قضايا
مصطفى بسيونيالعمال ودولة يوليوالحركة النقابية المصرية.. المصادرة والاستقلال
2021.12.01
مصدر الصورة : ويكيبديا
العمال ودولة يوليوالحركة النقابية المصرية.. المصادرة والاستقلال
بحلول عام 1952 كانت الحركة العمالية والنقابية في مصر قد بلغت مستوى من التطور والنضج ربما لم تصل له في أي وقت منذ انطلاقها مطلع القرن العشرين. كانت الحركة العمالية والنقابية في مصر أصبحت طرفًا رئيسيًّا في معركة التحرر الوطني، وطرفًا فاعلاً في الحياة السياسية المصرية، كما حققت وجودًا أمميًّا راسخًا وأصبحت جزءًا من الحركة النقابية العالمية. وبعد نحو ربع قرن من حل اتحاد العمال الأول على يد حكومة الوفد في 1924، كانت الحركة العمالية المصرية تتهيأ لإعادة تأسيس اتحاد العمالي، ومن مفارقات التاريخ أن المؤتمر التأسيسي لاتحاد العمال تحدد موعده في 27 يناير 1952، وكان من المتوقع مشاركة 34 نقابة عمالية من مختلف القطاعات تضم أكثر من 120 ألف عامل، وبالطبع لم يعقد المؤتمر التأسيسي في موعده الذي سبقه حريق القاهرة، في 26 يناير 1952، ولم يعقد بعد ذلك لأن الأحداث في مصر اتخذت وجهة أخرى.
لم تظهر في بداية الأمر خلافات أو تناقضات بين حركة الضباط الأحرار والحركة النقابية، بل على العكس، كان الطابع التحرري للضباط الأحرار، ومواقفهم من الملكية والإقطاع، أمورًا تعني إمكانية بناء جسور قوية مع الحركة النقابية التي كان لها نفس المواقف، وكانت البداية من الحركة النقابية التي أيدت بالفعل حركة الضباط الأحرار.
كان الموقف الأول للضباط الأحرار من الحركة النقابية والعمالية صادمًا، فبعد أسابيع قليلة من 23 يوليو 1952 أضرب عمال شركة مصر للغزل والنسيج بكفر الدوار، لرفع مطالب مؤجلة لهم، وشهدت تظاهرتهم تأييدًا واضحًا لحركة الجيش، ولكن هذا التأييد قوبل بقمع عنيف من قبل قوات الأمن، ولقي ثلاثة عمال وثلاثة من أفراد الشرطة مصرعهم، وأصيب 28 واعتقلت السلطات 545 عاملًا خلال الاشتباكات. وبغض النظر عن الملابسات التي تضمنها الحدث، فما حدث بعد ذلك هو ما شكل صدمة حقيقية، فقد تشكلت محاكمة عسكرية مثل أمامها 29 عاملاً، وقضت بإعدام العاملين مصطفى خميس ومحمد البقري، وصدر الحكم بالسجن على عشرة من العمال. وليس أدل على طبيعة هذه المحاكمة من سرعتها الفائقة، فقد بدأت جلسات المحاكمة في 15 أغسطس، فيما كان الإضراب يوم 12 أغسطس، وتم فضه في 13 أغسطس، وبدأت المحاكمة في 15 أغسطس، ونُفذ حكم الإعدام بحق خميس والبقري في 7 سبتمبر، على الرغم من أن تدخل قوات الأمن لفض الإضرابات العمالية وسقوط ضحايا خلال ذلك لم يكن حدثًا فريدًا في تاريخ الحركة العمالية المصرية، فإن صدور أحكام بالإعدام على العمال عقب فض الإضرابات مثل سابقة في تاريخ الحركة العمالية المصرية. أعقب إعدام خميس والبقري قرار مجلس قيادة الثورة، صدر في 12 سبتمبر 1952، بتأجيل انعقاد المؤتمر التأسيسي لاتحاد العمال لأجل غير مسمى، لتتضح بذلك نوايا السلطة الجديدة بالكامل تجاه الحركة النقابية المصرية.
لم يقتصر تعامل الضباط الأحرار مع الحركة العمالية والنقابية على سياسة الحصار والقمع فقط، كانت سياسة السلطة الجديدة تجاه العمال مزدوجة، فمن ناحية كانت تسعى للسيطرة على الحركة عبر القمع والحصار، ومن ناحية أخرى كانت تسعى لاستيعابها عبر المكاسب التي تقدمها.
