخل الإسلام؟! أو خارجه. لكن المدعوين بالمسلمين قوى شديدة التباين، وليس كلها يمكن إدماجه في نضال تحرري، وإذا تحركوا بصفتهم العقائدية كمسلمين لن ينتج عن ذلك سوى نشاط جماعة دينية بما في ذلك التمييز الطائفي ووهم الاستحقاق المطلق للسيادة والهيمنة وفرض نفوذ يستند للدين الإسلامي. النضال التحرري يتطلب أن يتحرر الفرد من قيود المفاهيم الماضوية بوجه عام والطائفية بوجه خاص، الانعتاق من الإسلام كعقيدة تطالب بنفي ما عداها وبالسيادة على الآخرين، وأن يناضل المسلم كجزء من طبقة أو شعب بغض النظر عن التباين العقائدي، وضع الإسلام نفسه خارج المجال العام وخارج النضال السياسي، بنفس الدرجة التي رفض بها البلاشفة خصوصية البوند في نضالات العمال الروس.

وفي مقاله، قدم عمرو عبد الرحمن إضافة تبدو في اتجاه مقال الشافعي واستكمالاً له، إذ تناول بقدر من التشريح الثقافي الوجه الآخر للعملة وهو رؤية المسلمين بعد تقسيمهم إلى مدرستين؛ سلفية محافظة وسلفية إصلاحية، متتبعًا مواقفهم وتبدلاتها عبر التطورات التاريخية وصولاً إلى الوضع الراهن. يضع عمر المسألة على أرض أخرى، يعتبر عقدة الموقف مرهونة ليس بفهم «خصوصية الإسلام» ولكن بانتظار (استجابة بديلة لتلك الأزمة.. استجابة ديموقراطية بعمق، تُعرّف الإنسان بما يميزه فعلاً في عالمنا أي قوة عمله الذهني والبدني الصانعة للحياة والمسلوبة منه دائمًا). مقررًا أنه (ربما عند إدراك هذه الحقيقة سنتعرف في العالم القائم بعلاقاته ومؤسساته على أثرنا الحقيقي وليس الأثر الذي أنتجه أسلافنا ويريد لنا الكثيرون في عالمنا تحميلنا بعبئه إلى الأبد)، وفي تلك الفقرات الأخيرة أتفق كليًّا مع عمرو عبد الرحمن.

