الحركة النسوية المصرية
سارة عابدينالفن النسوي كيف حررت النسوية المرأة والرجل ووسعت معنى الفن
2021.08.01
تصميم آخرون
الفن النسوي كيف حررت النسوية المرأة والرجل ووسعت معنى الفن
بقدر ما تكون تطلعاتنا الجسدية مختلفة، لها في نهاية الأمر خطوط عريضة. كانت هذه الصورة أكثر وضوحًا عبر التاريخ في الصور التي رسمها الفنانون. من هنا تبرز حقيقة أساسية لا مفر منها، وهي أن المثل العليا للجمال التي يطلب من النساء تجسيدها، بغض النظر عن الثقافة أو الجغرافيا، قد صاغها الرجل بشكل حصري تقريبًا. بالرغم من أن الجمال نسبي ومتغير، إلا أن النساء اتبعت تاريخيًّا نمطًا جماليًّا وضعه الذكور. في جميع صور ولوحات النساء تقريبًا يكون الضعف أو السلبية هي القاعدة، سواء ظهرت في صورة ليونة أو عضلات متوارية أو بدانة ودعة. بالإضافة إلى شكل الساعة الرملية التي تذكرنا دائمًا بأن الأنوثة ساعة نحاول تجميدها في لحظة الشباب.
في العقود الأخيرة تغيرت القوى التي تشكل المثل العليا للجمال الجسدي الأنثوي بشكل ملحوظ، إذ بدأت النساء أنفسهن في إعادة تعريف المثل العليا التي يطمحن إليها، مع الأخذ في الاعتبار الطرق التي تغير بها مفهوم الجمال على مدار قرون، ووجود نسخ من الكمال التي يطمح الجميع إليها، ويمكننا أن نأخذ ثلاثة أمثلة من تاريخ الفن القديم لشكل الجمال الكامل:
تمثال الملكة نفرتيتي مصر 1350 ق.م
يظهر الكحل الكثيف حول عينيها، وحاجبيها المزججين، وشفتاها الملونتين بالحمرة عن رغبة كبير في التزين، بالإضافة إلى أهمية المجوهرات والألوان القوية، واللون الأسمر والعيون الداكنة كمثال للجمال.
تمثال أفروديت اليونان 350 ق.م
نحتها في الأصل النحات اليوناني براكسيتيل نحو 350 ق.م ويوجد منها عدة نسخ، وهي تجسد الجمال الأنثوي عند الإغريق الكلاسيكيين. يشير جسدها الناعم المستدير إلى الخصوبة وإمكاناتها الواهبة للحياة.
بنات البيكيني القرن الرابع الميلادي
جزء من فسيفساء عُثر عليها في فيلا رومانا ديل كاسالي بصقلية في أوائل القرن الرابع. تقدم فتيات البيكيني كما يُعرفون احتفالاً رياضيًّا، بأجساد رقيقة مرحة تختلف عن الصورة الإغريقية الكلاسيكية لجسد المرأة.
تمثال بارافاتي الهند
عادة ما تتمتع تماثيل بارافاتي بفخذين عريضين، وثديين وافرين، وشفتين ممتلئتين، لكن رغم جاذبيتها، فإنها لا تمثل الجاذبية الجنسية بالأساس بل تمثل الرشاقة والقوة.
ما قبل عصر النهضة
منذ العصور الوسطى، ارتبط علم الشياطين أساسًا بالأنوثة. استند تحديد النساء على أنهن أكثر عرضة للسحر من الرجال إلى المعتقدات في التقليدية المعادية للمرأة لما كان يُنظر إليه على أنه طبيعة أنثوية أساسية. عززت محاكمات السحر المناقشات حول قضايا النوع الاجتماعي وأثرت على الفنون البصرية، بما فيها فن الجرافيك في عصر النهضة، وخاصة في شمال أوروبا، كان السحر الأنثوي موضوعًا شائعًا، كما يتضح من النقوش والرسومات الخشبية لألبريشت دورر وهانس بالدونج جرين. في هذه الأعمال، صورت المشعوذات القبيحات في مجموعة متنوعة من الأفعال الخارقة للطبيعة، وغالبًا ما تمثل عارية أو عارية جزئيًّا.
تعايش الإدراك المتزايد لضرورة إعادة تعريف الأدوار الاجتماعية للإناث مع ظواهر مثل هيمنة الذكور وكراهية النساء ومطاردة الساحرات. في الفنون البصرية في عصر النهضة والباروك، التي صنعها الرجال في الغالب، تظهر الشخصيات النسائية في كثير من الأحيان أقل من الرجال بغض النظر عما إذا كانوا الشخصيات المركزية أم لا. بالإضافة إلى التفوق العددي للرجال، فصوروا غالبًا في مواقع مهيمنة ومركزية في اللوحات.
جاء فن عصر النهضة مرآة لواقع المجتمع. وبدلاً من التصوير الدقيق، أظهر تصوير النساء في الفن، القيود التي كان عليهن مواجهتها خلال عصر النهضة، بما في ذلك التلاعب بصورهن من قبل فناني ذلك الوقت. الأيقونية التي أضفاها الفن على نساء عصر النهضة تكشف العديد من التفاصيل عن النساء بما في ذلك وضعياتهن، والأنشطة التي يصورن خلالها. كل هذه التفاصيل سمحت للفنانين الذكور بالتلاعب بصور النساء تبعًا لأهوائهم.
أحد أكثر التفاصيل انتشارًا في تصوير النساء في فن عصر النهضة، هو تجنب وضع العيون في مواجهة المشاهد، يبدو ذلك واضحًا في لوحة ساندرو بوتيتشيلي "العذراء والطفل" ولوحة "مولد فينوس". العيون تنظر بعيدًا إلى ما وراء المشاهد، إلى شيء أبعد من ذلك. رسمها بوتيتشيلي بحاجبين رقيقين، وشعر أشقر متدفق، وجسم يحاكي معايير الجمال الخاصة بعصر النهضة. بالنظر إلى تصوير الرجال، نجد أن عيونهم تكون في مواجهة المشاهد، وتنظر مباشرة إليه، مع وضع الرأس بشكل مستقيم.
