عدد 18-عن الفقد والافتقاد

رياض حمّادي

الفقد في نماذج من الأفلام

2020.11.01

الفقد في نماذج من الأفلام

يظهر أثر الفقد أكثر في موت الأعزاء؛ لأن من يرحلون لا يعودون. ليس شجارًا بين صديقين أو عزيزين ستصلحه الأيام، أو كسرًا سيجبره الزمن. الموت رحلة ذهاب أخيرة تترك ندبًا في قلب المحب، ولا تبقى سوى الذكريات، لكنها غذاء مؤلم أحيانًا. ولما كانت السينما مرآة للواقع فسنجد صورًا متعددة للفقد وللأثر الذي يخلفه في النفوس. سيقرأ هذا المقال نموذجين للفقد: الأثر الذي يتركه موت الأبناء في نفوس الآباء، وموت الآباء في نفوس الأبناء؟ وهل للموت جانب جمالي يمكن أن يعزينا؟

موت الآباء

فيلم «بعلم الوصول» فبراير 2020، هو أول فيلم روائي لمؤلفه ومخرجه هشام صقر، يعالج مشكلة الاكتئاب التي سنظنها، للوهلة الأولى، حالة نسائية، لكن الأحداث ومشهد الختام تكشف عن بُعدها الإنساني.

تمر هالة (بسمة) باكتئاب شديد يدفعها إلى محاولة الانتحار. يفتتح الفيلم بمشهد خروجها من الحمام ثم عودتها للنوم. يستيقظ زوجها خالد (محمد سرحان) ويكتشف غياب الدواء فيسألها «أخذتيهم؟!» ما يشير إلى أنها ليست المحاولة الأولى، كما أن ما تعاني منه ليست محطة مؤقتة تسمى «اكتئاب ما بعد الولادة». فحواراتها مع زوجها تكشف عن رحلة علاج طويلة؛ مرت بالمشايخ والقرآن واقتراح الذهاب لطبيب نفسي، لكن دون جدوى. تعيش هالة مع زوجها وطفلتها حديثة الولادة في بيت ضيق، وهي ترغب في بيت به شرفة واسعة والذهاب إلى البحر، هكذا ترى هالة علاجها. لكن سنكتشف أن السبب الحقيقي لاكتئابها هو موت والدها، وأن الأثر الذي تركه موته عميق، ولا تملك هالة علاجًا له سوى التعامل معه، وهذا ما تكشف عنه في آخر سطور رسالة تقرأها في المشهد الختامي:

«ساعات بحس إني مخنوقة.. وإن مفيش مكان مكفيني. مش عارفة ازاي الأمل قادر إنه يموتنا ويحيينا في نفس اللحظة.. يمكن عشان الأمل والانتظار ملازمين لبعض، بنعيش بالأمل، وبنموت من الانتظار. مش عارفة ازاي الواحد بيبقى جاهز إنه يواجه الحياة بتغيراتها! أصل الصبر طاقة.. يمكن دي تبقى غيامة في حياتي وهتعدي، بس أنا عارفة إن اللي هتسيبو جوايا عمره ميهروح، وبعود أفكر نفسي دايما إن الخوف من الظلمة مبيفضلش؛ لأن الظلمة نفسها مبتفضلش».

من الفرد إلى الإنسان

تصعد هالة إلى سطح العمارة، ولوهلة نظن أنها ستلقي بنفسها، لكنها تنظر إلى المنازل ثم تلقي بالرسالة في الهواء، في إشارة إلى تبليغ الناس بالأمل الكامن في سطورها. كانت هالة قد تلقت عدة رسائل من امرأة مجهولة تشبهها، تحكي لها عن معاناتها، وفي هذا إشارة إلى أن هالة ليست الوحيدة، وأن ما تعاني منه ليس حالة فردية. جارتها منى (بسنت شوقي) هي الأخرى تعاني، لكنها تكبت معاناتها ثم تكشفه لهالة في لحظة غضب. 

