رؤى

عمر المغربي

الصراع على التاريخ: فالتر بنيامين وأزمة ما بعد الربيع العربي

2019.06.01

الصراع على التاريخ: فالتر بنيامين وأزمة ما بعد الربيع العربي

الكَمَنجاتُ تَبْكي على زَمَنٍ ضائعٍ لا يَعودْ

الكَمَنجاتُ تَبْكي على وَطَنٍ ضائعٍ قَدْ يَعودْ

الكَمَنجات، محمود درويش

مقدمة 

في أعقاب الأزمات التاريخيَّة العظيمة، وبعد أن تهوي السماوات من سقف العالم، يحدث لبرهة فراغ عظيم يشبه فيما يشبه سديم التكوين، يحتضر فيه عالمٌ بأكمله ويتهيأ لولادةٍ آخر، تحدث داخله تحولات وتقلبات عنيفة وسريعة، يمكن ملاحظتها على الساحة الثقافيَّة بشكل خاص وعلى نحو أكثر وضوحًا، مثل الذي حدث لليسار عقب سقوط الاتحاد السوفيتي، أو حال المثقفين العرب عقب نكسة عام 1967، أو تشتت مسارات أفراد الكتيبة الطلابية عقب اجتياح لبنان عام 1982. عنفٌ مصمت، وذاكرة تستعصي على النسيان. ليست السماء التي نتحدث عنها إلا تعبيرًا عن سماء سردية ما، كانت في وقت قريب تُظل مجموعة كبيرة من الناس بما توفره لهم من معنى ومجال للحركة والفعل.

غير أن الذي حدث في أعقاب أزمة الربيع العربي مختلفٌ بعض الشيء، إذ لم يعثر الخارج من تلك الأزمة على أفق جديد يتطلع إليه أو سماء أخرى تظله، على خلاف الذي كان يحدث سابقًا، كما وجد بعض أفراد الكتيبة الطلابية، على سبيل المثال، في بعض التوجهات الإسلامية عقب الثورة الإيرانية من الروح والمشروع الثوري ما يجعل منها أفقًا لاستمرارية الثورة. عوضًا عن ذلك أنتجت لحظة انتكاسة الربيع العربي حالة من الاكتئاب المزمن والتبعثر في مسارات تحرر فردية. وبات من الممكن القول إن عبارة ما بعد الحداثة «تفكك السرديات الكبرى» قد اكتسبت معنى إضافيًّا.

ينطوي الفعل الثوري على تصوُّر مخصوص للتاريخ حتى في أثناء الحركة الانتقاليَّة من فضاء سردية عامة ما إلى أخرى، يمكن تعريف الثورة، بشيء من التجاوز، أنها محاولة لتَملُّك التاريخ أو الدخول في متنه. يدفعنا تأزم الفعل الثوري لحظة انتكاسة الربيع العربي وما تمتاز به من خصوصية إلى البحث عن قراءة جديدة للتاريخ وعلاقتنا به، بما يضمن استمرارية الحركة. ثمة لحظة جديدة إذن في حاجة لإعادة تعريف قضايانا وفهمها في ضوء معطيات الراهن، الكثير طرأ على الساحتين المحلية والعالمية، ومن غير توافر انبثاق أي أفق نضالي يمكن للمرء أن يفهم فيه ذاته أو ينطلق نحو الواقع للفعل. يحاول هذا المقال الوقوف على الأطروحة التي قدمها فالتر بنيامين حول التاريخ كأفق جديد لتحرير الفعل وبوابة ممكنة لولوج الحاضر مرة أخرى. من أجل فهم أفضل لرؤية بنيامين للتاريخ، سنقارنه بالتصور المقابل له ألا وهو فلسفة التاريخ عند هيجل، ولكن بداية سنبدأ بالتعريف ببنيامين ومقالته عن مفهوم التاريخ. 

فالتر بنيامين ومقالته «عن مفهوم التاريخ» 

هو مفكر وناقد أدبي ألماني يهودي، ولد سنة 1892 ومات منتحرًا 1940 على الحدود الإسبانية الفرنسية، إذ كان هاربًا مع مجموعة من اليهود من ألمانيا النازية، قاصدًا الولايات المتحدة التي استطاع صديقه «أدورنو» أن يحصل له على تأشيرة للسفر إليها، غير أن الشرطة الإسبانية أخبرتهم بعدم السماح لهم بالعبور، وأنه سيتم إعادتهم إلى فرنسا التي كانت القوات النازية قد اجتاحت عاصمتها باريس منذ أيام حاملين معهم مذكرة لاعتقال بنيامين؛ خوفه من إلقاء القبض عليه من قبل الجستابو دفع به إلى الانتحار. في اليوم التالي لم تُرحَّل المجموعة التي كان فيها بنيامين وأطلق سراحهم.

ربما تكون الصورة التراجيدية والمثيرة للسخرية التي مات عليها بنيامين، هي خير ما يعكس اضطراب وحياة هذا المفكر وكتاباته، فهو متعدد الاهتمامات ومتشعب المشارب، كتب حول «العنف المقدس»، وخاض جدالات طويلة مع كارل شميت حول حالة الاستثناء، كتب في نقد الرأسمالية واشتهر بمقالته حول مفهوم التاريخ وإعادة إنتاج العمل الفني، استخدم فيما كتب النقد الاجتماعي الثقافي أحيانًا والاشتباك الفلسفي المفتوح الحدود في أحيان أخرى، كان على علاقة وثيقة بمدرسة فرانكفورت ومحفزًا لها.

