هموم

يحيى فكري

المؤرخ خالد فهمي: ليس لدينا طريقة لجذب الوثائق ولا آلية للفهرسة!

2021.03.01

المؤرخ خالد فهمي: ليس لدينا طريقة لجذب الوثائق ولا آلية للفهرسة!

الدكتور خالد فهمي أحد أهم المؤرخين المصريين المعاصرين، وهو متخصص في التاريخ الاجتماعي لمصر الحديثة، تحديدًا خلال القرن التاسع عشر. تخرج من الجامعة الأمريكية بالقاهرة وحصل على الدكتوراه من جامعة أوكسفورد. وقام بالتدريس في عدد من الجامعات الأمريكية، ثم عاد إلى القاهرة عام 2010 وعمل أستاذًا بالجامعة الأمريكية. وفي عام 2014 عاد إلى التدريس في الجامعات الأمريكية، واستقر أخيرًا أستاذًا للدراسات العربية في جامعة كامبريدج.

ومن أهم كتبه: «كل رجال الباشا»، و«الجسد والحداثة»، و«البحث عن العدالة»، والأخير فاز بجائزة أفضل كتاب من جمعية التاريخ البريطانية عام 2020. وإضافة لكونه أحد المشتغلين بالوثائق المصرية، فهو أحد أهم المنشغلين بها، ولديه الكثير من الهموم والآراء حول هذا الأمر. وبالطبع عندما قررنا أن نخصص «هموم صنَّاع الثقافة» في هذا العدد للحديث عن معضلة الوصول إلى الوثائق، التي تواجه الباحثين المصريين، كان لابد من التوجه إليه والتعرف على وجهات نظره.

- د. خالد أود أن أسألك في البداية عن التعريف العلمي لكلمة «وثائق».. ما هي الوثائق تحديدًا؟

 لقد أصبح هناك استخدامات متنوعة لكلمة «وثائق» وكلمة «أرشيف».. لكن بالنسبة لنا في مصر فنحن نميز بين «الوثائق» و»المخطوطات».. «المخطوطة» هي نسخة من كتاب مكتوبة بخط اليد، وبالتالي هي كتاب قديم.. مثلًا كتاب «الأم» للإمام الشافعي سنجد له مخطوطة قديمة يتم تحقيقها.. وأيضًا «عجائب الآثار» للجبرتي سنجد له سبع أو ثمان مخطوطات في عدد من المكتبات العالمية، منها مكتبة جامعة كمبريدج التي يوجد بها نسخة أصلية بخط يد الجبرتي.. 

أما «الوثائق» فهي مكاتبات، وفي مصر نستخدم الكلمة للدلالة على مكاتبات الإدارة المصرية، التي نعتبرها وثائق رسمية.. سنجد مثلًا لدينا - قبل ظهور الدولة الحديثة - خلال العصر العثماني وثائق للمحاكم الشرعية نسميها «سجلات المحاكم الشرعية».. وهي محاكم بدأت مع الفتح العثماني واستمرت حتى القرن العشرين.. هذه السجلات تضم تعاقدات ومبايعات وبعض القضايا الجنائية، وكان تُحفظ في المساجد، وبعدها في ديوان الأوقاف، ثم في دار الوثائق بعد إنشائها.. 

- كيف تأسست دار الوثائق؟ ومتى نشأت؟

 تقع دار الوثائق حاليًا على كورنيش النيل.. لكنها أصلًا كانت في قصر عابدين وقبل ذلك في القلعة.. عندما بدأ محمد علي تأسيس دولته، كان لديه مستشارن يعاونونه، وفكروا في عمل مؤسسة لحفظ الأوراق الحكومية، فأصدر محمد علي عام 1828 لائحة تتعلق بحفظ أوراق الدواوين الحكومية للأبد داخل مؤسسة «الدفترخانة» بالقلعة.. على أن تُحفظ في البداية ولخمس سنوات داخل الدواوين، وبعد ذلك تُنقل إلى «الدفترخانة».. وبدأ هنا تكوين أرشيف للدولة المصرية يعتمد على المكاتبات، تتراكم داخله الوثائق وتُحفظ بطريقة منظمة..

وعندما تولى الملك فؤاد الحكم، وكان مقر الحكم حينها قصر عابدين، اهتم بتسجيل تاريخ عائلته، فاستقدم عددًا من الكتاب الأجانب ليقوموا بذلك.. وأحضر مجموعات منتقاة من وثائق «الدفترخانة»، ضمت عددًا كبيرًا من المجلدات، التي تُلقي ضوءًا بشكل جيد على سيرة جدوده، وهي في معظمها المراسلات والمكاتبات والمراسيم التي تتغنى بهم.. ثم أنشأ في قصر عابدين قسمًا أسماه «قلم المحفوظات الملكية بسرايا عابدين»، ووضع تلك الوثائق فيه، كي يتسنى لمن استكتبهم من الأجانب الاطلاع عليها.. ونَتَجَ عن ذلك عدد من الدراسات طُبعت في مجلدات فاخرة بالفرنسية والإيطالية، وصدرت عن الجمعية الجغرافية المصرية، وليس الجمعية التاريخية بالمناسبة..

- لماذا الجغرافية وليس التاريخية؟

 لأن فؤاد كان راعي الجغرافية، أما التاريخية فكانت تضم مؤرخين أكاديميين يُدّرسون بالجامعة، وليس له وصاية عليهم.. وكأن هناك مدرستين: الأولى المؤرخون الأوروبيون المستكتبون، الذين تنشر الجمعية الجغرافية مؤلفاتهم؛ والثانية المؤرخون الأكاديميون أعضاء الجمعية التاريخية.. وكان إمامهم وأهمهم شفيق غربال الذي حصل على الدكتوراة تحت إشراف أرنولد توينبي، وكان من تلاميذه أحمد عزت عبد الكريم وآخرين، وهي مدرسة مستمرة حتى اليوم.. وهؤلاء كانوا يسعون لكتابة تاريخ الشعب والبلد، وعادة ما كانوا يضطرون إلى ترجي واستجداء الموظفين في سرايا عابدين حتى يطلعوا على تلك الوثائق.. فالملك يعتبر هذه الوثائق ملكية خاصة له، هي وثائق «جده»، ومصر كلها من وجهة نظره مجرد «عزبة» ورثها عن أبيه! 

