عدد 2-إسرائيل والعرب: الوعد، الدولة، المقاومة، السلام

عياد البطنيجي

السادات وسياسات الظن

2017.11.01

مصدر الصورة : ويكيبيديا

السادات وسياسات الظن

 

مما لا جدال فيه أن زيارة الرئيس السادات إلى «إسرائيل» أحدثت تأثيرات عظيمة في النظام العربي الإقليمي. فقد تعرضت عقيدة النظام لانتكاسة خطيرة. إذ كان قرار السادات يمثل تجاسرًا على واحدة من أهم مصادر شرعية نظم الحكم في أقطار الوطن العربي، ناهيك عن شدة الصدمة التي أحدثها قرار الزيارة. كما أن الزيارة أعطت قوة دافعة إلى كل العوامل التي تسببت في الانتكاسة العربية. فضلًا عن ذلك فقد خلقت عوامل جديدة حين فرضت واقعًا اتسم باليأس، وبعجز الأقطار العربية عن تقديم بديل واضح يختلف عن خط الرئيس المصري في الجوهر. إذ بدا واضحًا للرأي العام العربي أن معظم الحكومات العربية ظلت ممسكة بخط لا يختلف عن الخط الذي انتهجه السادات، إلا في الدرجة والشكل.

ترتب على قرار الزيارة مقاطعة عربية لمصر وعزلها عن النظام العربي، مما أحدث فجوة شديدة في الإمكانات العسكرية والسياسية الكلية، لأن القرار ارتبط بالالتزام بإنهاء حالة الحرب مع العدو الإسرائيلي. كما تسبب الانعزال المصري في تقوية ونشأة أنماط معينة من السياسات العربية، تمثلت في محاولة كل من العراق وسورية الاضطلاع بمهام الدور القيادي في النظام، بما ترتب على هذا التنافس من آثار هائلة.

 كما انعكس قرار الزيارة على انتهاج الحلول الجزئية حيال الصراع العربي الإسرائيلي وكان السبب وراء نشأة نمط من مفهوم الأمن يقوم على «المفهوم الجزئي المجزأ للأمن» بديلًا لمفهوم «الأمن العربي» بواسطة القوة الذاتية العربية المتكاملة. ويعني «المفهوم الجزئي المجزأ للأمن» إحلال المظلة الخارجية محل الذاتية العربية، فضلًا عن استبعاد البعدين التحرري والقومي للأمن القومي، ليخلفهما مفهوم مشبوه يجمع بين الأمن النفطي من وجهة نظر مستهلكيه ومصلحتهم من جهة، وأمن «السلام» والاستسلام مع الكيان الصهيوني من جهة أخرى. كما تُطرح إلى جانب ذلك دعوة «نظام الشرق الأوسط» الذي تهيمن عليه دول التخوم غير العربية والكيانات الأجنبية المحيطة كبديل للنظام القومي العربي في ظل انحسار المد القومي وتعرض الشرعية القومية للتشكك.

ولا شك أنه في ظل هذا المفهوم «الجزئي المجزأ» للأمن العربي يكون من الطبيعي اهتمام كل قطر عربي بذاته، ونبذ فكرة التكامل العربي، والبحث لنفسه عن مكان تحت المظلة الخارجية.

لم يستمع السادات للنصيحة بالرغم من محاولات عديدة بذلت لإقناعه بالعدول عن الصفقة مع «إسرائيل». في حوار بين السادات ووزير خارجيته محمد إبراهيم كامل تجلت النظرة الثاقبة للأخير في أن تداعيات معاهدة السلام سينتهي بها الأمر بين مصر و»إسرائيل» فقط، بينما ستبقى «إسرائيل» تنفذ مخططاتها لضم المزيد من الأراضي العربية وستكون يدها طليقة في المسألة الفلسطينية.

وصل الأمر بكامل أن يستحلف السادات برفض التوقيع على مثل هذا الاتفاق المدمر، مبينًا لذلك الأخير بعمق تحليلي ثاقب دور كسينجر وزرعه بذور الشقاق والتفتت العربي، وطارحًا أن الاتفاق سوف يكرس عزلة مصر عن العالم العربي ولن يكون حلًا شاملًاً للصراع، بل كل ما سيحصل هو حل منفرد هدفه حل مشاكل مصر الداخلية كما تذرع السادات. ووفقًا لكامل، كان هذا رأي كل مستشاري الاجتماع الذي استمع لهم السادات.

مثلت معاهدة «السلام» خروجًا عن الإجماع العربي الذي يقضي بمنع إجراء مفاوضات مع «إسرائيل» أو عقد أي معاهدة سلام منفصلة معها. ومع ذلك مضى السادات في مخططه.

