هوامش

جرجس شكري

الشيوعي الأخير.. كيف مات الأخضر بن يوسف في بلدٍ غريب!

2022.01.01

الشيوعي الأخير..  كيف مات الأخضر بن يوسف في بلدٍ غريب!

عزيزي سعدي...

لا تبنِ قبرًا أبعد من بستان البيت

لئلا يأتي الأعداء ليلاً ويسرقون القلب

فتموت مرتين.

ولا تدفن نفسك

تحت سماء لا تحفظ وجهك

لأنه مكتوب

أن النجوم سوف تحملك

إلى حيث يأكل الشعراء خبزهم اليومي.

قم وانهض،

 أعرف..

أنك تقدر أن تمنح هذا الموت حياة.

فبعيدًا

النخلة ما زالت تبكي

تسأل عنك

تتمايل حزنًا

وتشير إلى أبدٍ لا يعرفه

سوى الشعراء.

مات الأخضر بن يوسف في بلدٍ غريبٍ تحت سماء غير صافية يسكنها الضباب، تحت سماء لا تعرف وجهه ولا تحفظ ملامحه، مات بعيدًا عن البصرة، لم تكن ولو نخلة وحيدة إلى جواره تتمايل حزنًا على هذا الفتى، لم تنح عليه الجارات، ولم يهرول الرجال من الشوارع والأزقة ليلتفوا حول جسده بينما يعلو عويل النسوة وصراخهن، مات سعدي يوسف في غرفة بعيدة في إحدى مستشفيات العاصمة البريطانية التي أوصى أن يدفن في مقابرها ولا يعود إلى العراق، مات في هدوء، قرر أن ينأى بنفسه بعيدًا عن صخب الأحياء في وداع الميت، وظني أنه لم يكن سعيدًا، هذا الشاعر الذي عاش كطائر يرفرف بجناحيه حرًا طليقًا يقتات وجوه البشر ومحبتهم مات بعيدًا عن العراق وغريبًا في بلاد بعيدة!

-1-

سعدي يوسف الذي تعرف عشرات المدن في العالم وقع أقدامه و موسيقى كلماته، هذه المدن التي عاشها وذهبت إليها أقدامه لم تكن سوى محطات عابرة، فروحه ظلت ترفرف هناك في شوارع بغداد والبصرة منذ رحيله وحتى فارق الحياة، ظلت العراق بالمدن والشوارع بالسكان والمقاهي والحانات، بالماضي والحاضر والمستقبل، بالظلم والقهر، بالزنازين التي عوقب فيه، بالبساتين والفقهاء وعلماء الكلام، بقصور العباسيين، بالخليفة المهدي وضحيته بشار بن برد، كانت العراق تعيش في شعره وتقتات كلماته ليل نهار كأنه يربي وطنًا في روحه، ويحمله أينما ذهب، كان العراق يعيش بداخله ويحمله أينما ذهب، نعم سعدي لم يغادر، فروحه ظلت هناك وكما حمل سركون بولس قرية الحبانية، حمل سعدي البصرة بكاملها فلم تفارقه لحظة في باريس، نيقوسيا، عمان، القاهرة، دمشق، لندن، أثينا حمل معه النخيل وشط العرب، حمل الحكايات وصانع الفخار «في الضفة الأخرى عمى/ في شاطئنا: كان أبي/ في شط العرب: الزورق مختبئ بين البردي وحيدًا/ لم يبق من النخل سوى أعجاز خاوية ، بل وفي قصيدة يسميها افتراض ولا يخلو العنوان من دلالة يتمنى «لو تراءى النخيل/ على خضرة الماء وامتد سعف النخيل/ إلينا.../ فهل من يدٍ تتناول سعف النخيل؟ سعدي الذي رأى كل شيء شعرًا، فكان الشعرة وطنًا، كان حياة،  الطاولة، القميص، الغرفة، حبل الغسيل، كل شيء يمكن أن يكون شعرًا ، سعدي مثل أسلافه الشعراء العرب قبل الإسلام كانوا يتحدثون بالشعر، يبكون ويضحكون ويولدون ويموتون بالشعر، حين كانت الكلمة العليا للخيال وكان المجاز يحكم القبيلة، وليس العقل ولا المنطق، بل البلاغة، فليس هناك دراما أو حكاية، هناك صورة شعرية فإذا مات أحدهم فالعزاء شعرًا بالرثاء، وإذا غضب أحدهم فالرد شعرًا بالهجاء والقلب يخفق شعرًا بالغزل والشعور المودة والامتنان شعرًا بالمديح وهكذا البنية العميقة للأعراف والتقاليد لتفاصيل الحياة اليومية جوهرها الشعر وسعدي أحد هؤلاء ووريثهم الشرعي، فهو حفيد امرئ القيس وعروة بن الورد، والمتنبي وسواهم، فإذا مر بالمقهى وغالبه الحنين للكرسي والطاولة كتب يبكي ويرثي هذه الأشياء، وإذا أعجبه القميص وقف أمام المرآة وشكر نسيجه وخيوطة والأرض التي جاء منها، ومدح القميص، وإذا أغضبه الرئيس هجاه وأنتظر الشرطي يحمله إلى السجن مبتسمًا وساخرًا، وإذا شاهد امرأة تعلّق ملابسها راح يرثيها «آه أيتها السيدة/ كيف تقضين عمرك، هذا الجميل/ تحت حبل الغسيل؟ فالحياة شعر والشعر حياة». وظني أنه رغم ثقافته الموسوعية، لم يكن ينحاز إلى اتجاهات أو مدارس، كان ينحاز إلى لغة تتجّدد وتتبدّل تنمو وتكبر وتشيخ وتسترد طفولتها كما يحدث للبشر في الحياة.

