رؤى
وليد الخشابالسينما والحداثة: الدراجات النارية والسيارات والحب
2020.01.01
السينما والحداثة: الدراجات النارية والسيارات والحب
منذ بداياتها والسينما جزء من آلة الدعاية للخطاب التحديثي/ القومي، المصري خصوصًا، والعربي عمومًا. ونظرًا إلى ارتباط الحداثة بصورة الآلة منذ بدء استيرادها في العالم العربي، وكذلك لاقتران الحداثة بفكرة تطوير الحياة بفضل التكنولوجيا الحديثة، اهتمت السينما منذ سنواتها الأولى بتصوير بعض الأجهزة والآلات بشكل احتفالي، وكأنها تؤدي شعائر الحداثة في محراب الحياة العصرية. لكن اقتحام الحداثة بآلاتها لحياة العرب التقليدية في القرن التاسع عشر استدعى أيضًا قلبها لمفاهيم وأفكار وتصورات ثقافية ومعرفية سائدة آنذاك.
تُلخص شخصية الكونت دي مونت كريستو التقلبات الجذرية التي تنتجها الحداثة في علاقة الإنسان بالزمان والمكان، حين يقول بطل رواية ألكسندر دوما الشهير إن الزمان والمكان هما عدواه الوحيدان، وإن إرادته هي التي تتغلب على هذين العنصرين باستخدام العقل والآلة. وهكذا نراه طول الرواية -المكتوبة في القرن التاسع عشر(1844 - 1846)- ينظم خطوطًا للاتصالات والمواصلات عن طريق مجموعة من الرسل، يتنقلون برسائل أو بضائع أو أدوات بين نقاط استراحة واتصال على امتداد أوروبا كلها، لتنفيذ رغبات الكونت دي مونت كريستو ومشروعاته ومؤامراته.
لم يكن الروائي الفرنسي الشهير يرسم صورة الإنسان الأعلى كما نَظَرَ لها القرن التاسع عشر الأوروبي فحسب، بل كان يلخص تصور العصر لقدرة الحداثة على بسط سيطرة الإنسان على العالم، أي جعل عقله وإرادته يتحكمان في الزمان والمكان باستخدام الآلات. والتفتت السينما العربية إلى هذه الفكرة واحتفت بها، حتى إن شخصية الأمير في فيلم "أمير الانتقام" للمخرج هنري بركات (1950) والمقتبسة عن "الكونت دي مونت كريستو"، تحرص على إبرازها. لا ينسى المُشاهد أنور وجدي متقمصًا شخصية الكونت/الأمير عز الدين، في اللقطة التي يلقي فيها الجملة الشهيرة في فيلم بركات "ليس لي سوى عدوين: الزمن والمسافة".
السينما والمحرك: تفوق الآلة على الزمن
كان لنقل الحداثة إلى العالم العربي كذلك تأثيرٌ كبير على مفاهيم الزمان والفضاء والحركة (أي علاقة جسد ما بالزمان والفضاء معًا)، كما عرفتها المنطقة العربية حتى القرن التاسع عشر. لم يكن الزمن جامدًا والفضاء حبيسًا والحركة غائبة في فترة ما قبل الحداثة العربية. لكن المؤكد أن الحركة كمفهوم وكواقع مادي (حركة الإنسان والبضائع والآلات والأفكار) قد تسارعت في الفضاء العربي في بدايات القرن التاسع عشر، عندما بدأ التحديث في المنطقة. وكانت تلك نتيجة تسارع إيقاع الزمن وتوسط التكنولوجيا والآلات، لتحكم الفضاء في أسرع زمن ممكن بالنسبة لإمكانات ذلك العصر التقنية. هكذا صار القطار والسيارة والدراجة البخارية أكثر من آلات تقطع المسافات في الفضاء في وقت أقصر مما تقطعه الخيل أو البعير أو الحمير. صار القطار والسيارة والدراجة البخارية علامات على تسارع الزمن وقدرة الحداثة على اختصار الوقت أو تسريعه. وأصبح المحرك -وهو بمثابة الذات المسيطرة على هذه الآلات- قرينًا للتفوق الحداثي.
