رؤى

أحمد حسن

القراءة المتناقضة لموقف ماركس من الاستعمار بين التزوير والإغفال

2019.03.01

القراءة المتناقضة لموقف ماركس من الاستعمار بين التزوير والإغفال

ثمة اتهام وجَّهه عديد من الكتاب والمدارس الفكرية إلى ماركس، مفاده أنه مفكر أوروبي في المقام الأول، ونظريته متأثرة بنزعة المركزية الأوروبية، حتى أنه دافع عن الاستعمار الأوروبي لأفريقيا وآسيا، وأن علاقته بنضالات الدول المستعمرة ليست فقط غائبة أو استعلائية، بل استعمارية بدرجة ما.

هذا الاتهام ليس مجرد افتراءات فحسب، بل تشويه لماركس وإقصاء له عن بلدان الشرق والجنوب وقضاياها، مما يتركها للقوميين والوطنيين البرجوازيين من كل الأنواع. إن ماركس هكذا ليس فقط غير لائق نظريًّا، إذ تدور أفكاره ونظرياته حول أوروبا وفقط، بل هو استعماري استعلائي، ولو إلى حد ما.

أثار اهتمامي بتلك القضية ما وجدته في أثناء العمل على ترجمة كتاب “ماركس الأخير” (تأليف مارشيلو موستو، الناشر دار المرايا). هذا الكتاب الذي يكشف عن مناطق مجهولة ومهمة في تطور وبلورة أفكار ماركس ونظريته. ويكشف كذلك عن البيئة التي كتب فيها وطوِّر نظرياته من خلالها. إلا أن الكتاب يحمل في طياته ذلك الاتهام، ويحمل أيضًا نقيضه والرد عليه. وقد قادني البحث في الأمر إلى اكتشاف موجة من الكتابات الحديثة لبعض الباحثين العرب -قوميين وليبراليين وحتى يساريين- تكاد تكون ممنهجة في هجومها على ماركس. 

وربما سيكون من المفيد هنا عرض تناقضات مؤلف “ماركس الأخير” حول تلك المسألة، والتعرف في السياق نفسه على اتهامات الآخرين، والبحث فيما إذا كان ماركس يستحق تلك الاتهامات، أم هي محض افتراء وتزوير. 

ترتبط أغلب التناقضات والاتهامات بواقعتين أشار إليهما ماركس خلال رحلته إلى الجزائر، في رسائله الى إنجلز: الأولى، تتعلق بإعدام الفرنسيين لمواطن جزائري كان متهمًا على الأغلب بالسرقة. وموجزها أن الفرنسيين خالفوا الأعراف الجزائرية والتعهدات التي قطعوها وقطعوا رأس المتهم بالمقصلة، وذلك بدلًا من إعدامه بالمشنقة كما هو متفق عليه، وسبب ذلك رعبًا لأهله المسلمين لاعتقادهم أن الجسد يجب أن يكون كاملًا كي يدخل الجنة، ورفض الفرنسيون إعطائهم الرأس ليخيطوها في الجسد كي يكتمل. والثانية تتعلق بوصفه لمشهد جماعة جزائرية فيما يخص الملابس والأزياء الغريبة بالنسبة له. 

كما يضاف إليهما حشو ذهني من نوع أنه كان يأنف من العرب والمسلمين، وفي أثناء رحلته تجنب التعامل معهم احتقارًا. بل إن أحد الكُتَّاب يضيف: أنه عاش مرفهًا في الجزائر على حساب الحكومة الفرنسية.

يقول موستو في كتابه: «أدلى ماركس بعدد من الملاحظات المثيرة للاهتمام في خطاباته الستة عشر المرسلة من الحافة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط، بعضها ما يزال يشوبه رؤية استعمارية إلى حد ما. تلك التي تبرز في نظرته إلى العلاقات الاجتماعية بين المسلمين». 