  وأذكر أنني قرأت منذ زمن بعيد كتابًا لسعدي عنوانه «أفكار بصوت هادئ» صدر عام 1987 عن الحياة الثقافية في العالم العربي، عن المدن والأماكن والشعراء والكتب، مجموعة مقالات صدّرها بكلمات لا تخلو من دلالة حول الهدف من ممارسة هذا النوع من الكتابة «أميل أحيانًا إلى القول بأننا نحن العرب، نخطب ولا نتخاطب، وإن كان هذا الأمر شرًا في السياسة كلفنا عواقبه رهقًا، فإنه في الثقافة لشر مستطيرُ، ذلك لأن الثقافة قطبين أساسيين يكادان يتساويان ويظلان يتخاطبان، هما القائل والقارئ»، ولم يكرر التجربة نثرًا في قالب المقال بل ظل يخاطب القارئ من مقعد القائل ولكن شعرًا فقد عاد إلى طبيعته، وراح يمارس الكتابة شعرًا كل يوم، لم أحب كثيرًا هذه المقالات التي ناقشت بعمق وجرأة واقع الثقافة العربية، ورغم أهميتها كنت أشعر أن صاحبها مقيد، مكبل، ويرتدي ملابس فضفاضة أو ضيقة، وفي كل الأحوال لا تناسبه، يبحث عن شيء ما هو الشعر! وفيما بعد تناول كل هذه الأفكار شعرًا حين راح يمارس كتابة الشعر كطقس يومي، يكتب كلّ شيء، فمنذ تسعينات القرن الماضي ودواوينه المتتالية تؤرخ لقصائد يومية بل في بعض الأحيان يكون اليوم حافلاً بعدد من القصائد، فكان أقرب إلى المؤرخ القديم الذي يسجل يومياته من خلال الأحداث اليومية، من خلال وقائع حقيقية شاهدها وفي أحيان كثيرة شارك فيها، ولكن سعدي يسجلها شعرًا، حتى حين كتب المسرح كان طغيان لغة الشعر على الدراما واضحًا. وحين أصبحت باريس غرفته، غرفة سعدي هكذا كان يجلس في آخر الليل باريس غرفته، وله أن يرتبها، يرتب أشياءها، يحمل النهر في كفه ويرثي بيوت الضواحي/ مثلاً... أو يغرق بالخمر دور السلاح». وفي 29 ديسمبر عام 1992 كتب وهو العاصمة الأردنية عمان عن البلاد «صعبة هذه المدينةُ... لا باب لها كي تدقُهُ حين تأتيها/ ولا أبراج فيها ولا سور/ لكنها القلعة ُ/ إن الهواء الذي يأتي إليها يرتد عنه» وكل المدن كان سعدي يراها بلا باب كي يدقه!