تعددت المنابع الفكرية التي نهل منها بنيامين فلسفته، وكان لمجموعة من أصدقائه أثرًا كبيرًا في حياته؛ أهمهم اليهودي الصهيوني جيرشوم شولم، والشاعر والمسرحي برتولتبريشت، وأحد أهم أعلام مدرسة فرانكفورت ثيودور أدورنو. كما حاول بنيامين الجمع بين مواقف فكرية متباينة أشد التباين؛ مثل المادية التاريخية، والمثالية الألمانية، والمسيحانية الصوفية اليهودية، إضافة إلى النزعة السوريالية. غير أن هذا الجمع لم يكن لواحدة منهم على حساب الأخرى؛ بل كان يحاول بشكل حثيث الجمع بينهم دون تناقض، ولكن هذا من الصعوبة بمكان، فجاءت كتاباته منفعلة وسوريالية، إذ يحاول في مقالته حول التاريخ المزاوجة بين مادية تاريخية لا تؤمن بالتقدم والتطلع إلى المستقبل، ومسيحانية Messianic لا تعد بخلاص أخروي يعطل الفعل ويمني بالمستقبل بل حاضر هنا وفي كل وقت. كانت كتاباته إذن مستفزة إلى أبعد الحدود، غير أنها محملة بمعاني فلسفية جعلت منها مدار انشغال الباحثين في العديد من المجالات الفكرية. ربما يكون أفضل من عبَّر عن علاقة بنيامين بالمواقف التي يحاول أن يجمعها هي سوزان سونتاج؛ حين كتبت عنه «حاول بنيامين بشكل مفعم بالشغف ومثير للسخرية أيضًا، أن يموضع نفسه في مفترق طرق. كان من الأهمية بالنسبة له أن يحافظ على مقاعده مفتوحة: الثيلولوجي، السوريالي/الجمالي، والشيوعي. كل واحد منهم كان يصوِّب الآخر، لقد كان في حاجة إليهم جميعًا».

كانت مقالته «عن مفهوم التاريخ» آخر ما كتبه عام 1940 قبل وفاته. عُرفت المقالة بعنوان آخر «أطروحات في فلسفة التاريخ» ولكن عنوانها الأصلي«عن مفهوم التاريخ»، وقد قام بكتابة مقالته هذه على شكل شذرات أو فقرات، تتكون المقالة من 18 شذرة وهامشين ظهرا في نسخة لاحقة من الترجمة، يمكن قراءة العديد منها بشكل عشوائي غير تعاقبي ذلك أنه ليس ثمة اتصال مباشر فيما بينها عدا العنوان الأساسي للمقالة، فهي عبارة عن تأملات حول مفهوم التاريخ. 

يمتاز نص بنيامين بمشهدية وموسيقية عالية، فهو بقع من الضوء المتناثر، تشير إلى المعاني أكثر من كونها تدل عليها. تنبض شذراته بالحركة والحياة، حتى إن كتابته فيها جاءت على شكل همس وتوجيه مثل قوله «على المادي التاريخي أن يدرك هذا التحول الأكثر إبهامًا من بين سائر التحولات.(الشذرة4) «أو الإبلاغ والتقرير» المادي التاريخي يعرف ذلك تمام المعرفة (الشذرة 7) أو صارخًا هاتفًا «أما المادي التاريخي فيقدم تجربته المتفردة مع الماضي. وهو يترك للآخرين مهمة الفناء في أحضان عاهرة «كان يا ما كان» في بيت بغاء التاريخانية (الشذرة 16)»، ويبقى السؤال حول ما إذا كان هذا يتعلق بطبيعة ما يريد بنيامين قوله، أم بسبب الارتباك والخوف الذي كان يشعر به من جراء هروبه من الجستابو فكانت مقالته على شكل هواجس مضطربة ويسكنها الهلع سؤالاً مفتوحًا. 

التاريخ بعيون هيجل 

ربما تكون أفضل طريقة للتعرف على السردية السائدة حول تصور الناس للتاريخ في عصر من العصور هو من خلال التمحيص في كلام الناس اليومي. ثمة مجموعة من التعبيرات اليومية التي تكاد تكون عابرة للثقافات في عصرنا الراهن، والتي يمكن لنا من خلالها تفرس ملامح التصورات السائدة عن التاريخ: يقال مثلاً في سبيل مدح مفكر أو فنان ما إنه «سابقٌ لعصره»، أو توصف فكرة إيجابًا بأنها فكرة تقدميَّة أو ذمها بأنها فكرة رجعيَّة، وفي أحيان أخرى يقال بغرض الذم إن هذا الحزب أو هذا السياسي «سيذهب إلى مزبلة التاريخ». تتضمن العبارات الثلاث السابقة تصورات وسمات سردية حداثية خاصة للتاريخ. فالتاريخ وفق هذه العبارات واضح ومتصل ويتكون من مراحل متعاقبة ومتراكمة ومتجهة نحو الأمام ويتصف هذا التقدم بالإيجابية. في التعبير الثالث نلحظ صفة أخرى يستبطنها هذا الخطاب حول التاريخ؛ وهي كون التاريخ مكان لتجلي الحق، بما هو عقلاني وعادل في آن، وكل ما هو غير عقلاني أو عادل ليس له مكان في كتاب التاريخ. 

من العبث بطبيعة الحال رد التصور الحداثي للتاريخ إلى فيلسوف أو مفكر بعينه، بالتالي فإن تعاطينا مع فيلسوف ما بغرض قراءة خطاب الحداثة حول التاريخ، لا يتضمن زعمًا بأن هذا التصور هو ما تأسست سردية الحداثة على فكره، ولكن مقتضيات المقاربة البحثية يحتم علينا الاكتفاء بتناول خطاب الحداثة من خلال تجليها في فكر واحد من الفلاسفة لا أكثر. 