أما السينما فهي التجلي الآلي الأكبر لإنتاج الحركة ميكانيكيًّا. فهي الجهاز الذي ينتج الحركة بفضل تسارع المساحة: انطباع صورة العالم على مساحة ما (هي كادر الفيلم)، ثم تسارعها خلال زمن ما (هو الزمن الذي يستغرقه عرض الفيلم). وأساس الفيلم حين يُعْرَض هو أن أربعة وعشرين كادرًا تجري في مساحة معينة بين نقطتين في جهاز العرض، في زمن معين: وهو الثانية. فتوالي أربعة وعشرون صورة (مساحة) في الثانية (زمن) هو الذي يخلق إحساس العين بأن الصورة تتحرك. هكذا تكون السينما آلة تصوير وآلة عرض؛ تنفيذًا لفكرة سيطرة الإنسان على الزمان (عرض صور في ثانية)، وعلى المكان (القبض على صورة العالم في مساحة محددة، هي كادر الفيلم)، بإنتاج الحركة. يخلق الفيلم إيحاءً بالحركة بفضل تفاعل جسد مع الزمان والمكان: جسد المصور يسقط المكان (كادر الفيلم) في زمن معين (زمن عرض اللقطة) لتبدو الصورة متحركة. وتضيف السينما إلى هذا فكرة تعاظم سيطرة الإنسان على الحركة، باحتفائها بتيمة السرعة التي هي التسريع الزمني لحركة جسد في المكان.
تلعب الآلة دورًا معرفيًّا مركزيًّا في عملية التحديث المجتمعي والفكري. فهي الأداة التي "تنفذ" الحداثة، والتي تقنع الناس بفاعليتها، والتي كذلك تستعملها الحداثة لتثبيت دعائمها في المجتمع. لهذا صارت الآلة على الشاشة علامة الحداثة في المصنع والورشة. وكذلك فإن آلات التنقل ووسائل المواصلات الميكانيكية، التي تعمل بالمحركات، قد أصبحت تلعب الدور نفسه في السينما. وقد اكتسبت "آلات التنقل السريع"، لا سيما السيارة والموتوسيكل (أو الدراجة النارية كما كانت تسمى في الماضي) أهمية كبيرة كدالات على الحداثة، وكوجوه سينمائية مؤثرة.
سيارات سينمائية تاريخية
من المثير أن نلاحظ الدور الدرامي المحوري الذي تلعبه السيارة في عدد من أوائل الأفلام العربية، حتى في مرحلة السينما الصامتة. يؤكد ذلك الدور وظيفة الآلة -والسيارة تحديدًا- على المستوى الدلالي في المجتمع، ليس فقط كعنصر سردي أو درامي، بل كعلامة مرتبطة بمفردات الحداثة المبهجة حينًا والمقلقة حينًا آخر. على سبيل المثال، تلعب السيارة دورًا حاسمًا في فيلم «ليلى» من إخراج عزيزة أمير (1927)، وهو واحد من أوائل الأفلام الصامتة الروائية الطويلة في العالم العربي. تتعرض ليلى الفتاة الريفية/البدوية الفقيرة لمأساة تلو مأساة بسبب وقوعها في حب شاب يتخلى عنها ويتركها بعد أن حملت منه. ويختتم الفيلم حادث سيارة تتعرض له ليلى سوف يؤدي فيما بعد إلى وفاتها. فتبدو تلك الآلة الحديثة المستوردة لتوها من أوروبا وكأنها نذير شر يهدد استقرار الحياة الهادئة، ويعاقب الفتاة ليلى التي حملت من حبيبها دون أن تتزوجه. وفي الوقت نفسه تبدو السيارة أداة حديثة تجلب شيئًا من الخير. فبفضل الحادث الذي تعرضت له ليلى، يحنو عليها الشاب الثري الذي كان يحبها ورفضته في بداية الفيلم، ويعتني بعلاجها ويصل حبل الحب الذي كان قد انقطع، قبل وفاة ليلى.