-2-

منذ سنوات في القاهرة عام 2013 وفي ليل خارجي عبرت معه الشارع من المقهى إلى الحانة كنت مندهشًا وكان صامتًا وشاردًا، أبحث عن الوجوه العديدة التي أعرفها، أبحث عن الأخضر ابن يوسف، الشيوعي الأخير في بدلته الزرقاء، عن المناضل الثائر، العاشق وصاحب الإيروتيكا ووجوه عديدة هاجمتني ونحن نقطع الطريق.. وبدأت بالنظر إلى الشاعر «الذي مرت عليه سبعة أيام، وهو لا يكتب. كان يقرأ حتى توجعه عيناه، فرفض أن يقلب سترته الأولي ورفض أن يسكن كلمات المنفى حين يضيق البيت»، وبينما هو هائم يتأمل وجوه المارة في شارع سليمان باشا، سألته عن السجن الرسمي وكيف سجله الضباط المليكيون شيوعيًا.. كيف حوكمت يا سعدي في تلك الأيام رغم قميصك الأسود وربطة العنق الصفراء.. كان لا يرد، ظل صامتًا يسرح ببصره بعيدًا وكأنه يشاهد شيئًا في الآفق، وثمة صوت واهنًا يهمس من بعيد «بدلة العامل الزرقاء/ على مقاســي كانت البدلة/ حتى أنني لم أختبِرْها لحظةً في غرفةِ التجريبِ» وكلما تحدثت تتبعنا شخصيات تعرفه وتحاوره، الطريق من الحانة إلى المقهى قصير لكنه كان مزدحمًا بالسنوات والذكريات والليالي الطويلة.. أوقفنا رجل في ملابس رثة وأشار صارخًا «نبيّ يقاسمني شقتي/ يسكن الغرفة المستطيلة/ وكل صباح يشاركني قهوتي والحليب وسهر الليالي الطويلة «ضحكنا وانتابنا الخوف، الطريق إلى المقهى طويل ولا ينتهي، فجأة، تغير وجه سعدي سألني في الشارع حانة وحيدة أين ذهبت الحانات؟ وبدوري أسأله إلى أين نصل؟ وأنا لا أرى هنا إلا جلجامش بشعر طويل، وسيدوري فتاة الحانة تودعه وتنتظر عودته وقف سعدي وأشار «قد مات عبد الله والأموات في بلد السلامة يمضون كالأحياء في صمت الدموع». كل هذه المدن يا سعدي ماذا فعلت بك، أين هي هل تحملها على كاهلك أم تحملك؟ لم يرد وظل صامتًا فعدت إلى الوراء في مدينة مالمو السويدية، حين وصلت متأخرًا هل تتذكر؟ وفي الصباح مبكرًا قصدت مائدة الإفطار، كنت تجلس يا سعدي مرتديا معطفًا أسود يغطي رقبتك التي يحيطها سوار ذهبي ينتهي بالعراق، قطعة من الذهب على هيئة خريطة الوطن، كنت شاردًا تتكئ على الطاولة، تهتز ويهتز العراق، وأنا أتأمل المشهد حتى انتبهت. وهنا عرفت أن كل المدن التي ذهبت إليها أقدامك كانت مجرد محطات عابرة، وقلت لي بسخرية إنك لا تتذكر البلاد التي هاجرت إليها وعشت فيها وتحتاج الآن إلى خريطة حتى تتذكرها.. وهو يهمس في أذني: كلما حاولت تذكر البلاد التي ذهبت إليها أنظر إلى خريطة العالم!