وفي مقاله «الهوس بالإسلام.. أو أزمة اليسار التنويري» يعلن سامح نجيب، أنه لن يشتبك مع كتابات عمر الشافعي وعمرو عبد الرحمن، بل سيقدم مداخلة أخرى «لطرح بعض الأفكار حول الماركسية في علاقتها بقضايا الدين والتنوير والتراث» يتناول فيها «بعض أوجه أزمة اليسار في التعامل مع الإسلام». ومن ثَم يشرع في تقديم تعليقات وانتقادات على صادق جلال العظم لكونه أقام «تناقضًا حادًا وواضحًا بين التراث والحداثة» مستلهمًا رؤيته للحداثة الأوروبية التي انتقلت «من خلال التنوير من التفكير الأسطوري والميتافيزيقي الذي يمثله الدين إلى التفكير العقلاني والمادي الذي يمثله العلم» وكما يرى العظم «السبيل الوحيد أمام العالم العربي والإسلامي هو أحداث نفس هذه النقلة التنويرية»، إذ لا يرى «أي تناقضات داخل «معسكر» الحداثة ولا داخل «معسكر التراث»، وهي رؤية وفقًا لسامح «شديدة الاختزالية». ومن ثَم يستنتج أن صادق جلال العظم الذي عرف نفسه كماركسي «يقدم لنا رؤية خالية تمامًا من الصراع الطبقي أو تاريخ الاستعمار أو الرأسمالية وتناقضاتها أو العنصرية وآثارها. يقدم رؤية مثالية حول مركزية المعارك الفكرية: العلم ضد الدين، التنوير في مواجهة الظلامية الدينية، التقدم في مواجهة الرجعية.. إلخ». وكذلك فيلم «أجورا» مُقدمًا معلومات مهمة حول الأحداث الحقيقية، منتقدًا تزييف الفيلم للواقع التاريخي واستقبال اليساريين المحتفين بالفيلم باعتباره انتصارًا للتنوير، مؤكدًا أن «كل ذلك في سياق إسلاموفوبيا أوروبية تستخدم الأفكار التنويرية لشيطنة المسلمين، من التعس جدًا ألا نرى أيًا من كل هذا السياق، وأن يعمينا التنوير عن رؤية وفهم الواقع». المفارقة أن سامح نجيب في عرضه لأفكار طارق البشري يعلن اتفاقه مع نقده للتنوير الأوروبي «الذي يفصل الدين عن الدنيا» باعتباره أفكارًا مستوردة ونبتة غريبة لم تنمُ في التربة المصرية وقدمت حديثًا لواقعنا ولم تكسب أي شرعية قبل ثورة ١٩ وتبناها العلمانيون الوطنيون، وبوجه خاص حزب الوفد الذي صار معزولاً عن جماهيره نتيجة لهذا. لكنه ينقد اختزال البشري لأهداف الاستعمار في سحق الهوية الإسلامية لمصر، فقد جاء الاستعمار لفرض الرأسمالية وتحويل مصر لمزرعة قطن تخدم مصانع مانشستر، وسوق لبعض منتجاته، وهو ما أدى إلى تغيير الثقافة في مصر؛ حيث حلت علاقات الإنتاج الرأسمالية وتفككت الأنماط القديمة تلقائيًّا. ولا ينفي ذلك، حسب سامح نجيب، ما قاله البشري من أن المؤسسات وأشكال الإدارة فُرضت على الواقع المصري فرضًا، وأحدث ذلك صدمات وصراعات. البشري يركز على الأثر الثقافي ويتغافل عن الأثر الاقتصادي، وما يقوله البشري عن الثقافة صحيح ولكن ينقصه الجوانب الأخرى لآثار الاستعمار. ومن ثَم تصوره للحل (العودة للتراث الإسلامي) مثالي، خاصة وأن رؤيته للتراث الإسلامي تتبنى تفسير الإسلام السياسي ومفكريه (البنا وسيد قطب والغزالي وأمثالهم). لأن «هؤلاء لهم تفسيرات محافظة ويمينية في غالبية القضايا». ويتبين لاحقًا أهمية تلك الاقتباسات من مقال سامح، خصوصًا تحفظه ليس على التراث الديني أو العودة إليه، بل على «التفسيرات المحافظة واليمينية».

يتبنى نجيب في مقاله، تصورًا يستهدف توظيف غائي من منظور يساري للدين، ثمة (تجاذب اختياري) بين الاشتراكية والدين وفقًا لتصوره، ومن ثَم كل آية في الإنجيل أو القران يمكن تقديم أكثر من تفسير لها. «الأديان نفسها هي حلبة للصراع الأيديولوجي. ومليئة بكم هائل من التناقضات والخلافات والإبهام. ولا يعني ذلك أن نغرق أنفسنا في نسبية الأفكار كما يفعل ما بعد الحداثيين. ولكنه يعني أن نطبق تحليلاً ماركسيًّا صارمًا على الأديان باعتبارها مجالاً تخاض فيه صراعات حيوية». المطلوب إذن مصارعة الجناح الإسلامي المحافظ والبرجوازي على التفسير، وألا نترك لهم ساحته منفردين.