ويشاركه وجهة النظر هذه الكاتب العراقي «التقدمي»، حسين الموزاني، في مقاله بصحيفة ميسلون في مارس2017. إذ يؤكد أن ماركس كان يحتقر العرب والمسلمين (!) بدلالة الواقعتين المشار إليهما. ويضيف فيما يخص واقعة الإعدام أن المحكوم عليه هو المجاهد الجزائري «بوعمامة»، ويستنتج من ذلك أن ماركس تعامل بشكل غير لائق مع موت مناضل جزائري.

والحقيقة أن الموزاني –بقصد أو عن جهل– يزيف التاريخ. لأن محمد بن العربي الشهير بـ «بوعمامة» المناضل الجزائري الشهير لم يعدم في عام 1882، بل إنه حتى لم يُعدم أصلًا وتوفي وفاة طبيعية عام 1908 في واد بورديم بالمغرب، أي بعد وفاة ماركس نفسه بعدة عقود. وواقعة الإعدام المذكورة أشار إليها ماركس في سياق التشهير بالفرنسيين ومخالفتهم لتعهداتهم والتعامل الفظ والبربري مع الجزائريين. بل إن ماركس يشير –كما يذكر موستو- إلى «الانتهاكات العنيفة من قبل الأوروبيين»، و«غطرستهم السافرة وتطاولهم الفج» على الجزائريين. ويؤكد أنه في التاريخ المقارن للاحتلال الاستعماري «يتفوق البريطاني والهولندي على الفرنسي». وقد أخبر إنجلز، أن صديقه القاضي فيرمي في الجزائر قد شاهد بشكل منتظم في أثناء قيامه بمهام وظيفته «أشكالًا من التعذيب لانتزاع اعترافات من العرب، تمارسه الشرطة بطريقة باردة تخلو من أي إحساس مثل الإنجليز في الهند».

يزَّيف الموزاني أيضًا وصف ماركس لمشهد الجزائريين. ويترجم الفقرة الأخيرة من رسالته هذه كالتالي: «ومع ذلك فليذهبوا إلى الشيطان ما دامت لم تكن لهم حركة ثورية». بينما الفقرة بالإنجليزية هي:“Nevertheless, they will go to rack and ruin without a revolutionary movement” وهو نص لا يوجد به “شيطان”، ولا تتحمله أي ترجمة اجتهادية، كما لا يوجد به أداة تعليل مثل: مادام أو طالما. الفقرة تحمل طابعًا تقريريًّا. وتفيد أن المغاربة سوف يتعرضون إلى معاناة شديدة وتدمير دون وجود حركة ثورية. وهي أقرب إلى دعوة لتكوين حركة ثورية جزائرية، دونها سوف يهزم الجزائريون. ولا يوجد بها أدنى شبهة احتقار لهم أو لنضالهم. 

ومن هذا الجهل، أو التزييف، يخلص الموزاني إلى: «تفصح هذه الملاحظة، وغيرها العديد المبثوث في ثنايا الكتاب المُفصَّل الذي وضعته الباحثة الألمانية مارلينا فسبر عن رحلة كارل ماركس إلى الجزائر، عن النظرة الأخلاقية والسياسية لماركس، وهي في التحليل النهائي نظرة أوروبية مركزية، استعلائية وأرستقراطية في جوهرها، وبالذات نظرة أوروبا الوسطى والشمالية الذي تحدث عنها إدوارد سعيد في كتابه عن الاستشراق»

ويحاول الموزاني الحط من قيمة ماركس النظرية، ويهاجم رؤيته للتاريخ وفهمه لأنماط الإنتاج في الشرق: «هذه الملكية المشتركة للأرض هي نمط اقتصادي اجتماعي كان سائدًا في الجزائر منذ مئات الأعوام، ويتناقض إلى حدّ ما مع نظرية كارل ماركس عن المراحل الخمس التي مرَّت، أو التي ستمُّر بها البشرية حتمًا، وهي المشاعة البدائية، أو الشيوعية الأولى، ثم العبودية فالإقطاع فالرأسمالية وأخيرًا الاشتراكية».