سعدي الذي جمع قصائده عن حانات العالم من جلجامش إلى مراكش في كتاب، الحانات التي كان يرتادها، الحانات التي يواصل فيها البشر رحلتهم الطويلة العجيبة «رحلة البحث عن مكان يلتقون فيه أحرارًا، ويفترقون أحرارًا، مجتمعين، بألفة مستمدة من علائق المكان ذاته حيث تنبعث ذواتهم وتتألق باهرة، في سياق اجتماعي مفتوح»، وقد خرج من العراق منتصف السبعينيات قاصدًا عشرات المدن.. رحت أتأمل هذا العجوز الذي يحمل في رقبته سلسلة علّق فيها العراق وطنه، ويبدو أنه لا حيلة له سوى أن يحمل وطنه في رقبته ويذهب به أينما شاء حتى إلى المقبرة، فبعد أن فقده تحول إلى مساحة من الذهب تمثل العراق على الخريطة، وقرأ سعدي في مالمو مرتين، في المرة الأولى قرأ من قصائده عن أمريكا، وراح الشاعر العجوز يغني بالإنجليزية مثل طفل ويسب أمريكا وكأنه ينتقم من الأعداء الذين خربوا بلاده، وفي المرة الثانية تأكدت دهشتي فلم أكن سمعت سعدي يقرأ شعرًا منذ زمن طويل.. راح يؤدي بهذه التلقائية الطفولية التي تليق بشاعر كبير مثله وقرأ قصيدة عنوانها الماندولين.. يقول فيها «لا يمكن الكلام عن الماندولين إلا بلغة الماندولين، أعني أن اللغة المعروفة، ليست أداة للكلام عن الماندولين، والسبب بسيط جدًا» وراح يحكي قصته مع الماندولين الكائن الحي وبين الحين والحين يغني الأغنية المصرية «آه يا زين، آه يا زين/ آه يا زين، آه يا زين العابدين/ يا ورد! يا ورد مفتح في البساتين» بصوته الأجش الذي أرهقه التنقل بين المدن الغريبة كان يضبط اللحن بصعوبة ويرفع يديه عاليًا كأنها يحاول أن يمسك بالموسيقى ولا يهرب منه اللحن، وطيلة أيام المهرجان أتأمل هذا العجوز الذي حمل أشعاره وكانت وطنه، الذي أسسه بهذه الكلمات وطنًا هو شعر سعدي يوسف ولسعدي يوسف!