يقول سامح نجيب: «القضية التي طرحها بنيامين في ثلاثينيات القرن الماضي لا زالت حيوية في قرننا وفي منطقتنا. ما علاقة يسارنا الحالي بتراث الأجيال السابقة» ولماذا نترك ذلك التراث ليصبح فريسة الحركات الإسلامية، فيصبح التاريخ تاريخهم في حين نصبح نحن بلا تاريخ؟ أو يصبح تاريخنا نحن تاريخ الثورات الفرنسية والروسية، في حين يدعي الإسلاميون أن جذورهم ممتدة في تاريخ وثقافة شعوب المنطقة؟». علينا إذن، وفقًا له، استخدام ذلك التراث والارتباط به؛ فهو تراثنا وجذورنا، وأن نفسره بطريقتنا الخاصة «هناك معركة حول التراث يجب أن تخاض. ما يسمى بالتراث الإسلامي ليس ملكًا للإسلاميين. فذلك التراث مليء بالثورات والنضالات ضد الاستبداد والظلم والاضطهاد عبر العصور. ذلك هو تاريخنا نحن، ولكن لأن تلك الحركات كانت تتخذ من الدين منبعًا للشعارات والطوباويات ولأن اليسار العربي لا زال حبيس رؤى تنويرية لم تتجاوز القرن الثامن عشر في أوروبا، تظل تلك الثورات والحركات مدفونة ويظل التراث ملك الإسلاميين». ما يقترحه سامح أن نصبح إسلاميين يساريين، أو يساريين بمرجعية إسلامية راديكالية! والمدهش أن سامح ذكر في موضع من مقاله «تجربة الزواج بين الماركسية أو الاشتراكية وبين المسيحية أو الإسلام هي تجربة فاشلة بالضرورة؛ فلا الإسلام (يميني) بطبيعته ولا المسيحية (يسارية بطبيعتها)» هل ما يقترحه إذن هو مجرد «ارتباط عميق» لا زواج؟

ثمة توقف ضروري هنا؛ في العصور القديمة لم يكن هناك فضاء أيديولوجي تعددي، لذلك كان الدين هو الفضاء الفكري العام للسلطة والطبقة المهيمنة والجماهير، ومن ثَم فلم يستخدم كل أطراف الصراع الخطاب الديني بل طعموه برؤاهم الخاصة التي تجلت في فرق وطوائف وجماعات، كل منها يفسر الدين وفقًا لوضعه وتطلعاته الخاصة، حدث ذلك في اليهودية كما حدث في المسيحية والإسلام. كانت العلوم تنمو في بطء على هامش هيمنة الدين وتتعرض لاضطهاده من وقت لآخر. واختلف هذا الأمر بطبيعة الحال في العصور الحديثة التي شهدت تطور العلوم، تراجع مكانة المؤسسات الدينية وكهنتها، ظهور البيروقراطيات الحديثة والطبقات الاجتماعية الحديثة وما ترافق مع ظهورها ليس فقط من نظم وعلاقات آثار وآلات وابتكارات، بل أيضًا أيديولوجيات وأفكار احتلت موقع السيادة بعد أن أزاحت الدين إلى موقع أدنى أو تابع.

لم تتوسل الثورات الحديثة وأغلب الانتفاضات الفلاحية في العصور الوسطى بالدين لتبرير ثورتها أو لتقديم مطالبها، والثورات مثل الفرنسية والروسية افتتحت عهدًا عالميًّا جديدًا لثورات تحركها وتحفزها بوضوح المصالح الطبقية وليس فقط لا تتوسل بالدين بل تطيح في طريقها بالكهنوت والمؤسسات الدينية، حتى الثورة الإيرانية لم تحركها شرائط الكاسيت التي يرسلها الخميني من فرنسا، بل الصراعات الاجتماعية الداخلية وقوى اليسار بوجه خاص، حتى تواطؤ حزب توده وسلم الراية لآيات الله تحت شعار الجبهة والمرحلة.