كذلك في فيلم "فاجعة فوق الهرم" لإبراهيم لاما (1928)، تبدو السيارة محورية فيما احتفظت به الذاكرة البصرية الجمعية من آثار هذا الفيلم المفقود. في القليل النادر الذي وصلنا من معلومات عن "فاجعة فوق الهرم"، تتفرد صورة الحبيبين فاطمة رشدي وبدر لاما في ظل سيارة في الخلاء. تشغل السيارة خلفية الكادر بأكملها، وتمثِّل كتلتها ثلاث أرباع الكتل في اللقطة، وتجلس فاطمة رشدي على عتبة بابها بينما بدر لاما يغازلها وقد تعلق بالإطار المعدني الذي يثبت فيه إطار السيارة، وكأنه مستلق على أريكة. تبدو السيارة في الصورة وكأنها الإطار الحاضن الحاني الذي يسهل لقاء الحبيبين، بما أنها كانت وسيلة متميزة للانتقال والبعد عن الأنظار، وكأنها عامل يسهل لقاء العاشقين في أماكن رومانسية نائية وهادئة، أو المعادل التكنولوجي الحداثي للأيكة التي يتصدرها العاشق التراثي، ويطارح معشوقَته الغرامَ فيها.
يتضح إذن أن السيارة ترتبط في المخيلة العربية بالحب الحديث. فهي الآلة التي تسهل للعشاق لقاءهم بعيدًا عن العيون، وهي المنتج الغربي المستورد الذي يسهم في دعم ممارسة اجتماعية غربية مستوردة في بدايات القرن العشرين، ألا وهي الحب ذاته. الحب، بالتأكيد، قديم كالأزل، لكن تشكله في نهايات القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين في المقالات والروايات والمسرح ثم السينما وتعامل الشباب المستغرب مع الحب مجتمعيًّا، كان مرتبطًا باستيراد فكرة المساواة بين الرجل والمرأة. فالحب "الحديث" مرتبط باستيراد أفكار الحرية والفردية الحداثية. هكذا أصبح هناك خطاب متأثر بنقل أفكار الحداثة يدعم أن تختار المرأة شريكها بحرية على أساس ميلها نحوه، لا على أساس دخله واسم عائلته، أو يدعم اختيار الرجل لمن يريد كفرد، بغض النظر عن قرارات ومصالح عائلته أو قبيلته. وخطاب الحب نفسه أصبح تجليًا لميلاد ذات عربية حديثة تحتفي بذاتيتها ورغباتها في مواجهة المجتمع أو التقاليد أو الأخلاقيات الموروثة من عصور ما قبل التحديث.
سيارات الأخلاق السينمائية
في فيلم "الأم القاتلة" من إخراج أحمد كامل مرسي (1952)، استخدام كاشف لهذا التشابك المفاهيمي بين الحداثة/ السيارة/ الحب، من حيث كون الحداثة متجسدة في السيارة التي تحمل تقييمًا مزدوجًا للحداثة: الاحتفاء بها من حيث هي متعة وتقدم، والقلق منها بل وإدانتها من حيث هي مغوية، مدمرة لقيم تقليدية قد تكون قديمة، لكنها قيم تحافظ على الأخلاق وعلى استقرار المجتمع. تلعب السيارة الجيب دورًا دراميًّا، وتشكِّل مؤشرًا أخلاقيًّا يوضحان طرحي لتضافر فكرة الحداثة، مُعَبَرًا عنها بسيرورة السيارة. في الفيلم أغنية شهيرة تؤديها شادية في السيارة الچيب التي يقودها أخوها نور الدمرداش في شوارع ألماظة ومصر الجديدة، تقول فيها "سوق على سبعين، سوق على تمانين، سوق على مية" ويبدو الشقيقان في غاية المرح والفرح والانطلاق، في لقطات جامعة مأخوذة من سيارة تجري بجانب سيارة البطلين، في تصوير خارجي بإضاءة طبيعية في نور الشمس.