ففي ديسمبر 1952 أصدر مجلس قيادة الثورة بشكل منفرد تشريعًا يرفع تعويضات العمال في حالة الفصل، ومنح العمال الحق في الإجازات والرعاية الصحية والمواصلات المجانية لأماكن العمل، وهي التشريعات التي تلتها تشريعات أخرى تجاه تحسين أوضاع العمال، ولكن صاحب هذا التشريع تشريع آخر يجرم الإضرابات العمالية ويقيد النشاط النقابي.
كانت سياسة القمع والاحتواء هي السياسة التي اعتمدتها السلطة الجديدة تجاه الحركة النقابية في مصر منذ اليوم الأول، والحقيقة أن مبادلة حرية التنظيم والحركة بحزمة من المكاسب المتمثلة في تحسين شروط العمل وتوفير درجة من الأمان الوظيفي، كانت مبادلة خاسرة بالكامل، إذا ما نظرنا إليها في سياق تطور الحركة العمالية المصرية.
واقع الحركة العمالية في مصر مع وصول الضباط الأحرار للسلطة كان يؤهلها بالفعل لتحقيق تحسن حقيقي في علاقات العمل عبر قدراتها التنظيمية والاحتجاجية، كانت بالفعل الحركة قطعت شوطًا على هذا الطريق سواء فيما يتعلق بساعات العمل أو الأجور، وكانت بالفعل بصدد إطلاق اتحاد عمالي جديد يقود الحركة العمالية، وما قام به الضباط الأحرار هو انتزاع أدوات العمل من الحركة النقابية ومنح العمال بعض ما كانوا سينتزعوه بتلك الأدوات.
كان القمع والاحتواء سمة المرحلة الأولى من سياسة الضباط الأحرار تجاه الحركة النقابية، والتي شهدت تطورات ملحوظة فيما بعد، ولعل أهم تطور في علاقة الضباط الأحرار بالحركة النقابية، كان في مارس 1954.
كانت الأزمة بين جناحي الضباط الأحرار الذين مثلهما جمال عبد الناصر، الرافض لعدة الجيش للثكنات وعودة الأحزاب والحياة النيابية، ومحمد نجيب الذي كان مؤيدا لذلك، ولم يحسم عبد الناصر الصراع لصالحه إلا عبر الاتفاق مع نقابات عمالية للإضراب والتظاهر تأييدًا لموقف عبد الناصر ورفضا لموقف نجيب، لتبدأ بذلك مرحلة جديدة من تحويل الحركة النقابية المصرية إلى ذراع عمالية للسلطة.
هذا التحول دشنه عبد الناصر بتأسيس اتحاد نقابات عمال مصر عام 1957، كتنظيم نقابي وحيد تأسس على يد السلطة، وبالقطع مع كل تاريخ وتراث الحركة النقابية المستقلة التي كافحت لعقود ضد هيمنة السلطة والأحزاب عليها.
ومع أن هناك الكثير من النقاط التي يمكن التوقف عندها في فهم طبيعة الاتحاد الجديد الذي أسسه عبد الناصر، توجد نقطتان يمكن أن توضحا طبيعة ودور هذا الاتحاد. الأولى، هي أن الدولة أقدمت على تأسيس اتحاد العمال في نفس الوقت الذي كانت تتجه فيه للسيطرة على عملية الإنتاج نفسها، سواء عبر تأسيس مشروعات أو تأميم المشروعات الموجودة بالفعل، لتصبح الدولة في غضون سنوات قليلة صاحب العمل الرئيسي في المجتمع، في الوقت الذي أصبحت فيه أيضًا المهينة على التنظيم العمالي الوحيد، وهو ما يقضي على فكرة تمثيل العمال بالكامل. والنقطة الثانية، أن طبيعة الاتحاد الجديد كانت محصنة بشدة ضد أي محاولة للتغيير.
لم يتحقق تحصين الاتحاد من محاولات التغيير فقط عبر قصر الترشح في انتخابات النقابات العمالية على أعضاء الاتحاد الاشتراكي الذي يتبع السلطة، ولكن عبر بنية هرمية بيروقراطية تضمن عدم تسرب أي عناصر مستقلة لداخلها. وتشكل الاتحاد من ثلاث مستويات، المستوى الأول هو مستوى اللجان النقابية، وهي اللجان التي ينتخب أعضاؤها في المواقع من العمال مباشرة، وعلى الرغم من أن تشكيل هذا المستوى يخضع بالفعل لإرادة العمال، فإن اللجان النقابية كانت بلا صلاحيات فعلية، فالنقابة الفعلية هي النقابة العامة، وهي التي تؤول إليها الاشتراكات التي تستقطع من مرتبات العمال، وهي المنوط بها التفاوض وإبرام الاتفاقيات مع الإدارة وحتى رفع دعاوى نقابية، أما اللجنة النقابية المصنعية فلم تكن تتمتع بالشخصية الاعتبارية ولم يكن لها صلاحيات فعلية، وهذا المستوى الذي كان يتسرب إليه بالفعل عبر الانتخابات نقابيون مستقلون عن السلطة.
