رؤى

مينا ناجي

الفيل في غرفة التواصل الاجتماعي المسكوت عنه في جدل الارتباط والزواج والعلاقات الحرة

2021.08.01

مصدر الصورة : focusonthefamily.com

الفيل في غرفة التواصل الاجتماعي  المسكوت عنه في جدل الارتباط والزواج والعلاقات الحرة

دائمًا ما كان مثار استغرابي أن النقاشات الاجتماعية الواسعة على مواقع التواصل الاجتماعي نادرًا ما تتحدَّث عن الموضوع نفسه؛ يلتف الكلام غالبًا حول الموضوع دون تناول مباشر له، هذا قبل أن ألاحظ أن هذا ما نفعله أيضًا في حياتنا اليومية الواقعيّة. على سبيل المثال، موضوع مُتكرِّر وموسمي في إثارة الجدل، ودائم الحضور كموضوع للسخرية، هو موضوع الزواج. أُثير "الزواج" في الفترة الأخيرة مرة من زاوية ذكورية ومرة نسوية. الأولى تتكلم عن الاحتفاظ بحق فقهي -مُلتبس ومتشابك واقعيًّا- للمعاشرة الجنسية للزوج، والآخر يتعلق بحق الزوجة في وجود "قائمة" تطبقها وقت الطلاق.

مع كونهما متضادين، يتوازى الأمران في أن نقاشهما الموسع -والمتشنِّج الحقيقة- لا يتحدّث عن الزواج نفسه كعلاقة بل يتم إقصاء هذا المضمون الأساسي بشكل غريب من الحوار، ويُطرح بشكل شِبه مُطلق منطق "الحقوق" والتوازن بينها، وهذا ما يفسّر التشنج والتكرار الغالبين. فحين يدور نقاش أي قاعدة أو حق من الحقوق، يهز التوازن الهش تمامًا والمبنى بالأساس على فرض قيود على الطرف الآخر داخل منظومة الزواج، وكلما زادت هشاشة ذلك التوازي المادي الحقوقي في الحفاظ على العلاقة الأساسية، زاد التشنج والأداء العنيف. كأنما يحاول شخص إجابة سؤال جغرافيا بالرياضيات ويشعر أن السؤال ليس له حل. بالتوازي، زادت التعليقات أن الهجوم والشتيمة وحتى الفضح والاغتيال المعنوي أصبح تأثيرهم ضعيفًا دون تحقيق النتائج المرجوة، بل تحولوا إلى فائض من الكلام العابر. وهذه الملاحظة عن الفعالية صحيحة بقدر ما، والسبب ليس أنه عنف غير كافٍ، بل لأن الهدف هو تحطيم الآخر وإشعاره بالخوف وتعبئته بكل المشاعر السلبية، بدلاً من محاولة طرح منطق عام لكيف نصبح جميعًا أفضل.، كيف نعيش معًا؟

بعدها بفترة قصيرة، حدثت 3 جرائم قتل زواجية في وقت مقارب، جميعهم بالطعن. حالتان منهم الزوج هو القاتل وحالة كانت هي الزوجة. رغم اعتيادية أخبار مثل تلك الجرائم، فاللافت أن خرجت صورة لمنشور شاركته الزوجة القاتلة في 2018، من النوع المتداول الذي يُمرِّر العنف على هيئة نكتة ومداعبة فيقول "لا تشكي لأحد مشاكلك مع زوجك إلخ... كي لا يشك بك أحد حين تقتليه" ومعلقة على المنشور "ربنا يعينا على فعل الخير". لا يعني هذا أنه حين شاركت الزوجة المنشور أنها ستقتل زوجها في المستقبل، لكن هذا أمر يشير إلى المزاج العام للمصريين الذي يفكرون عبره في مواضيع الحياة المشتركة بينهم والذي يحمل كمًّا كبيرًا من الغل والغضب والعنف المكبوت، والذي سيترجم بالتأكيد في الواقع إلى ممارسات ستصل إلى حد القتل مثلما حدث في حالة تلك الزوجة.

يغيب إذن نقاش جدّي وموسَّع حول معنى العلاقة نفسها: ماذا يعني أن أرتبط بشخص آخر بقية حياتي وأشاركه جوانب حياتي كلها بما فيها أطفال؟ ما المطلوب مني ومن الطرف الآخر كي تنجح وتستمر تلك العلاقة؟ ما المتوقع من هذه؟ ما هدفها؟ كل هذا يتم تجاهله، أو تناوله بسطحية على شكل نصائح مثالية مُتكلسة تُقابل دائمًا بسخرية وتشكك واستهزاء، أو الإجابة عنها بالاعتماد على المشاعر، على الأقل صوريًا، والذي يتضح مع الوقت أنها مهما كانت قوتها فهي لا تنفع أن تكون أساسًا دائمًا لعلاقة ولا أن تلغي اختلافات الرؤية للذات وللعلاقة وللحياة ككل.