 الطريق بين المقهى والحانة لا ينتهي، عهدي به قصيرًا فماذا حدث، يبتسم سعدي ويشير، انظر.. وجوه عديدة تطل على جانبي الطريق وجوه أعرفها فأشير لهم هذا هو سعدي من بينهم أونجاريتي وكفافيس، يانيس ريتسوس، آرثر رامبو، والت ويتمان، جارثيا لوركا وهنري ميلر.. كانوا ينظرون إليه كل واحد في يده كتاب ترجمه سعدي، يحاولون الوصول إليه ويحاول الوصول إليهم، وكلما راح يركض تخونه قدماه فيضحك ويمسك بيدي، أتأمله... سعدي يوسف شاعر قصيدة التفعيلة الأشهر والذي كان له تأثير كبير على شعراء قصيدة النثر، تأثيره أكبر من الآباء الروحيين لهذه القصيدة! لأنه لا يعرف سوي الشعر، سعدي الذي كتب لغة طبيعية، لغة أقرب إلى براءة الأطفال، تتغير وتتبدل في كل مرحلة، لم يكن فقط الشيوعي الأخير بل أيضا الشاعر الأخير الذي عاش بلا وطن، وتنقّل بين مدن العالم عابرًا وأقام في مدن الشعر التي أسسها في قصائده.. فكل شعراء المنافي هاجروا ليستقروا في مدينة أخرى بديلة للوطن أما سعدي فعاش في كل الدنيا كوطن صغير وبالفعل كان يحتاج إلى خريطة حتى يتذكر المدن التي عاش فيها والحانات التي كان يصارع فيها الزمن متمسكا بحريته حتى الرمق الأخير.. كنا نحاول المرور أنا وهو، نحاول العبور إلى الحانة التي نقصدها، فلا نصل وأيضًا لا نعود، وسعدي صامت، وصوت يغني من بعيد: طلعت الشميسة/ على شعر عيشة/ عيشة بنت الباشا/ تلعب بالخرخاشة، وآخر من بعيد يصرخ في ملابس الجنود «مرة في الحدود الهلام أردنا فلسطين بالبندقية، والآن شيء من الأمر لي، وشيء من الرمل لك هل يدور الفلك؟ وصوت يلهث من بعيد بعد أن أرهقه التجوال صارخا قدر استطاعته، من بلدٍ ستدور إلى آخر/ ومن امرأةٍ ستفرّ إلى امرأةٍ/ من صحراء إلى أخرى/ لكن الخيط الممدود مع الطائرة الورقية/ سيظل الخيط المشدود إلى النخلة/ حيث ارتفعت طيارتك الأولى» أصوات ووجوه عديدة كلها وجوه سعدي يوسف وصوته، ولكن الصوت الأخير كان قاسيًا، والطريق لا ينتهي ونحن لا نصل!  

-3-

 ما زلت حين أتأمل مشروع هذا الشاعر أسأل نفسي كثيرًا: ما الشعر عند سعدي يوسف الذي أصدر ديوانه الأول عام 1953 وظل يكتب الشعر أكثر من سبعة عقود، لم يتوقف فيها عن ممارسة الشعر، وفي السنوات الأخيرة كان يكتب في بعض الأحيان كل يوم قصيدة؟ ليتحول الشعر عنده إلى سيرة يومية يكتب من خلالها طفولة العالم ولذلك سألته ذات مرة: كيف تكتب كل يوم هل هذا طبيعي؟ قال لي بحزم ومحبة ناصحًا إياي: أكتب كل يوم ولا تترك الشعر لحظة واحدة، فسعدي يرى العالم شعرًا، وهو قادر على تحويل كل شيء في هذه الدنيا إلى شعر، كل المواقف إلى لحظة شعرية، وكل الكائنات التي يلتقي بها إلى قصائد، فإذا قرأ فهو يقرأ الشعر وإذا ترجم يترجم الشعر وإذا كتب يكتب الشعر تقريبًا، فقد كتب رواية واحدة» مثلث الدائرة» ومجموعة قصصية «نافذة في المنزل المغربي»، ومسرحية واحدة «عندما في الأعالي»، وثلاثة نصوص مسرحية قصيرة «حانة سيدوري، الطريق إلى سمرقند، حانة الطرق الأربع» جاءت ضمن كتابه «كل حانات العالم»، ويوميات وما يزيد على 45 ديوانًا شعريًا، وفي كل هذه الأنواع كان يبحث عن الشعر، وسعدي لا ينتظر الشعر أن يأتي فهو يذهب إليه أينما كان، فكل شيء يعرفه ويعيشه كتبه شعرًا، فلا شيء في هذا العالم يستحيل على الشعر عنده! وظني أن هذا الشاعر الذي ولد في أبي الخصيب، قرب البصرة عام 1934 وفارق الحياة صباح الأحد 13 يونيو 2021 ليس شخصية واحدة كما تظنون؛ فهناك شخصيات عديدة اسمها سعدي يوسف يقودها روح خفي يحمل هذا الاسم يتنقل بين المدن والحانات والشوارع والمقاهي والأيام، وأذكر أنني التقيت بهم جميعًا منذ أن كتب الأخضر بن يوسف قصيدته الجديدة 1972 وصولاً إلى السونيت 2018، والقصائد المتفرقة التي كتبها في العاميين الماضيين قبل أن يتوقف عن الكتابة ويسكن مقبرة كارل ماركس في لندن! ولا أقصد بالوجوه المتعددة الشاعر والروائي والمترجم والمسرحي، والناقد والسياسي الثائر بل سعدي الشاعر، فقط الشاعر الذي تخرج في دار المعلمين عام 1955 ليطوف الدنيا ويكون له في كل مدينة قصيدة وفي كل حانة من حاناتها كأس ما زالت تتذكره وليال يعرفها ويحفظها كظهر يده، وعشرات الشخصيات التي عاشت في نصوصه وازدحمت بها قصائده.