ذكر سامح نجيب بقدر من التحفظ، وهو محق نسبيًّا، أن تاريخنا هو تاريخ الثورتين الفرنسية والروسية، وبغض النظر عن دوافع تحفظه (أن نرتبط بـ ونوظف التراث الديني ونزاحم الإسلاميين، أو المسيحيين، على تملكه) فإننا، ويجب أن نكون، مرتبطين بتاريخ الإنسانية كلها، وليس بدين ما أو تجربة قديمة ما، نعم علينا دراسة تاريخ مجتمعاتنا، بما في ذلك الأديان والعادات، ولكن لفهم تطورها وطرق تفكيرها وليس لمغازلة أصنام تاريخ منصرم توسلاً لجمهور منخفض الوعي. وإذا كنا نستهدف الثورة علينا بتلك الطريقة بهذا الغزل التراثي، فقد أخطأنا السير للأسباب التالية. هذا الطريق ليس مهجورًا أو مدفونًا كما يقول نجيب، فقد تم السير فيه عشرات المرات، وعلى يد تنويرين وماركسيين، مثل كتابات عباس محمود صالح، والطيب تزيني، وحسين مروة، ومحمود إسماعيل، وعبد الجواد ياسين، وبوعلي ياسين، والصادق النيهوم، ونايف بلوز، وعبد الإله بلقزيز، وحسن حنفي، وأبكار السقاف، وخزعل الماجدي، وسعيد العشماوي، وفراس السواح، وفيصل السامر، وخليل عبد الكريم، وأحمد صبحي منصور، وغيرهم عشرات. ودبجت فيه مئات الكتب والمقالات، ناهيك بمصير كتابات طه حسين وخالد محمد خالد وعلي عبد الرازق ونصر حامد أبو زيد.

ظلت الكتابات التي قاربت التراث الديني من منظور ماركسي أو رؤية تاريخية موضوعية هامشية التأثير مقابل التأثير الجارف للتنظيمات الإسلامية وقت صعودها، وللاستدلال فإن النموذج الذي استطاع مجابهة الإسلاميين حول التراث وتفسيره مباشرة (فرج فودة) لم يكن ماركسيًّا، ولم يقدم أي دعاية تقدمية من أي نوع، وكان متحالفًا مع الدولة وأجهزتها، ولم يخرج مضمون خطابه عن تقديم صورة للإسلام أكثر جاذبية بعض الشيء عن الصورة الدموية العنيفة التي حملها الإسلاميون.

إن التوسل بالتراث الديني أقرب إلى اللعبة التي تقيدك بقواعدها، بل وتلزمك بالظهور كمنتم للدين، كي تجد آذانًا صاغية من أتباعه، وبالضرورة مغازلة المشاعر الدينية. وفكرة أن تحتفظ بحقك في نقد الدين بين متدينين وأن تنقده يضعك على الفور في خندق (أعداء الدين) أمام المشاعر الدينية التي تبغي رضاء الرب حتى لو لم تكن تنفذ تعاليمه، فكرة عبثية تمامًا، خصوصًا لو تناول نقدك مسائل حرجة في عقيدتهم. لكن العقدة بوجه عام ليست في تلك المنطقة، والجماهير لا تتحرك بسبب مشاعرها الدينية في أحوالها العادية، ما لم ينفخ نار الغضب يؤججها قوى سلفية ورجعية كما حدث في أمثلة عديدة آخرها الرسوم الفرنسية، وفقط للاحتجاج العرضي ثم تتبخر بعده مباشرة.

في الأحوال التي تشهد تعبئة جماهيرية ذات شأن يكون الدافع المباشر هو المطالب والمشكلات الاجتماعية وبدرجة أقل السياسية، وطبعًا في الثورات، باستثناء النموذج الإيراني لا يسعي الإسلاميون لتحريك الجماهير ضد ظروفهم الاجتماعية، فالجماهير إما أن تنطلق بعفوية مدفوعة بمشاعرها الطبقية وتذمرها، أو يلعب دورًا في حفزها دعايات ونشاط منظمات يسارية وديموقراطية برجوازية صغيرة. هنا، وفي هذا المسار، لا يستدعى أبو ذر أو علي أو ابن رشد أو عمر بن عبد العزيز، بل جيفارا؛ أكثر الوجوه انتشارًا، طبعًا ليس كأيقونة دينية بل كأيقونة ثورية مضافة إلى الثورات الفرنسية والروسية، ولسنا مضطرين إلى منافسة الإسلاميين على امتلاكه أصلاً.