تتجلى الملامح الحداثية في إنتاج المشهد بكاميرا حديثة، في شوارع حقيقية لا في ستوديو -مثلما كان الأمر في أغلب الأفلام من العشرينيات إلى الأربعينيات-، وفي التركيز على آلة حديثة هي السيارة، وعلى صورة الانطلاق "السبور" بسيارة كانت حتى ذلك الوقت مرتبطة بمهمات الجيش، ثم صارت موضة في الاستعمال العصري للشباب، بعد الحرب العالمية الثانية، بالإضافة إلى صورة الشباب المنطلق المرح الذي يسود فضاء المدينة الحديثة بضحكاته وغنائه وقدرته على طي المسافات بسرعة، بفضل الآلة الحديثة المستوردة: السيارة. وتبرز أهمية السرعة في هذه المنظومة المعبرة عن الانطلاق وعن "امتلاك" الشباب للفضاء الحديث في تأكيد كلمات الأغنية على السرعة. فالمشهد والأغنية يبلغان ذروتهما عندما تدعو شادية أخاها أن يسرع بالسيارة وأن يصل بالسرعة إلى 120 كيلومتر، وهي سرعة فائقة بمقاييس العالم العربي في مطلع الخمسينيات.
في مشهد آخر من "الأم القاتلة"، يركب شكري سرحان وأخته سناء جميل وابنا عمهما شادية ونور الدمرداش السيارة الچيب نفسها، ويتنزهون في مرح في شوارع مصر الجديدة. نفهم الآن بوضوح دور الحب في علاقة الشباب وانطلاقه بالحداثة والتحرر والقوة الذين تمنحهما السيارة: فشكري سرحان يحب ابنة عمه شادية، ونور الدمرداش يحب ابنة عمه سناء جميل. وخروج هؤلاء الشباب للتنزه هو تعبير عن احتفائهم بالحب الذي يمنحهم السعادة والحرية، وهي كذلك أفكار حديثة من حيث ارتباطها معًا في منظومة مفاهيمية واحدة: الحب كوسيلة لتحقيق الفرد لحريته وسعادته، من خلال رغبته الفردية.
تعرض اللقطة الجامعة في هذا المشهد منظومة تيمية متكاملة: الشباب والانطلاق (وبالتالي التحرر) وارتباط هاتين الفكرتين بالسرعة والراحة. تتجسد هذه الأفكار كلها في مرح الشباب في السيارة وتحركها بسرعة كبيرة بالنسبة لما تعودت السينما على تصويره وقتذاك، بالإضافة لكون التصوير في شوارع حقيقية لا في ستوديو. ترجمة هذه المنظومة هي تجسيدها لمظهر من مظاهر الحداثة: تحرر الشباب من القيود المحافظة وتحقيق الراحة والترفيه له، بل والترف الذي يترجم فوائض دخول الطبقات الصاعدة في الخمسينيات إلى مجالات إنفاق تَرَفية ترفيهية.
في الفيلم، شكري سرحان وسناء جميل ابنا المقاول الثري حسين رياض؛ وشادية ونور الدمرداش ابنا أخيه اللواء السابق فؤاد شفيق. يمثل رأسا الأسرتين الشقيقان فئتين صاعدتين مع المرحلة الناصرية: المقاول والضابط. وقد عُرِضَ الفيلم في العام التي قامت فيه ثورة يوليو، وكأنه يتنبأ بالتغيرات المجتمعية التي سوف تشهد صعود فئات معينة في الطبقات الوسطى، لتحتل مكان الطبقات الحاكمة في العهد الملكي. من هذه الفئات الصاعدة في أعقاب الحرب العالمية الثانية، في عهد الملكية، والتي سوف يتعاظم دورها في زمن الناصرية: الضباط الذين سوف يتولون قيادة قسم كبير من مؤسسات وشركات الدولة الحديثة، والمقاولون الذين سوف يتولون تشييد منشآتها.