لا تكشف أحداث القصة عن تفاصيل العلاقة بين الأب وابنته سوى من جانب واحد مشترك؛ هو الرسم. تطلب منها أختها نعمة (رفل) أن تحدثها عن أبيها، الذي ولدت بعد موته بأربعة أشهر، فلا تملك هالة ما تحدثها به. ما يهم ليس تفاصيل العلاقة بل أثرها، ومن الأثر الذي خلفه موت الأب على ابنته نكتشف مدى قربهما وحبهما.

سبب آخر لاكتئاب هالة هو عدم إحساسها بالأمان الذي تُعبر عنه بالكوابيس التي تراها في المنام، عن اختفاء زوجها والبحث عنه. يتحقق هذا الكابوس في الواقع بسجن زوجها بسبب غلطة مالية ارتكبها في وظيفته في البنك. غياب الزوج سيكون مدعاة لعودة هالة إلى بيت والدها لتعيش مع أمها وأختها، وعودتها إلى وظيفتها القديمة كمُعلمة في مدرسة. انشغالها هذا سيساعدها على التخفيف قليلًا من حالتها. نهاية الفيلم مفتوحة على الأمل، على نحو ما تكشفه كلمات هالة الأخيرة.

حياة خضراء يابسة

المشترك بين هذا الفيلم وفيلم «أخضر يابس» 2016، لمؤلفه ومخرجه محمد حماد، أن موت الأب هو المحرك للأحداث من وراء القصة. لكن لموت الأب في فيلم حماد جانب شكلي اجتماعي. ومشترك آخر، بين الفيلمين، هو قدرة المرأة على المواجهة والاستمرار. وهذا ما تفعله إيمان (هبة علي) التي تعيش وتُعيل أختها الصغيرة نهى (أسماء فوزي). 

فيلم «أخضر يابس»، يتسم بإيقاع هادئ. يُصوِّر أسبوعًا في حياة أختين وحيدتين. إيمان ونهى تستعدان لزيارة خطيب الأخت الصغرى، ولأن العادات تقتضي وجود رجل في البيت، تحاول الأخت الكبرى إقناع أحد أعمامهما بحضور الخطبة، لكن يخذلها الثلاثة.

قد يُشكِّل غياب الرجل أزمة في حياة المرأة، لكن قطار الحياة يمضي ولو ببطء سلحفاة. الرجل ضرورة بالنسبة للمرأة كما تقضي العادات والتقاليد، التي وجدت المرأة نفسها منقادة إليها. تعابير إيمان وأختها نهى خليط من الحزن والرتابة واللامبالاة، لسان حالهما يقول: لم يعد هناك ما يستحق الغضب من أجله. نبات الصبّار بأنواعه المختلفة الذي يظهر في أول مشهد، يستشرف صبر إيمان الطويل وأملها في الزواج. القطار الذي تستقله في رحلتها اليومية من البيت للعمل، هو قطار العمر الذي يمضي. والسلحفاة، وهي تحاول الخروج من محبسها الضيق ثم انقلابها على ظهرها ومحاولتها للعودة إلى وضعها الطبيعي يرمز إلى بطء الحياة والروتين اليومي، وهو ما يتسق مع إيقاع الفيلم الهادئ. غشاء البكارة الذي تتخلص منه إيمان بإصبعها بعد بلوغها سن لا يسمح لها بالإنجاب. كان الغشاء ملكًا للزوج، لكنه الآن أصبح ملكها، ولها حرية التصرف فيه.

الحياة- كما تظهر في الفيلم- قاسية، لكن إيمان قادرة على التعامل معها بصبر، ولا يبدو أن لموت الأب أي أثر سلبي، إلا حين تحتاج إلى رجل يقف معهما في أثناء خطبة أختها، كما تقتضي التقاليد الاجتماعية. تذهب إيمان إلى عمها محمد الذي يرفض حضور الخطبة بتحريض من زوجته، ثم تذهب إلى عمها أشرف فيرفض هو الآخر بحجة سفره، أما عمها الثالث المريض فيوافق على الحضور لكن حالته الصحية تتدهور فينقل إلى المستشفى. ثمة حاجة أخرى للرجل تعبَّر عنه بانقطاع دورة إيمان الشهرية، وهي حاجة شكليَّة تتعلق بالخصوبة والرغبة في الإنجاب وتأخر قطار الزواج. 