والحقيقة أن ما ينسبه إلى ماركس ليس له أصل في كل ما كتبه الرجل، بل إن مخطوطاته التي ظهرت ونُشر بعضها منذ عشرات السنين، تشير إلى رؤيته لأنماط إنتاج أخرى غير تلك المذكورة، وأنه رفض بشدة –خصوصًا في سنواته الأخيرة– قيام البعض بنسب أفكار كهذه إليه. بل إن رحلته للجزائر، كما يذكر الموزاني نفسه، تضمنت غرضًا بحثيًّا في أشكال الإنتاج الأخرى غير الرأسمالية والإقطاعية. ويكفي مطالعة الفصل الثاني من كتاب «ماركس الأخير» لدحض هذه الأكذوبة نهائيًّا. 

لكن دعونا نشير هنا إلى بعض الآراء التي طرحها إدوارد سعيد، كما استشهد به الموزاني، عن تعامل ماركس مع الشرق. إذ يعزو سعيد هذه النظرة إلى فهم ماركس للنظام الاقتصادي الآسيوي الذي تحدث عنه عام 1853 في أثناء تحليله لطبيعة السيطرة البريطانية على الهند. فبعد أن استعرض ماركس سياسة القمع والتدخل الاستعماري الفظّ في شؤون الهند، عاد وبقناعة تامة إلى أفكاره الأصلية، حسب تصورات الموزاني وسعيد، التي ترى في تحطيم الهند فرصة لثورة اجتماعية حقيقية! وبالطبع لم يكن من أهداف الاستعمار البريطاني قطّ إتاحة الفرصة أمام الهنود للقيام بثورة اجتماعية. إلا أن ماركس يرى، وفقًا لهذا التحليل، أن بريطانيا تقوم بمهمتين مزدوجتين في الهند، إحداهما هدّامة والأخرى بناءة تهدف إلى تدمير النظام الاجتماعي الآسيوي القديم ووضع الأسس المادية لنظام اجتماعي غربي في آسيا.

والحقيقة أننا لا نعرف، ولم نقرأ، ولم يشير الموزاني إلى أي كتاب أو نص أو حتى فقرة واحدة لماركس، قرر فيها، صراحة أو ضمنًا، أن «تحطيم الهند فرصة لثورة اجتماعية حقيقية». هذا تلفيق فج وفظ منسوب إلى ماركس سواء من وجهة نظر سعيد –وفقًا للموزاني– أو في افتراءات آخرين منهم الموزاني نفسه. وليس هناك حاجة إلى استدعاء تعليق إدوارد سعيد عن دور الاستعمار الإنجليزي في الهند وأهدافه. لأن ماركس خصص منذ مائتي عام، لفضح هذا الدور، العديد من التحليلات العميقة التي فضحت كليًّا إنجلترا وسياستها الاستعمارية. 

فسعيد يتخذ موقفًا من الماركسية أقل ما يقال عنه إنه تشويه متعمد. لقد صدَّرَ كتابه «الاستشراق» بجملة شهيرة لماركس: «إنهم عاجزين عن تمثيل أنفسهم، يجب أن يُمثلوا». موحيًا للقارئ أن ماركس كان يقصد الشرق المتخلف العاجز، الذي يجد تمثيل تطوره ومصالحه التاريخية في الغرب.

هذه الجملة وردت في تحليل ماركس للعلاقة بين بونابرت الصغير والفلاحين الفرنسيين. في كتاب «الثامن عشر من برومير» وهو تاريخ انقلاب لويس بونابرت. وليس لها أي علاقة بشعوب الشرق، وإنما تتعلق بتخلف الحركة الفلاحية في إحدى دول الغرب «فرنسا». وليس من الأمانة العلمية تسكينها خارج سياقها لـتأويلها ضمن ما اعتبره سعيد «خطاب الاستشراق». مهدرًا كليًّا نظريته القائمة على التحليل المادي للواقع، وليس إدراكه عن طريق «خطابات أو نصوص». بل ورؤيته التحريرية المضادة كليًّا للغرب الاستعماري. 

يضع سعيد ماركس ضمن منظومة المستشرقين الغربيين، من اليمين العنصري إلى الإنسانوية الاستعمارية، وتلك معجزة حقًا! كما أنه ألصق به عدة تهم تنطلق كلها من مخيلة ذاتية، أو قراءة مشوهة. 