لكن "الأم القاتلة" ليس فيلمًا ناصريًّا صرفًا، بل هو فيلم عن "تسليم الشعلة" من جيل الآباء (الضابط والمقاول) إلى جيل الشباب (الأبناء والعشاق). والجيل الأخير هو الذي يظهر في أفلام المرحلة الناصرية بوصفه حامل لواء التحديث والبناء، بلا مواربة. كأن جيل الآباء قد بنى الثروة والسلطة في الطبقات المتوسطة ليتولى أبناؤهم من الشباب إدارة الدولة كلها والثروة الوطنية كلها. لكن لا نرى هذا في الفيلم، بل يمكن استخلاص هذه الفرضية من تعامد الأصول الطبقية للشخصيات مع ما نعرفه من صعود الطبقات الوسطى بعد 1952.
ناصرية الفيلم تكمن في إظهاره لتقدم جيل الآباء في السن، بما يفتح الباب لافتراض أن الشباب هم القادرون على مواصلة التحديث وقيادة المجتمع في ذلك الاتجاه. فالعم اللواء بالمعاش في الفيلم (فؤاد شفيق)، حكيم ومؤمن بقيم التقدم والحداثة. لكنه لا يملك القدرة على صنع القرار بما يكفي، لتقدمه في السن وبعده عن مؤسسته بسبب خروجه على المعاش. أما الأب المقاول (حسين رياض)، فبعد أن يبني شركة ناجحة تحتل مكانة بارزة في سوق المقاولات والإنشاءات، يقع في غرام الراقصة تحية كاريوكا ويهمل أسرته ويهجرها، فتبدأ شركته في الانهيار. أي أن ضعفه الأخلاقي وقلة حكمته يجعلانه يبدد ثروة الأسرة ويشينها أخلاقيًّا.
وبالطبع -كما علَمَتنا عقود طويلة من تاريخ السينما العربية- فعلامة هذا التردي الأخلاقي سينمائيًّا هي أن الأب يبدأ في شرب الخمر، بعد أن كان لا يقربها. يعود الفيلم هنا إلى موتيفة سينمائية أخلاقية تقليدية: معاقرة الخمر علامة على الجانب الأخلاقي المظلم في التغيرات الاجتماعية التي تصاحب الجانب السلبي للحداثة: استقلال بعض النساء عن منظومة القيم السائدة، وتحولهن إلى غاويات صائدات رجال، عبر استغلالهن للتحرر الجسدي الذي تكفله الحداثة. فإن كانت السينما تبني السيارة كعلامة ملتبسة تدل على جوانب سلبية وأخرى إيجابية في الحداثة، فإن الخمر كعلامة سينمائية هي في الأغلب تجلٍ للحداثة الفاسدة.
في فيلم "الأم القاتلة"، يقع حادث للسيارة الچيب بينما يركبها ويقودها الشباب: شكري سرحان وشادية وسناء جميل ونور الدمرداش. ولا يخرجهم من المأزق إلا التدخل الحكيم للعم اللواء بالمعاش. فالسيارة التي كانت مجازًا لانطلاق الشباب الحداثي وتحركهم بمرح وتملكهم المجازي لزمام الفضاء، تصبح أيضًا مجازًا لعيوب الحداثة: السرعة أو التسرع والزهو بالتقدم وكلها عوامل تضع الشباب على شفا هاوية السقوط الأخلاقي والضياع: سرعة السيارة والمغالاة في الثقة بقيم السرعة الحداثية، على حساب قيمة الحرص التقليدية وقيمة التأني التراثية قد تتسببان في دخول الشباب على السجن. هذا النقد لجيل الشباب، وللحداثة المجسدة في السيارة، غريب على الخطاب الناصري المحتفي بالشباب، وإن لم يكن غريبًا على الميلودراما التي طالما مدحت الحداثة ودعت لها، مع تحذيرها الدائم من خطر السقوط القيمي بسبب الإفراط أو "الإسراع" في التحديث على حساب القيم التقليدية.