- هل تطور هذا الوضع بعد يوليو 1952؟

 طبعًا.. عندما قامت الثورة أصبح لها مشروع تأريخي خاص بها، فأصدرت قانون جديد سنة 1954 وأسست بموجبه «دار الوثائق القومية»، وقرروا أن يجمعوا داخلها كل الوثائق التاريخية ويتيحوها للجمهور، وصار مقرها في القلعة، في الموقع الذي أصبح الآن المتحف الحربي.. كانت نواتها «قلم المحفوظات الملكية بسراي عابدين»، وبعد ذلك ضموا إليها وثائق «الدفترخانة» (وثائق الدواوين المصرية خلال القرن التاسع عشر)، ثم ضموا إليها سجلات المحاكم الشرعية.. وهكذا صار هناك مركز لتجميع وثائق الدولة الحديثة..

- هل يشتمل قانون 1954 على نص يفرض تحديث الوثائق؟ أي أن تحتفظ الوزارات بوثائقها لفترة زمنية، ثم تذهب بعدها إلى دار الوثائق؟ 

 لا لم ينص على ذلك صراحة.. القانون تحديدًا كان يختص بتأسيس دار قومية للوثائق الموجودة، وإتاحتها للجمهور.. لكنه لم يضع آلية للإيداع المنتظم، ولا وسائل حفظ الوثائق الرسمية للوزارات المختلفة.. وبالطبع لم يحدد آليات لحفظ الوثائق الخاصة، مثل وثائق الشركات الخاصة أو المؤممة أو المفلسة، ولا وثائق الأفراد والأوراق المحفوظة عن أسلافهم، ولا وثائق كبار الكتاب والمفكرين كطه حسين مثلًا.. فدار الوثائق لا تملك آلية لجذب الوثائق.. والأسوأ أنها لا تملك آلية لفهرستها، وهذه كارثة.. في قصر عابدين كان يتم حفظ الوثائق والعمل عليها بواسطة مفهرسين محترفين، ومترجمين، لأن كثيرًا منها كانت مكتوبة بالتركية العثمانية.. أما حاليًا فلا تملك دار الوثائق ميزانية للفهرسة.. 

ومن غرائب الأمور أن هناك أقسامًا للوثائق بكليات الآداب المصرية، حيث يَدرس الطلبة علوم الوثائق وكيفية فهرستها، لكن لا توجد صلة بين دار الوثائق وهذه الأقسام، فلا يُعين خريجوها في دار الوثائق.. والحقيقة أن دار الوثائق ليس لديها مفهرسون، لديها فقط أمناء مخازن.. وأنا أشهد لهم بالنزاهة، فلم يصل إلى علمي قط أي حادثة سرقة، اللهم إلا واحدة وأُمسك بفاعلها.. فهم شرفاء لكن غير مدربين على التعامل مع الوثائق.. في نفس الوقت هناك قوانين ولوائح عديدة تتعلق بشروط حفظ الوثائق في مواقع إنتاجها، وضمان سريتها وأمانها، لكن لا يوجد بينها ما يتعلق بآليات حفظها في دار الوثائق وإتاحتها للجمهور.. 

- إذن لا يوجد مركز قومي لتجميع الوثائق بعد عام 1954، فالوثائق تُحفظ في مواقع إنتاجها.. وثائق المحاكم في المحاكم، وثائق الوزارات في الوزارات، ..إلخ؟

 هذا صحيح.. لكن من حين لأخر تتذكر فجأة إحدى الوزارات أو المصالح، عندما يمتلئ أرشيفها بالأوراق، أن هناك دارًا مخصصة لحفظ الوثائق.. أحيانًا يحرقون أوراقهم أو يفرموها أو يبيعوها، دون أن يخالفوا بذلك أي قانون، فالقوانين لا تلزمهم بالاحتفاظ بتلك الأوراق إلا لمدة محددة.. خمس سنوات على ما أذكر.. والدار لا تفعل غير تخزين تلك الأوراق، فليس لديها كوادر أو أموال لفهرستها، ولا توجد قوانين تفرض عليها طريقة للتعامل معها..

ورغم أن الهدف المعلن من وجود دار الوثائق هو خدمة البحث العلمي، وإتاحة الوثائق للجمهور، لكنها فعليًا لا تملك الكوادر ولا الإمكانيات التي تجعلها قادرة على تقديم تلك الخدمة.. وهناك مشكلة أخرى مهمة هي أن دار الوثائق ليست مؤسسة مستقلة، بل تابعة لوزارة الثقافة، وهو وضع سلبي.. هذا يجعلها في وضعية دونية تجاه المؤسسات الحكومية الأخرى، فمثلًا يصعب عليها أن تطالب المؤسسات السيادية بأن تسلم لها وثائقها.. 

- لكن لا يوجد قانون يُلزم المؤسسات الحكومية المختلفة بتسليم وثائقها إلى دار الوثائق؟

 أنا غير متأكد في الحقيقة.. لكن لو أن هناك مثل هذا القانون فهو بالتأكيد لا يتم تفعيله..

- وهل الوثائق الموجودة داخل الدار متاحة بسهولة للاطلاع عليها من قِبل الجمهور، أو الباحثين على الأقل؟

 هذه هي الطامة الكبرى! لقد حدث تحول مهم في مطلع الثمانينات نتيجة لعدة وقائع، أهمها على حد علمي ما تَعلق بمفاوضات طابا.. فمصر قررت عام 1980 أو 1981 -حسب ما أذكر- أن تحسم نزاعها مع إسرائيل حول طابا باللجوء إلى التحكيم الدولي.. وساعتها شُكل فريق ضم مجموعة من الخبراء للعمل على هذا الملف، مهمته هي إثبات تبعية طابا التاريخية لمصر.. وكان من بينهم الدكتور يونان لبيب رزق، وهو أستاذ تاريخ مهم وله دراسات عديدة اعتمدت على عمله في دار الوثائق.. وقد أشار إلى أن بإمكانهم الحصول من دار الوثائق على مستندات تحسم الأمر.. وثائق تثبت هيمنة السلطة المصرية تاريخيًا على طابا.. من نوع ما يثبت وجود قسم للشرطة أو إدارة لتحصيل الضرائب وهكذا.. ونجح بالفعل في توفير تلك الوثائق التي حسمت النزاع الدولي.. إلا أن هذه الواقعة نبهت فجأة الجهات السيادية المصرية لأهمية دار الوثائق.. اكتشفوا أنها تضم كنز من المعلومات قد يفيد أحيانًا الأمن القومي، لكن ربما قد يضره أيضًا، من وجهة نظرهم بالطبع.. بمعنى أنهم أصبحوا يفكرون: إذا كنّا نحن ببعض البحث والتنقيب وجدنا وثائق تثبت تبعية طابا لمصر، فما أدرانا بأي باحث يأتي فيما بعد ويقوم بأعمال تنقيب في دار الوثائق ليُثبت ما شاء له أن يُثبت؟!