وبخصوص النتيجة المركبة للغزو الاستعماري للهند، أو حتى الغزو الاقتصادي الغربي لروسيا الإمبراطورية، هناك تحليل جدلي أصيل للأمر في كتابات ماركس. فالدول الاستعمارية ستضطر إلى تحطيم الأشكال الاقتصادية القديمة لتسهيل سيطرتها الاقتصادية، وحتى تربط اقتصاد البلد المستعمر باقتصادها المسيطر. وهذا ما قام به الاستعمار فعليًّا في معظم الدول التي تم غزوها. وكانت الاستراتيجية الأعمق لهيمنة الرأسماليات الأوربية هي «رسمل تسد» لا «فرق تسد»، خصوصًا في المراحل التي احتاجت فيها إلى «التوحيد القومي» وبناء الإمبراطوريات الاستعمارية لخلق أسواق كبيرة لمنتجاتها. وهكذا كان تحطيم أشكال الإنتاج القديمة، وفرض علاقات التبادل الرأسمالي على الأرض، أهدافًا أساسية للهيمنة الاستعمارية. 

وقد أكد ماركس على أن ذلك تدمير للبلد المستعمَر ووحشية من جانب الرأسمالية الغازية. ومع ما كان يراه في كتاباته المبكرة من أن الاستعمار قد يكون ضريبة يفرضها التاريخ، تسمح بتطور المستعمرات ودخولها إلى نمط إنتاج أرقى، لكنه، في كتاباته الأخيرة على الأقل، وصل إلى أن هذا الثمن الفادح يمكن تفاديه. بل أكد على أن المرور بمحرقة الانتقال إلى الرأسمالية وتكلفته الدامية ليس حتميًا. لم يكن ماركس محاميًا للاستعمار، بل محللاً ماديًّا تاريخيًّا ثوريًّا، وقف بثبات في كل مراحله الفكرية بجوار نضال شعوب المستعمرات، وفضح بلا تواطؤ أو هوادة دور المستعمرين وجرائمهم وحيلهم الخبيثة. 

وعمومًا لا يُفترض في الباحث النزيه أن ينتقي من أعمال مفكر ما، كتابات تجاوزها هذا المفكر نفسه لاحقًا، وإلا اعتُبر ذلك تزويرًا بالحجب. خصوصًا لو أن تلك الاعمال متاحة للباحث، وإن افترضنا حسن النية، يكون الباحث معذورًا بجهله فحسب.

ومن المفارقات المثيرة للسخرية أن الموزاني يكاد يوجه النقد إلى ماركس، فليسوف التفكير المادي، لأنه لم يؤمن بمحمد ورسالة الإسلام، هكذا يحدثنا: «يقول ماركس بإن العرب قبل الإسلام كانوا متحضرين شأنهم شأن قدماء المصريين والآشوريين، ولذا فإنّ الثورة الدينية التي قام بها محمّد لا تختلف عن أي حركة اجتماعية، فهي حركة رجعية على نحو شكليّ، تزعم العودة إلى ما هو قديم وبسيط». ويتناول مقولة لماركس، إن «القرآن والتشريع المستمد منه يقلصّان الجغرافية والتنوع العرقي لمختلف الشعوب في ثنائية سهلة ومريحة: «المؤمنين والكفار». ويستنتج منها أن «ماركس اعتقد أن القرآن يعتبر كل أجنبي كافر، إذ أن أحدًا لم يجرؤ على دخول بلد إسلامي دون أن يتخذ إجراءات الحيطة والحذر». 

من أين أتى الموزاني بفرية أن ماركس ادعى أن المسلمين الجزائريين يعتبرون أي «أجنبي» كافر؟! وهل يقتصر الإسلام على من هو جزائري؟! ألم يوجد في تلك الحقبة مسلمون غير جزائريين «أجانب» في بقاع كثيرة من العالم؟! وهل كان الجزائريون يجهلون ذلك؟! 