لا أتقصد من هذا التوصيف لآثار زيارة السادات وأسلوبه في اتخاذ القرار وصم أذنيه عن كل نصائح الخبراء والمستشارين والمسؤولين، إلا تبيان كيف يتجلى أمامنا نمط معين من التفكير السياسي المبني على الظن. وهو نمط من التفكير يقوم على اختراع شيء من الذهن، إذ يتخيل العقل شيئًا غير موجودٍ، وهذا ما يسمى بطريق الظن، وهو طريق محفوف بالمخاطر، حيث تحضر الأنا بديلًا عن حقائق الواقع. طريق الظن هو طريق «ما يبدو لي هو كذا». هنا الإحالة إلى الوعي أو إلى الحالة النفسية لا إلى الكائن أو الأشياء أو إلى الواقع. ليصبح الممكن أو الظن له أسبقية على الحقيقي والضروري بدلًا من أن يكون متضمنًا في الضروري مستتبعًا الأخير.

هناك تحليل مثير للكاتب المعروف محمد حسنين هيكل لزيارة السادات إلى «إسرائيل». يتبصر هيكل القرار من زاوية سياسات الظن بوصفها هي التي تمثل خلفية صاحب القرار، وليس حقائق الصراع على الأرض ولا المستحيل عربيًا وفلسطينيًا. لنستمع إلى ما قاله هيكل بلمعة ثاقبة: «قد تصرف، ومعه آخرون، بظن أو وهم أنه «سلام»، وبظن أو وهم أنه في «صالح القضية المركزية لكل العرب»، وبظن أو وهم أن «زعامة مصر للعالم العربي» تعطيه الحق في أن يتصرف. وأن هذه الظنون والأوهام كانت هواه، لكنها في نفس الوقت كانت تحريضًا وغواية من رفاق له خطر ببالهم أن الصراع العربي الإسرائيلي سبب سهرهم وأرقهم، وقد آن لهم أن يناموا مستريحين وأن يستيقظوا هانئين

لا نتحدث ههنا عن منهج فردي يخص السادات فحسب، وإنما عن منهج مستحكم في قيادات الأنظمة العربية كشف عن نفسه إثر تجاسر النظام المصري على مصادر الشرعية الواقعية التي حالت في السابق دون التصالح مع الكيان الصهيوني. إن القرار المأخوذ بالظن أو «ما يبدو لي هو كذا»، هو ما يعرِف السياسة بوصفها تمثل فن الممكن.

نحاول أن نستكشف هنا التحول في التفكير السياسي العربي حيال الصراع ضد الوجود الصهيوني في المنطقة العربية، والانتقال من رفض هذا الوجود إلى التسليم بوجوده كوجود ممكن. فلسطينيًا، تبنت الحركة الوطنية ممثلة بمنظمة التحرير سياسات الظن بواسطة بناء نموذج سياسي تحشر فيه أفعال الفلسطينيين لتصنع بذلك أفعال معينة لا غيرها، ليتسنى لها إعادة اختراع موضوع جديد أو فلسطين جديدة بالقطع بين السابق والحالي لتبدأ السياسة فلسطينيًا من الآن وفقط. هكذا حصل، عربيًا وفلسطينيًا، التغلب بالممكنات الاصطناعية على الواقعي العربي والفلسطيني، وهي ممكنات لا تحيل إلى مبدأ ثابت، بل لا تعمل عبر انتهاك الحقائق الثابتة مأخوذة بالظن والجائز والمتخيل.  

لذا لا غرابة أن تحولت منظمة التحرير من منظمة مكافحة إلى منظمة مهادنة، واستحالت وجهة الصراع من أرض المعركة إلى البيت الأبيض، ومن إسرائيل كنظام استعماري إلى حركة قومية، ومن التحرير إلى التقييد، ومن الكفاح الوطني إلى التمويل الدولي، ومن اقتصاد الصمود إلى اقتصاد السوق، ومن حركة تحرر وطني إلى حركة مساومة ومفاوضة، ومن المناضل الحزبي إلى البيروقراطي، ومن الثوري إلى المهني والقانوني، ومن البندقية إلى المفاوضات، ومن البزة العسكرية إلى البزة المدنية، ومن التحرر الوطني إلى بناء الدولة.