هكذا صدر قرار بإغلاق دار الوثائق على الباحثين، ومنعهم من الاطلاع على وثائقها! واضطر ساعتها المؤرخون الأكاديميون -الذين يعملون على وثائق الدار، وتعطلت بالتالي كل أباحثهم- إلى تقديم اقتراح تم الأخذ به، بأن على أي باحث أن يحصل على موافقة وتصريح أمني حتى يتم السماح له بدخول الدار!

نَتجَ عن هذا التطور وضع شديد السوء تجاه علاقة البحث العلمي بدار الوثائق.. فقبله كان يمكن لأي باحث الذهاب إلى الدار والاطلاع على ما يريد، لكنه بات مضطرًا الآن أن يحصل أولًا على ذلك التصريح.. وفي البداية كان التصريح يصدر عن وزارة الثقافة، ثم أصبح يصدر عن جهات أمنية سيادية، لا نعرف تحديدًا ما هي! هكذا ازداد الأمر صعوبة مع مرور الوقت، وتم إحكام القبضة بشدة على الدار.. فصار عدد الموافقات قليلًا جدًا، والشروط المطلوبة أكثر تعقيدًا.. 

كنّا في البداية نكتب مجرد ورقة نحدد فيها عنوان الموضوع، أما الآن فمطلوب منك أن تتقدم بخطاب من جهة عملك، وأن تقدم مشروع بحثي، تحدد فيه الوحدات الأرشيفية التي ستطلع عليها.. وهذه الوحدات طلاسم! أنت غير مسموح لك أصلًا أن تعرف ما الوحدات الأرشيفية الموجودة في الدار! أعتقد أن هناك ما يقرب من 400 وحدة، بعضها لها أسماء شديدة الغرابة.. يعني كيف تدرك مثلًا أن «ديوان بحر بارة» هو وزارة الخارجية؟! وأن «ديوان المعية السنية» هو رئاسة الجمهورية وقتها؟! وأن «ديوان خديوي» هو نواة وزارة الداخلية؟! لا أحد يخبرك! لكن عليك كباحث أن تختار ثلاث وحدات أرشيفية وتقوم بتحديدهم في الطلب! 

- هل يمكن أن تحدد لي في نقاط المشاكل التي يواجهها الباحثون والمؤرخون في التعامل مع دار الوثائق؟

 ما سبق كله هو ملخص لنوعية المشاكل التي نواجهها: فأولًا الدار لا تقوم بتحديث نفسها؛ وثانيًا لا تقوم بفهرسة الوثائق التي تضمها؛ وثالثًا -وهو الطامة الكبرى- هناك قيودًا شديدة تمنع الاطلاع على الوثائق، رغم أن قانون الدار ينص صراحة على أنها موجودة لخدمة أغراض البحث العلمي، فتضطر إلى تقديم طلب مفصل -كما ذكرت - وعليك الانتظار لشهور وربما لسنوات دون أن تأتيك الموافقة ولا حتى الرفض، فلا أحد يبلغك بأي رد، ومن يحصلون على الموافقة في النهاية نسبة ضئيلة جدًا، وعندما يأتيك رفض لا يخبرنوك عن أسبابه ولا يحق لك التظلم بشأنه..

وبمرور الوقت استقرت فكرة لدى الجهات المسئولة أن دار الوثائق هذه يجب أن تكون مغلقة، وألا تُفتح لأحد.. هذه وثائق «الدولة»! مَن هؤلاء الذين يسمون أنفسهم باحثون ومؤرخون ويريدون البحث والتنقيب في وثائق «الدولة»؟! خاصة أن ضمنهم العديد من الأجانب! وهو أمر يحفز كل عوامل الريبة والشك لدى أولئك المسئولين ذوي العقلية الأمنية..

فالجهات المسئولة ترى الباحثين المصريين، في نهاية المطاف، مجرد أشخاص فاشلين لا يعملون في مهن جادة ومنتجة.. يعني ما الذي يدفع أحدًا مثلًا للبحث عن مسار المحمل المصري في القرن الثامن عشر! هذا الشخص هو بالتأكيد - في أعين المسؤولين - شخص ضائع بلا قيمة يريد العبث بوثائق الدولة! أما الباحثون الأجانب فأمر آخر.. 

الباحثون الأجانب، في أعين الجهات المسؤولة، هم جواسيس بالتعريف! وإلا كيف نفسر مثلًا أن شابًا من أوروبا أو أمريكا يترك بلده وحاله وماله، ويحضر إلى مصر ويستقر بها عدة سنوات، ويتعلم اللغة العربية حتى يجيدها، ويضيع وقته في التنقيب عن الأوراق القديمة؟! هل تريد أن يصدق المسؤولون -الساهرون على مصالح الوطن وأمنه- أن هذا الشاب مهتم حقًا بالبحث عن تاريخ الزراعة أو تاريخ العمران في مصر؟! وما يدريك أنه لا يبحث مثلًا عن وثائق تثبت ملكية جده «اليهودي» لمحافظة المنوفية أو ميدان العتبة؟!

هكذا صارت العقلية الأمنية مهيمنة بشكل كلي على التعامل مع وثائق الدار.. وكأن لسان حالها يردد تلك الكلمات الشهيرة: «الورق ورقنا.. والدفاتر دفاترنا.. إنتم بقى إيه إللي جابكم هنا؟! ومدام جيتم يبقى أكيد في إن!!»..

- السؤال هو ما العمل؟! 