تعكس ألوان الكادرات رتابة الحياة والحالة النفسية لإيمان وأختها. والتعبير البصري عن الصبر ظهر من خلال أنواع مختلفة من نبات الصبار، في شرفة البيت الذي تسقيه إيمان، والتعبير البصري عن البطء الشديد ظهر من خلال السلحفاة في أكثر من كادر. أما الروتين اليومي ورتابة الحياة فعبر عنه القطار الذي تستقله إيمان في ذهابها وعودتها من وإلى محل الحلويات الذي تعمل فيه. الحياة قاسية ورتيبة، خضراء ويابسة، لكنها تمضي كما يفعل القطار كل يوم. الصبار أخضر، لكنه في الظاهر يابس، وإيمان تشبه الصبار، فهي من الداخل خضراء، لديها القدرة على الإنجاب لكنها لا تزال عذراء، وعلى وشك أن تفقد خصوبتها. وكالصبار أيضًا، تحتاج إيمان إلى من يسقيها.

موت الأبناء

الموضوع الرئيسي في فيلم «مانشستر قرب البحر Manchester By The Sea» نوفمبر 2016، يدور حول أب فقد أطفاله نتيجة حادث حريق، وقد أثَّر هذا الحادث على حالته النفسية. الفيلم من إخراج كينيث لونرجان، مخرج وكاتب العديد من الأفلام أشهرها: (عصابات نيويورك) 2002. بعد حادث احتراق منزله وموت أطفاله يغادر لي (كاسي أفليك) إلى بوسطن. لقد أصبحت مانشستر بالنسبة له مقبرة كبيرة لا يستطيع الوجود فيها طويلًا، فكل لحظة يقضيها هناك عذاب لا يطاق. ونظرات الشفقة والاتهامات بالتقصير والمسؤولية من قبل الناس تجعله عدائيًّا وعنيفًا. 

بعد الحادث ينفصل لي عن زوجته براندي (ميشييل أدامز)، وذات يوم يلتقيان مصادفة. براندي تجر عربة فيها طفلها ديلان، من زوجها الثاني. تدعوه لتناول الغداء، وتعتذر منه لأنها اتهمته بالتسبب في مقتل أطفالهما. تقول له: «قلبي كان مكسورًا وقتها وسيظل مكسورًا للأبد، وأعرف أن قلبك مكسور أيضًا...». وتخبره أنها لا تزال تحبه، على الرغم من أنها أنجبت من زواجها الثاني. كلام «لي» في هذا المشهد مقتضب؛ فليس هناك ما يمكن أن يقال، ثم إن أي كلام لا يمكنه علاج ما حدث واستعادة ما فات.

جرح لا يندمل

الحاجز النفسي بين «لي» وزوجته راندي، بعد موت أطفالهما، لا يظهر في الحوار فحسب وإنما في لغة الصورة ولغة الجسد كذلك. التعبير عن هذا الصدع يظهر في الكادر المقسوم إلى قسمين بالجدار في الخلفية، ليُلمح إلى أنهما يعيشان في عالمين منفصلين. وضعُ «لي» يديه في جيبيه يناسب كلامه المقتضب وميله إلى الصمت والتحفظ، ويعبر عن القيد الذي كبله بعد الحادث.

ترشحت ميشيل أدامز عن هذا المشهد لأوسكار أفضل ممثلة مساعدة. كما فاز كاسي أفليك بجائزة أفضل ممثل. دور أدامز قصير، إلا أن أداءها في هذا المشهد كان مؤثرًا. دورهما كأب وأُم يفقدان أطفالهما في حادث حريق هو مدعاة لتعاطف المتفرج، لكن اختفاء راندي من أحداث القصة وزواجها وإنجابها بعد الحادث جعل المتفرج يتعاطف أكثر مع لي الذي لم يتمكن من نسيان ما حدث، على الرغم من أنه يعيش في مدينة أخرى. موقف الإنصاف الذي منحته راندي لـ«لي» ضاعف من صورته كضحية، وهذا مدعاة للخلط بين «لي» الضحية وبين كاسي الممثل.