يصف هابرماس هيجل بأنه أول فيلسوف قام ببلورة مفهوم للحداثة، وذلك عبر التصور الذي قدمه للتاريخ في فلسفته. والذي تقوم على أن التاريخ هو مسار ملحمي لتنامي الروح المطلق (Geist) مسار متصل يمكن لنا القبض عليه وفهمه، مضطرد وينتقل من حال إلى حال من خلال عملية الديالكتيك، متجه نحو حال محددة وهي وعي الموجود الإنساني بحريته. وملمح آخر مهم للتاريخ عند هيجل إضافة إلى اتصاله هو وحدة هذا التاريخ وكليته، فلا معنى لأي لحظة من لحظات التاريخ إلا بإدراجها في الكل المتصل، كما يرى أن العلاقة بين التاريخ «الموضوعي» والتطور الذاتي لوعي الفرد هي علاقة وثيقة، هذه هي أطروحته الأهم في كتاب فينومنولوجيا الروح، الذي يعد مقدمة مشروعه وأحد أهم أعماله، يحاول فيه الإحاطة بتمظهرات الروح المطلق عبر التاريخ في سعيها لاكتشاف الذات.

لفهم موقعية الصراع في فلسفة هيجل التاريخية، سنتجه إلى الفصل الثاني من كتاب فينومينولوجيا الروح، والذي يقدم فيه مثالاً طالما اعتبر أحد أهم مفاتيح فلسفته، ألا وهو «جدلية العبد والسيد» أو ما يطلق عليه أحيانًا «الصراع من أجل الاعتراف»، وهو تصوير غير مادي للتاريخ، يصور فيه هيجل لقاءً بين شخصيتين، كل منهما يحاول الإحاطة بمعنى أن يكون المرء ذاتًا تعي نفسها، فالوعي هنا ليس فعلاً منوطًا بكوجيتو ديكارتية تقوم بالوعي بنفسها في فضاء خاوٍ وفي مواجهة مباشرة مع العالم دون وجود آخر إنساني، بل على العكس من ذلك، فالوعي بالذات عند هيجل يشترط اللقاء بالآخر، الممتلك لوعي ذاتي بدوره. ولكن هذا أيضًا ليس كافيًا ليعي «الوعي-الذاتي Self-conciseness» نفسه. 

إذ يمتاز الموجود الإنساني عن غيره من الكائنات الحية بصفة خاصة تجعل منه كائنًا تاريخيًّا بامتياز، وهي الرغبة الأصيلة المزروعة فيه بالاعتراف، فهو لا يكتفي بتأمين أسباب الحياة من طعام وشراب ومسكن مثل باقي الكائنات الحية، وهذه الرغبة الأصيلة في الاعتراف ليست مجرد خاصية، إن هذه الذات لن تعي نفسها إلا إذا وضعت كل اعتباراتها المادية جانبًا، فدون المغامرة بكل شيء لا يمكن لهذا الوعي الذاتي أن يدرك ذاته كموجود لذاته، أي أن يعي حريته، في تلك المغامرة فقط تبزغ بارقة الحرية الحقة. بهذه الصفة أيضًا يفسِّر هيجل قدرة الإنسان على التضحية بنفسه في سبيل مبادئ وتجريدات سامية.

يحتدم الصراع بين هاتين الشخصيتين على مسرح التاريخ السرمدي، غير أن هذا الصراع محكوم بتناقض أصيل يحول دون قضاء أي منهما على الآخر، إن هذا التناقض ناتج عن الرغبة الطبيعية في البقاء على قيد الحياة بالنسبة للعبد من جهة، وحاجة السيد للاعتراف بكونه سيدًا من جهة أخرى، ينتهي الأمر بالنسبة للأول بالخضوع والثاني بالإبقاء على حياة الآخر، إذ من غير الممكن في ظل عدم وجود ذات أخرى تعترف به سيدًا أن يصبح سيدًا. ينتهي الصراع إذن في نهاية المطاف إلى غلبة أحدهما على الآخر ولكن دون القضاء عليه، تحدث تسوية ويصبحان سيدًا وعبدًا، يوجد العبد من أجل الآخر، أما السيد فموجود من أجل نفسه. في واقع الحال إن الحركة الجدلية التاريخية عند هيجل هي فعل مصالحة في أساسها، ولا يمكن لها أن تنتهي بالنفي التام لأي من الطرفين للآخر، إن الغرض من هذه المصالحة هو التخلص من الاغتراب الناتج عن انفصال الذات عن الموضوع والدال عن المدلول لحظة سقوط آدم من الجنة حسب مذهب هيجل.

يمكن وصف فلسفة هيجل للتاريخ بإيجاز على الشاكلة التالية، تقوم فلسفة هيجل للتاريخ على التجاوز والتقدم والحتمية والموضوعية، والسعادة حسب تعبير هيجل صفحات بيضاء في كتاب التاريخ، فكل إمكانية لم تتحقق في الماضي، لم تكن إمكانية، ذلك أن الذي حدث هو المسار الحتمي الذي كان مكتوبًا، وحسب وجهة النظر هذه لا يمكن أن يتأسس «علم» التاريخ على غير هذا الفرض، ذلك أن محاولة استنطاق صمت التاريخ وصفحاته البيضاء، والانفتاح على الإمكانات اللانهائية المحتملة، قد يكون بمثابة فتح صندوق باندورا مرة أخرى مما يؤدي للشلل وعدم إمكان الكتابة، أو تحويل التاريخ إلى «علم». ينظر هيجل إلى الماضي بعين الرضى عن الحاضر والتطلع إلى المستقبل، لا أخطاء في هذا المسير الصعب، كل الذي يحدث إنما يحدث لسبب، وكل تناقض يمكن ابتلاعه من قبل وحش الديالكتيك التقدمي. والأخطاء، عند هيجل، لا مكان لها في كتاب التاريخ المشبع بالمعنى، فكل تقدم هو نصر، وكل نصر هو عدل بالضرورة لأنه أيضًا عقلاني.