ويواصل الموزاني: «كارل ماركس نفسه طبَّق هذه التصوّرات حرفيًّا في أثناء زيارته إلى الجزائر، فهو لم يلتق بعربي أو بربري واحد، لأنهم أفظاظ ولا يؤتمن لهم جانب على حد تعبيره؛ ثم أنهم أتباع دين رجعيّ صحراوي لا علاقة له بالعلم والمعرفة اللذين يشكلان «جوهر» الفلسفة الماركسية».

وبغض النظر عن عبثية مطالبة فليسوف المادية بعدم نقد الأديان، وبألا تكون له رؤية تاريخية غير رؤية الأديان لنفسها، لكننا سنجد الصورة الوحيدة المنشورة لماركس في الجزائر هي صورة في حي جزائري شعبي بسيط بين مواطنين جزائريين. 

هذا غير أن رسائله من الجزائر حملت قدرًا كبيرًا من الإعجاب بالجزائريين، «الشامخين رغم الفقر ورغم الاستعمار»، بل والذين يتعاملون (كمسلمين) «بتكافؤ واحترام فيما بينهم، بغض النظر عن تفاوت الثروة والمكانة». وفي إحدى رسائله يحفز ابنته على الاهتمام بالثقافة العربية التي لا تخلو من الحكمة العملية في مقابل الأفكار المجردة. 

وكان، على العكس، يتحدث عن انبهاره بسحر الشرق الجزائري. فكتب في رسالة أخرى لابنته: «لا يوجد شيء في مثل سحر مدينة الجزائر، إلا الريف الجزائري البعيد عن تلك المدينة... سيكون ذلك أشبه بألف ليلة العربية –تمنحني صحة جيدة– مع كل أعزائي القريبين، وخصوصا الأحفاد الذين لا يمكن نسيانهم». 

ومع أن الموزاني يقرَّ أنّ ماركس أظهر تعاطفه مع العمَّال الجزائريين، مثلما أكد في رسالة إلى زوج ابنته، لكنه ينسى في فقرة تالية فيشير إلى: «أنه لم يحاول يومًا الاقتراب من سكّان البلد الأصليين، ولم يظهر أدنى تعاطف معهم أو مع قضيتهم، لأنهم عرب ومسلمون، ولم يتعرّض إلى ثقافتهم وتاريخهم مثلما تؤكد لنا كتاباته ومراسلاته»!

يروي موستو في كتابه، أن ماركس «بعد استكشاف المنطقة المحيطة بفندقه، حيث كانت إعادة بناء المساكن جارية على نطاق واسع، أشار إلى أنه على الرغم من أن العاملين في هذا النشاط أشخاص أصحاء وسكان محليون، فإنهم يعانون من الحمى بعد الأيام الثلاثة الأولى. وأن جزءًا من أجورهم، يتكون من جرعة يومية من مشروب الكينا المقوي التي يقدمها أصحاب العمل».

واضح بالطبع أن هناك تناقض صارخ بين ادعاءات الموزاني، وبين ما هو موثَّق من مواقف ماركس الحادة ضد معاناة العمال الجزائريين، وتشهيره بما كانوا يتعرضون له من استغلال. والمثير للدهشة أن اهتمام ماركس بشعوب الشرق كان أكثر من مجرد مصادفة في أثناء رحلة علاجية. فالشرق الواقع تحت سيف الغزو الاستعماري الأوروبي شغل ماركس الذي كان ينظر إلى العالم كشبكة علاقات متفاعلة، من إنجلترا وفرنسا حتى مصر والهند. 