 حل هذه المعضلة هو إصدار قوانين ملزمة.. فليس من المفروض عليَّ كمؤرخ أن أظل طول الوقت أستجدي المسؤولين كي أقوم بعملي، أو أدافع عن نفسي ضد تهمة الجاسوسية! هناك احتياج لتعديل المنظومة التشريعية بقانونين رئيسيين: الأول، قانون يتعلق بالوثائق القديمة، لإلزام الإدارات الحكومية أن تودع بشكل منتظم أرشيفاتها في دار الوثائق، وهذا يستدعي قيام تلك الإدارات بحفظ مستنداتها وفهرستها.. وبالطبع سيتناول هذا القانون مسألة الوثائق السرية، وهنا يمكن الاستناد إلى السنة البريطانية، أو ما يُعرف بقانون الثلاثين عام، الذي ينص على أن كل الوثائق البريطانية السرية تنتفي عنها صفة السرية بعد ثلاثين عامًا.. اللهم إلا باستثناءات محدودة لبعض الوثائق التي تحتفظ بالسرية لمدة خمسين عامًا، وبعدها تنتفي عنها السرية أيضًا..

القانون الثاني الهام المطلوب تشريعه يتعلق بحرية تداول المعلومات.. يُعطي الحق للمواطن - وليس فقط الباحث أو المؤرخ - في الاطلاع على وثائق الدولة، ليس فقط الوثائق التاريخية بل أيضًا الوثائق المتعلقة بالواقع المعاش.. فلنفرض أنك رجل أعمال يريد معرفة الأحوال الآن في الاقتصاد أو الصناعة، أو أنك صحفي يريد عمل تحقيق عن موضوع معين، إلخ.. هذه الأوراق ليست أوراق الدولة، وإنما هي أوراق الشعب، ويحق للشعب أن يطلع عليها.. وهؤلاء الموظفون العموميون هم موظفون لدى الشعب، وما يفترضون أنه ورقهم ويخصهم، هو ورقنا نحن، وعليهم تسهيل اطلاعنا عليه.. يجب أن نملك الحق كمواطنين في الاطلاع على كل المعلومات التي تخص شئون حياتنا..

لكن، وبغض النظر عن التشريعات المطلوبة، يجب أيضًا التعامل بطريقة مختلفة مع الوضع الراهن.. فحتى القوانين المجحفة الحالية تعطيني الحق كمواطن في الاطلاع على الوثائق المحفوظة بدار الوثائق.. وبالتالي إذا حدث أن تقدم أحد المواطنين بطلب للاطلاع، وقدم كل الأوراق المطلوبة وكل ما يثبت أنه مواطن صالح وليس جاسوسًا، وظلت الدار تسوف في الرد عليه، فيحق لهذا المواطن رَفع دعوى قضائية على الدار، ورئيسها بصفته، بسبب قراره السلبي بالامتناع عن الرد.. وفي حالة قيامهم برفض الطلب يرفع دعوى قضائية أيضًا تطالب بالكشف عن أسباب الرفض..

- حسنًا، اسمح لي أن أسألك عن الوثائق الأخرى، غير الموجودة بدار الوثائق.. هل نملك الحق في الاطلاع على الوثائق الموجودة في الجهات الحكومية المختلفة؟ ماذا لو ذهبت إلى محكمة عابدين مثلًا وطلبت الاطلاع على قضايا تجارية من الستينات.. أو ذهبت إلى وزارة التربية والتعليم وطلبت الاطلاع على محاضر اجتماعات لجنة المناهج التعليمية.. إلخ؟

 بمناسبة القضايا تحديدًا، وبهدف المزيد من تعقيد الأمور، توجد في مصر جهة ثانية غير دار الوثائق هي دار المحفوظات ومقرها أيضًا القلعة، وهي تابعة لوزارة المالية.. وهي الجهة التي تُحفظ فيها القضايا، وتضم أيضًا وثائق عديدة أخرى منها سجلات الخدمة العامة للموظفين العموميين.. يعني لو نرغب مثلًا في معرفة معاش علي مبارك، فعلينا الذهاب لدار المحفوظات.. وللاطلاع على الوثائق داخلها يجب الحصول على تصريح أمني خاص بها شروطه أكثر تعقيدًا وصعوبة.. 

- لكن ماذا عن الوثائق الحديثة، بعيدًا عن الجهات السيادية، الدفاع الداخلية إلخ.. على سبيل المثال ماذا عن وثائق وزارة الصحة؟ ماذا لو أن هناك باحث يريد الاطلاع على وثائق وزارة الصحة بخصوص وباء الكوليرا في الثمانينات مثلًا؟

 نظريًا ممكن، لكن عمليًا يتوقف الأمر على حالة كل جهة.. ستجد وزارات لديها أرشيف، ووزارات لا.. ستجد وزارات بها من هو مستعد لمساعدتك، ووزارات لا.. ستجد وزارات تدرك أهمية أوراقها القديمة، ووزارات لا.. سأضرب لك مثالًا عن وزارة الخارجية، وهي من أقدم الوزارات وأكثرها تنظيمًا، ولديها بالضرورة إدراك لقيمة وثائقها التاريخية.. وهذه قصة أنا سمعتها من مصدر موثوق.. عندما بدأ الفلسطينيون مفاوضاتهم مع الإسرائيليين ووصلوا إلى كامب دايفيد الثانية في نهاية التسعينات.. أرادوا الاستفادة بخبرة المفاوض المصري في كامب دايفيد الأولى، وطلبوا الاطلاع على وثائق تلك المفاوضات.. والمدهش أن المسؤولين في الخارجية وقتها لم يجدوا هذه الوثائق! وحسب ما سمعت قلبوا الدنيا ساعتها بحثًا عن المكان الذي حُفظت فيه دون جدوى! مع العلم أن هذه المفاوضات لم يكن قد مرَّ عليها وقتها أكثر من عشرين عامًا! وبعد بحث وتنقيب اكتشفوا أن هذه الوثائق موجودة في دولاب أُخفي مصادفة بحائط بُنيَّ أمامه في إحدى الحجرات بمبنى الوزارة القديم!