التاريخ بعيون بنيامين

التاريخانية والمادية التاريخية 

يتأسس نص بنيامين على صوتين؛ الأول يقدم فيه نقدًا وتقريعًا عنيفًا للموقف التاريخاني، والثاني يحاول من خلاله تصويب تصورات المادية التاريخية حول التاريخ والتقدم والتي تشكل التاريخانية الهيجلية عمودها الفقري. في واقع الحال، وإن كان بنيامين يزعم بأنه يتبع خطى المادية التاريخية، غير أنه يفرغها من محتواها، ويؤسس لمفهوم جديد تمامًا لهذه المادية التاريخية لا يحافظ منها إلا على الاسم والانحياز للطبقة العاملة المقهورة، يظهر هذا في الشذرة الأولى التي يطلب فيها بنيامين من المادية التاريخية أن تتعلم كيفية التعامل مع التاريخ بشكل صحيح من اللاهوت، الذي بات الحديث عنه اليوم بشكل مباشر يثير الحفيظة والتوجس. 

ينبغي علينا إذن الوقوف ولو بشكل خاطف على تعريفات التاريخانية والمادية التاريخية. في الواقع ليس ثمة اصطلاح عربي واضح يفرق بين التاريخانيَّة والتاريخيَّة، ويضيف إلى هذه المسألة كون هذا المصطلح متعدد الدلالات تاريخيًّا «في القرن التاسع عشر كانت التاريخانية تعني أن التاريخ يهتم بفهم الماضي من خلال قيمه «كما كانت»، وفي خمسينيات القرن العشرين استعمل المصطلح ليصف النظرة التاريخية التي تؤمن بقوانين عامة تتحكم بالتطور الحتمي، أما في أواخر القرن العشرين فبرزت تاريخانيَّة جديدة تشدد على أن السياقات التاريخية هي مفاتيح فهم النصوص»، يتحدث بنيامين عن التاريخانيَّة وفق تعريفها الأول (الشذرات السادسة والسابعة عشر)، تتأسس التاريخانيَّة وفق التعريف الأول على الإيمان بانفصال التاريخ عن إرادة الأفراد، تصبح «الحقائق التاريخية» بالنسبة لها موجودة وجودًا طبيعيًّا، تنتظر منَّا الكشف عنها، وتتعامل مع التاريخ على أساس أنه مكوَّن من طبقات ينفصل كل منها عن الآخر أو بتعبير رانكه «كل حقبة هي بجوار الله، قيمتها في ذاتها لا فيما ترتب عنها»، أو بعبارة أخرى، يقتبسها بنيامين عن فوستال دو كولانجفي الشذرة السابعة لوصف هذا النوع من المؤرخين «المؤرخ الذي يريد معايشة عصر ماضٍ، بأن يمحو كل ما جرى في مسار التاريخ لاحقًا من ذهنه» وفق هذا التعريف فإن السبيل الوحيد للكشف عن حقائق التاريخ هو منهج «التقمص العاطفي». أساس هذا المنهج حسب بنيامين أمران، الأول بلادة القلب والفتور الروحي الزاعم للموضوعية والمتنصل من الذات، والثاني هو أن من تتقمص التاريخانية عاطفته في الحقيقة هو المنتصر/المُستكبر. في حين أن السبب الأول، بلادة القلب، يشير للتعريف الأول للتاريخانية، نلحظ أن السبب الثاني يشير في واقع الأمر إلى التعريف الثاني للتاريخانية، والتي هي النظر للتاريخ بعين التقدمية والتطور الحتمي، وهذه الأخيرة كما يلحظ القارئ النابه قد تلحق بالمادية التاريخية في تعريفها الأول الذي نزع عنه بنيامين محتواه وأبدله آخر. 

قد تكون الصفة التي تجمع كلا التاريخانيين هو تعظيمها للتاريخ ودعوتها للرضوخ له والنزول عند «حقائقه»، بالتالي تصبح تربة خصبة لتنبت فيها كل أشكال الفاشية، والتي كان بنيامين حريصًا على محاربتها فكل شكل من أشكال الرضا عن النفس هو الباب الرئيس لظهور النزعات الفاشية بالنسبة إليه. 

صورة التاريخ في لحظة الخطر 

يبدأ بنيامين الشذرة الثانية عشر باقتباس لنيتشه يقول فيه «إن حاجتنا للتاريخ، ليست كحاجة العاطلين المدللين في بساتين المعرفة» فليست الحقيقة التاريخية حقيقة موضوعية/طبيعية بالشكل الذي تتعاطى معه التاريخانية، إذ لا توجد هذه الحقائق في الخارج هناك بشكل أبدي في انتظار الكشف عنها، بل هي «صورة تفر بسرعة، لا يمكن الإمساك بالماضي إلا كصورة تومض في لحظة اكتشافها بغير رجعة [...] فصياغة الماضي تاريخيا لا تعني تعريفه «كما حدث في الواقع» بل تعني الاستحواذ على الذكرى كما تظهر عندما تومض في لحظات الخطر» (الشذرتين الخامسة والسادسة). نلحظ من الاقتباسات السابقة أن الصورة الحقيقية بالنسبة لبنيامين ليست ثابتة وليست موجودة بحيث يمكن تحصيلها بشكل تلقائي، وهي نتاج توتر وتلتمع لمرة واحدة ومن غير رجعة، وهناك عنصر آخر شديد المركزية في وصف عملية القبض على الصورة التاريخية وهو لحظة الخطر. 