تعاطُف المتفرج مع الشخصية هو نوع من التماهي يسهم فيه أداء الممثل بقدر كبير. لكني أرى أن التعاطف نفسه كان سيحظى به أي ممثل آخر؛ ذلك أن القصة تفرض تعاطف المتلقي معها، ولا يحتاج الممثل إلى قدرات استثنائية إلا في القصص التي تتطلب إقناعًا لا تعاطفًا، كما فعل دينزل واشنطن في فيلم السياج (Fences 2016)، وأندرو جارفيلد في فيلم Hacksaw Ridge 2016.

يشترك فيلم «مانشستر قرب البحر» وفيلم «جمال جانبي» «Collateral Beauty»، في موضوع واحد؛ هو موت الأبناء الذي تناولاه من منظورين مختلفين. المنظور العاطفي، في فيلم «مانشستر قرب البحر»، أدى إلى تعاطف الجمهور مع القصة، وربما يكون المنظور العقلاني أو الفلسفي في فيلم «جمال جانبي» سببًا في عدم تعاطف الجمهور معه، بالإضافة إلى اختلاف أسباب الموت في الفيلمين.

فلسفة الحياة والموت

شغلت فكرة فيلم «جمال جانبي» آلان لوب لسنوات قبل أن يكتبها في سيناريو قام بإخراجه ديفيد فرانكل؛ وعُرض في ديسمبر 2016. البطولة هنا ليست للنجوم، العديدين الذين شاركوا في هذا الفيلم، ولكنها للفكرة الفلسفية ودلالاتها العميقة التي ربما أقنعتهم بالمشاركة فيه، على الرغم من أن أدوارهم ليست كبيرة. للنجوم دور أساسي في الترويج للأفلام. مع ذلك لا الفكرة الفلسفية ولا شهرة النجوم، استطاعت رفع تقييم الفيلم جماهيريًّا ونقديًّا. فوفقًا لموقع «روتين توماتوز» (Rotten Tomatoes) أشاد النقاد بمعنى الفيلم، لكن عيبه الأساسي أن «طموحه في السمو انهار بفعل الصخب غير المقصود»!

في كثير من الأحيان لا تحظى الأفلام الفلسفية بنجاح نقدي وجماهيري. كما أن الفكرة قد تتغلب على أداء النجوم. البناء السردي في هذا الفيلم يقوم على طبقتين: القصة، ودلالاتها الفلسفية. ولأن قصة موت الأبناء مكررة فقد طُعِّمت بالنجوم؛ ربما تعويضًا لأولئك الذين يميلون للمواضيع البسيطة ولا يريدون أو لا يستطيعون النفاذ إلى أعماق الطبقة الثانية.

يبدأ الفيلم بـ «لماذات» كثيرة يلقيها هاورد (ويل سميث) على أصدقائه الموظفين في شركة الإعلانات التي يديرها ويملك أغلب أسهمها. أسئلة تتعلق بأسباب وجودنا في الحياة. ويلخص هاورد كل الإجابات في ثلاث كلمات تجريدية: الحب، الزمن، الموت. ويضعها في جُملٍ قصيرة معبرة:

«لسنا هنا لنبيع الإعلانات.. نحن هنا لنتواصل.. فجوهر الحياة هم الناس.. الإعلان فقط يلقي الضوء على الكيفية التي تُحسِّن بها منتجاتنا وخدماتنا حياتهم.. ونحن نفعل ذلك من خلال: الحب، الزمن، الموت. نتوق للحب، ونأمل لو أن لدينا زمنًا كافيًا، ونخاف الموت».