هذا هو الحال، أو هذا ما كان عليه الحال، في وزارة الخارجية، إحدى أهم مؤسسات الدولة.. على النقيض ستجد الأمر مختلفًا في جهات أخرى.. أنا شخصيًا ليَّ تجربة إيجابية وناجحة مع وزارة التربية والتعليم.. كنت أعمل في بحث عن سبيل بناه محمد علي في العقادين بجوار باب زويلة.. هذا السبيل تحول إلى كُتَّاب والكُتَّاب تحول إلى مدرسة حتى وقوع زلزال عام 1992، ثم أُغلقت المدرسة لعدم صلاحيتها.. وكنت أريد التأكد من بعض الرسومات التي تخص المبنى في القرن التاسع عشر.. فذهبت إلى وكيل الوزارة -بواسطة طبعًا- وأخبروني ساعتها أن الوزارة لديها مكتبة في مقر ديوانها نفسه.. وهي مكتبة ضخمة موجودة في الدور الأول من المبنى العتيق، وتضم بالمناسبة مكتب طه حسين عندما كان وزيرًا للمعارف.. هي أقرب إلى متحف تاريخي -غير مفتوح للجمهور طبعًا- لكن مُعتنى به وبما يضمه من وثائق.. وأمينة المتحف كانت سيدة ممتازة ومهتمة بتقديم المساعدة.. ووجدنا الأوراق التي كنت أبحث عنها بالفعل..

هكذا تخضع المسألة دائمًا للظروف واختلاف الأحوال ما بين جهة والأخرى، وما بين حقبة زمنية والأخرى، وما بين شخص والآخر.. وبالطبع لا توجد آليات موحدة ودائمة ومقننة للتعامل مع الوثائق واتاحتها للجمهور.. 

- لكن اسمح لي هناك أمر غريب بالنسبة لي.. أنت تحدثت الآن عن أن الملك فؤاد عندما قرر أن يكتب تاريخ عائلته استقدم بعض الكتاب الفرنسيين والطليان، وأعطاهم وثائق الدولة، وطلب منهم أن يكتبوا القصة التي يتفاخر بها! حسنًا، ماذا عن الدولة المصرية اليوم، أو الدولة المصرية المعاصرة، ألا تريد أن تتفاخر هي الأخرى بقصصها وإنجازاتها -الحقيقية أو المفتعلة- كمفاوضات كامب دايفيد مثلًا.. ما يفرض عليها أن تحفظ وثائقها، وتتيحها لباحثين ومؤرخين -موالين لها- حتى يسجلوا تلك القصص؟! باختصار لماذا لا تهتم هذه الدولة بسجلاتها وتتعامل معها بشكل احترافي؟!

 ستجد بعض مؤسسات الدولة لديها محاولات لكتابة هذا التأريخ، أهمها وزارة الدفاع، التي تملك مركزًا للبحوث التاريخية، وتصدر عنه كتب من حين إلى آخر عن حرب الاستنزاف، أو حرب أكتوبر، أو حرب العراق، إلخ.. ربما نختلف حول القيمة التاريخية لتلك الكتب، إلا أن هذا المجهود قائم وموجود، وتقوم الوزارة في هذه الحالات بإتاحة بعض وثائقها لباحثيها بقيود شديدة جدًا.. ودعني أوضح هنا أن وزارة الدفاع لديها أرشيف ضخم جدًا جدًا اسمه «دار المحفوظات المركزية للقوات المسلحة المصرية»، وهي مؤسسة شديدة الأهمية، لكنها غير مفتوحة بالطبع أمام الباحثين والمؤرخين.. هي أرشيف مهم وغالبًا مُعتنى به ومنضبط، لكنه موجود لحفظ السجلات وليس لإتاحتها وعرضها.. فوزارة الدفاع لديها حس تاريخي.. هي أحد مؤسسات الدولة القليلة التي تملك هذا الحس..

- لكن لماذا يحفظون هذه السجلات، إذا لم تكن هناك فرصة ولو حتى في المستقبل للاطلاع عليها؟

 هذا السؤال مهم في الحقيقة.. وأنا لدي تفسير من زاويتي نظر: الأولى أن الدولة المصرية المعاصرة -منذ زمن عبد الناصر- اهتمت بتسجيل إنجازاتها والتأريخ لها.. وهو دور تقوم به هيئة الاستعلامات، أو قديمًا وزارة الإرشاد القومي.. لكن هذا ليس كتابة تاريخية، هو تأريخ للحظة الراهنة وإنجازاتها.. كيف بنينا السد العالي، كم مصنع بنينا، كم طريق، إلخ.. هو نوع من الحساب الختامي السنوي، له دور دعائي، «إرشادي» على حد تعبيرهم.. وكأنهم يحاولون أن يقولوا لنا: أيها المصريون الفقراء انظروا ماذا فعلنا من أجلكم! وهذا ما يقوم به الإعلام اليوم كالحديث عن الكباري والعاصمة الجديدة إلخ..

من زاوية النظر هذه، تهتم الدولة المصرية المعاصرة بتسجيل إنجازاتها وإثبات أفضالها.. لكني أزعم، من زاوية النظر الأخرى، أن هذه الدولة -باستثناءات قليلة جدًا- انتفى لديها اهتمامها بالتاريخ، ليس التاريخ بمعنى الماضي وإنما بمعنى الحاضر.. أي كيف ستنظر الأجيال القادمة لما أقوم به اليوم؟ وهذه مسألة سياسية وليست تاريخية..

كان رأيي مثلًا أن من علامات تردي مبارك وعصره، أن مبارك لم يكن يملك حسًا تاريخيًا.. كل ما يملكه عقلية الموظف، ليس لديه إدراك لدوره، وغير منشغل بحكم التاريخ عليه.. ما يشغله هو تقفيل حسابه الختامي سنويًا، وطبعًا تحويل الفائض الناتج عن الفساد إلى حساباته في سويسرا، هذه هي همومه! وأنا أزعم أن الحاكم الذي يملك حس تاريخي يفكر بطريقة مختلفة.. محمد علي مثلًا كان لديه حس تاريخي، لذا قام بتأسيس «الدفترخانة»، وكان يفكر في حكم التاريخ عليه، وأيضًا إسماعيل، وبالطبع فؤاد الذي استثمر أموالًا كثيرة لتسجيل تاريخ عائلته معتمدًا على وثائق الدولة.. أما ما يهم مبارك وأمثاله في التعامل مع الوثائق هو ما يشغل بال الموظفين عادة: كيف يحفظون الوثائق، كيف يحموها من التلف أو الضياع، إلخ.. وليس الدور التأريخي لها.. 