المستوى الثاني كان النقابات العامة، وتعتبر هي النقابة الفعلية، والتي تتمتع بكل الصلاحيات النقابية، ولكنها لم تكن تنتخب في المواقع، كان انتخابها يتم عبر مؤتمر الجمعية العمومية للنقابة العامة، والذي كان يمثل فيه العمال من المواقع بنسب تحددها قواعد الاتحاد، وكان يجري تشكيل الجمعية العمومية بحيث لا تسمح بتسرب عناصر مستقلة لمجلس النقابة العامة، فضلا عن استخدام اللجان النقابية المهنية، وهي اللجان التي تتشكل على أساس المهنة ولا يضم أعضاءها موقع واحد، مثل سائقي الأجرة، وعمال البناء، في خلق توازن في الجمعيات العمومية لصالح البيروقراطية النقابية.
المستوى الثالث كان مجلس إدارة الاتحاد وهو القيادة الفعلية للتنظيم النقابي، ويتشكل عبر ترشيح مجالس النقابات العامة لأحد أعضائها كممثل لها في الاتحاد دون انتخابات. وقد تمكن نظام عبد الناصر في سنواته الأولى من تعميق سيطرته على التنظيم النقابي وتوظيفه بالكامل كأحد دعائم سلطته، ولكن في الوقت نفسه كان يعمق آليات الاستيعاب التي جعلت تلك السيطرة ممكنة، ففي الوقت نفسه كانت تتقرر من قبل السلطة مكاسب وامتيازات للعمال جعلت امتصاص المعارضة ممكنة. حيث شهدت علاقات العمل، والتي كانت الدولة طرفًا أصيلاً فيها، أوضاعًا مستقرة للعمال، تضمنت ساعات عمل وأجور محددة بالقانون، واستقرارًا في العمل وحماية من الفصل، وضمان اجتماعي ورعاية صحية.
كانت كل تلك الأمور ضمن مطالب الحركة العمالية في السابق، ولكن ما رفع قيمة تلك المزايا، هو الدور الاجتماعي للدولة، والذي شمل دعم السلع التموينية والسكن والتعليم والصحة.
نجحت سياسة السيطرة والاستيعاب التي اتبعها النظام الناصري في الهيمنة على الحركة العمالية والنقابية، فتراجعت على نحو غير مسبوق الاحتجاجات العمالية، وقد يكون للأوضاع السياسية والصراعات مع القوى الاستعمارية أيضًا دور في تراجع الاحتجاجات العمالية.
ولكن التراجع الشديد في الاحتجاجات العمالية والذي لم تقطعه سوى احتجاجات معدودة في إمبابة وحلوان وبعض المواقع العمالية، فضلاً عن تظاهرات عمال شركات حلوان في 1968 للمطالبة بمحاسبة المسؤولين عن هزيمة 1967، لم يكن يعني بالضرورة قبول الحركة العمالية بالأوضاع بقدر ما كانت تعني تراجع القدرة على الاحتجاج في ظل النظام الشمولي، وهو ما لم يتأثر به العمال فقط، فتراجع الحركة العمالية كان مصاحبًا له تراجع في كل أشكال الحركة السياسية والنقابية والاجتماعية. وهذا ما يؤكده تزايد معدلات الشكاوى العمالية والدعاوى القضائية التي كان يرفعها العمال لنيل حقوقهم، بالقياس للفترة السابقة على 1952، إذ يشير ذلك إلى أن الشكاوى والدعاوى القضائية كانت السبيل الممكن أمام العمال للتعبير عن مطالبهم.