موتوسيكلات الناصرية
لا تفتقر الذاكرة السينمائية العربية إلى أمثلة من أفلام لعبت فيها السيارة دورًا محوريًّا علامة على دخول المنطقة إلى العصر الحديث. ربما كان الدور الذي لعبته الدراجة النارية أو الموتوسيكل هو الذي يحتاج إلى تأمل. وربما يتجلى هذا الدور على نحو غير ملموس في الظاهر، في فيلم "أيام وليالي" من إخراج هنري بركات (1955) وبطولة عبد الحليم حافظ وإيمان وأحمد رمزي وكمال حسين. في لحظة شهيرة بالفيلم، تخرج مجموعة من الشباب من القاهرة في رحلة إلى أنشاص على دراجات الفيسبا النارية. إن مشهد نحو عشرة من الشباب ينطلقون بخفة وحرية راكبين الفيسبا قد صار جزءًا أيقونيًّا من الذاكرة البصرية الجمعية في العالم العربي. لكن وقت ظهور الفيلم في عام 1955، كان المشهد جديدًا ومُبشرًا "بالعهد الجديد"؛ عهد الجمهورية الوطنية بانية الحداثة والاستقلال بسواعد الشباب.
لهذا جمع المشهد بقوة بين تيمتين من تيمات الناصرية الفتية: الشباب والتحديث (بالآلات). كانت الفيسبا أو الموتوسيكل تمثل حلمًا من أحلام الطبقات الفقيرة في الصعود إلى الطبقة الوسطى. وكان ملمح هذا الصعود يتمثل في "تحسن" في مستوى المعيشة وتقليل درجة المشقة التي يعانيها الفرد، سواء عن طريق فائض في الدخل يسمح للشباب بالترفيه عن نفسه باستخدام الفيسبا في التنزه، أو يسمح لصغار الموظفين بالاستغناء عن المواصلات العامة، وهم في طريقهم للانضمام إلى الطبقة الموظفة المتوسطة الناشئة بعد 1952؛ تلك الطبقة التي شكلت الجهاز الإداري الهائل الذي اعتمدت عليه الدولة الناصرية في تسيير الجانب البيروقراطي من الحياة، وفي إدارة عجلة التصنيع وتنشيط التجارة عن طريق القطاع العام.
لذلك فالصراع بين السيارة والفيسبا في ذلك المقطع من الفيلم هو صراع طبقي، وليس مجرد منافسة كوميدية بين الطيب والشرير. يعرض كمال حسين (أخو حليم غير الشقيق، وغريمه، والابن المدلل لأب ثري) على إيمان (حبيبة حليم) أن يوصلها من أنشاص إلى القاهرة بسيارته الفاخرة. فيقوم أحمد رمزي (صديق حليم، بسيط الحال مثل صديقه) بإتلاف عجلات سيارة أخي حليم وغريمه كمال حسين. أي يتحالف الشابان الفقيران راكبا الفيسبا ضد الشاب الثري المدلل راكب السيارة، لتنتصر الفيسبا علامة الشباب، والأمل في الصعود الطبقي وأيضًا علامة الحب. البعد الطبقي واضح في انتصار صاحب الفيسبا على صاحب السيارة الفاخرة، وهو جزء من تعبير خطابي وبلاغي -ليس حقيقيًّا بالضرورة- عن انحياز شعبوي للجماهير الغفيرة كانت السينما تتبناه بقوة في الفترة الناصرية.
لكن ارتباط الفيسبا بالحب والحداثة في السينما المصرية يعود إلى أن خطابات السينما المحلية كانت وما تزال في حوار دائم مع خطابات ومفردات وقصص وقضايا السينمات الغربية. فمنذ فيلم "إجازة في روما" الذي أخرجه ويليام وايلر عام 1953، من بطولة أودري هيبورن وجريجوري بيك والفيسبا في المخيلة الهوليودية مقرونة بالتنزه في الطبيعة وبانطلاق الشباب والغرام. في ذلك الفيلم، تنزه البطلان في شوارع روما وحدائقها راكبين الفيسبا، ضاحكين مستمتعين، حتى صارت الفيسبا مرتبطة بابتسامة أودري هيبورن وعلامة على استمتع العشاق بمتع الحياة البسيطة في الأماكن العامة.