هم يخافون من البحث والتنقيب داخل الوثائق، وهذا في الحقيقة كان حال فؤاد أيضًا، يعني فتح الباب أمام المؤرخين للاطلاع على وثائق الدولة هو -من وجهة نظر حكامنا- مسألة محفوفة بالمخاطر!

- دون فتح الأبواب، ودون البحث في التاريخ العسكري أو تاريخ الحروب أو كل تلك الأمور الشائكة، لماذا لا يوجد اهتمام بالبحث في الأمور الأخرى، تاريخ التعليم، الصحة، الخدمات، الزراعة، الصناعة؟! كيف لا تهتم الدولة مثلًا في اللحظة الراهنة بالبحث عن تاريخ الأوبئة في مصر خلال الخمسين عام الماضية؟! كيف تطور البحث العلمي بخصوصها؟ كيف تطور التعامل السياسي والإداري مع الأوبئة؟ والاستفادة من خبرة هذا كله في مواجهة كوفيد 19! بمعنى أن الدولة محتاجة إلى معرفة تاريخها وتراكم خبراتها للتعامل مع الأمور العملية التي تواجهها، ومحتاجة بالتالي إلى فتح الباب للبحث في هذا التاريخ وكتابته!  

 طبعًا.. على فكرة هذا موضوع كتابي الجديد: كيف تطورت السياسة الصحية في التعامل مع أوبئة الجدري والكوليرا والطاعون؟ أنا مهتم في الحقيقة بالقرن التاسع عشر، لكن هي نفس القضية التي نتعامل معها اليوم.. وبالتأكيد نحن في حاجة إلى البحث عن كيف تعاملنا مثلًا مع فيروس سي أو البلهارسيا أو وباء الكوليرا سنة 1947 إلخ.. والبحث في تاريخ تطور الإدارة نفسها.. يعني أنا كوزير صحة أقوم بإدارة مؤسسة تكونت في الأصل وتطورت عبر سلسلة من المواجهات لمثل هذه الأمور، فكيف لا أهتم بالتعرف على تاريخ هذه الإدارة والمناهج التي سارت عليها؟! كل هذه الأبحاث مهمة بالتأكيد حتى لا نقوم باختراع العجلة! 

- كأننا دولة بلا ذاكرة بلا تاريخ!

 صحيح.. وسنجد هذا يتجسد اليوم في تعاملنا مع المشاريع الكبرى التي تُشيد.. فمن الواضح افتقاد الوعي بتاريخنا العمراني.. لقد تابعت بعض البرامج الإعلامية حول هذه المشاريع، ولاحظت أن هناك خطابًا يتحدث عن القاهرة الحديثة، قاهرة الخديوي إسماعيل، كمدينة بها عيوب هيكلية غير قابلة للإصلاح، وأن من أنشأوها فشلوا في تخطيطها، وأن ما يُصرف مثلًا لإنشاء العاصمة الجديدة أقل بكثير مما يحتاجه إصلاح القاهرة الحالية! طبعًا هذه قضية سياسية تحتمل الأخذ والرد، لكن ما أثار اهتمامي في الحقيقة القراءة الخاطئة جدًا للتاريخ، التي تتسم بنقص شديد في معرفة الحقائق.. فقاهرة إسماعيل، وعلى عكس ما هو شائع، لم تكن نتيجة للافتتان بباريس أو محاكاة لها.. صحيح هو اتجه غربًا لبناء وسط المدينة الحالية بميادينها وقصورها وعماراتها الفاخرة، لكنه لم يهمل المدينة القديمة -الفاطمية- ولم يتركها هكذا بعبلها.. 

لقد أنشأ إسماعيل في كل حي -من المدينة القديمة- مكتب صحة يُسجل فيه المواليد ويُطعم الأطفال.. وأنشأ في كل حي قسم شرطة، وأنشأ المدارس وطور الخدمات.. باختصار حدَّثَ المدينة القديمة، وهو يبني امتداد لها غربًا.. أما اليوم فالدولة لا تهتم بتطوير القاهرة الحالية، ولا التعرف على تاريخها العمراني، وأصل مشكلاتها.. تعطيها ظهرها وتذهب لبناء عاصمة أخرى! النخبة المصرية، لأنها غير مهتمة بنا ولا بتاريخنا، تتجه دائمًا إلى النزوح بعيدًا عن المناطق الأقدم الأكثر ترديًا.. وما أريد أن أقوله أن هذا النزوح الجغرافي هو نتيجة لغياب الوعي التاريخي.. وسنجد أنه كلما غاب الوعي التاريخي، كلما عَلت صيحة الخروج من الوادي الضيق! علينا أن ندعوهم إلى أخذ التاريخ بجدية، لأنهم عندما يأخذونه بجدية سيكتشفون حلولًا سياسية أجدى من حلولهم الجغرافية.. سيتوقفون عن القفز على الواقع بكباري علوية والنزوح بعيدًا، وتركنا نحن غارقون في مشاكلنا!

- حسنًا، بمناسبة الحس التاريخي، هناك نوع آخر من الوثائق القديمة اتصور أنه يحتاج أيضًا إلى النظر في طرق التعامل معه.. أرشيفات المؤسسات الصحفية على سبيل المثال، أو أرشيفات المركز القومي للسينما التي تضم جريدة مصر السينمائية، وهي ثروة معلوماتية.. وأنا شهدت مرة واقعة كانت تُباع فيها هذه المادة الفيلمية.. سؤالي عن جودة حفظ هذه الأرشيفات من النواحي الفنية، وهل هي متاحة للباحثين والجمهور؟ 

 هذا طبعًا هو المفهوم الأكبر للأرشيف.. فالوثائق ليست فقط وثائق الدولة لكنها أيضًا كل ما يخص تلك المؤسسات.. المهم أن أرشيفات هذه المؤسسات المطلوب حفظها لا تتعلق فقط بالمنتج النهائي، كعدد «الأهرام» مثلًا الذي يخرج إلى الجمهور، الأهم هي المواد الأسبق عليه: الصور، مسودات المقالات، محاضر اجتماعات هيئات التحرير، مكاتبات رؤساء التحرير، إلخ.. بعد تخرجي عندما كنت أعمل أمين مكتبة في الجامعة الأمريكية، كانت التوجيهات أن أثمن ما تضمه مكتبة الجامعة هو أرشيف الجامعة نفسه، الذي يُعتنى به بشكل جيد جدًا.. الكارثة أن المؤسسات المصرية، الحكومية أو المستقلة مثل المؤسسات الصحفية، ليس لديها لا الاهتمام ولا الإمكانيات ولا الآليات لحفظ وثائقها.. 