الممكن في طي الضروري

لقد أتاحت سياسات الممكن التي رسخها السادات في الواقع العربي، وصارت تبنى عليها المواقف والمحددات السياسية عربيًا وفلسطينيًا متذرعة بالعملية والعقلانية، الفرصة للقوى المتغلبة لتحشر نفسها في البنى المحلية بغية تمرير مصالحها مُحدثة بذلك اختلال في مركبات الواقع، وهو ما أعطاها القدرة على تحريك خصمها، فأصبحت سياسات الممكن تلك عملية احتواء طرف لطرف آخر، مستبدلة واقع بواقع آخر، ومحلة واقع جديد محل واقع قائم يقف عقبة أمام نماذج سياسية يجب أن تسيطر. وهكذا، تبدو سياسات الممكن، العقلانية والبرجماتية، ضرورية لفعل الاحتواء والتحكم بحركة الخصم ودفعه نحو سياسات بديلة تعرف الواقع بما يجب أن يكون لا بما هو كائن، كي يتسنى إزاحة ما ليس له لزوم من جهة الخصم ليتمكن الأخير من إحلال ما يراه لازمًا.

السياسة بوصفها فن الممكن ليست إلا نظام للإخضاع. فهي تضع القواعد والأسس لتستوي ممارسة موكولة إلى الحدثي والعرضي والظني، فيرتسم بذلك حقل سياسي سلطوي لا يحيل إلى ما هو ضروري أو فعلي وإنما إلى السياسية كصناعة وإعادة اختراع للموضوع عبر تفكيكه وتدميره وبنائه من جديد بواسطة مفهوم الحركة كعملية لها بداية ونهاية تتحكم بها القوى المسيطرة وتحدد بنيتها التناحرية. السياسات الممكنة لا تحمِّل على ما هو متعارف عليه الناس، ولا تحمِّل على الواقع الفعلي ولا على الحقائق الراسخة، لأن هذه كلها لا تسمح للمكن الافتعال بالواقع عبر تفكيكه. إذ ليس للممكن سند أو مرجعية وإنما هو مرجعية نفسه، يمسي الممكن، والحالة هذه، أغزر وأخصب وأرحب من الواقع كما يقول هيجل.      

وعليه، كانت الدوافع الذاتية للرئيس المصري أنور السادات مجهزة وممكنة لجهة خيار «الحل الجزئي» حيال الصراع العربي الإسرائيلي. ولأن الممكن يسنح للطرف المتغلب بإعادة تشكيل خصمه عبر تفكيك واقعه وبناءه من جديد، فقد أصبح الواقع (أي الموضوع) مشيدًا ليبقى يعيد إنتاج «الحلول الجزئية». وهنا لا يكون السادات هو من اجترح إعادة اختراع الحلول الجزئية في التعاطي مع حقائق الصراع، بل هو ليس أكثر من دمية أو ممثل يقوم بأداء مُعد سلفًا في مسرحية لا يكون هو (أي السادات) فيها صانع التاريخ وإنما وكيل منفعل بالتاريخ.

وهكذا لا تعود هناك حاجة لأن تُبرر الحلول الجزئية باسم الواقعية والبرجماتية، ما دام الواقع نفسه معاد تشكيله لينتج نوعًا معينًا من سياسات الظن (ما يبدو لي هو كذا)، مستبعدًا أخرى حقيقية أو ضرورية يمثل وجودها عائقًا أمام نظام الإخضاع. فإذا كان الواقع صناعيًا أو مخترعًا أو مُشيدًا من قبل مراكز قوى متمكنة صلبة، يكون من الممكن تبرير الحلول الواقعية والبرجماتية لتبدو الأخيرة كاستكمال للواقع المُشيد وليست خروجًا عليه.

تترسخ بذلك أسبقية السياسات الممكنة على السياسات الفعلية، بحيث تبدو خطوة ضرورية للقوى المسيطرة تحدد من خلالها الخيارات المتاحة للفاعلين، فتصير العقلانية السياسية، كما تكشفت عنها الممارسة العربية والفلسطينية، هي ما تقبله «إسرائيل» بصرف النظر عن الأسئلة الوجودية العربية، لأنه في نهاية المطاف إذا كانت «إسرائيل» وجودًا ممكنًا، فمن المستحيل مقاومتها على أرضية السياسات الممكنة.

لقد استبعدت سياسات الظن هذه رؤي تقوم على منظورات مختلفة. فقد منظور «ليس ممكنًا لهذا أن يكون» (المستحيل)، وكذلك منظور «لا يمكن لهذا ألا يكون» (الضروري) دوريهما في اتخاذ السياسات العربية تجاه «إسرائيل»، واستحكم منظور «يمكن لهذا أن يكون» (الممكن) بوصفه يمثل الخيار الأوحد، رغم أنه جر كل الويلات التي عشناها، وأنتج نخبة بليدة تصطنع سياساتها بالضد عما هو متعارف عليه كأصول وثوابت لا يمكن المحيد عنها. فمن الصحيح القول إنه إذا كان شيء ما هو ضروريًا فهو ممكن، بينما العكس غير صحيح، فلا يصح القول إنه إذا كان شيء ما ممكنًا فهو ضروري.