تجمعت العديد من العوامل إذن لتجعل مصادرة الحركة النقابية ووضعها تحت إدارة السلطة أمرًا ممكنًا، فمن ناحية الصراعات الوطنية التي كان النظام يخوضها، من التحرر من الاستعمار لمواجهة العدوان الثلاثي للصراع مع إسرائيل. ومن ناحية أخرى المشروع الاقتصادي الاجتماعي الذي تبناه النظام لاحقًا، والذي ضمن مجموعة من المزايا للعمال، وكذلك المناخ البوليسي الذي هيمن على تلك الفترة وجعل أي شكل من أشكال المعارضة أو العمل العام المستقل عن الدولة مخاطرة كبيرة. هكذا قطعت دولة يوليو الوليدة مسار الحركة النقابية المصرية الصاعدة، لتستبدلها بذراع عمالية أدارته السلطة وفقا لمصالحها.
واللافت أن أنظمة الحكم التي تلت عبد الناصر رغم حرصها على تفكيك إرثه السياسي والاقتصادي، فإنها حرصت في الوقت نفسه على الحفاظ على الذراع العمالية الذي أسسه، لتديره لصالحها، هكذا فإن اتحاد العمال الذي دعا للعمل التطوعي من أجل المجهود الحربي في عهد عبد الناصر وأيده في الصراع ضد إسرائيل ورفضه الصلح، هو نفسه الذي اصطحب السادات وفدًا منه في زيارة إسرائيل. والاتحاد الذي دافع عن القطاع العام في العهد الناصري هو نفسه الذي دافع عن الخصخصة في عهد مبارك. لم يكن هذا يعني أي تناقض في مواقف اتحاد العمال، فقد كان موقفه دائمًا تأييد السلطة.
على الرغم من استمرار سيطرة الدولة على التنظيم النقابي في سبعينيات القرن الماضي، بعد رحيل عبد الناصر، فإن الحركة العمالية أصبحت أكثر قدرة على الاحتجاج، خاصة بعد اتجاه السادات نحو سياسات السوق والانفتاح الاقتصادي، بما يعني التخلي عن العقد الاجتماعي الذي أرساه عبد الناصر.
بدأت الحركة العمالية في سبعينيات القرن الماضي صعودًا جديدًا، تمثل في عدد من الاحتجاجات العمالية في مواقع عمالية كبيرة، أبرزها شركة مصر للغزل والنسيج بالمحلة، وهيئة النقل العام وشركة الحديد والصلب. تزامن هذا الصعود مع انتهاء الحرب، والتغيرات التي طرأت على التوجهات الاقتصادية للسادات، وكذلك مع عودة الحركة اليسارية إلى الحياة، ولكن كان الاحتجاج الأكبر الذي شهدته مصر في تلك المرحلة هو انتفاضة الخبز في يناير 1977، والتي انطلقت شرارتها من المواقع العمالية في حلوان وشبرا وامتدت إلى أنحاء مصر.
مهدت الاحتجاجات العمالية في السبعينيات الأرض أمام الحركة العمالية لصعود جديد، بعد أن أمدتها بدماء جديدة من الكوادر العمالية، بعد فترة انقطاع في الحركة، وكان صعود الحركة العمالية في الثمانينيات امتدادًا لتلك الموجة القصيرة التي شهدتها السبعينيات. وكانت موجة الحركة العمالية في ثمانينيات القرن الماضي أكثر وضوحًا في ملامحها وسماتها العامة؛ فالاحتجاجات التي قام بها عمال إسكو وكفر الدوار والمحلة والسكة الحديد ومصر حلوان للغزل والنسيج والكوك وغيرها من المواقع العمالية الكبرى، كانت عادة ما تتحرك خلف مطالب تتعلق بالأجر المتغير، مثل الحوافز أو الأرباح أو المزايا العينية أو بدل طبيعة العمل أو بدل الراحات، أو أكثر من مطلب منها مجتمعة. وهو ما يمكن إرجاعه إلى أن تفاصيل علاقات العمل مثل سلم الأجور وساعات العمل والتأمينات الاجتماعية وغيرها كان منصوص عليها بدقة في القوانين، وكان الأجر المتغير والمزايا العينية هي المساحة الأكثر مرونة التي يمكن أن يتحرك فيها العمال.
وقد شهدت الحركة العمالية في الثمانينيات أيضًا ظهور جيل جديد من القادة العماليين والنقابيين، والذين بدأ أغلبهم الانخراط في الحركة العمالية في السبعينيات، وكانوا إما منتخبين في اللجان النقابية المصنعية، أو خارج مجالس النقابات بالكامل، ولكنهم يقومون بدور قيادي وسط العمال، وارتبط عدد غير قليل منهم بمنظمات اليسار. والسمة اللافتة في الحركة العمالية في الثمانينيات، أن تعامل الدولة معها حمل طابع مزدوج، فالدولة كانت عادة تستجيب لمطالب العمال، الدولة كانت هي صاحب العمل الفعلي في تلك المواقع، ولكنها في الوقت نفسه كانت تستخدم القوة لفض تلك الاحتجاجات، ولم يخلو الأمر من اعتقال قيادات الاحتجاج، واتخاذ إجراءات ضدهم مثل نقلهم من وظائفهم. وعادة ما كان التدخل الأمني لفض الاحتجاج سريعا بحيث لم تمتد بعض تلك الاحتجاجات لأكثر من 24 ساعة، مثل إضراب السكة الحديد، واعتصام الحديد والصلب.