يشير موستو في كتابه إلى: «عندما قام النائب البرلماني ورئيس المؤتمر التعاوني جوزيف كوين –الذي كان ماركس يعتبره أفضل البرلمانين الإنجليز– بتبرير غزو إنجلترا لمصر، أرسل ماركس إلى إليانور معبرًا عن رفضه التام. وبادئ ذي بدء، أدان ماركس الحكومة البريطانية قائلاً: «رائع، لا يمكن رؤية مثال صارخ على النفاق المسيحي أكبر من «غزو» مصر – غزوٌ في خضم السلام!». وقد أعرب كوين في خطاب ألقاه في 8 يناير 1883 في نيوكاسل عن إعجابه بـــ«الاستغلال البطولي» من جانب البريطانيين «والاستعراض العسكري المبهر»؛ كما لم يستطع أن «يمنع نفسه من اصطناع الابتسامة إزاء تلك المواقف الهجومية المحصنة من المحيط الأطلنطي حتى المحيط الهندي» إلى جانب «الإمبراطورية البريطانية–الأفريقية»، التي تمتد «من دلتا النيل إلى أقصى الجنوب الأفريقي».أنه «الأسلوب الإنجليزي» الذي يتسم بـــ«المسؤولية عن المصلحة الوطنية». وفيما يخص السياسة الخارجية، استنتج ماركس أن كوين نسخة طبقة الأصل من «البرجوازية البريطانية التعيسة، التي تتأوه كلما تحملت مزيدًا من «المسؤولية» في خدمة مهمتها التاريخية، وفي الوقت نفسه، تهمهم عبثًا بأصوات الاحتجاج ضد السياسة البريطانية».

وللتعرف على الأهداف الحقيقة لمقال الموزاني، يكفي النظر إلى خاتمته: «ولعلّي كنت من العمّال العراقيين القلائل الذين آمنوا بنظرية ماركس عن الثورة البروليتارية في العراق! إذ لم نكن نعرف بعد أي جرائم إبادة قام بها ويقوم بها حتى هذه اللحظة حملة لواء ماركس ضد شعوبهم والشعوب الأخرى، والتي ذهب ضحيتها عشرات الملايين من البشر باسم «الديانة» الماركسية الإطلاقية التي تختزل الإنسان إلى عامل اقتصادي بحت، فتمسخ فورًا شخصيته وأخلاقه وتطلعاته الفردية وعلاقاته الاجتماعية الطبيعية. ويحضرني هنا أننا كنّا نتيجة فهمنا الماركسي لصراع الطبقات نعادي جميع الطبقات غير العمالية». وبغض النظر عن أنه كان «عاملاً عراقيًّا» يتبني أفكار ماركس! فمن الواضح أنه يكتب الآن دفاعًا عن تلك الطبقات الأخرى، ضد الماركسيين المجرمين الدمويين.

كاتب آخر من الجزائر، هو بو داوود عمير، نشر في فبراير 2016 في موقع جزاير س، ومن بعده في صحيفة نفحة الجزائرية، مشيرًا إلى القصة المختلقة نفسها، والخاصة بالمجاهد الجزائري بوعمامة. فبعد إسهابه في شرح بطولات بوعمامة وآثارها الكبيرة على الاحتلال الفرنسي، يؤكد بحدة: «كان من الطبيعي أن تصل تلك الأحداث صداها، إلى مسامع كارل ماركس وهو يزور الجزائر. رد فعل ماركس السلبي، ضد مقاومة الشيخ بوعمامة، كان مفاجئًا، بتبنّيه وجهة نظر الاستعمار الفرنسي، في تحليله للأحداث، واقتصاره على «معاتبة» الفرنسيين، لأنهم لم يسلموا جثة بوعمامة إلى أهله وعشيرته». 

ثم يتساءل بانفعال بالغ: كيف سمح ماركس لنفسه، أن يصف مقاومًا، خرج من صلب «الجماهير»، وواجه بإرادته همجية الاستعمار، بـ«لصّ مسكين، وقاتل محترف من العرب؟». ويجازف بإجابة تحمل اتهامًا أشد انحطاطًا إلى ماركس: «هل الاستقبال «المشبوه» للسلطات الفرنسية له في الجزائر وترحيبهم به، ووضع جميع وسائل الراحة والترفيه تحت تصرفه، كان الدافع وراء إخفائه المتعمّد لحقيقة الوضع؟».

تلك الاتهامات «الرخيصة» لم يقدم الكتاب دليلًا -ولو تافهًا- يبررها. فضلًا عن واقع أن الرحلة لم تكن معلومة لا للحكومة الفرنسية، ولا لأغلب أصدقاء ماركس، أو الصحف التي تقتفي تحركاته وتصريحاته. فالحكومة الفرنسية لم تكن لتسمح لكاتب ثلاثية الثورة الفرنسية الشهيرة. والمحرِّض الشيوعي الأشهر، أن يطأ أرض أحد مستعمراتها (الجزائر) ولو للاستشفاء. 