لماذا لا يحدث هذا النقاش عن العلاقة ويحدث بدلاً منه صراع على القواعد التنظيمية لدخولها وخروجها؟

لأن النقاش ببساطة صعب ومكلف فعلاً، لأنه يحتاج إلى مراجعة أشياء كثيرة من الأفضل أو الأسهل تركها لحالها. فغير أن الزواج علاقة بين طرفين فهو مؤسسة داخل منظومة اجتماعية أكبر، تخضع لها بكل مشاكلها وقصورها وهشاشتها. لذلك يحتاج طرح هذا النقاش رغبة حقيقية للتصدي له والخوض في شعابه المرتبطة تقريبًا بكل شيء حولنا. لكن الأمر الجوهري في نظري الذي يتم إغفاله في الإجابة هو أن الزواج الشكل الرسمي والحصري لممارسة الجنس. هذه الحصرية كانت تسير وفق شكل تقليدي-ديني في تنظيم الحياة الجنسيّة، إذ كان الفرق بين بلوغ الشاب والفتاة في بدايات المراهقة، وبين الزواج في نهاية المراهقة أو بداية العشرينيات سنوات قليلة، يمكن الاختيار فيها الانتظار والتمهل، لكن مع ارتفاع متوسط سن الزواج لأسباب اقتصادية-اجتماعية، أصبح الفارق المتوسط المعتاد نحو 15 سنة. امتداد الفترة الزمنية هذا خلق تغيرات بنيوية في التنظيم الجنسي، منها ظهور مرحلة جديدة بين مرحلة البلوغ ومرحلة الزواج، يُشكِّل أساسها العاطفي "العلاقات العاطفية" والتي تُسمى اختصارًا "العلاقات"، والتي أصبحت أمرًا واقعًا حتى لو تم تجاهله بشكل "رسمي"، لكن بسبب هذا التخصيص الحصري للجنس فقد تشوهت بشكل جذري، لأسباب يطول سردها، مما أثّر سلبًا على مرحلة الزواج بعد ذلك.

تُلام الحداثة على تشكيلها أسلوب حياة مغاير تأخَّر فيه سن الزواج بسبب المتطلبات التعليمية والثقافية والمادية المفترضة أولاً قبل حدوثه، لكن هذا اللوم يغفل أن المنظومة الحداثيّة جلبت أو فُرض عليها بشكل مُلازم، "الحريّة الجسديّة"، أي بتنظيم جنسي جديد يخصها، بغض النظر إن كان هذا التنظيم في النهاية أفضل أو أسوأ من الشكل التقليدي السابق. واقعيًا يتُرك هذا الجانب لكل شخص كي يتعامل معه، سواء عبر الالتزام الديني العنيف، أو المغامرات الجنسية شِبه الخفية، أو تجاورهما معًا. بالطبع الصعوبات أكبر وأكثر خطورة بالنسبة للفتيات، تستتبع آليات مثل درء الشبهات المظهري والمزايدة على الآخرين إلخ.. ما يخلق ما يُشبه الفصام، في محاولة التعامل مع هذا الاحتياج الأساسي دون صدام مع المجتمع، أو مع محاولة الحفاظ على القيم الأخلاقية المُتبعَة والمحاطة بسور من الخوف والذنب. هذا أمر ممكن رؤيته شكليًا في الانتقال الفصامي المُربِك بعد التدرب الممتد فترة سنوات الدراسة على عدم التقرب الكافي للجنس الآخر والتفكير في المواضيع العاطفية، وقت التخرج حيث يتم المطالبة بشكل فوري ومُلِح بأن يكون هناك شريكًا عاطفيًّا لتأسيس مرحلة جديدة.

هذا الفصل الجنسي والجندري يجعل الجنس الآخر مٌشيّئًا يصاحبه شعور بالتحريم والغموض وربما الأذى، ولذلك فهو تدمير لعلاقة الصداقة بين الجنسين والتي هي أساس لعلاقة أوسع وأعمق والتي هي الزواج. في حوار مع الممثل أحمد رمزي يسأله الممثل أحمد السقا إذا كان مقتنع بالصداقة بين الرجل والمرأة، ويحكي أنه لم يكن مقتنعًا في البداية، لا يفهم رمزي مقصده ويسأله "وما المشكلة؟" فيرد السقا: "يبقى الشيطان تالتهم يعني" فيثور رمزي ويقول إذا كان يقصد أن يحصل شيئًا بينهما، فما المشكلة، الصداقة أكبر من ذلك. يظهر هذا الحوار فرق الوعي بين الجيلين في علاقته بالصداقة بين الجنسين. وهذا ما قد يكون أحد أسباب تأزم وضع المرأة في المجال العام بهذه الحدَّة، لأنها تحولت إلى هدف غير مؤنسن للانتهاك وإشباع رغبات طال كبتها. هناك إجراءات محمودة لردع مثل هذه الظواهر لكنها دون مسائلة لأحد عواملها الأساسية وهي الكبت والحرمان الجنسي المستمر والذي يسبب شعورًا بالضغينة ناحية "أهداف" لا يوجد إتاحة مفتوحة ومنتظمة إليها. وفي نقاش تلك الظواهر يصبح هذا الجانب مسكوت عنه أيضًا، داخل خطاب ذي طابع حقوقي..