بعبارة أخرى: نحن هنا؛ لأننا نبحث عن الحب، ونخشى أن يداهمنا الموت قبل أن نجد الحب. هذا المشهد الافتتاحي، مدته دقيقة ونصف، سيكون الأرضية التي تُبنى عليها القصة. حركة الكاميرا حول هاورد وهو يعيد نطق الكلمات الثلاث ستقسم القصة إلى مرحلتين: الأولى سعيدة، والأخرى كئيبة. في الأولى شاهدناه وهو يضحك ويمزح أمام موظفيه، وفي الثانية شاهدناه وسط قاعة فارغة وقد غزا شعره البياض وعلى وجهه الحزن والكآبة.

للكاميرا استعمالات دلالية وجمالية، وإدارة الكاميرا، حركتها وزواياها، هي واحدة من ثلاثة أدوات أو تقنيات تسهم في تشكيل رؤية المخرج أو فكرة الفيلم. والشواهد التالية تثبت حِرفية المخرج في إدارته لهذه الأدوات. دوران الكاميرا حول موضوع، شخص أو شيء، هي تقنية تكتسب دلالاتها في سياق المشهد ومضمون القصة، أما دلالتها هنا فتعبير بصري يرمز لحركة الحياة، دورانها وتقلبها.

الكاميرا تترجم الكلمات إلى صور متحركة. ودورانها حول هاورد يُعبِّر عن تكثيف الزمن - اختزال ثلاث سنوات في واقع القصة إلى عدة ثوانٍ في الواقع المرئي، البصري. ولم تَظهر عبارة «بعد ثلاث سنوات» مكتوبةً إلا وقد أدت الكاميرا دورها البصري في اختزال الزمن وتكثيفه. وظهور العبارة من قبيل توضيح كم من الزمن قد مر. مقارنة هذه الحركة مع أخرى مشابهة في المشهد الأول من فيلم مونلايت، نوفمبر 2016، تكشف عن توظيف دلالي وجمالي في الأولى، وعن استعمال جمالي فحسب في فيلم مونلايت.

بعد هذا الانقلاب سيسأل المتفرج: ما الذي حدث؟!

في المرحلة الأولى كان هاورد يرى أن «الحياة هي الناس...»، وبعد موت ابنته، مات كل شيء فيه. انتهت علاقته بالناس، وأصبح يتعامل مع المعاني المجردة بشكل مختلف. استعمال الكاميرا الرمزي لهذا الانقلاب تمثل في مشهد إسقاطه آلاف من أحجار الدومينو، قضى في ترتيبها خمسة أيام، واقتضى هدمها لحظات معدودة. بهذه اللعبة، التي أصبحت نشاطه الوحيد، يحاول هاورد استعادة الزمن أو إيقافه عند تلك اللحظات التي كان يقضيها في اللعب مع ابنته.

اهتمامه بالمعاني المجردة أتى على حساب عمله وحياته، مما تسبب في هبوط أسهم الشركة. وانشغاله بالموت دفعه إلى تجسيد المعاني المجردة وتوجيه رسائل غاضبة للحب وللزمن وللموت. تحوَّل الحب إلى كره، والزمن إلى فائض فارغ، والخوف من الموت إلى توق إليه. 

تعبير الصورة عن هذا التحول تمثل في صمت هوارد وامتناعه عن الأكل وقيادته الدراجة بسرعة، عكس اتجاه السيارات. أملًا في الموت، أصبح هاورد على وزن «كاوَرد»، جبانًا أمام الحياة وشجاعًا في مواجهة الموت. لكن شجاعته لم تدفعه للانتحار؛ فهو لا يرغب في أن يتدخل في عمل الموت ويأمل أن يختطفه مثلما اختطف ابنته.