تتركز لحظة الخطر التي يتحدث عنها بنيامين في أن تصبح الحقيقة التاريخية أداة في يد الطبقة الحاكمة الغالبة/المُستكبرين، وهي لحظة دائمة الحضور في كل وقت وحين؛ تستخدم الطبقة الحاكمة فيها «الحقيقة التاريخيَّة» لتكريس انتصارها في الزمن من خلال مصادرة الماضي وجعله طوعًا لخطابها الخاص، فالحقيقة التاريخيَّة أو «التراث الثقافي» يعرض على أنه حقائق موضوعيَّة أو سلسلة عليَّة طبيعيَّة لمجموعة من الأحداث التاريخيَّة، نعيش حسب هذا الخطاب في العالم الممكن الوحيد، وقد تذهب السلطة إلى القول إنه «أفضل العوالم الممكنة»، بالتالي ما كان ممكنًا للتاريخ أن يسير بغير هذا الاتجاه فجميع الحقائق التاريخيَّة تشير إلى ذلك.

اكتسبت لحظة الخطر صفتها هذه لأنها قائمة على تهديدين اثنين، الأول هو محتوى التراث وتقاليد المستضعفين عبر التاريخ، والثاني تهديدها لأتباع هذا التراث وورثته من مضطهدي اليوم في كل مكان. فالمهمة المنوطة بالمؤرخ المادي التاريخي إذن ليست مجرد مهمة علمية للكشف عن دروس وعبر التاريخ تصبُّ في صيغة مواعظ دينية بل هي مهمة نضالية يدافع فيها عن المستضعفين اليوم وفي كل زمان فـ«حتى الأموات يهددهم العدو المنتصر. وما برح العدو منتصرًا» (الشذرة السادسة عشر).إن مهمة المؤرخ الحقيقية ليست متعلقة فقط بالاستحواذ (وهي الكلمة التي اختارها بنيامين للتعبير عن فعل القبض على الصورة الحقيقية للتاريخ) على الذكرى، بل إن أهميتها الأساس هي في منازعة الرواية التاريخية القائمة بتمشيط التاريخ في الاتجاه المعاكس، فالتأريخ فعلٌ مركَّب، إيجابي وسلبي في آن.

ليس أخطر على المؤرخ/الثائر في كتابته للتاريخ من اللامبالاة، فهي أصل كل شر، وهي فعلٌ لا حالة، كما يحب أن يروِّج لها صاحبها. فاللامبالي إنما يتقمص روح المنتصر ويشارك في قمعه وتجبره، فساحة الصراع هي التاريخ كله وطرفي الصراع هم المستكبرين/المنتصرين مقابل المستضعفين/ المهزومين في كل زمن، بالتالي الأخذ برواية المنتصرين حول التاريخ شكلٌ من أشكال الهزيمة لنا وخذلانٌ لرفاقنا المهزومين. يقوم فعل اللامبالاة هذا على تشويه حقيقة التاريخ الدائمة وهي كون «حالة الطوارئ» هي القاعدة لا الاستثناء، يحاول المنتصرون إقناعنا أن القانون والنظام يشغلان متن التاريخ وتشغل الفوضى وغلبة القوة هامشه، غير أن العكس هو الصحيح، فالقانون إنما هو عنفٌ متخفٍ في صورة قانون. من هنا تبرز مهمة الطبقة المكافحة المقموعة في فضح حالة الطوارئ هذه والتأكيد على كونها الوضع الحقيقي والأصلي للتاريخ، إن الصراع عند بنيامين مصير تراجيدي لا يمكن الفكاك منه، كما لا يمكن طلب مستقبل يتم تجاوز هذه الحال فيه. إن استرداد الوعي بـ«حالة الطوارئ الدائمة» خطوة ضرورية في سبيل النضال والتحرر عوضًا عن تمنية النفس بواقع غير ممكن ينتفي فيه الصراع بين المستضعفين والمستكبرين.

يمكن القول إن محرك التاريخ عند هيجل هو الروح المطلق، وأن محركه عند كارل ماركس هو الصراع الطبقي وحامله الطبقة البرولتارية، أما بنيامين فيرى في صراع المستضعفين والمستكبرين محرك التاريخ، وتكمن مهمة الطبقة المقموعة، حاملة التاريخ عند بنيامين، في الضغط على فرامل الطوارئ وإيقاف قطار التاريخ -والتشبيه هنا لكارل ماركس- الذي ليس من شأنه إلا أن يعظم الكارثة ويراكمها، وكما يقول بنيامين في الشذرة السابعة «أي توثيق للثقافة هو بالضرورة توثيق للهمجية في الوقت ذاته. وكما لا يخلو هذا التوثيق من الهجمية، لا يسلم مسار انتقاله من طرف لآخر من الهمجية أيضًا. ولذلك ينأى المادي التاريخي بنفسه عن مسار الانتقال ذلك قدر الإمكان». غير أنه بمرور الزمن تحاول الطبقة الحاكمة خداع الطبقة المقهورة من خلال تمرير مفهوم خاص للتقدم، جاعلةً منه معيارًا تاريخيًّا وواقعةً طبيعيَّةً، كيف يتصور بنيامين التقدم وما هو وجه اعتراضه عليه؟

التقدم، عاصفة سماوية 

سنتجه إلى الشذرة التاسعة من مقالة بنيامين، وهي الأكثر شهرة، رسم فيها صورة مستوحاة من لوحة «لبول كليه» يعبر فيها عن تصوره لمفهوم التقدم في التاريخ، يقول فيها «ثمة لوحة رسمها [بول] كليه تدعى «أنجيلوس نوفوس» يصور فيها ملاكًا يبدو وكأنه على وشك الابتعاد عن شيء يمعن النظر إليه. عيناه مفتوحتان عن آخرهما، فاغرًا فاه وفاردًا جناحيه. هكذا ينبغي لملاك التاريخ أن يبدو. يولي وجهه شطر الماضي. ومن حيث تطالعنا نحن سلسلة من الأحداث، يرى هو فاجعة واحدة تراكم حطامًا فوق حطام وتلقي بها عند قدميه. يود الملاك لو يمكث، ويوقظ الأموات، ويلحم الشظايا. لكن عاصفة تهب من الفردوس لتتشبث بجناحيه بقوة تمنعه من طيهما. تدفعه العاصفة بلا توقف نحو المستقبل الذي يوليه ظهره، بينما تنمو كومة الحطام أمامه صوب السماء. هذه العاصفة هي ما نطلق عليه التقدم».