 التقيت الشاعر الثائر والمتمرد والعابر في مدن الدنيا سعدي يوسف مطلع التسعينيات للمرة الأولي وكنت أبحث عن الأخضر بن يوسف ومشاغله، أول ما قرأت وكنت وما زلت مبهورًا بهذه الشخصية، التي توالت عليها شخصيات عديدة بعد ذلك، الشخصية الأقرب إلى سعدي يوسف.

-4-

الطريق من المقهى إلى الحانة لا ينتهي وأنا أسأل أين نصل يا سعدي، وكيف؟ يبتسم ويشير إلى الطريق يتبعنا بشار بن برد وهو يرفع الآذان، والخليفة المهدي في ملابس الرئيس غاضبًا وسعدي يضحك ويهمس في أذني لماذا نصل المهدي قتل بشار، الخليفة قتل الشاعر، وارتفع صوته:

 سأكون خزّافًا/ فقال أبي: ستتركنا إذن/ وأقول كيف؟

يقول: من يخلق من الصلصال أشكال الطيور يطرّ

كان بن حفصون يصرخ أجئت لتشتري؟

خذ جرة، خذ ذلك الإبريق، هذا القدر، خذ طيرًا

وحين تشب تأتيني بأول درهم من رزقك المكتوب يا ولدى

انتظر حتى أفي بالدين.

وظل سعدي يحلم بالجرة والإبريق، يحلم أن يفي بالدين، ويسكب روحه في هذه الأواني في دكان ابن حفصون الأندلسي في مراكش، وسعدي في المدن التي وطأتها أقدامه كان يعرف أنه لن يصل ولن يعود، وظني أنه لا أحد كان يرغب في عودته من الحكومات المتعاقبة رغم اختلافها وتناحرها، ولا هو كان يرغب في العودة، فرغم اختلافه وهروبه من نظام البعث وصدام حسين فإنه لم يكن راضيًا عن الحل الأمريكي وكان يصرخ لاعنًا هذا الغزو ليل نهار، وحين تدهورت حالته الصحية في الأيام الأخيرة قبل رحيله  وجهه وزير الثقافة العراقي إلى السفارة العراقية في لندن بشأن رعايته وهذا أضعف الإيمان، لكن غضب بعض الرجعيين واحتجوا، وربما سقطت سراويلهم من هول الفضيلة التي يحملونها على أكتافهم ليل نهار، فقد أثار طلب رعاية الشاعر العظيم الكثير من الجدل في العراق، الجدل الذي أثاره سعيد طيلة حياته، فتراجع الوزير عن الطلب! وظني أن دلالة هذا التراجع واحتجاج أصحاب الفضيلة يجسد وبقوة موقف سعدي ومسار حياته مما دفعه مبكرًا أن يحمل أشعاره وحريته ويغادر العراق في سبعينيات القرن الماضي ليطوف مدن الدنيا وشوارعها وحانتها مدافعًا عن حريته، منتصرًا للشعر والحياة، لينام الشيوعي الأخير بسلام هادئ البال في مقبرة كارل ماركس الشيوعي الأول، ومعه تلال من الكلمات والصور التي صاغها في شعره، عشرات المدن التي تعرفه ومئات الشخصيات التي عاشت في قصائده، وسوف يعيش هو من خلال الشعر كما عاش أسلافه العرب الحياة بالشعر ومن أجل الشعر.