لعبة المجردات

مقابل لعبة الدومينو والرسائل يخطط أصدقاء هاورد للعبة، أو لفكرة جامحة، فيقومون بتجسيد المعاني المجردة لكي ترد على رسائل هاورد. تقوم الفكرة على أساس النفاذ إلى عالم هاورد التجريدي ليسهل عليه اكتشاف ما يعانيه بنفسه بدلًا من محاولة علاجه من الخارج. يشرح ويت (إدوارد نورتن) الفكرة بمقطع فيديو لمُعلِّم غاضب في قاعة الدرس، يدخل عليه وحش غاضب ليُريه صورة غضبه فيتخلى المعلم عن غضبه بعبارة: «وداعًا أيها الغضب». يختم ويت عرضه بالقول: «لا نستطيع أن نجعل هاورد يتعامل مع الواقع الذي نريد أن نفرضه عليه، فلماذا لا ندخل إلى عالمه...؟»

الهدف من فكرة تجسيد المجرد هو إنقاذ هاورد وإنقاذ الشركة من الإفلاس والموظفين من التسريح، لكن في الأخير يتم إنقاذ الجميع. يتجسَّد الموت والزمن والحب فيعيدون إليه رسائله، يخبرونه أن أجله لم يحن، وأن لديه الوقت الكافي لأن يستأنف الحياة. بعد هذا التدخل يبدأ هاورد بالتغير التدريجي، فيذهب إلى المطعم لتناول الطعام، ويحضر جلسات تأهيل الآباء الذين فقدوا أبناءهم، وهناك يمنحه الزمن فرصة ليجدد حياته وحبه الأول.

في هذا النوع من القصص يسهل توقع النهاية: نهاية سعيدة يعود فيها هاورد إلى مرحلته الأولى. لكن يظل هناك احتمال لكسر التوقع بنهاية مفتوحة أو بمفاجآت غير متوقعة. وهذا ما حدث عبر ثلاث مفاجآت. أولها الكشف عن طبيعة العلاقة بين هاورد ومادلين. والثانية بكشف شخصية المرأة في مشهد بريجيت (هيلين مايرن) ومادلين (نعومي هاريس) عند موت طفلتها أوليفيا. 

قُسِّم هذا المشهد إلى منظورين: في الأول حُجبت المرأة التي تتحدث مع مادلين لنتوهم أنها شخصية حقيقية، ونكتشف في المنظور الثاني أنها الموت متجسدًا في شخصية بريجيت. الهدف من هذا المشهد هو إظهار أن الموت ليس شخصية حقيقية وإنما معنى مجرد تم تجسيده ليُعلِّم مادلين وهاورد وسيمون قيمة الجمال الجانبي. المشهد الأخير يدعم هذا الهدف عبر منظورين: من منظور هاورد تظهر شخصيات المعاني المجردة على الجسر، ومن منظور مادلين تختفي. ومن منظور محايد/المتفرج، هناك لقطة للجسر تُظهر تلك الشخصيات ولقطة أخرى وقد اختفت.

سبق المنظور الثاني -للمشهد بين بريجيت (الموت) ومادلين- لقطة لأحجار الدومينو وهي تنهار في حركة حلزونية، عكس اتجاه عقارب الساعة، لتذكرنا بدوران الكاميرا حول هاورد في المشهد الأول، تليها لقطة لمجموعة أخرى من أحجار الدومينو على شكل بساط لتتماهى مع لقطة لرواق المستشفى حيث تجلس مادلين وإلى جوارها بريجيت. والمقارنة بين اللقطتين تكشف عن عودة الزمن والحياة إلى طبيعتها الأولى.

الطريقة التي جسدت بها المعاني المجردة، باتفاق جماعي من قبل أصدقاء هاورد مع ممثلين في المسرح، تتصادم مع الهدف السابق. والعبارة المضللة التي قالها هاورد: «تظنون أني لم ألاحظ»، تتعارض مع ما قاله لرئيس مجلس الإدارة في مشهد الاجتماع. كما أن حواره مع الموت والزمن والحب في أماكن عامة يمكن كشفه والتأكد من كونها شخصيات حقيقية وليست معانٍ مجردة. لعل الهدف الأخير هو إضفاء الغموض حول الشخصيات التي جسدت المعاني المجردة: مجردة تم تجسيدها أم مجسدة تم تجريدها؟! مع ذلك فهذه الطريقة لم تنجح في تحقيق هذا الهدف تمامًا، إلا أنها نجحت في إيصال دلالات التجسيد والتجريد.