حتى الثورة الإيرانية لم تتحرك ضد الشاه الكافر، بل ضد الشاه المستبد الظالم، مدفوعة بتأزم أوضاعها الاجتماعية وفي ظل نشاط تحريضي وتعبوي لعب اليسار الإيراني فيه دورًا أساسيًّا، كان لليسار الإيراني نفوذ قوي في إيران لا يباريه فيه القوى الإسلامية؛ حتى إنه جذب خلفه تنظيم إسلامي برمته (مجاهدو خلق) الذي أعلن تحوله إلى الماركسية.

من المهم أيضًا ملاحظة أن أي استقطاب على أرضية الدين يفوز فيه دائمًا التيار الأكثر رجعية والأكثر محافظة على «صحيح الدين»، ويمكن دائمًا الاحتكام فيه إلى النصوص لمنع البدع والمروق والخروج على الجماعة.. إلخ. إنه تكريس غير مباشر لهيمنة الخطاب الديني عند استدعائه ولو من موقع يساري، فضلاً عن كونه بالضرورة يتطلب تقديم تنازلات أمام الفكر الديني، وأن تظهر مسلمًا وملتزمًا دينيًّا أكثر من منافسيك، وليس فقط أن تقص التاريخ من زاوية مختلفة، وثمة تفسير عقائدي يجب إرفاقه بتلك القصص كي تنجح في تلك المنافسة، «سند شرعي كما يقول الفقهاء». وثمة تجربة شخصية مررت بها في أثناء حبسي في سجن استقبال طرة، وكانت خلية بها مجموعة من أعضاء تنظيم الجهاد رهن التحقيق فيما عرف بقضية الهروب، ومنها شخص كنت أعرفه قبل انضمامه للتنظيم وكنت أحاول كسبه لأفكار اليسار، وتقطعت بنا السبل وبعد سنوات قابلته في السجن، وكان أعضاء خلية الجهاد كلهم أكثر مرونة من باقي أعضاء الجماعات الدينية الأخرى المسجونين على ذمة قضايا متنوعة، وربما بسبب تفكك تنظيمهم، واستعدنا أطراف الحديث والنقاشات القديمة التي توخيت فيها تقديم أفكار تضع النقاش على أرضية الواقع الاجتماعي شرطًا لأي تحرر جماهيري، ونقدت مداخل جماعته للتفاعل مع الواقع أو محاولة تغييره، ولأنه كان ملتزمًا بأعضاء الخلية طلب مني كتابة ورقة ليناقشوها فيما بينهم، فكتبت ورقة راعيت فيها عدم استفزاز مشاعرهم الدينية وعدم الاصطدام بالدين، كان مضمونها أننا أمام مشكلة اجتماعية وليست أخلاقية، ويجب فهم عناصرها كي يمكن وضع حلول مناسبة لها، وأن ذلك يتطلب فهمًا اقتصاديًّا واجتماعيًّا، لأنه ليس مسألة فقهية.. وقدمتها له، وتداولوها فيما بينهم في زنزانتهم، وبعد أيام جاءني قائلاً «الأخوة جميعًا لا يرون مشكلة فيما جاء بالورقة، ولكن ينقصها سند شرعي؛ آيات أو أحاديث، كي يمكن قبولها أو رفضها». هل تعرف ما السند الشرعي، سلطة الفقهاء في تفسيره، إمكانية الإتيان بسند نقيض، تحديد الهدف من خلال الالتزام بالعبادات وأن التغيير بمشية الله، وأن أغراض الدنيا فانية، وأن كل ذلك اختبار من الله للبشر، ثم يرمي بهذا التحدي الشهير في وجهك: هل تؤمن بوجود الله؟ وإغراقك بعد ذلك في فتاوى وقصص ومواعظ.