هكذا اكتسبت الفيسبا في أوروبا حيث صوِّر الفيلم، وفي أمريكا بلد الإنتاج، دلالة على الحب ومتعه البريئة، وعلى الشباب ومرحه. وأضيفت تلك الدلالات إلى ما تمثله الفيسبا بوصفها تلك الأيقونة الإيطالية التي تلخص نجاح الصناعة في البلاد رغم الدمار الذي حاق بإيطاليا بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية، وترتبط بوصول الكثير من الشباب عمومًا، ومن أبناء الطبقات الشعبية خصوصًا إلى مستوى حياة أفضل ودرجة ما من المتعة، بفضل حرية التنقل بسعر رخيص، التي تمنحها تلك الدراجة النارية.
عندما "اقتبس" بركات فكرة الفيسبا في فيلم "أيام وليالي" جاءت تلك الموتيفة إلى مصر محملة بفكرة كانت جديدة نسبيًّا في أمريكا، عن انطلاق الشباب على الطرق لتوسيع مدى حركتهم واستمتاعهم بالتنزه وبالحب معًا، وعن ظهور شيء من "الرفاهية" لم يكن متاحًا قبلها لجماهير عريضة، يتمثل في السفر ببساطة وبسعر رخيص. لكن سياق الانتعاش الناصري، والتأكيد في الخطابات الرسمية والمعبرة عن أيديولوجية النظام على دور الشباب كجماعة "متناغمة" في بناء المجتمع، قد تركا أثرًا واضحًا تجلى في تصوير الكاميرا لمجموعة من الشباب تتحرك كشلة، كأنهم تجسيد لفكرة الذات الجماعية للشباب الواعد في عرف الخطابات الناصرية.
الآلة كذات
أنتج استيراد الحداثة فكرة الذات الحديثة، المقصود أساسًا أنها ذات فردية متميزة بفرادتها، تنتجها الغنائية في الشعر الرومانسي أو غنائية عبد الوهاب في بدايات القرن العشرين، ثم غنائية حليم في منتصف القرن. لكن الحداثة أنتجت أيضًا الذات الجماعية المجسدة لفكرة الأمة الحديثة المستقلة، التي تسعى إلى "التقدم" في ركب "الحضارة". ربما كانت الجموع في فيلم "لاشين" لفريتز كرامب (1938) هي أول ظهور قوي تحفظه ذاكرتنا البصرية لفكرة الذات الجماعية للشعب، لا سيما في مشاهد ثورة الجماهير واقتحامها الهائل للقصر.
لكن إنتاج هذه الذات ارتبط ارتباطًا وثيقًا بالآلات بدءًا من الأربعينيات في السينما العربية. فمشاهد العمال في المصانع حول الآلات، مثلما في "ابن الحداد" و"البؤساء"، أو مشاهد الجنود والضباط حول الدبابات أو المدافع أو الطائرات في الأفلام التي تصور معارك حربية، مثلما في "وطني وسيفي" و"إسماعيل يا سين في الطيران"، كلها تنتج ذاتًا جماعية: عمال الأمة، جنود الأمة كتجليات لفكرة "الشعب" الحديثة. كأن أجساد العمال أو الجنود هي مكون "الأمة"، بينما الآلات أو الدبابات هي مكون "الحداثة".
تلعب السيارة والدراجة النارية دورًا شبيهًا، سواء لمساهمتهما في تصوير الذات الفردية للشاب المنطلق بسيارته التي يقودها فرد واحد، أو لمساهمتهما في إنتاج صورة لذات جماعية من خلال مشاهد لعدة أفراد يقودون سيارات أو يركبون دراجات نارية، لا سيما في سياق إنتاج صورة الجيش أو صورة الطبقة العاملة. في فيلمي "الأم القاتلة" و"أيام وليالي" تراوح بين تكوين صورتين. تسهم السيارة والدراجة النارية هنا في بناء صورة الشاب المتفرد المتمرد على جمود القديم، المنطلق في براح الفضاء الواسع في المدينة، خلافًا لمن يلزم حدود حارته أو قريته في التصور اللاحداثي لعلاقة الفرد بالمكان. لكن الآلتين تشاركان أيضًا في تكوين صورة الذات الجماعية للشباب "الصاعد" الذي يمثل جمهور الناصرية وتجسيد روح الأمة من حيث هي تتبع قائدًا أوحد؛ (ناصر)، على طريق التقدم والحداثة.