في الوقت نفسه، وهذه مشكلة كبيرة، هناك سوق، أي طلب على هذه الوثائق، بالذات في الخليج، سواء المواد الفيلمية أو غيرها، مثل القصص العديدة التي نسمع بها.. والسؤال ما السبب وراء هذه المشكلة؟ السبب الرئيسي في رأيي أن هذه المؤسسات، حتى لو كان لديها إمكانيات الحفظ، ليس لديها ضوابط تفرض عليها إتاحة هذه الأرشيفات والوثائق للجمهور.. فالالتزام بإتاحة الوثائق هو ما يخلق ضرورة الحفاظ عليها والاعتناء بها.. المثل الذي استخدمه دائمًا: لو أن لديك شقة فاخرة، ووضعت بها مجموعة من التحف الثمينة، ثم أغلقتها وتركتها مغلقة، النتيجة ستكون تلف هذه التحف أو ضياعها.. فأنت لن تدرك ساعتها أن مواسير المياه قد تلفت مثلًا وأغرقت المياه التحف، أو أنها تعرضت للسطو عليها وسرقتها.. لابد أن تفتح شقتك هذه وتعرض تحفك حتى تحافظ عليها وتعتني بها.. فاستخدامها هو ما يحفظها.. لابد طبعًا أن تكون هناك محاذير ترتبط بالإتاحة حتى لا تتعرض الوثائق للإتلاف، إلا أن التعامل الأمني مع الأمر لا يصلح وحده..

- بمناسبة الحديث عن السطو على الوثائق، وبيعها خارج مصر، قمت أثناء عملك-حسب علمي- بدراسة وثائق تتعلق بمصر في تركيا وإنجلترا.. هل يضطر الباحثون المصريون إلى البحث عن الوثائق في بلاد أخرى لأنها غير متاحة في مصر؟ وهل الوثائق المتاحة هناك تحكي تاريخنا بشكل صحيح، أم أنها تحمل وجهات نظر منحازة؟ يعني هل يمكن مثلًا بناء سردية لما جرى في حرب عام 1967 من دراسة الوثائق الإسرائيلية، التي أُتيحت للجميع، بينما الوثائق المصرية التي تخص تلك الحرب مغلقة وغير مسموح بالاطلاع عليها؟! 

 صحيح، هي مشكلة حقيقية.. لما بدأت عملي على محمد علي وعصره، ذهبت إلى دار الوثائق البريطانية -كان اسمها «Public Records Office»- مبنى ضخم جدًا، والتعامل معه في منتهى السهولة.. الخدمات ممتازة ومتاحة للجميع، وتستطيع تصوير كل ما يعن لك من أوراق.. وبالطبع هناك كم هائل من الوثائق المتعلقة بمصر.. لكن أي نوع من الوثائق؟ هي مثلًا -المتعلقة بعصر محمد علي- تقارير القناصل.. هؤلاء القناصل يرسلون تقارير، تُحفظ في وزارة الخارجية، وبعد مرور فترة محددة تُودع في دار الوثائق البريطانية، وتصبح متاحة للباحثين.. وهكذا أقدر أنا بعد مئتي عام أن اطلع عليها وأدرسها.. 

ماذا وجدت؟ وجدت كلام محمد علي على لسان القنصل، هي محادثة أجراها معه، والوثيقة تلخيص القنصل لكلام محمد علي.. والسؤال هو: إلى أي درجة تعبر بالفعل عن كلام محمد علي ووجهات نظره، أم أنها تلخيص منحاز لأغراض سياسية تتعلق بالقنصل نفسه؟! كما وجدت وثائق تنقل أحاديث الشارع المصري، لكنها قراءة القنصل لما يدور في الشارع! فما وجدته في دار الوثائق البريطانية هو في الحقيقة وثائق بريطانية، صحيح أنها عن مصر، لكنها رؤية القنصل البريطاني لمصر! 

وقتها وجهني المشرف على رسالتي بأن عليَّ التوقف عن البحث في الوثائق البريطانية.. وبالمناسبة هذا سجال مهم جدًا في الغرب، لأن نتائج ما سيخرج من البحث داخل الوثائق الإمبريالية هو تاريخ إمبريالي! فالتوجه الحديث للكتابات التاريخية هو رفض هذا النوع من التاريخ الكولونيالي.. وطلب مني الذهاب إلى القاهرة والبحث في الوثائق المصرية، وكان حظي جيدًا ساعتها لأني وجدت في مصر ما كنت أبحث عنه.. المهم أنك عندما تمنع الباحثين من الاطلاع على الوثائق المصرية، فأنت تفرض عليهم البحث في بلدان أخرى، وسيجدوا وثائق عنَّا لكنها ليست وثائقنا.. وتظهر هذه المشكلة بشكل جلي فيما يتعلق بصراعنا مع إسرائيل.. مأساة، مأساة حقيقية..