سنتخيل شابًا مقبلاً على الزواج تابع النقاش الذي دار على مواقع التواصل الاجتماعي مؤخرًا، عن حق الزوج في معاشرة زوجته جنسيًّا. هذا الشاب واظب على الاجتهاد في مذاكرته وامتحاناته طوال سنوات الدراسة حتى تخرج، وسارع بالبحث عن عمل والاجتهاد فيه حتى يقدر على تكوين مصروفات الزواج، وبمساعدته أهله المادية وبعد فترة بحث وتجريب يتزوج، ويكون أخيرًا، بعد سنوات الصبر والحرمان كمواطن صالح يلتزم بالخطوات الاجتماعية الرسمية، قادرًا على ممارسة الجنس، ليواجه بـ: "لا" دون أسباب. ماذا سيكون إحساسه؟ كيف سيحسم موقفه في هذا الجدل؟ بالأغلب سيفكر حينها في "حقه"، والذي سيجده في غطاء ديني يستطيع التمسك به. فما الشعور الرعب الذي ينتابه حين يرى أن الطريق الوحيد الحصري الذي يمكنه من خلاله ممارسة الجنس، يمكن أن يُمنع فيه عنه ودون ضمانة؟ ليس معنى هذا أن موقفه "الحقوقي" صحيح لضمان "حقه" بعدما سار وفق كل قواعد ومراحل التنظيم الجنسي، بل يكمن الإشكال في التنظيم الجنسي نفسه وحصرية الجنس في الزواج. يُحمَّل الزواج بمطالب لا يمكنه وحده تحملها، هذا إذا نحيِّنا المشكلة الواسعة للإحباط الجنسي داخله، لأسباب ليس آخرها فقر الثقافة الجنسيّة العمليّة. ويبقى في النهاية السخرية من تلك المؤسسة العاجزة في دائرة مغلقة لا تنتهي بل تزيد حدة وعنفًا مع الوقت.

حتى فكرة إيجاد مخارج أو بدائل شخصية داخل هذا التنظيم الجنسي الحالي ستكون ملازمة بتعقيدات ومخاطر ليست هينة، ليس فقط لأنها تُمَارس في الخفاء، أو على الأقل بشكل غير رسمي، فلا يكون هناك قواعد تنظيمية اجتماعية لها، بل لأنها تمارس على مبدأ المناورة والاختطاف إن لم يكن "العيش في الحرام"، فيسهُل أو يُستَحَل خداع الآخر والخيانة أو الاستغلال المباشر، دون وجود سند اجتماعي أو قانوني يتعامل مع الأمر، هذا بجانب التعقيدات القانونيّة للمساكنة والحياة المشتركة التي لا تشجع على هذا الطريق غير المضمون، والتعقيدات النفسية في النظر بإدانة أخلاقية للآخر، في حين المطلوب هو الحب والاحترام، كما غموض المستقبل في حال انتهاء العلاقة الكاملة البديلة، من مسائل مثل العذرية والسن، إلخ..

توجد حالة تواطؤ واسعة وراسخة ألا يتكلم أحد عن الفيل في الغرفة، كما يقول التعبير الشهير، مما يجعل الحوار حول الزواج وغيره من الموضوعات التي تتعد في مجتمعنا وتثار بشكل مستمر على مواقع التواصل الاجتماعي، حوارًا غير جدي ولا صادق، طالما لا يأخذ في اعتباره إشكال تنظيم الحياة الجنسية والعاطفية اجتماعيًّا، وكيف يمكن أن يُصاغ بشكل واقعي وعادل، بدلاً من السخرية المبطنة عنفًا وكراهية، والتشنج المتبادل. صعوبة هذا الأمر الملح وتحدِّيه الأساسي أنه يجب أن يمتد لأساسيات الحياة وفهمها، ومراجعة ثوابت كثيرة، وإرباك التنظيم الذي بنى أشخاص كثيرون مكاسبهم الواعية وغير الواعية وفقه ولا يريدون أن يخسروها وفق تنظيم جديد وقواعد جديدة أكثر عدالة.