تجدر الإشارة أيضًا إلى أن الحركة العمالية في الثمانينيات اعتمدت في أغلب احتجاجاتها على استخدام الاعتصامات وليس الإضرابات، فعادة ما كان العمال يعلنون الاعتصام داخل الشركة والتناوب على العمل دون توقف الإنتاج، رغم ذلك كانت هناك إضرابات مهمة في تلك الفترة، مثل إضراب السكة الحديد في 1986، فإن الطابع الغالب على الاحتجاجات كان الاعتصام، حتى إن الإنتاج لم يكن يتوقف إلا بعد قيام السلطات بقطع الكهرباء والماء عن الموقع. وربما يرجع ذلك إلى استمرار الثقافة التي سادت في العهد الناصري، والتي اعتبرت القطاع العام ملكية الشعب، وأن عملية الإنتاج جزء من المعركة الوطنية.
ومع أن بعض قادة الاحتجاجات العمالية في الثمانينيات كانوا ضمن مجالس إدارات اللجان النقابية المصنعية، فإن التنظيم النقابي ككل كان موقفه من الاحتجاجات العمالية إما التجاهل أو العداء لهذه الاحتجاجات، حتى إن بعض الاحتجاجات العمالية كانت تجمع مطلب سحب الثقة من النقابة إلى جانب المطالب الاقتصادية، تعبيرًا عن وقف العمال من التنظيم النقابي الرسمي.
موقف الاتحاد الرسمي من الاحتجاجات العمالية خلق مسافة واضحة بين الحركة العمالية والتنظيم النقابي الرسمي، وبدأت بالفعل تتبلور مجموعات عمالية نشطة خارج الاتحاد، ولكن لم تشهد تلك المرحلة محاولات فعلية لخلق مسار نقابي مستقل عن هذا الاتحاد، واستمرت محاولات الحركة العمالية في اختراق التنظيم الرسمي عبر الانتخابات، والتي كان يهيمن على إدارتها الأمن وإدارات الشركات، رغم وجود أصوات نادت بالتعددية النقابية وبعدم جدوى إصلاح الاتحاد الرسمي.
اتسمت الحركة العمالية في الثمانينيات بدرجة عالية من البطولة والجرأة، فقد واجه قادتها السجون والتشريد، وواجه العمال قوات الأمن، ووصل الأمر لإطلاق الرصاص على العمالي في احتجاجاتهم، ومع ذلك لم تستطع الحركة تجاوز الهيمنة الفكرية والتنظيمية للسلطة، فظلت ثقافة القطاع العام (ملكية الشعب) مهيمنة على الاحتجاجات، وظل التنظيم النقابي الذي وقف ضد الاحتجاجات العمالية هو التنظيم النقابي الوحيد.
موجة الاحتجاجات التي تصاعدت في الثمانينيات لو يقطعها سوى التحولات الاقتصادية التي قامت بها الدولة، تحت عنوان سياسة التكيف الهيكلي، والتي اتفقت عليها الدولة مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في مطلع التسعينات. وتضمنت تلك السياسات طرح مشروعات القطاع العام للخصخصة، وفتح الباب أمام العمال للخروج على المعاش المبكر، بالإضافة إلى إجراء تغيرات عميقة في تشريعات العمل، وهو ما أدى لحالة ارتباك واضحة في صفوف العمال، حيث كان عمال القطاع العام في تلك الفترة يشكلون الجسم الرئيسي للحركة العمالية، وكانت الحركة تتركز في شركات القطاع العام.
وعلى الرغم من الركود الذي اتسمت به فترة التسعينيات على صعيد الحركة العمالية، كانت هناك بعض الإضرابات، وإن كانت أقل عددا من الثمانينيات، مثل اعتصام عمال النصر للسيارات واعتصام عمال طرة الإسمنت ومواقع أخرى، ولكن كان أضخم الاحتجاجات العمالية في التسعينيات هو اعتصام عمال شركة مصر للغزل والنسيج في كفر الدوار، والذي نظمه العمال احتجاجًا على تعسف رئيس مجلس الإدارة، إذ اعتبروا سياسته المتعسفة ضد العمال تمهيدًا للخصخصة.