هذا النوع من الأخطاء في الصياغة «حوادث تقع في أثناء عملية التنفيذ، ولا تنتمي قط إلى ذلك الخطأ»، الذي يهدر كرامة الفنان، وهو عدم التشبع بالفكرة. هذا الخلل جعل الفكرة تطغى على شعور التعاطف، إضافة إلى أداء النجوم قياسًا إلى نجوميتهم، وهو ما جعل الجمهور يتوقع الكثير منهم، وكلها عوامل أسهمت في إضعاف الفيلم.

الجانب المضيء للموت

تمكنت مادلين من إقناع هاورد بوجود الجمال الجانبي، وهذا ما لم تفعله براندي في فيلم «مانشستر قرب البحر»، لكن الجمال الجانبي لم يحضر إلا ثانويًّا في شخصية الأم براندي (ميشييل أدامز)، فبعد كارثة موت أطفالهما في الحريق، وعلى الرغم من حزنها وقلبها المكسور، فإنها تزوجت وأنجبت من جديد، خلافًا لـ«لي» الذي قضت عليه الكارثة تمامًا. لأنه يشعر بمسؤوليته عن قتل أطفاله، وظل هذا الشعور ينغص عليه حياته حتى أصبح جسدًا بلا روح، أما هاورد فلم يكن مسؤولًا عن موت أوليفيا، لأنها ماتت بسبب السرطان.

للموت وجه آخر يُلمح له عنوان الفيلم ويشير إليه المضمون. الموت متجسدًا في شخصية بريجيت هو الذي يحث على الحياة. الموت هنا ليس نقيضًا للحياة، فقد يكون ملازمًا لها، عندما تموت الروح ويعيش الإنسان بجسده ولجسده فحسب، كما هو حال هاورد وويت وسيمون وكلير. تتحقق الحياة بغياب الموت في شكله الروحي، أما موت الجسد فهو شكل آخر للحياة كما قالت إحدى الأمهات عن طفلها المتوفى: «أحيانًا أُفكر في آدم وهو يركض خلال حقول جميلة من الزهور وهو في غاية السعادة ومنغمس كليًّا فيما يفعله..». 

الخوف من الموت يمكن أن يكون دافعًا لحب الحياة، كما عبَّر هاورد قبل موت ابنته. موتها أصاب روحه في مقتل، فَكَرِه الحياة. المعادل الموضوعي لموت ابنة هاورد هو موت علاقة التواصل بين ويت وابنته، بسبب انفصاله عن أمها. لكن هاورد يقدم له العلاج بقوله: «لا تحتاج إلى إذن منها لتكون أبًا لها». وسيمون (مايكل بينا) يعاني من موت روحي جعله يقضي وقته في انتظار موته الجسدي. وانشغال كلير (كيت وينسلت) بالعمل أنساها حياتها الخاصة، ومرور السنين جعلها تشعر بفوات الأوان كي تحظى بأمومتها. هذه كلها أشكال لموت الروح قبل موت الجسد.

«الجمال الجانبي» لا يتجلى في الحياة، فجمالها أساسي، ولكن في الموت، «فلا شيء يموت حقًا إن تمعنت فيه جيدًا»، كما قالت بريجيت لسيمون. وهذا ما لم يدركه هاورد وهو يرفض الاعتراف بموت ابنته، وما لم يدركه سيمون وهو يتظاهر أنه بخير. وقبولهما في النهاية يفتح بابًا للجمال غير المباشر للموت.

يتجلى هذا الجمال في تقَبُّل موت الآخرين واستئناف الحياة، أما الموت المرادف للنسيان فغير ممكن، وهذا ما تقوله مادلين لهاورد: «لقد فقدتَ طفلة يا هاورد، ذلك غير قابل للشفاء»، والمضمر في قولها: لا ينبغي أن يكون موت أوليفيا مدعاة لموتك أنت أيضًا. استئناف الحياة لا يمكن أن يتم بمعزل عن الاعتراف بالموت. والموت إذ يطلب منا تقبله، لا يريد أن نقابله بالضحك، بقدر ما يريدنا أن نتوقف عن البكاء.