يبرر الاختلاف في وضع العين باعتباره انعكاسًا للظروف المجتمعية السائدة خلال عصر النهضة. تجسد هذه الرؤية بشكل مثالي فكرة أن فن عصر النهضة هو مرآة المجتمع المثالي أكثر من كونه تصويرا دقيقا للحياة اليومية.
تتجلى جذور عصر النهضة في الفن اليوناني والروماني في الصور الشخصية التي رسمت خلال هذا الوقت. يعرف الفن اليوناني والروماني القديم بكونها مجموعات شاملة لمعايير الجمال في ذلك الوقت، ما يجعل فن عصر النهضة مكافئًا أكثر حداثة له. كانت صور نساء عصر النهضة فرصة مثالية للفنانين الذكور لعرض مثلهم الجمالية والثقافية. ركز فنانو ذلك الوقت على الجمال الجسدي للمرأة وشددوا عليه ورسموا النساء لتلبية تلك المعايير، وهي الحواجب الرفيعة، والجبهة العالية والوجوه الشاحبة والأجسام المستديرة. تظهر هذه المثل في لوحة "سيدة باللون الأصفر" لأليسو بالدوفينيتي.
مثال آخر على معايير الجمال الخاصة بعصر النهضة، لوحة "فلورا" لتيتيان وهي صورة لامرأة تتمتع بشعر ذهبي داكن يتدلى على كتفها، ويظهر كتفها الأيمن وأعلى صدرها للمشاهد، ما يخلق إحساسا بالإثارة داخل اللوحة. النسيج المتقن الملفوف حول خصرها وحول كتفها يجذب عين المشاهد إلى صدرها المكشوف، لتعد تلك اللوحة مثالاً على اعتبار النساء عناصر شهوانية داخل فن عصر النهضة.
النسوية المبكرة
في نهاية عصر النهضة وعصر الباروك قدمت فنانات مثل لافينيا فونتانا وسوفونيسبا أنجيسولا رؤية مميزة للمنظور الفني الأنثوي في ذلك الوقت، وعززن صورة المرأة الأكثر حزمًا، وأصبحت النساء بطلات للوحاتهن. كان هذا واضحًا بقوة عندما ظهرت المرأة في اللوحات كشخصية عنيفة متحكمة مثل لوحة "جوديث تذبح هولفرينز" لأرتيميسيا جنتليتشي.
في تلك اللوحة تستند الفنانة إلى قصة في العهد القديم، حيث نجد الملاءات البيضاء قد سالت عليها الدماء، حين قامت جوديث وهي أرملة شابة من مدينة بيتوليا اليهودية بقطع رأس هولفرينز قائد الجيش الآشوري الذي حاصر مدينتها. قامت جوديث بتصفيف شعرها وارتداء أرقى ملابسها، وتسللت إلى معسكر العدو، فأعجب هولفرينز بجمالها ودعاها لتناول العشاء. كما يروي الكتاب المقدس نصًّا "كان هولفرينز مفتونًا بها حتى إنه شرب نبيذًا أكثر مما شربه في أي يوم آخر من حياته". وبعد أن نام في حالة من السكر ذبحت جوديث هولفرينز بمساعدة خادمتها أبرا كما ورد في الحكاية.
فسر النقاد النسويون الأوائل اللوحة باعتبارها شكلاً من أشكال الانتقام البصري، بعد اغتصابها على يد رسام المناظر الطبيعية أوجستينو تاسي. تظهر جوديث في اللوحة كامرأة قوية جسديًّا ومتحكمة نفسيًّا. يمكن ملاحظة الرؤية البصرية النسوية، عند مقارنتها بالتمثيل البصري لنفس القصة على يد الرسام كارافاجيو.
تكشف المقارنة بين اللوحتين فروقًا تظهر تطور مفهوم النضال الجسدي للمرأة، مثل كمية الدم السائل على الملاءات، والقوة الجسدية الواضحة لجوديث وخادمتها في لوحة أرتيميسيا. في لوحة أرتيميسيا "على اليمين" توجد الملاءات الملطخة بالدماء، في مقدمة اللوحة بالقرب من المشاهد. أما في لوحة كارافاجيو "على اليسار" نجده قد أبرز القوة العضلية لهولفرينز، عن طريق تسليط الضوء على جسده وأطرافه القوية. وتظهر لوحة كارافجيو جوديث بعيون متسعة من عدم التصديق، مع خادمة عجوز لا تبدو أكثر مساعدة، بينما في لوحة أرتيميسيا، تصور شابتين قويتين تعملان في انسجام تام، بنظرات واثقة. والبطلة في لوحة كارافاجيو تتراجع إلى الوراء، بينما في اللوحة الأخرى نجدها مقبلة على مهمتها حيث تضغط على رأس هولفرينز بيد، وتغرز السيف في رقبته باليد الأخرى. وتؤكد الرسامة على تلك القوة العضلية بإظهار تجاعيد معصمها بسبب الدفع القوي. لكن الفرق الأكثر وضوحًا بين اللوحتين هو طريقة تصوير الدم، إذ تركز لوحة أرتيميسيا على ذلك التفصيل بواقعية وقوة أكبر.