اكتسب عودة الحركة العمالية للصعود في الألفية الجديدة طابعًا مختلفا، ربما للتحولات التي حدث في أوضاع وعلاقات العمل. فبحلول الألفية الجديدة كان حجم العمال في قطاع الأعمال والقطاع العام قد تراجع، وأصبح عمال القطاع الخاص كتلة رئيسية، وحتى شركات قطاع الأعمال التي لم تخضع مباشرة للخصخصة، كانت تأثرت بالتشريعات العمالية الجديدة والتي كانت تقترب أكثر من تحرير علاقات العمل، وتلك التغيرات سيكون لها أثر واضح على طبيعة الحركة العمالية وسماتها.
تزامن عودة الحركة العمالية للصعود في السنوات الأولى من الألفية مع الحراك السياسي في الشارع المصري، والذي بدأ مع حركة دعم الانتفاضة الفلسطينية منذ نهاية عام 2000، وامتد لحركة مناهضة غزو العراق، في 2002 وحتى 2003، ثم حركة الإصلاح الديموقراطي ومناهضة توريث الحكم والتي أعقبت غزو العراق. وبدأت الحركة العمالية في الصعود في السنوات المبكرة للألفية، ولكن يمكن اعتبار إضراب عمال شركة مصر للغزل والنسيج في ديسمبر 2006 بداية جديدة للحركة العمالية. فإضراب المحلة جاء بعد أسابيع قليلة من انتهاء الانتخابات النقابية، ما اعتبر وقتها ردًا عمليا من العمال على سيطرة الأمن على الانتخابات والانفراد بتشكيل هيئات التنظيم النقابي في كل مستوياتها ضد إدارة العمال. وأعقب إضراب غزل المحلة موجة عارمة من الإضرابات العمالية انتشرت في أنحاء مصر في مختلف القطاعات. وبدا واضحًا أن الصعود في الحركة العمالية في العقد الأول من الألفية حمل ملامح تختلف على نحو واضح عن ملامح الحركة العمالية في الثمانينيات، ويمكن اعتبارها أكثر شبهًا بالحركة العمالية قبل عام 1952.
كانت الأوهام حول طبيعة القطاع العام قد تبددت بفعل الخصخصة، وكان القطاع الأوسع من العمال في القطاع الخاص، وجعل علاقات العمل المستقرة التي وفرها القطاع العام لنصف قرن تتراجع لصالح علاقات السوق. ومن ناحية أخرى بدا قطاع واسع من الحركة العمالية النشطة خارج مظلة التنظيم النقابي الرسمي، ومن ثَم خارج قدرته على الاستيعاب.
اعتمدت الحركة العمالية في تلك الفترة أكثر على استخدام الإضراب عن العمل، وليس الاكتفاء بالاعتصام كما كان يحدث في الثمانينيات، وهو ما عمق الحركة العمالية وجعلها أكثر وعيا بتأثيرها الاقتصادي. ولكن التغير الأبرز في تلك الفترة كان تعامل الأمن مع الاحتجاجات العمالية، فبعكس سياسة الثمانينيات الأمنية، التي عمدت إلى فض الاحتجاجات العمالية بالقوة، ولو تطلب الأمر استخدام الذخيرة الحية، بدت الدولة أكثر مرونة مع إضرابات العمال. حتى إضراب المحلة نفسه انتهى بعد مفاوضات أسفرت عن تنفيذ مطلب العمال بصرف مكافأة الأرباح، وهو نفسه ما حفز الحركة العمالية وقضى على التردد الذي خلقه قمع الثمانينيات.
عدم استخدام القمع العنيف لفض الإضرابات كانت نتيجته المباشرة أن الاحتجاجات العمالية التي كانت تقمع خلال 24 من بدئها من قبل أصبحت تمتد لأيام وأحيانًا لأسابيع. وقد أسهمت الإضرابات العمالية الممتدة، ووجود فرصة للتفاوض في تطوير الحركة العمالية على نحو لم يكن يحدث من قبل. فالإضراب الذي يمتد لأيام وأسابيع يحتاج كي يصمد آليات تنظيم داخلية، مثل التناوب على الاعتصام وتوفير إعاشة للمعتصمين وحماية المعدات وتنظيم الوقفات وغيرها، واستمرار المئات والآلاف في إضراب لفترة ممتدة يخلق حالة تنظيمية تدعم بدورها هذا الاستمرار. ومن ناحية أخرى وجود فرصة للتفاوض على المطالب يخلق ضرورة لوجود ممثلين عن العمال، وصياغة المطالب وتطويرها، ووضع الأولويات واتخاذ القرار في الوقت المناسب.