يمكن تحليل هذه الصورة البصرية البديعة إلى عناصر عدة:

 ملاك التاريخ؛ وهو تعبير عن المؤرخ المادي التاريخي في صورته المثلى، وهو معني بمهتمين اثنتين (أ) إيقاظ الأموات من سباتهم. (ب) جمع الشظايا ولحمها، فهو من جهة يحاول أن ينقذ المقهورين عبر التاريخ الذين يهددهم العدو المنتصر في كل زمن، وجمع هذه الشظايا من أجل توحيدها في وجه هذا المنتصر الوحيد، الوارث لجميع المنتصرين عبر التاريخ. ولا يمكن لهذا الفعل أن يتحقق من غير المكوث في اللحظة، وهو ما لا يستطيع ملاك التاريخ فعله بسبب العاصفة السماوية (التقدم)، وأمر آخر هو التفات ملاك التاريخ أبدًا للماضي دون المستقبل وسيأتي تفصيل ذلك لاحقًا. 

كومة الحطام المتنامية في تعاليها؛ إن الحقيقة البسيطة ولكن الأكثر رعبًا حول الواقع الإنساني في التاريخ هي حقيقة أن العالم أو التاريخ لا يقف عند أكبر القيم التي يؤمن بها الإنسان، فتتبدى الكارثة الحقيقية بعدم اكتراث هذا العالم لنا كبشر، ليس هذا وحسب بل إن هذه الحقيقة هي الثابت الوحيد في سيل الأحداث المتدفق، فتتم مراكمة الواحدة منها تلو الأخرى، في حين تبدو هذه الواقعة لغير «المؤمن» أنها مجرد تعاقب متسلسل للأحداث غير أنها تعبير صارخ عن استمرارية الكارثة. إن هذه الاستمرارية والديمومة لا تُفقد هذه الحادثة صفتها الأساسية (الكارثية)، بل يمكن القول إن هذه الحقيقة هي الأكثر مركزية في فلسفة بنيامين للتاريخ. ذلك أن تجاوز هذه الواقعة هو بداية طريق التطبيع مع الواقع على حساب تلك القيم. 

التقدم؛ هو العاصفة التي تهب من السماء (المستقبل)، وهي تهب من السماء بحيث لا يمكن بلوغها، وهو تعبير عن اتجاه جريان أكثر من كونها محطة يصل إليها ذلك الملاك. تقوم هذه العاصفة بتكبيل يدي ملاك التاريخ عن الحركة والقيام بالمهام الموكلة إليه، هي الشاهد على واقعة استمرارية الكارثة وديمومتها. 

يقدم بنيامين نقدًا لمفهوم التقدم عند محاوره المفترض، الديمقراطية الاشتراكية، في الشذرة الثالثة عشرة على مستويين الأول جدلي وآخر جذري، إذ يمكن نقد مفهوم التقدم المعياري التاريخي من ثلاثة وجوه؛ الأول: أن هذا التصور عادة ما يشتمل على الطبيعة الإنسانية ذاتها وليس قدراتها أو معارفها. الثاني: أنه غير محدود، فهو لا يبلغ غاية أبدًا في طلبه الكمال الإنساني ويرى فيه إمكانية ممكنة التحقق. الثالث: كلي، لا يمكن مجابهته أو رده، فهو مصير لا يمكن تجنبه أو تفاديه، يجري تصويره أحيانًا على أنه خطوٌ تجاه حرية أكبر. على الرغم من حُجيَّة هذه النقود الثلاثة إلا أن بنيامين ينصحنا بألا نصب كل تركيزنا على هذه النقودات فهي محل أخذ ورد، وينتقل إلى مستوى أكثر جذريَّة في نقد ما يجمع هذه التصورات جميعها؛ تصورها عن حركة التقدم في فضاء فارغ ومتجانس، وكأنه يتحرك بشكل سلس وانسيابي.

ببسيط العبارة إن ما يحاول بنيامين التأسيس له من خلال نقده لفكرة موضوعية المعرفة التاريخية، هو القول إن التاريخ هو مجال الوجود الإنساني وتعريفه، وبالتالي لا يجب أن يكون التاريخ إلا أمرًا «شخصيًّا» والنظر إليه يجب أن يكون من خلال ثراء اللحظة وانفتاحها على الاحتمالات اللانهائية، لا من خلال قراءة عقلانية تسقط ثراء اللحظة من أجل علاقة خطية باردة تُسكَت من خلالها التعددية باسم الوحدة، بل يجب علينا أن نحمل حيوية اللحظة ونزرعها في صدر التاريخ ونفجره. في ضوء هذه القراءة يمكن لنا أن نفهم عبارات بنيامين غير المستساغة في الشذرة السادسة والسابعة «حتى الأموات يهددهم العدو المنتصر. وما برح العدو منتصرًا» و»فالذي يحكم في أي وقت كان يرث جميع المنتصرين سابقًا [...] أي توثيق للثقافة هو بالضرورة توثيق للهمجية في الوقت ذاته».