مع امتداد عصر الباروك لم يعد تقديم الشخصيات في اللوحات من نساء أو رجال يحدث بشكل مثالي كما كان قبلاً، بل ظهر اتجاه جديد في الهوية الجنسية، بعيدًا عن المثالية والرمزية، وأصبح التصوير يحدث بشكل أقرب للمحيط الواقعي بطريقة محايدة. واستمر ذلك الاتجاه مع فن عصر الروكوكو وتأكد مع بدايات الكلاسيكية الجديدة والواقعية، عندما أصبحت المرأة رمزًا للحرية في لوحات مثل لوحة يوجين ديلاكروا "الحرية تقود الشعوب" التي صورت فيها المرأة رمزًا للحرية والثورة والكبرياء.
الفن والجندر في القرن الثامن عشر والتاسع عشر
خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، كان هناك تحول تدريجي ولم تعد صورة المرأة ثابتة في الفن، وبدأ الفنانون في تناول قضايا خضوع الإناث والقمع المجتمعي وهيمنة الذكور. ظهرت تلك الفكرة في لوحة الفنان المستشرق جان ليون جيروم (1867) ويظهر فيها رجل يتفقد أسنان جارية عارية. انتقد جروم من خلال لوحته التحيز الجنسي والنظام الأبوي والتلصص والهيمنة الذكورية على النساء. مع تنامي الطبقة الوسطى في فرنسا، منحت المزيد من التقدير للفنانات مثل روزا ألبا كاريرا، وانتخبت كعضوة في أكاديمية رويال للفنون التي طالما هيمن عليها الذكور عام 1720. والفنانة إليزابيث فيجي ليبرون التي رسمت الملكة ماري أنطوانيت وأصبحت فيما بعد عضوًا في الأكاديمية الفنية الفرنسية، بالإضافة إلى أنجليكا كوفمان أحد الأعضاء المؤسسين للأكاديمية الملكية البريطانية.
بعد ذلك اختلف تمثيل النساء بشكل ما في اللوحات، وظهرت المرأة بصورة جديدة ومتنوعة، مثل الأم والحبيبة والمنتقمة خاصة في فنون الآرت نوفو من قبل فنانين ذكور مثل الرسام البريطاني أوبري بيردسلي. وفي لوحاتها عن الحرب سلطت الفنانة الأمريكية آنا ليا ميريت على المثالية الفيكتورية لعزلة الإناث والتقسيم المكاني بين الجنسين. كما ظهر اندماج الأدوار الجندرية، وفكرة العشق المتبادل بين الرجل والمرأة كما في لوحة القبلة للفنان النمساوي جوستاف كليمت.
رسم كليمت لوحة القبلة في لحظة حرجة من حياته المهنية، حين تلقى انتقادات لاذعة وصفت لوحاته بالإباحية، وكان قد انفصل للتو عن جماعة فيينا الفنية، على الرغم من كونه مؤسس الحركة ورئيسها الأول. وكانت أهم أهداف حركة فيينا قطع العلاقات مع أكاديمية الفنون الجميلة المحافظة. رسم فنانو الحركة "ما لا يجب أن يرسموه" رافضين إزالة العناصر الجنسية من لوحاتهم، ودارت أعمالهم حول اللمسات والعناق والقبل. بالرغم من ترك كليمت للحركة بسبب الخلافات بينه وبين أعضائها فقد بقي ممثلها الرئيسي. بعد انفصاله عن الجماعة نظم جوستاف كليمت معرضًا فنيًّا مع الفنان النمساوي إيجون شيلي. قوبل المعرض بانتقادات بالغة بالرغم من التفاعل الكبير مع اللوحة. واشترت حكومة فيينا العمل قبل انتهاء المعرض باعتبار الأمر مصلحة وطنية.
المدرسة الانطباعية والمرأة
كتب الناقد الفرنسي تيودور دي ويزوا عام 1891 "للمرأة حق ممارسة الفن الانطباعي لأنه أسلوب سطحي وأنثوي في جوهره، والمرأة وحدها يمكن أن تقصر جهودها على ترجمة الانطباعات. انضم نقاد آخرون إلى دي ويزوا ما قلل شأن الانطباعيين ورسخ صورة كون الانطباعية شكل فني يشير إلى القدرات المحدودة للمرأة، وليس المهارات الحادة للرجل".
لم يكن من السهل على النقاد أن يحبوا فناني الانطباعية، الذين أعطوا الأولوية لدراسة تأثيرات الضوء في أعمال صغيرة الحجم مرسومة في الهواء الطلق، بألوان غير ممزوجة وضربات فرشاة قوية وواضحة، بدلا من التطلع إلى رسوم تاريخية ضخمة كانت تعتبر وقتذاك ذروة الإنجاز الفني. جادل الانطباعيون بآرائهم التي لا تعد، ومن ضمنها أن الحياة الحديثة في حد ذاتها موضوع يستحق الدراسة والرسم. وساعد التركيز على الموضوعات اليومية على فتح الباب للفنانات، بعد أن منعت الفنانات بشكل ضمني من رسم اللوحات التاريخية الكبيرة، حين كانت المعرفة التشريحية ودراسة الجسم البشري ممنوعة بالنسبة للنساء، ودفعوا بقوة نحو رسم موضوعات أقل رسمية وأقل أهمية تتعلق بالحياة اليومية التي قام عليها جوهر الانطباعية التي أصبحت أولى الحركات الفنية التي تضمنت امرأة كعضو مؤسس فيها، وهي الفنانة الأمريكية ماري كاسات.
في ذلك الوقت من القرن التاسع عشر كانت حياة النساء ما تزال منغلقة، ولم تنته القيود المفروضة عليهن. منعت النساء غير المتزوجات من مغادرة المنزل دون مرافق وكان يتوقع منهن الاعتناء بالأسرة، أو قضاء الوقت في الفنون الزخرفية الحرفية بصحبة نساء أخريات.