المطلوب بالنسبة لقوى الثورة أو اليسار الجذري ليس خوض معركة حول التراث، وليس استدعاء رموز دينية راديكالية، لأنه في مقابلها سوف يستدعي الأصوليون ألف رمز ديني مضاد من الصحابة والتابعين والفقهاء والصالحين.. إلخ، وألف تفسير أكثر تماسكًا من الناحية الدينية، بل معركة حول الواقع، حول قصة توظيف الدين نفسها في الصراع الاجتماعي والسياسي، حول إعطاء ما للرب للرب ومواجهة القيصر لأنه قيصر سواء كان يقيم الصلاة أو لا، حول القضايا الاجتماعية التي تمس الجماهير مباشرة ومساعدتها في كسب ثقة بقوتها هي دون انتظار بركة أو معجزة وأيًّا كانت عقيدتها. هنا الوردة. فلترقص هنا.

أقام سامح نجيب مقاله اعتراضًاعلى اليسار التنويري المستند لأفكار التنوير الأوروبي التي مضى عليها قرن من الزمان، قد يوحي ذلك بأن المهم لديه هو المعارك الملموسة على الأرض، الصراع الطبقي الواضح والملموس وليس المعارك الفكرية المجردة، فليست مجرد قضية أفكار ولن نتخلص من التراث الديني بمجرد نقده كما يشير، لكنه فيما يبدو يقترح بالمقابل تنويرًا دينيًا من منظور يساري، معركة داخل نطاق التراث الديني، محاولة امتلاكه أو تأويله. هكذا تقترح كتابته. والمثير أكثر في مشروع سامح نجيب هو طرحه في لحظة تعرض فيها الإسلام السياسي بأجنحته المختلفة إلى هزيمة ساحقة على خلفية انكشاف إفلاس مشروعه حين قارب السلطة أو تولاها بالفعل، حتى الدول التي حكمها الإسلام السياسي مثل السودان لسنوات طويلة استطاعت انتفاضة جماهيرية الإطاحة به، وتعرضت دولة الإسلام في دول الشام إلى هزيمة تلو أخرى مخلفة ممارسات تقارب العبودية ومشهدًا منفرًا ومناطق مدمرة وتفكك لجماع قوة التنظيم وما تبقى منه بعض جيوب أقرب إلى فرق صغيرة تحت الحصار، ناهيك بإفلاس إخوان مصر وظهور انتهازيتهم الفجة عندما تولوا السلطة، بل وقبل توليها، عندما تخلوا عن الانتفاضة الجماهيرية وتحالفوا مع العسكريين وشاركوا في محاولات تلويث أهداف وقوى الانتفاضة، واستولوا على الوظائف المهمة والمتوسطة في أجهزة الدولة لصالح أعضاء تنظيمهم. لقد خلع هذا السقوط وتبدي الانتهازية والإفلاس عن الإسلاميين كل العباءات المقدسة وكل الأوهام التي صدروها لعقود طويلة، ولم تعد الجماهير تثق فيهم ولا في دعايتهم التي صارت مهووسة وعصابية بالفعل، لم تعد التنظيمات الدينية قادرة على بث أي دعاية ذات شأن وسط جماهير انصرفت عنها من جهة وسلطة صادرت قسمًا منهم في السجون، والآخر في أروقة الدولة كخدم مباشرين. ناهيك بتخلي الدول الداعمة لهم عن دعمهم أو مساندتهم، وتحلل تنظيم القاعدة، انهزم تنظيم الدولة في أغلب المناطق التي سيطر عليها، وتفكك تنظيم الإخوان وانهار وتخلت دول الخليج والأمريكان عنه، وانفضت الجماهير عن تلك التنظيمات ودعايتها، وتغير المسرح الإقليمي والدولي الذي نمت فوقه جماعات الإسلام السياسي بدرجة كبيرة، وكمؤشر زاد عدد المنصرفين عن الدين بأرقام كبيرة (مئات الآلاف على الأقل) في غضون فترة قصيرة ويجاهر الكثير منهم بذلك، فمن الذي يسعى مشروع سامح لمنافسته على امتلاك التراث الديني؟