تقبُّل موت الأبناء منح الآباء فرصة اكتشاف «الجمال الجانبي»، وهو ما جعل مادلين تقول لهاورد: «يومًا ما سأذرف دموعًا غزيرة، تلك الدموع لن تكون دموع أوليفيا، بل ناتجة عن شيء آخر، من هذا النوع من التواصل العميق مع كل شيء.. أدركتُ أنه (الجمال الجانبي).. وهذا لن يعيد ابنتي إليّ ولن يصبح الأمر على ما يرام على الإطلاق، ولكنني أعدك أن ذلك النوع من الجمال موجود».

اختيار موت الأبناء ليكون موضوعًا لاكتشاف هذا الجمال هو أحد الجوانب الذكية في الفيلم. اكتشاف هذا الجمال لم يكن ليتم إلا بموت الأبناء/الأطفال، لا بموت الآباء؛ فهؤلاء قد أخذوا نصيبهم من الزمن ووقعوا في الحب. موت الأبناء يعمق هذه المعاني؛ لأنهم لم يأخذوا نصيبهم من الزمن ليقعوا في الحب ولم يعرفوا معنى الموت ليخافوا منه.

تجسيد معاني الحب والزمن والموت في صورة ممثلين مسرحيين ومغادرتهم المسرح وانغماسهم في حياة الناس يدلل على أن الفن هو المعبر عن المعاني التجريدية وعلى دوره في إنعاش الروح. واشتراط الموت والزمن أخذ مقابل مالي لقاء أداء الدورين، ورفض آمي (كيرا نايتلي) التي تجسد دور الحب- أخذ مقابل، يدلل على أن الزمن والموت يأخذان أما الحب فيعطي. ويعبر فشل آمي في مهمة التمثيل أو في إقناع هاورد عن أن الحب لا يجيد الكذب.

المعاني المجردة وقد تجسدت لا تعالج هاورد فقط وإنما تعالج ويت وسيمون وكلير ومادلين. هؤلاء أيضًا لم يكونوا في حالة ذهنية سليمة كما قال هاورد: «من الواضح أنني لست في حالة ذهنية صحيحة، ربما لا أحد منا كذلك». وتوجيه الموت كلماته إلى الكاميرا عبر بريجيت لحظة لقائها هاورد هو خطاب للمتفرج. يقول سيمون للموت، وقد تقبَّل مرضه العضال: «عندما كنتُ صغيرًا كنت أقول لنفسي: هل تودين حقًا أن تعيشي ليصبح عمرك مئة عام؟ وتذبلين مثل زبيبة!»، ابتسامته وجوابه على السؤال بـ «نعم» يدل على تفاؤل بقهر المرض والرغبة في الحياة. 

ويقول الزمن لكلير: «ستكونين أُمًا جيدة يومًا ما». ترد كلير بما معناه: لقد فات الأوان. فيرد الزمن: «أتعلمين يا كلير، ليس على أطفالك أن يأتوا منك بل من خلالك». لقطة كلير وهي تتصفح مواقع الأسرة على الإنترنت تُظهر صورة لأم مع طفلها مع عبارة «حان الوقت لتنمو شجرة عائلتك» تشير إلى أن الوقت لم يفت. واللقطة الأخير لهاورد ومادلين وهما يمسكان بأيدي بعضهما، تشير إلى استعادة حياتهما الطبيعية.

هذا الجمال الكامن في الموت، بمعانيه السالفة، صاحبه نوع من المرح -في بعض المشاهد- فُهم على أنه صخب أو شرخ أدى إلى سقوط المعنى العميق للفيلم! والحال أن المرح هو انعكاس للجمال الجانبي، والمعنى العميق كان سيسقط لو اتخذ الفيلم طابع الجد والتجهم. وعلى كلٍ، في حال اعتباره عيبًا مضافًا إلى الخلل سالف الذكر، فهذا لا يقلل من أهمية الفيلم إلا في نظر من يقيِّمون الأفلام بناءً على إعلائهم من للسلبيات وتقليلهم من أهمية الجوانب الإيجابية.