استغلت الفنانات الانطباعيات جوهر الانطباعية وأنتجن أعمالاً فنية تناسب الظروف الاجتماعية التي وضعن فيها، ومن أهم فنانات الانطباعية: الأمريكية ماري كاسات، والفرنسية بيرث موريسو، والفرنسية ماري براكيموند. وأطلق الناقد الفني الفرنسي هنري فوسيلون عليهم لقب "السيدات الثلاث العظيمات.
بيرث موريسو وهوية مزدوجة
لم تتبع موريسو تقاليد الفنانين الهواة ولا تقاليد الفنان الذكر المحترف، وتنقلت بين هوياتها المزدوجة، كسيدة مجتمع من الطبقة العليا، ورسامة محترفة طوال الوقت. أدى ذلك الانقسام الذي عاشته إلى تقليل قيمة أعمالها، كما أثَّر سلبًا على سيرتها في تاريخ الفن.
لم تؤخذ على محمل الجد مثل الانطباعيين الآخرين، لكن نظر النقاد إليها على أنها مجرد تعبير عن جنسها والموضوعات التي تخص المرأة مثل الأمومة والأطفال والأنشطة المنزلية، ولم ينظر إليها كفنانة تعبر عن الموضوعات الحديثة أو تصور الأسلوب البرجوازي الحديث. وتناولت موريسو الموضوعات التي اعتبرها الفنانون الذكور موضوعات من الدرجة الثانية، مثل الخادمات والممرضات ووضعتهم في مركز الصدارة وأظهرت من خلال تلك اللوحات العلاقة الضمنية بين الأعمال المنزلية والأمومة مع الأعمال المهنية مثل التمريض وما شابه. وتناولت موضوعًا تقليديًّا آخر بمنظور مختلف تمامًا عن المعتاد، وهو الاستحمام وتصفيف الشعر، وارتداء الملابس. كانت تلك الأنشطة في لوحات الذكور مجرد ذريعة لإظهار السيدات في حالات مختلفة من العري، بينما انصب تركيز موريسو في لوحاتها على المشاعر الداخلية للمرأة في أثناء ممارسة هذه الأنشطة، وليس على الجسد نفسه.
أدرجت موريسو في شهادة وفاتها دون مهنة، كما حذفت هويتها الفنية من الشارع الذي كانت تعيش وتعمل فيه، وأعيدت تسميته على اسم الشاعر والفيلسوف الفرنسي بول فاليري الذي تزوج ابنة أخت موريسو وعاش في المنزل الذي بنته. عادت إسهامات بيرث للظهور ببطء في تاريخ الفن لتكشف وجهات النظر حول الحياة اليومية الأنثوية التي عبرت عنها موريسو بضربات فرشاة جريئة باللونين الرمادي والوردي.
البدايات الفعلية للفن النسوي
بدأ الإنتاج الفني النسوي أواخر الستينيات خلال الموجة الثانية من الحركة النسوية في الولايات المتحدة وإنجلترا، بعد تاريخ طويل من النشاط النسوي. بدأت الموجة الأولى من الحركة النسوية في منتصف القرن التاسع عشر مع الحركات التي نادت بحق المرأة في التصويت، واستمرت حتى حصلت المرأة على حق التصويت بالفعل عام 1920. ولم ينتج أي فن نسوي تحت مسمى النسوية خلال هذه الفترة المبكرة، لكن ظل قلق المرأة بشأن دورها في المجتمع قائمًا. وعبَّرت بعض الفنانات عن هذا القلق في أعمالهم، وحددن باعتبارهن نسويات أوائل بعد وفاتهن، مثل النحاتة الألمانية الأمريكية إيفا هيس والنحاتة الفرنسية الأمريكية لويز بورجوا. خلقت النسويات الأوائل أشكالاً بصرية جديدة للتعامل مع الجسد الأنثوي، والخبرات الأنثوية الشخصية، والعائلة والأنشطة اليومية، حتى لو لم تصنَّف الأعمال فنًا نسويًّا بالمعنى الواضح.
لاحقًا، تبنت الحركة الفنية النسوية هذه الموضوعات، التي أنتجت الأعمال في أثناء ظهور الحركة النسوية مجددًا بشكل أكبر في أواخر الستينيات والمعروفة تاريخيًّا باسم "الموجة الثانية من النسوية".
الفن النسوي والهوية في السبعينيات
اهتمت الفنانات الأمريكيات بالتمثيل المتساوي في المؤسسات الفنية، وشكلن مجموعات نسائية احتجت على التمثيل النسائي القليل للفنانات. أدت تلك الاحتجاجات إلى ارتفاع نسبة تمثيل الفنانات من 10% إلى 23% عام 1970. وكان هدف الفن النسوي التأثير على المواقف الثقافية، وتغيير الصور النمطية. خلق الفن النسوي فرصًا ومساحات لم تكن موجودة قبلاً للنساء وفنانات الأقليات، ومهد الطريق لفن الهوية والجندر في الثمانينيات.
سعت الفنانات النسويات إلى خلق حوار بين المشاهد والعمل الفني، من خلال تضمين منظور المرأة. لم يكن الفن مجرد موضوع للإعجاب الجمالي، بل كان بإمكانه تحريض المشاهد على التشكيك في المشهد السياسي والاجتماعي، ليؤثر على المشاهد ويوجهه نحو المساواة.
قبل الحركة النسوية كانت أغلب الفنانات غير مرئيات، محرومات من التمثيل المتكافئ في المعارض بناء على جنسهن. يروَّج دائمًا لعالم الفن على أنه عالم ذكوري مغلق. لذلك ركزت الفنانات على إنشاء مساحات جديدة ومنفصلة لفن المرأة بدلاً من محاربة نظام راسخ، كما لعب نقاد الفن دورًا كبيرًا في الحركة الفنية النسوية في السبعينيات، بلفت الانتباه إلى حقيقة أن الفنانات حذفن تمامًا من تاريخ الفن الغربي.