لم يكن الصعود في الحركة العمالية الذي شهده العقد الأول من الألفية، مجرد موجة صعود في الحركة العمالية، بل كان ميلاد لحركة جديدة وفق معطيات جديدة وبآليات جديدة، وكان من الطبيعي أن يكون له أفق جديد. فالامتداد الزمني للإضراب أعطى الفرصة لتطوير مطالب العمال وقدراتهم التنظيمية، وجعل إمكانية استعادة التنظيم المستقل للعمال واردة أكثر من أي وقت مضى في النصف قرن السابق.
ويمكن هنا الإشارة إلى مثالين لتوضيح كيف تطورت الحركة العمالية. المثال الأول، شركة مصر للغزل والنسيج بالمحلة، والتي انطلقت منها موجة الصعود في الحركة العمالية. كان إضرابها الأول في تلك الموجة في 7 ديسمبر 2006، وكان المطلب الرئيسي للإضراب هو صرف مكافأة الأرباح السنوية بقيمة شهرين. استمر الإضراب، الذي سبقه امتناع عن صرف الراتب لمدة ثلاثة أيام، وفي اليوم الثالث تقرر تنفيذ المطلب وانتهى الإضراب على ذلك. كانت الانتخابات النقابية قد انقضت قبل أسابيع، وسيطر الأمن والإدارة عليها بالكامل، بحيث فازت لجنة موالية للإدارة بالكامل. وخلال الإضراب ظهر الدور القيادي للقيادات العمالية التي لم تفز في الانتخابات رغم شعبيتها وسط العمال، فيما ظهر تواطؤ النقابة مع الإدارة، ما دفع العمال لطرد أعضاءها من الشركة، وعقب انتهاء الإضراب تقدم العمال بطلب للنقابة العامة لسحب الثقة من اللجنة النقابية بتوقيع أكثر من نصف عمال الشركة. كان نجاح الإضراب، والذي جاء بعد فترة انقطع طويلة في الاحتجاجات في الشركة حافزًا لرفع باقي مطالب العمال المؤجلة. وبعد شهور من الإضراب وفي سبتمبر 200 نظم العمال إضرابًا ثانيًا، كانت المطالب فيه أكثر شمولاً، وتضمنت، إلى جانب محاسبة الإدارة على سياستها المتعسفة ضد العمال وسياستها في إدارة الشركة، تحسين أوضاع العمال من حيث الأجور والرعاية الصحية، وغيرها. استمر الإضراب لستة أيام، جرت فيها مفاوضات أكثر من مرة، وشكل العمال لجنة للتفاوض تمثل قطاعات الشركة المختلفة، وانتهت بجلسة تفاوض مطولة حضرها رئيس الشركة القابضة للغزل والنسيج ورئيس اتحاد العمال ورئيس النقابة العامة، في مقابل لجنة التفاوض العمالية التي شكلها العمال، وانتهت المفاوضات بالتوصل لاتفاق بين الطرفين.
عبر إضراب سبتمبر عن تطور ملحوظ في حركة عمال المحلة على صعيد التنظيم والمطالب والتفاوض. ولكن لم يكن هذا أقصى ما وصلت الحركة، فالمحطة التالية كانت في 17 فبراير 2008، اليوم السابق على انعقاد المجلس القومي للأجور، حين نظم عمال المحلة تظاهرة ضمت الألاف وتحركت إلى خارج الشركة للمطالبة برفع الحد الأدنى للأجور على المستوى القومي. كانت تلك هي المرة الأولى التي يرفع فيها عمال أحد المواقع مطلب قومي وليس مطلب مصنعي، كما كانت المرة الأولى التي يطالب العمال بتغيير جذري في الأجور وليس فقط بتحسين الأجر المتغير. لا يتسع المجال هنا لمناقشة تأثير احتجاجات عمال غزل المحلة المتتالية والمتطورة على انتفاضة مدينة المحلة في 6 أبريل 2008، ولكن الواضح أن من تتابع احتجاجات غزل المحلة هو أن امتداد فترات الاحتجاج وتتاليها منح الحركة فرصة للتطور والنضج على أكثر من صعيد.