ولا نعلم ما وسائل الترفيه التي توفرت لماركس في تلك الرحلة المرهقة؛ ربما سوى تأمل السماء أحيانًا ومشاهدة ضوء القمر والتجول ليلًا، وهي كلها أشياء مجانية تمامًا لا تحتاج إلى رعاية الحكومة الفرنسية. وقد وصل به الأمر إلى العلاج بالحجامة العربية في الجزائر، وليس مثلًا في مستشفى باريسي على أقل تقدير. 

إن سعارًا قوميًّا من «تقدميين» وغيرهم، اندفع يهاجم -دون تفكير أو تدقيق- ماركس بخصوص رحلته العلاجية للجزائر، التي سبقت وفاته بقليل. وبغض النظر عن تزوير قصة «بو عمامة» إلا أن كتابات ماركس، سواء في رسائله من الجزائر، أو بعد عودته منها، تحمل إدانة عنيفة لممارسات فرنسا في المستعمرة، وتعاطفًا غير محدود مع نضال الجزائريين من أجل الاستقلال، بل وإعجابًا بثقافتهم وسلوكهم من بعض الوجوه، دون طبعًا أن يتقيد بقبول أي أفكار رجعية. ومن الممكن أن يكون لا يعرف، وهو الموجود سرًّا هناك، والمريض المشغول بمتاعبه وعلاجه، وقليل الاحتكاك كي لا تعلم السلطات الفرنسية بوجوده، أن المحكوم عليه كان من «المقاومة»، هذا إن كان فعلًا من المقاومة. إلا أن الحد الأدنى من الأمانة في البحث وإصدار الأحكام، على أساس يحترمه العقل، كان يقتضي أن ينظر مثلًا إلى تقديراته ومواقفه من «المقاومة الجزائرية»، بل إن ما كتبه عن هذه الواقعة قصد به التنديد بخسة الاستعمار الفرنسي في المقام الأول، وأيًا ما كانت طبيعة المحكوم عليه.

نأتي أخيرًا لتناقضات مارشيلو موستو مؤلف «ماركس الأخير»، إذ يناقض نفسه في أكثر من موضع. فأوروبا التي خضع ماركس لتأثيرها -على حد تعبير موستو- هي نفسها أوروبا «البرجوازية المتوحشة عديمة القلب» كما وصفها ماركس في أحد الاقتباسات التي نقلها موستو!

لم تكن أوروبا الرأسمالية مبهرة لماركس بأي درجة، على العكس كان فعلاً يحتقر مفكريها وشخصياتها البارزة، ويصورها باعتبارها جحيم العمال، سارقة الأجساد والأرواح وأعمار الفقراء، والغول الذي يلتهم المستعمرات دون رحمة. 

منذ مراحله الفكرية الأولي، وبوجه خاص في كتابة «البيان الشيوعي»، يربط ماركس بين نمط الإنتاج الرأسمالي والاستعمار. إذ يدفع فائض الإنتاج إلى البحث عن أسواق ومواد خام.. إلخ. ومن ثم تم مهاجمة أمم واستنزاف مواردها وكبح نموها لحساب آلة الإنتاج الأوروبية الرأسمالية. فالاستعمار، بحق، مظهر للرأسمالية في مرحلة معينة من تطورها. ودعوة ماركس إلى القضاء على الرأسمالية هي دعوة لخلع أسباب الاستعمار من الجذور. بل إنه كتب مرة بوضوح: «أزيلوا استثمار الإنسان للإنسان، لتزيلوا استثمار أمة لأخرى»؛ الفصل الأول من البيان الشيوعي. 