احتضن الفن النسوي والفنانات النسويات، مواد بديلة مرتبطة غالبًا بالجنس الأنثوي، وصنعن منها أعمالهن الفنية. مثل المنسوجات والوسائط التي لم يستخدمها الرجال في السابق، والفيديو وفنون الأداء، والتي هيمن عليها الذكور تاريخيًّا مثل الرسم والنحت. عبرت الفنانات عن أنفسهن من خلال هذه الوسائط غير التقليدية، كما عملن على توسيع تعريف الفنون الجميلة، ودمج مجموعة متنوعة من وجهات النظر الفنية. وسلطت العديد من الفنانات النسويات الضوء على ضرورة إنهاء التمييز العنصري والقمع من خلال الأعمال التي تتعارض مع الأفكار التقليدية للمرأة ككائن جميل للاستمتاع البصري فقط. أشارت الناقدة الفنية لوسي ليبارد إلى أن النساء عندما يستخدمن أجسادهن في الأعمال الفنية، فإنهن يستخدمن أنفسهن. هناك عامل نفسي جذري يحول هذه الأجساد والوجوه من كائن إلى موضوع.
الثمانينيات وما بعد الحداثة
مع نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات ركزت الفنانات النسويات أكثر على التحليل النفسي ونظرية ما بعد الحداثة، التي ركزت على الجسد بشكل فكري ومفاهيمي. استمرت النسويات في توسيع تعريف الفن النسوي. حققت الفنانات الكثير لكنهن ما زلن بعيدات عن التمثيل المتساوي.
أدى ذلك إلى ظهور جماعة قتيات الغوريلا أو "غوريلا جيرلز" التي تشكلت في منتصف الثمانينيات، واشتهرت بمكافحة التمييز الجنسي والعنصرية في عالم الفن، من خلال الاحتجاج والتحدث والأداء في أماكن مختلفة في أثناء ارتداء أقنعة الغوريلا، واعتماد أسماء مستعارة لإخفاء هوياتهن الحقيقية. أخذت جماعة فتيات الغوريلا الفن النسوي لاتجاه جديد، بتوزيع الملصقات على جدران نيويورك، واستخدمت ملصقاتهن الدعائية حس الدعابة والتصميمات الملونة والشعارات الجذابة للتعبير عن رسالة الفن النسوي، وسعين إلى تدمير المبادئ الاجتماعية التي يهيمن عليها الذكور. بعدها أصبح الفن النسوي أكثر رسوخًا واتساعًا، حوى بداخله الفن المفاهيمي، وفنون الجسد، وفنون الأداء، حيث كان الأداء وسيلة مباشرة للفنانات لتوصيل رسالتهن الخاصة وجها لوجه إلى المشاهد، ما جعل تجاهلها أكثر صعوبة لأنه لم يفصل بين الفنان والعمل نفسه.
عروض الأداء الجندري
استكشفت الفنانة المفاهيمية الأمريكية ميريل لادرمان يوكليس المرأة من خلال سلسلة الأعمال المنزلية 1973؛ حين ألغت الفصل بين الفن والحياة من خلال أداء الأعمال المنزلية اليومية داخل المتحف. تجول المشاهدين حولها في أثناء تنظيف الدرج، لتحول المهام المنزلية الشائعة، إلى فن ورسالة اعتراض لا يمكن تجاهلها. أوضحت يوكليس رسالتها الفنية بجملتها "الالتزامات المنزلية لها علاقة بالبقاء والاستمرارية، ومع مرور الوقت يمكن إنشاء نظام جديد في وقت قصير جدًا. لكن سواء كان ذلك شخصًا أو نظامًا أو مدينة، يجب الاستمرار من أجل الحفاظ عليه. لذلك يجب أن نتعلم من المرأة قيمة الاستمرارية".
كشفت فنانة الأداء المفاهيمية اليابانية يوكو أونو عن ضعفها الإنساني الشخصي في عرض على خشبة المسرح، حيث جلست مستسلمة ودعت الجمهور لخلع ملابسها. من خلال تبادل الخبرات الخاصة بالنوع الاجتماعي مع الجماهير، استخدمت أولئك الفنانات قوة المعرفة للتأثير على الجمهور وكسر الصورة النمطية التقليدية للمرأة، ودفع الجمهور للتعاطف مع قضايا النسوية وفهمها.
تأثير الفن النسوي على عالم الفن
بسبب التقدم الذي أحرزته الأجيال السابقة من الفنانات النسويات، لم تعد العديد من الفنانات المعاصرات يشعرن بالضرورة بالمسؤولية عن تعريف أنفسهن كفنانات نسويات، وأنتجن أعمال تركز على الاهتمامات الفردية بدرجة أكبر من الرسائل النسوية العامة. لكن بقي تأثير الحركة الفنية النسوية على عالم الفن كبيرًا ولا يمكن تجاهله. ربما عبرت مقولة الفنانة الأمريكية كيكي سميث عن ذلك بشكل أكثر وضوحًا عندما قالت "لولا الحركة النسوية لما وجد قدر هائل من الأعمال الفنية التي نأخذها حاليًا أمرًا مسلمًا به. ولما وجد الكثير من الموضوعات الفنية التي يفترض أن يشملها الفن. لقد وسعت الحركة النسوية بشكل كبير ماهية الفن، وكيف ننظر إلى الفن. النسوية لا تحرر النساء فقط، لكنها تحرر الجميع".
أن تستدعي ذاكرة جمعية، ظاهرة فنية أو ثقافية ما، هو شئ يحدث في العديد من المناسبات. يحدث هذا على سبيل المثال حين نشهد تغيرات اجتماعية أو جوهرية في الشخصية الجمعية، وفي أمريكا الآن تشهد البلاد تيارًا يساريًا متناميًا خصوصًا في أوساط الشباب، الذين يريدون صوتًا في مواجهة التوحش الطاغي للرأسمالية الأمريكية الذي بلغ ذروته في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب. لكن ما علاقة أفلام مثل الراحلون "The departed، أو عصابات نيويورك Gangs of New York، أو كازينو casino بكل ذلك.
