عدد 18-عن الفقد والافتقاد

سيد محمود

القاهرة التي نفتقدها الآن

2020.11.01

القاهرة التي نفتقدها الآن

قبل 30 عامًا، قرأتُ جملة للشاعر والروائي الكردي سليم بركات "حين تَحِن طويلاً إلى المكان، لا تعد إليه"، وقد كتبتها على جدار غرفتي، وصرتُ، وأنا على أعتاب الخمسين، مولعًا بالعودة إلى الأماكن التي أحنُ إليها، بل إنني لم أعد أستطيع التفكير في المدينة بمعزل عن "الحنين". ويحدث أحيانًا أن أبدأ يومي بالذهاب إلى مكان، ألحَ عليَّ فجأة، لمعت صورته أمامي كوميض، على الرغم من أنني لم أقترب منه لسنوات طويلة، لكن الإلحاح عليه يجعله راسخًا مثل اسمي، فأذهب لأتاكد فقط من وجوده، من أنه كان بالفعل "هنا".

أسير في الشوارع التي قضيتُ عمري أقطعها، وأنظر إليها "نظرة مودع"، أتاملها كـ"شوارع افتراضية"، أتشككُ في وجودها، وأنمّي في روحي ذلك الشك وأعتاده؛ هل أصبحت عدميًّا مثل قنسطنين كفافيس؟

و"كلما نظرتُ حولي، رأيتُ خرائب سوداء من حياتي، حيث العديد من السنين قضيت وهدمت وبددت".

الأماكن التي أفقدها تأتي إليَّ في مناماتي، لكن البشر الذين يغيبون لا يأتون لزيارتي أبدًا، أبي وأمي وأخي؛ الذين انتقلوا الى رحمة الله لم أعد أراهم، لا أحد منهم يأتي إليَّ، بينما يغمرون من حولي بالذكريات.

لا أخاف من الفقد، بل أنتظره.. أرى أن صمود ذاكرتي يعطل مسيرته إليَّ، أتخيلُ تعثره وأبتسم لأن صديقًا لي ظل يخدم في جمعية لمساعدة مرضى الألزهايمر، ويجمع حكايات لا يكملونها أبدًا، مات وهو ينمي تلك الفراغات المتروكة بينهم، كانت أمنيته الوحيدة التخلص من ذاكرتي، ظل يعتبرها بمثابة "رقيب"، لأن روايته التي حلم بكتابتها كانت في تلك المسافة الساقطة من الجميع، أما خطواتي معه فقد كانت "مراصد" لتحولات ينكرها. أتخيلُ رفاقه من مرضى الألزهايمر حين جاءهم خبر موته، هل كان يعني لهم أي شيء، في سيري حول مراكزه، أقرأُ الرسائل التي كُتبت إليه، وأقول لنفسي "من المؤكد أنهم تعاملوا مع غيابه كما لو كان أسيرًا في حرب، وينتظرون عودته".

ذات صباح، كنتُ أتحدثُ أمام طلاب في جامعة معزولة على أطراف القاهرة، فرويتُ تجربتي في المدينة، وقلت إن أجمل ما فيها "صُرتها"، أو نقطتها السحرية، أو ما نسميه "وسط البلد"؛ حيث تتوافر كل الأشياء بغزارة. انتصرت أمامهم للصخب الذي تآلفت معه، ولم أفهم أن من حولي يقدسون الصمت، جاءوا مع آبائهم لقضاء عقوبة "الرفاهية". وحين وقف أحد الدارسين ليسأل عما أعنيه بوسط المدينة، اكتشفت من سؤاله أنه يتحدث عن مدينة أخرى، وعن صرة أخرى، متخمة بالأسواق التجارية "المولات"، وأن مدينتي، التي كنتُ أتحدثُ عنها، بالنسبة إليه "ندبة مفقودة" تقطعت شرايينها معه.

غادرتُ وأنا أتحسرُ على عيشهم فى مدينة تعيش بـ"رئة صناعية"، وصرتُ بعدها أكافحُ انتماء أولادي إلى هذا الفضاء غير التعددي، فأفضل ما يميِّز القاهرة التي أفقدها الآن أنها قامت على (هبة التعددية) وظلت دائمًا تعتز بامتلاك (هوية مرنة) تستوعب الجميع. تعاسة كبيرة تملؤني وأنا أتابعُ تعرَّض مدينتي لدورات متعاقبة من التشوه، تصعبت فرصها فى التعافي، وفيها يتجلى التاريخ كعبء، لا كميزة فريدة.

مهمتي الآن مقاومة انفصال أبنائي عن القاهرة التي أعرفها، آخذهم معي إلى الأماكن التي أحب، وأحاول أن أجعلهم في محيط يعزز من الثقة، لأن أهم ما ترسخه المدينة "عملية بناء شبكات من الثقة العامة". أطيلُ الجلوس معهم في مقاهي الرصيف، التي يكتشفون طابعها الحميمي، ويأخذونني إلى "كوفي شوب" أنفرُ من طابعه البارد، لكن الأبوَّة، كما نعرف، قائمة على تبادل العطاء. أفهم أنهم ذاهبون بوضوح إلى لحظتهم التاريخية، ويحاولون غسلي من نوبات "النوستالجيا" التي تحاصرني، ومن شغفي بالماضي.