صراع على التاريخ 

يبدل بنيامين إذن ملحمة الروح المطلق عبر التاريخ بملحمة من نوع آخر هي صراع المنتصرين والمهزومين، نحمل اليوم عبء هزائم الأجيال السابقة، وكما أن المتغلب يرث الإسكندر الأكبر ونابليون، فنحن نحمل عبء هزيمة سبارتاكوس وسقوط غرناطة. إذ يكرس المتغلب قراءة عقلانية للتاريخ يشوه من خلالها الماضي، من خلال تغيير صورته لدينا كي يعزز امتلاكه للحاضر، والتاريخ بما هو ماضي مثله مثل المستقبل يتأسس على اللحظة الراهنة، فأحداث الماضي ليست مجرد أحداث حدثت في الماضي، ولكن معانيها تتوالد بشكل متجدد حسب وضعنا الحالي، هي موضوع بناء وخلق لا موضوع اكتشاف. فالتاريخ ليس على الشاكلة التي يحاول المنتصر أن يصوره لنا: أن انتصاره هو النهاية المنطقية والعقلانية للتاريخ، إذ إن هذا التصور حول التاريخ هو في ذاته محل صراع وجدل لا يجب التسليم به لأنه يكرِّس انتصار المنتصر وهزيمة المهزوم. فالعلاقة التي يجب أن تجمعنا بالتاريخ حسب بنيامين هي علاقة جدلية يحكمها الخلاص، غير أن هذا الخلاص ليس وعدًا مستقبليًّا بمسيح مخلص أو حال أفضل كوعد الحداثة، بل هو التزام واجب في كل لحظة وحاضر على الدوام. 

يحاول هيجل أن يُصلِّب أعناقنا تجاه المستقبل واعدًا إيانا بغدٍ أفضل وحياةٍ أكثر حرية، في حين يطلب منا بنيامين ألا ننخدع بهذه الدعوة فالتركيز على الماضي هو المنبع الأساسي لقوة الجموع المقهورة، إن الانشغال بالمستقبل من شأنه أن يضرب الركيزتين الأساسيتين للكفاح، الأولى: عاطفة الكراهية لديها، وهي العاطفة الوحيدة التي تتملكها تجاه الغالبين، والتي من شأنها أن تكون محركًا حقيقيًّا للجموع المقهورة. والثانية: استعدادها للتضحية، إن القدرة على التضحية بالذات وتفجيرها في وجه العالم هي تعبير عن يأس من حياة مستقبلية أفضل في سبيل عدالة لم تتحقق بعد. إن كلتا الركيزتين المؤسستين لأي نضال فعلي لا يمكن أن تتحققا إلا من خلال استبدال صورة «الأحفاد المحررين»، التي تتغذى عليها الجماعة المقهورة، بصورة «الأجداد المستعبدين» (الشذرة الثانية عشرة). 

إن النقص الذي التفت إليه بنيامين في الصورة التي رسمها هيجل لجدليَّة العبد والسيد هي أن حال التسوية التي يتحدث عنها هيجل لا تتم بشكل مباشر دون أية أكلاف، كما أن المواجهة ليست قائمة بين فرد وفرد أو وعي ذاتي وآخر بل الصراع قائم بين جماعتين. تقوم التسوية عند هيجل إذن على نسيان الصراع أو بالأحرى الدماء التي سفكها المستكبرين، في الواقع إن هذه الدماء هي موضوع التسوية الرئيس لا مجرد الرغبة بالحياة. الشعور بالمسؤولية تجاه أروح المستضعفين الذين سقطوا في الماضي وإنقاذ المستضعفين المستكينين إلى رواية المنتصر في الحاضر هي مهمة بنيامين التي نذر نفسه من أجلها. 

يمكن تلخيص الفروق بين تصور هيجل وبنيامين للتاريخ على النحو التالي، في حين تستند قراءة هيجل للتاريخ إلى محاولته لاحتواء التناقض الموجود في قرار الواقع داخل العقل، من خلال التوحيد الذي تقوم عليه عملية الديالكتيك، وفي المركز منها عملية الـAufheben الرفع والجمع بين النقيضين (الإلغاء والحفاظ في آن) الذي يهشم الهامش من خلاله، يحاول بنيامين أن يقوم بحركة عكسية، تفجر هذا التوحيد وتحتفظ بالتناقض في شكله الأساس. بدلاً من أخذ الحاضر وفرضه على الماضي يأخذ بنيامين الماضي ويجلبه إلى الحاضر من أجل ضمان استمرارية الفعل تحت قهر المنتصر. وفي الجدول التالي بيان لأهم الفروق بين التاريخانية والمادية التاريخية اللاهوتية الخاصة ببنيامين: 

خاتمة، الماضي في مواجهة المستقبل

ذكرنا سابقًا أنه يمكن فهم الثورة على أنها محاولة لتملك التاريخ، أو محاولة للقبض عليه وكتابته أو ربما الدخول في متنه، وبالتالي ثمة علاقة وثيقة بين تصورنا عن التاريخ والفعل الثوري، الذي يتأسس بدوره على فهم وموقف مخصوص من التاريخ. على الرغم من ذلك، قد يخطر في ذهن القارئ، أن كل ما جرى الحديث عنه هنا يدور حول «فلسفة تاريخ»، أي محاولة نظرية للقبض على ثابت أو قانون في سيل تدفق الأحداث، وهذا النوع من الفلسفة، وخصوصًا بعد النقد الذي وجهه كارل بوبر في «المجتمع المفتوح وأعداؤه» للتاريخانية بات معزولاً ومكروهًا، فما المعنى من الحديث عن فلسفة التاريخ اليوم؟ 