حسب ما يرصد الكاتب كيث سبنسر في مقال نشرته مجلة صالون "salon" الأمريكية، تشهد أوساط اليسار الأمريكي من جيل الشباب، أو ما يمكن أن يطلق عليه حاليًا "يسار اليسار الأمريكي"، طفرة في الاهتمام بأفلام مارتن سكورسيزي، حيث تغرق "الميمز" والكوميكس والنكات التي تستلهم أفلام العصابات التي أخرجها سكورسيزي، منصات السوشيال ميديا الخاصة بهذه الشريحة السياسية.
يوضح سبنسر أن الظاهرة تخص في الغالب أفلام عصابات المافيا التي أخرجها سكورسيزي - مثل " الرجال الطيبون" "Goodfellas" والشوارع الدنيئة "Mean Streets" وإلايرلندي "The Irishman"، وغيرها في نفس السياق من أفلام المافيا، أصبحت محل اهتمام واسع بين الشباب الأمريكي اليساري.
ويعتقد سبنسر أن نهضة سكورسيزي المفاجئة، تعود إلى أسباب تتعلق بمهارته السينمائية، إذ أن أفلامه عظيمة على كل مستويات عناصر السينما من إخراج وتصوير وكتابة وتمثيل، لكنه أدرك أن ثمة أسباب سياسية عميقة تتسبب في كون الشباب الأمريكي الحالي يبتلعون "أقراص سكورسيزي" الآن.
تقويض الدولة
قد يبدو غريبًا أن تلقى أفلام الجريمة المنظمة صدى لدى اليسار الأمريكي. في نهاية الأمر، العصابات ليست ولا ينبغي أن تصير المثل الأعلى للثوار. معظم رجال العصابات، سواء في الحياة الواقعية أو على الشاشة رأسماليون متوحشون لكن في السوق السوداء، فما الذي يمكن أن يفسر الانبهار المفاجئ لليساريين الأمريكيين وخصوصًا في أوساط الشباب بهذا النوع من الشخصيات؟
بالطبع، فإن أفلام العصابات -مثل فيلم الأبطال الخارقين- ليست مجرد أفلام عن رجال العصابات، هذه الأفلام، على الأقل من منظور شخص مثل سكورسيزي، هي قصص أكبر عن مجموعة، غالبًا ما يكونون أصدقاء مقربين جدًا، يعملون معًا كمجتمع، ويدعمون بعضهم البعض، ويقوضون الدولة وأجهزتها الأمنية؟
ثمة بُعد سياسي يمكن التعرف عليه في تلك الموضوعات، لا سيما تخريب الدولة والصداقة الحميمة بين الرفاق من رجال العصابات وانسحاب ذلك على النخبة السياسية والأفكار الاقتصادية والسياسية والاجتماعية المهيمنة كتيار سائد، وفقًا للكاتب.
انهيار الرأسمالية
يقول سبنسر "يمكنني التأكيد بشكل قاطع أنه لا يوجد الكثير من التمثيل الإيجابي لمن ينتمون إلى اليسار الأمريكي في السينما السائدة. هذا أمر متوقع.. المديرون التنفيذيون لشركات الإنتاج والميديا، مثل معظم الرأسماليين، ليسوا حريصين على منح الضوء الأخضر للأفلام التي تتحدث حول أنه لا ينبغي أن يوجد أثرياء مثلهم في العالم". ويرى الكاتب أن أمريكا والغرب "في خضم لحظة سياسية غريبة، إذ يبدو أن النظام الرأسمالي ينهار على نفسه، وأن "أمريكا على وشك أن تصبح دولة فاشلة". يبدو أن مواطني العالم الغربي يعرفون هذا على مستوى اللاوعي، لكن أولئك الذين لم يقبلوا الواقع ينكرون ذلك".
باب للخروج
بحسب سبنسر، يمكن القول إن سينما الجريمة المنظمة، تصور أيضًا "داوود مقابل جالوت" هوليوود مليئة بالقصص عن ديستوبيا الرأسمالية المستقبلية، لأن هذا هو كل ما يمكن أن يتخيله الخيال الرأسمالي: مستقبل كئيب مع مزيد من القمع، أو الوضع الراهن.
يقول سبنسر "تعد سينما العصابات طريقة للخروج، مسرحية خفية حول كيفية تفاعل مجموعة من "الثوار" مع العالم ومحاولة استعادته مرة أخرى من أولئك الذين يؤيدون الوضع الراهن الفاسد الذي يُغلق فيه مصادر الدخل.. ما الثورة سوى مجموعة من الرجال والبنات المذعورين المصابين بالبارانويا، الذين يتسكعون معًا، ويمتلكون الكثير من الأسلحة، ويحاولون القيام بأشياء غير قانونية بينما تحاول أجهزة الأمن في الدولة منعهم؟".
بوعي أم لا، نحن جميعًا نبحث عن إجابات تفسر سبب كون الأمور سيئة للغاية في أمريكا والعالم ولا يبدو أنها ستتغير أبدًا في المستقبل المنظور. هذا يعني أن جميع أنواع الظواهر السياسية التي تبدو غير مرتبطة تنبع من الرغبة المشتركة في رؤية بديل للرأسمالية، أو على الأقل عودة إلى حياة طبيعية متخيلة وعلى المستوى الداخلي، ترغب جميع المجموعات المذكورة أعلاه في رؤية أولئك الذين يعتقدون أنهم مسؤولون عن تدمير مستقبلنا وهم يجثون على ركبهم، بحسب سبنسر.