ويؤكد، حيث «ظفرت البرجوازية بالسلطة، دمرت كل العلاقات الإقطاعية من كل لون، التي كانت تربط الإنسان بسادته الطبيعيين، ولم تُـبقِ على أية رابطة بين الإنسان والإنسان سوى رابطة المصلحة البحتة، والإلزام القاسي بـ«الدفع نقدًا». وأغرقت الرعشة القدسية للورع الديني، والحماسة الفروسية، وعاطفة البرجوازية الصغيرة، في أغراضها الأنانية المجرَّدة من العاطفة، وحولت الكرامة الشخصية إلى قيمة تبادلية، وأحلَّت حرية التجارة الغاشمة وحدها، محل الحريات المُـثـبَتة والمكتسبَة التي لا تحصى. وبكلمة أحلَّت استغلالًا مباحًا وقحًا مباشرًا وشرسًا، محل الاستغلال المُغلَّف بأوهام دينية». تلك هي أوروبا كما يراها ماركس: قبيحة ومدمرة وأنانية ومخربة، منذ باكورة أعماله.

كما أنه خصص فصلًا كاملًا من رأس المال، تحت عنوان «أصل رأس المال» بيَّن فيه جرائم الرأسمالية في أفريقيا لخطف وجلب أفارقه وتحويلهم إلى عبيد، حتى يتم توفير قوة عمل شبه مجانية، ساهمت في التراكم الأولى لرأس المال الأوروبي، والأمريكي بالطبع. وهو فصل أقرب إلى الرواية الملحمية في وصف تلك الجريمة الأوروبية.

كما خصص هو وإنجلز مجموعة من الكتابات حول الاستعمار وآثاره المدمرة، مهاجمًا وناقدًا ورافضًا وشارحًا بمنهجية رفيعة. وقد تم جمع عدد من تلك الكتابات في مجلد تحت عنوان «ماركس، إنجلز – حول الاستعمار» يمكن الرجوع إليه لرؤية وجهات نظرهما الحقيقية في قضية الاستعمار الأوروبي، بعيدًا عن تلك الافتراءات.

سنجد كذلك أن موستو في كتابه يناقض في أكثر من موضع اتهامه، الذي أشرنا إليه سابقًا، بأن بعض خطابات ماركس التي أرسلها من الجزائر كان يشوبها رؤية استعمارية إلى حد ما. بل إنه يقرر صراحة في مقدمة كتابه: «قام ماركس في الأعوام 1881-1882 بإنتاج دراسة عميقة تستند إلى الاكتشافات الجديدة في حقل الأنثروبولوجيا، تدور حول أشكال الملكية المشاعية في المجتمعات ما قبل الرأسمالية، والتطورات التي أعقبت إلغاء القنانة في روسيا، وأسباب ظهور الدولة الحديثة. كما أنه تابع باهتمام الأحداث الرئيسية في السياسة العالمية، ويمكن أيضًا أن نرى، من خلال خطاباته، تأييده ودعمه الواسع لنضال الأيرلنديين التحرري، ومعارضته الشديدة للقمع الاستعماري في الهند، وفي مصر والجزائر. يمكن أن تقول عن ماركس ما شئت، عدا إنه أوروبي النزعة، أو اقتصادوي. أو أن كل تركيزه كان منصبًا على الصراع الطبقي فقط».

لم يكن حريًّا بكاتب أكاديمي مدقق ومتخصص كموستو أن ينساق إلى هذا التناقض، وأن يقرَّ اتهامات أبعد ما تكون عن الحقيقة، بينما هو يستند في كتابه إلى عشرات الوقائع والوثائق المكتوبة التي تناقض هذه الاتهامات.

إن كل ما سبق هو محض عينة من تلك الافتراءات الشائعة عن ماركس، التي تزداد كلما ازدادت شعبية كتاباته، وعدد المهتمين بأفكاره، وكأنها نوع من الهجوم المضاد. ما هو مركزي حقًا في كل هذا الجدل، هو ماركس نفسه، فقد فرض نظريته على العالم المعاصر بأقطابه المتباينة، وعبثًا يحاولون تخطيه أو إزاحته. إنه مربوط عضويًّا بوجود الرأسمالية، تستدعيه صراعاتها كلما استعرت، ويلجأ إليه المزيد والمزيد من طلاب التحرر الاجتماعي كلما أطلق الصراع الطبقي النفير من أجل المعركة.