المثال الثاني هو احتجاجات موظفي الضرائب العقارية، والتي بدأت تتصاعد في سبتمبر 2007 للمطالبة بضم موظفي الضرائب العقارية لوزارة المالية، بدلاً من إلحاقها بالمحليات، وهو ما يعني مساواة بموظفي وزارة المالية في الحوافز. كانت هناك مقدمات للاحتجاج في فترات سابقة، ولكن سبتمبر 2007 يعتبر بداية الصعود المتصل للحركة.
بدأت احتجاجات الموظفين في محافظة الجيزة، ولكن سرعان ما بدأت الاتصالات بين الموظفين في المحافظات المختلفة، والتنسيق بينهم لتبدأ سلسلة من الاحتجاجات أمام وزارة المالية واتحاد العمالية، وامتدت حتى ديسمبر 2007 ليبدأ الموظفون اعتصامهم الشهير أمام مجلس الوزراء والذي استمر نحو 10 أيام. وفي خلال احتجاجات موظفي الضرائب العقارية تطورت آليات اتصال وتنسيق بينهم في المحافظات المختلفة، ونجح الاعتصام أمام مجلس الوزراء في حشد الآلاف من الموظفين من عدد كبير من محافظات الوجه البحري والصعيد ومدن القناة وسيناء. تطورت كذلك أدوات التنظيم في الاعتصام الذي كان أكثر اتصالا بالشارع والقوى السياسية كونه أمام مجلس الوزراء. ولكن الأهم من كل ذلك كان تشكيل (اللجنة العليا لقيادة الاعتصام) والتي كانت تضم ممثلاً من كل محافظة مشاركة في الاعتصام، وكان مهمتها إدارة المفاوضات والاعتصام، وكانت اقتراحاتها تطرح على المعتصمين لإقرارها أو رفضها.
هذا التطور المهم كان نواة النقابة المستقلة التي تشكلت عقب الاعتصام. فبعد مفاوضات ممتدة بين المعتصمين ممثلين في اللجنة العليا ووزارة المالية، انتهى الاعتصام باتفاق يحقق مطالب الموظفين. وقرر الموظفون بعد ذلك استمرار اللجنة العليا لمتابعة تنفيذ الاتفاق، كانت اللجنة تقوم بالفعل بدور النقابة، سواء خلال الاحتجاجات أو بعدها، كذلك كانت تمثل القطاع الأكبر من الموظفين على نحو ديموقراطي، لذا كان تحولها لنقابة لموظفي الضرائب العقارية أمر ممكن، وهو ما حدث بالفعل وتأسست في عام 2008 أول نقابة مستقلة عن التنظيم النقابي الرسمي الذي أسسه عبد الناصر، وهو ما تلاه تأسيس نقابات أخرى مستقلة عن الاتحاد.
هذان المثالان يوضحان كيف تأثرت الحركة العمالية بالتغيرات التي طرأت على علاقات العمل، والأوضاع السياسية والأمنية، وكيف أتاح امتداد الموجة العمالية وقوتها وطول المدى الزمني للاحتجاج الفرصة لتطور الحركة العمالية حتى تمكنت أخيرًا من تأسيس النقابات المستقلة عن التنظيم النقابي الحكومي.
قد يحتاج الأمر لمناقشات أخرى لفهم نقاط ضعف وقوة النقابات المستقلة التي تأسست في 2008 وما بعدها، ومصير تلك النقابات وعلاقتها بالأوضاع السياسية والاجتماعية، ولكن ما يعنينا هنا هو تلك الدلالة التي حملتها النقابات المستقلة مع تأسيسها بعد نصف قرن من مصادرة العمل النقابي وإخضاعه للسلطة.
لقد نجحت حكومة حزب الوفد في حل أول اتحاد للعمال في مصر، ولكن ذلك لم يقضِ على الحركة النقابية، فظلت تصارع من أجل إعادة بناء اتحادها، حتى اقتربت من ذلك في 1952، ولكن أجهضت التجربة على أيدي سلطة يوليو، التي صادرت الحركة النقابية وامتدت سيطرتها عليها لنصف قرن، حتى بدا أنه لا مفر من تلك الهيمنة، ولكن الحركة العمالية فاجأت خصومها وأصدقاءها على السواء بأنها لازالت قادر على السير في الطريق الذي بدأته قبل مائة عام. ومهما كان ما آلت إليه تجربة النقابات المستقلة والظروف التي مرت بها، فإنها أثبتت أن عقود الملاحقة والمصادرة والمنع ستصبح في وقت ما مجرد سطر في تاريخ الطبقة العاملة.