يستطرد الكاتب معلقًا على الوضع السياسي الأمريكي والعالمي "يجسد الصعود العالمي للقومية المعادية للأجانب، والتي مثلها كل من دونالد ترامب وناريندرا مودي وجاير بولسونارو، رد فعل الناخبين على التراجع على فشل المديرين الليبراليين للرأسمالية في الحفاظ على مستوى معيشتنا على مدى العقود الماضية؛ حين نهب الأغنياء الثروات. إن جماعات مثل جماعة Qanon وغيرها من جماعات اليمين المتطرف هم مجرد وهم اجتماعي جماعي بين أولئك الذين لا يستطيعون قبول أن زعيمهم الشعبوي كان مخادعًا".
خدع "ليبراليو المقاومة" خلال السنوات الأربع الماضية أنفسهم بشأن سبب تمكن شخص بغيض مثل ترامب من الصعود إلى السلطة بالتركيز على روسيا ككبش فداء، بدلاً من مواجهة مستويات المعيشة المتدهورة التي نتجت عن عقود من التراكم الرأسمالي غير المحدود، وفق سبنسر.
سائق التاكسي
في مقال له بعنوان "البطل المضاد بعد الحداثي: الرأسمالية والبطولة في فيلم سائق التاكسي"Taxi Driver" بدورية "برايت موفيز" يقول الناقد السينمائي ريتشارد جيه جانوشي "من حيث الجوهر، لدى ترافيس بطل فيلم سائق التاكسي مانيفستو غير مترابط حول "الوقوف" في وجه العناصر الاستبدادية التي تقيد حركته الاجتماعية وتعمل على قتل أحلامه. يسعى ترافيس للانتقام تحت ستار العمل البطولي العنيف (والانتحاري في نهاية المطاف)، مما يجعله نموذجًا للبطل المضاد وفي النهاية يضع الفيلم أسطورة البطل/البطل المضاد نفسها قيد المحاكمة.
"يمكننا أن ندرك كيف يعكس سائق التاكسي منطق البطل الفلسفة الأمريكية التي تؤيد حل المشكلات من خلال الفردانية الصارمة بدلاً من الجهد الجماعي من جانب المواطنين وأصحاب الأعمال والشرطة المحلية، وفي النهاية الحكومة". ويقول جانوتشي "بينما يستمر المضطهدون بالفيلم في التحول لضحايا "آفة حضارية" ويضللهم سياسيون زائفون مثل شخصية بالانتاين Palantine، يصبحون فريسة للصوص، والحشاشين، والقوادين.
ومع ذلك، فإن ما يميز Taxi Driver عن الأفلام السوداء Noire films الأخرى هو العناصر المميزة لنيويورك المحبطة وسط أزمة مالية وثقافة تقبل بشكل أعمى شكلاً خادعًا من البطولة حيث يكون عملاء المدينة (الشرطة) غائبين بشكل ملحوظ.
وول ستريت
هناك لحظة معبرة فيما يُعتبر على نطاق واسع رائعة أفلام العصابات التي أخرجها سكورسيزي، وهو فيلم "الأصدقاء الطيبون" Goodfellas، حسب ما يروي الناقد جوردي كامنجز في مقال له بعنوان "المافيا كقوة رأسمالية طليعية في أفلام سكورسيزي: فيلم الإيرلندي The Irishman" نموذجًا: تم القبض على أحد أبطال الفيلم بعد "عملية"، أي ليست جريمة قتل، بل سرقة، إذ يتم القبض على طاقم من رجال العصابات واقتيادهم. أحدهم يسخر وهو ويخاطب أحد رجال الشرطة قائلاً، "لماذا لا تذهب إلى "وول ستريت" وتعتقل بعض المجرمين الحقيقيين".
يقول كامنجز "قد يعتبر البعض هذا إشارة إلى أن المعنى الضمني للمشهد هو تمجيد تلك العناصر الإجرامية التي "تزيل الدهون من حليب رأس المال"، مقارنةً بأولئك الذين يقودون القطار نفسه".
ويشرح" في سياق مجموعة أعمال سكورسيزي، مثل أعمال أفضل معاصريه (شريدر، دي بالما، كوبولا)، فإنه في أعمال الجريمة المنظمة، على نطاق واسع، تعد "وول ستريت" عنصرًا تأسيسيًا مشتركًا، بحيث لا يمكن فصلها من الناحية الهيكلية عن كل ما يحدث".
تنخرط أفلام العصابات في التأريخ خلال المئة عام الماضية، من خلال قصة انتشار الإجرام في كل مكان. إن العصابات في أفلام كوبولا وسكورسيزي، هو قوة مزدوجة، تتسم بالسيادة وبكود خاص للعلاقات الداخلية الخاصة، ومجموعات الطقوس والقواعد. وبفضل اتباع هذا الكود، فإنها توفر دورًا هيكليًّا كجزء من جهاز يخدم رأس المال، والذي من خلاله يكتسب الأبطال درجات متفاوتة من السيادة، ويتخذون أشكالاً متعددة. ويرى كامنجز أن ما يحدث في تلك الأفلام ليس غير واقعي على الإطلاق، بل إنه "يلتقط بشكل مثالي تقريبًا وقتًا تدور فيه معركة جيوسياسية، بدرجات متفاوتة، بين مختلف فصائل الجريمة المنظمة العالمية ذات الوكلاء والجواسيس داخل مختلف الدول والكيانات الخاصة.
وبحسب كامنجز "يشبه رجال العصابات المقاولون العسكريون الخاصون" الذين يمثلون مرتزقة ذلك العصر، وهو دور لعبته بفخر المافيا لإمبراطورية الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية، طوال فترة الحرب الباردة".
ملحمة الخلق الحضري
في مقال له عن فيلم "عصابات نيويورك" يقول الناقد الأمريكي مايك ديفيس إن الادعاء المذهل للفيلم هو أن "أمريكا ولدت في الشوارع، أو بالأحرى في حروب الشوارع التي يشهدها الفيلم".