المفيد في هذه القراءة المقارنة هي الأفكار التي تتداعى بسببها، والناتجة عن الحركة بين منظومة هيجل وبنيامين للتاريخ، لا الإيمان بفلسفة تاريخ مقابل أخرى، هذه الحركة قادرة على عمل مجموعة من الإزاحات الضرورية في المستوى القيمي-المعرفي، قد ينعكس ذلك في الحجم الاعتبار الذي نعطيه للفاعلية مقابل البنية في النظريات التفسيرية الاجتماعية والسياسية، والتدقيق في استخدام لغة أكثر وصفية على حساب لغة معيارية تفترض تأسس الواقع على مبدأ عقلاني. فالحق لا يستمد مشروعيته من ضرورة تحققه في التاريخ بل ينهد ذلك من خلال إلزاميَّة السؤال الأخلاقي. كما يتيح التصور الذي طرحه بنيامين للتاريخ تسريح الفعل الثوري بعيدًا عن إكراهات سؤال الغاية والنتيجة والعلة، ويلقي عن كاهلنا عبء تاريخ من الهزائم والانتكاسات ذلك أن انتصار الطبقة الحاكمة لم يكن يومًا يتسم بالأبدية التي يحاول أن يعرض نفسه بها، فهو طارئ ويتأسس على اللحظة الراهنة التي علينا أن نتكفل بإنقاذها من خلال إنقاذ الماضي أيضًا، من هنا برز نجاح بنيامين في خلخلة العلاقة بين العدالة والتاريخ والصراع القائم فيه وطرح قراءة جديدة تجعل من استمرارية الكفاح همها الرئيس. 

ربما لا يضاهي صعوبة تبني نظرة بنيامين حول التاريخ إلا صعوبة عدم التعاطي معها بجدية. ذلك أنها تحمل حجاجًا فلسفيًّا متماسكًا ومثيرًا، غير أن النهايات التي تقود إليها لا يمكن وصفها إلا بالجنونية. ثمة لحظة يعرفها كل ثائر مهزوم مصاب بداء الذاكرة، يواجهها في سعيه المحموم لتحقيق العدالة التي لا يمكن العثور عليها في صفحات التاريخ البيضاء، إذ توجد حصرًا في ملامح المكسورين والعجائز، إنها تلك اللحظة التي يتفجر فيها الثائر دون أن يطلب من فعله غير ألا يخجل من نفسه، هي انفتاح على العدم والمطلق وقطيعة نهائية مع أي نتيجة وغرض. واستمرار للنضال باسم «العدالة» المثيرة للسخرية والبكاء.إن اللاهوت التاريخي الذي يؤسس له فالتر بنيامين بمقاله عن مفهوم التاريخ هي تلك اللحظة مصاغة بعبارة فلسفية مضطربة تليق بعنفوانها وبتفجرها. هي لحظة انفعال ثورية يائسة تحاول إعادة إحياء الثورة في لحظة موتها الأخير أمام جحافل المنتصرين. هي هتاف أخير للمستضعفين من أجل الاستعانة بأرواح الشهداء كي يحضروا معنا اليوم وينتفضوا ضد الظلم، هي محاولة لقراءة الماضي بعين الحاضر ومحاولة دائمة لإعادة فتح مجال الفعل الثوري لا باسم التزامه بغد أفضل، بل باسم التزامه تجاه أرواح الشهداء في كل زمن.

المصادر باللغة العربية 

1 - دراج، فيصل، فالتر بنيامين ولاهوت التاريخ، مجلة الكرمل، مؤسسة الكرمل الثقافية -مركز خليل السكاكيني الثقافي، ع86 شتاء 2006، ص100-171. 

2 - بنيامين، فالتر. «عن مفهوم التاريخ» Mada Masr. Accessed December 31, 2018. https://goo.gl/xqqJKQ.

3 -  فرو، قيس، المعرفة التاريخية في الغرب، مقاربات فلسفية وعلمية وأدبية، المركز العربي للأبحاث والدراسات، بيروت، الطبعة الأولى 2013. 

4 - العروي، عبد الله، مفهوم التاريخ، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة الرابعة، 2005. 

5 - هابرماس، يورجن، القول الفلسفي للحداثة، ترجمة فاطمة الجيوشي، منشورات وزارة الثقافة في الجمهورية العربية السورية، دمشق، 1955.

6 - فوكوياما، فرانسيس، نهاية التاريخ والإنسان الأخير، مركز الانماء القومي، فريق ترجمة فؤاد شاهين، جميل قاسم، رضا الشايي. بيروت، الطبعة الأولى. 

7 - دروي، شادية، خفايا ما بعد الحداثة، ترجمة موسى الحالول، دار الحوار للنشر، اللاذقية سوريا. الطبعة الأولى.

المصادر باللغة الإنجليزية

1 - Benjamin, Walter, Marcus Bullock, and Michael W. Jennings. Selected Writings. Vol. 4. Cambridge: Belknap Press of Harvard University Press, 2004.

2 - Habermas, Jurgen, Philip Brewster, and Carl Howard Buchner. “Consciousness-Raising orRedemptive Criticism: The Contemporaneity of Walter Benjamin” New German Critique, no. 17 (1979): 30. doi:10.2307/488008.

3 - Sontag, Susan. A Susan Sontag Reader. New York: Farrar, Straus, Giroux, 2014.

4 - Beiner, Ronald,”Walter Benjamin’s Philosophy of History”, Political Theory, Vol. 12, No. 3 (Aug., 1984), pp. 423-434 

5 - Little, Daniel. “Philosophy of History” Stanford Encyclopedia of Philosophy. October 13, 2016. Accessed December 31, 2018. https://plato.stanford.edu/entries/history/#HegHis.

6 - Hegel, Georg Wilhelm Friedrich., John N. Findlay, and Arnold V. Miller. Phenomenology of Spirit. Oxford: Clarendon Press, 1978.