أدعوهم إلى مشاهدة أفلام الأبيض والأسود، ولا يشعرون بسحرها أبدًا، لأنهم غير قادرين على تمثُّل السمات الأسلوبية لهذا الماضي الذي رافقني، وصرت أنتمي إليه؛ فالأفلام والصور القديمة تؤدي عملها في نطاق وأساطير ثقافية، تعرض ما يسميه ليوتار فيلسوف ما بعد الحداثة "الواقعية المزيفة"، لأن اللحظة الراهنة ذات طابع فصامي، فقدت بالتبعية إحساسها بالتاريخ، وتعاني من فقدان الذاكرة التاريخية، لأن مجدها كله في تدفق "المرئيات" التي تصنع هذا الحاضر الأبدي.

يصيبني الرعب حين أفكر لبضع لحظات في أن أبنائي لن يعرفوا مدينتي، لأنها لم تعد بالملامح نفسها التي أرغبُ في ترسيخها في ذاكرتهم. أعرف الكثير من النصوص الأدبية التي تتحدث عن اختفاء مدن بكاملها، أو المدن والمتاهة، وأنا أحب أن تبقى القاهرة متاهة.

يسمع أبنائي أغنيات صاخبة، وأعرف جيدًا أنها المُسجل اليومي لحياتهم اليومية، أو التمثيل الثقافي لعالمهم؛ الذي يبدو فيه التسوق التعبير المثالى عن الهوية. وبدلاً من التسكع فى مدينة حقيقية، وشوارع ممتدة أصبحت متعتهم هى التسوق داخل فضاء عمراني مغلق، وبعد كورونا جاء إليهم التسوق الافتراضي، والتعليم الإلكتروني، حيث تغيب الحاجة الى آخر له وجود متعين.

المولات، أو "الكاتدرائيات الاستهلاكية" وفقًا لتعبير فالتر بنيامين، مواقع أساسية لقضاء وقت الفراغ، وفيها بدأت عمليات خلق الماضى بشكل حنيني وتشويقي، بوصفه شكلاً لواقع بديل، واستدعاءً لصورة تمتلك سحرها. لذلك بدأت عملية نسخ لأسماء ورموز منتمية إلى هذا الماضى المكرس كماضٍ جميل، فيه تتكرر مسميات "مقاهي الحرافيش، أو الفيشاوى، والسكرية، وليالى الحلمية" فى الفضاءات الجديدة.

لا يفهم من فعلوا ذلك أن ظهور المقهى فى أوروبا بشكله القديم "مقاهي الرصيف" لم يكن سوى استجابة لفكرة التجول؛ "التسكع" فى المدينة التى خلقتها عملية إعادة تخطيط المدن فى القرن التاسع عشر، ففيما كتبه فالتر بنيامين عن تجربة شاعر، مثل شارل بودلير، ثمة تأكيد على صحة هذا الارتباط، الذي جاء مع ظهور عمارة "البواكي" داخل العمارة الفرنسية، واصطفاف المحلات التجارية، حيث أصبح كل رواق تجارى هو مدينة، أو عالم مصغر بتعبيره، ففي هذا العالم يكون المتسكع فى داره، فيصبح الشارع هو "المقام الأثير للمتنزهين والمدخنين، والملاذ المفضل لكل أنواع المهن الصغيرة، فالكل هنا يحصل على الدواء الناجع لذلك النوع من السأم". ولذلك فإن بودلير يقول "أى شخص يستطيع السأم داخل زحام هو أحمق".

السأم الآن مثل تناول الوقت بجرعات كبيرة، والجميع يعاني من "النسيان الثقافي" بتعبير بول كرونوتو؛ مؤلف كتاب "كيف يغزو النسيان ذاكرة الحداثة" (الصادر عن المركز القومي للترجمة، ٢٠١٦). إذ ثمة تسابق نحو "تدمير للماضي"، وكما لاحظ المؤرخ إريك هوبسباوم؛ تزداد نزعة فقدان الروابط التي تربط الأجيال المعاصرة بماضيها، والجماهير في كل مكان مهووسة بفقدان ذاكرتها.

تعمل الحكومات أحيانًا على إعادة تنظيم الفضاءالعام، فتقتلع أماكن من سياقها، وتسعى في المقابل إلى تثبيت علامات دالة على قيمة الماضي في أماكن أخرى، دون وعي بأن أفضل الشوارع هي التي يمكن أن نتذكرها بما تتركه فينا من انطباعات قوية؛ فالشوارع ترمز إلى المجتمعات التي تضمها، وهي في النهاية تاريخ لهذه المجتمعات، وجزء من ذاكرتها القومية، ومن ثَم فمن المستحيل الحديث عن أماكن دون استدعاء السِير الذاتية فيها، وليس في الإمكان استثمار الماضي في مكان ما بانتزاعه من سياقه تحت دعوى تجميله أو صيانته.

يقول الفلاسفة إن الأشخاص يتحولون إلى بؤر رمزية، من جرَّاء التفاعل بين الأفعال والأماكن التي تشحن الذاكرة، ويبقى تأثيرها أكثر غموضًا.