يعتبر سكورسيزي أعظم الرواة المعاصرين للأساطير عن شوارع نيويورك الدنيئة، حيث يمثل فيلم "عصابات نيويورك" أسطورة الخلق الحضري، التي تشرح أصول العالم التي يرثها اللصوص.
في الفيلم يتم إحياء أسطورة بيل الجزار، التي تم نسيانها عمومًا بعد الحرب الأهلية الأمريكية. ويعد الفيلم وما يشهده من معركة ملحمية بين بطليه، معادلاً موضوعيًّا حضريًا لملحمة هوميروس، بحسب وصف ديفيس. وتختلط شوارع هذا التاريخ الدموي بشوارع نيويورك الحالية في أحد مشاهد الفيلم، حيث ناطحات السحاب كرمز للرأسمالية التي "تصنع الرجال وسائقي سيارات الأجرة، والعاهرات ورجال الشرطة المنحرفين، والمراهنين الصغار، والممثلين الكوميديين في ميدان تايمز سكوير".
ويتساءل ديفيس هل "إلياذة" مانهاتن هي التاريخ الحقيقي؟ الإجابة المختصرة أنها نصف القصة، أدت المنافسات العنيفة بين العمال الأمريكيين الأصليين والفقراء المهاجرين الإيرلنديين إلى احتراق داخلي للمحرك العظيم لـ "Tammany Hall (حزب مانهاتن الديموقراطي) وتلاعباته الماهرة التي لا نهاية لها للطبقة العاملة المنقسمة عرقيًّا وطائفيًّا. في الواقع، كانت عصابات الشوارع، جنبًا إلى جنب مع شركات الإطفاء المتطوعة، هي القاعدة الشعبية الحقيقية لمسابقة الغنائم العرقية التي مرت على "الديمقراطية الأمريكية".
بحسب ديفيس، كانت شوارع مانهاتن في خمسينيات وستينيات القرن التاسع عشر أيضًا ساحة معركة ملحمية بين رأس المال والعمل. بينما كان موريسي وبول يقودان عصابتيهما إلى الحرب بأمر من الزعماء السياسيين الطموحين، يكافحون جنبًا إلى جنب مع النقابيين الأمريكيين الأصليين لبناء حركة عمالية موحدة. هذه هي القصة غير المروية في "التاريخ السري" لسكورسيزي لنيويورك في القرن التاسع عشر.
كوبولا أيضًا: العراب
يقول الناقد فريدريك جيمسون شيئًا مشابهًا عن فيلم العراب The Godfather "للمخرج فرانسيس فورد كوبولا، "لا أتفق مع الفكرة المبتذلة القائلة بأن مثل هذه الأفلام التجارية ذات الميزانيات الكبيرة خالية من الموضوعات السياسية الأكبر". وبدلاً من ذلك، يفترض جيمسون أن مثل هذا الفن غالبًا ما يكون له "وظيفة نفسية" خفية وهي التوق الجماهيري للتحرر من الاضطهاد الرأسمالي على سبيل المثال.. بعبارة أخرى، تحتاج الجماهير الضعيفة المهمشة إلى منفذ مسهل لغضبها الطبقي، خشية أن تنفجر وتثور ضد النخب". جيمسون يرى "العراب" باعتباره استعارة لأشياء أكبر من العصابات وعالمهم.
يقول جيمسون"عندما نفكر بالفعل في مؤامرة منظمة ضد الشعب، مؤامرة تصل إلى كل ركن من أركان حياة الأمريكيين اليومية وهياكلهم السياسية تتضمن ممارسة أعمال عنف طائش من الإبادة الجماعية بأمر من صانعي القرار البعيدين باسم الربح على حساب كل شئ- بالتأكيد لا يتعلق الأمر هنا بالمافيا، ولكن بالأحرى يتعلق بالحضارة الأمريكية نفسها.. في "العراب"، العصابات، إذن، هم استعارة لمشاعر سياسية عالمية". ويضيف "هكذا يمكنك مشاهدة رجال العصابات في فيلم "The departed" يخدعون رجال شرطة جنوب بوسطن وربما يهتفون لهم، لكننا لن نرى أبدًا فيلم حركة يسرق فيه المعارضون لتمويل الثورة (على الأقل لن يكون فيلمًا ممولاً من ديزني أو بارامونت)". ورغم ذلك، وفقا لـجيمسون تعطينا هوليوود بعض الأمثلة الواضحة على رفاق العصابات الذين يقلبون الدولة، ويحتفلون مع الأصدقاء، ثم تلتصق الجرائم بالرجل العادي".
يبدو غريبًا أن تلقى أفلام الجريمة المنظمة صدى واسعًا لدى اليسار الأمريكي.. العصابات ليست ولا ينبغي أن تصير المثل الأعلى للثوار. معظم رجال العصابات، رأسماليون متوحشون لكن في السوق السوداء!
سينما الجريمة المنظمة، تصور "داوود مقابل جالوت"، هوليوود مليئة بالقصص عن ديستوبيا الرأسمالية المستقبلية، لأن هذا هو كل ما يمكن أن يتخيله الخيال الرأسمالي: مستقبل كئيب مع مزيد من القمع
سينما العصابات طريقة للخروج، مسرحية خفية حول كيفية تفاعل مجموعة من "الثوار" مع العالم ومحاولة استعادته مرة أخرى من أولئك الذين يؤيدون الوضع الراهن الفاسد الذي يُغلق فيه مصادر الدخل
نحن جميعًا نبحث عن إجابات لتفسير أن الأمور سيئة للغاية في أمريكا والعالم. هذا يعني أن جميع الظواهر السياسية التي تبدو غير مرتبطة تنبع من الرغبة المشتركة في رؤية بديل للرأسمالية