سأضرب لك مثلًا.. كتب لي من فترة وجيزة مؤرخ إسرائيلي، أنا عادة لا أهتم بهذه النوعية من المراسلات، لكني تواصلت مع هذا الرجل لأنه كان يكتب بشكل إيجابي، وأثار فضولي.. كان جنديًا في حرب عام 1973 في سيناء، وألف كتابًا عن إحدى المعارك وقتها.. وقرأت مقالة له عن كتابه هذا في هاآرتس، يقول فيها أن كتابه عن هزائم إسرائيل في المرحلة الثانية من الحرب -بعد الثغرة- الإسرائيليون بالطبع يقولون أنهم انتصروا، لكنه يكتب عن واقعة هو شهدها تنفي ذلك.. يحكي عن محاولات الجيش الإسرائيلي لاستعادة تبة تقع على الضفة الشرقية للقناة، كان الجيش المصري قد حررها مع الموجة الأولى من الهجوم في بداية الحرب، وحاول الإسرائيليون استعادتها مع هجومهم المضاد، فشنوا عليها تسع هجمات متتالية وهُزموا في المرات التسع، وهو كان مشارك في ذلك ويكتب عن تجربته..
ويؤكد في مقالته أنه يكتب هذه الواقعة كنوع من النقد الذاتي، لتفنيد التصور المتغطرس الإسرائيلي الذي هيمن عليهم بعد عام 1967، أن الجنود المصريين إذا تعرضوا للهجوم سيلقون السلاح! لذلك تصوروا عندما شنوا هجومهم المضاد عام 1973 أن الجيش المصري سينفرط عقده وسيترك الجنود سلاحهم ويهربوا.. لكنه يحكي عن المقاومة الشجاعة الشريفة التي قام بها الجنود المصريون تسع مرات متتالية.. فهو كتاب عن هزيمة إسرائيل.. وأخبرني لما تواصلت معه أنه يريد معرفة إذا ما كان هناك مؤرخون مصريون يعملون على هذا الموضوع، فصحيح أن كتابه بالعبري، لكنه يريد أن يتعرف الجمهور المصري على المعلومات التي يحتويها، التي ترصد الأداء المشرف للجنود المصريين في حرب عام 1973.. فأخبرته أنني لا أعرف أحدًا، وأنني شخصيًا أعمل على حرب عام 1967 وليس حرب عام 1973.. فقال لي أنه حتى في حرب عام 1967 كانت هناك مقاومة باسلة من الجنود المصريين خلال الستة وثلاثين ساعة الأولى -قبل قرار الانسحاب- وذلك على عكس الصورة الشائعة والدعاية الإسرائيلية.. وأن الجيش الإسرائيلي مُنيَّ بخسائر حقيقية على يد الجنود المصريين، وذكر لي معلومات عديدة وبالأرقام عن الخسائر الإسرائيلية في عام 1967.. هو من يقول هذا الكلام وليس نحن! وهذا شيء حزين! وأنا احترمته وشكرته على موقفه، لكني أخبرته أنه ليس لديّ ما أفيده به..

هذا وضع كارثي.. أنا أكتب عن حرب عام 1967، وبالطبع لا أريد أن أكتب عن انتصارات وهمية، فأنا أرى الهزيمة وأريد أن أكتب عنها.. وقطعًا سيكون لي أحكام قاسية، ليس على أفراد لأنهم ماتوا جميعًا.. لكن المهم أن يفتحوا الباب أمام المؤرخين ليكشفوا عن الحقيقة بأوجهها المختلفة ويكتبوا عنها..

- حسنًا، أريد أن أسألك عن وضع مصر عالميًا في مستوى الشفافية في التعامل مع الوثائق، هل نحن حالة استثنائية، أم هذا هو الشائع؟ أنا أعلم أن هناك شفافية في الغرب -أمريكا، إنجلترا، فرنسا، إلخ- في تعاملهم مع الوثائق، لكن ماذا عن باقي العالم؟

 لا أظن أننا حالة استثنائية، حتى بالمقارنة بالغرب.. العقلية الأمنية موجودة في كل مكان، ودائمُا ستجد من يمنعك من الاطلاع على وثائق ما.. هناك تهديد طول الوقت لحرية الاطلاع والبحث وحرية الرأي والتعبير.. كنت أعيش في أمريكا وقت 11 سبتمبر، وأول ما خضع للمراقبة هو المكتبات، حتى المكتبات الجامعية، باتوا يراقبون بإحكام لمعرفة مَن يستعير ماذا من الكتب! لو أنك مسلم وتستعير كتابًا في الفيزياء، إذن فأنت تريد أن تصنع قنبلة ولابد من مراقبتك! وهكذا.. ورأيي أن هذه العقلية الأمنية لا يجب أن تختفي، هذا هو دور الأمن، لابد أن يشك ويرتاب ويتقصى.. لكننا في مصر ليس لدينا سوى العقلية الأمنية، ولا شيء آخر..

نحن في حاجة إلى صوت آخر يكبر مع الوقت.. فكما نكتشف الآن، هذه الحقوق لا تُمنح وإنما تُنتزع.. ليس بالضرورة في ثورة، لكن يمكن انتزاعها كما حدث في الغرب عبر معركة وراء أخرى.. وهناك العديد من الأمثلة في الغرب عن صحفيين وأكاديميين كانوا ممنوعين من الحصول على المعلومات، لكن بالدأب والإصرار نجحوا في فرض إرادتهم وانتزاع حقوقهم..

هناك أمر آخر لابد أن ننتبه له، بخصوص المطالب المتعلقة بالحريات.. فهدف الدفاع عن حرية الصحافة والإبداع والحريات الأكاديمية ليس حماية الصحفيين والمبدعين والأكاديميين، وإنما حماية حق المجتمع في الحصول على المعلومات وتلقي الإبداع.. وهناك مسألة أخرى مهمة تتعلق بالحريات، فالباحث مثلًا -سواء في العلوم الطبيعية أو الإنسانية- يحتاج إلى بيئة حرة وآمنة ليحقق اكتشافاته التي تخدم المجتمع، لكنه غير مطلق اليد، بل هو محكوم بمعايير يفرضها المجال الأكاديمي نفسه، وليست الأجهزة الأمنية ومتطلباتها.. وأيضًا في حرية الصحافة، سنجد أن الصحفي محكوم بمعايير مهنية تفرض عليه مثلًا أن يأتي بأكثر من مصدر للخبر، وهكذا..

- ماذا لو كُلفت بالمسئولية عن دار الوثائق، ما الإجراءات التي ستتخذها حتى تتيح الفرصة أمام الباحثين والمؤرخين كي يكتبوا تاريخ مصر؟ 

 أولًا تقوية العلاقة بين أقسام الوثائق في الجامعات المصرية ودار الوثائق، بحيث أضمن توفير خبراء يتعاملون مع الوثائق بشكل علمي؛ ثانيًا تقوية العلاقة بين دار الوثائق -المؤسسة الأم- ومستودعات الوثائق العديدة، سواء دار المحفوظات أو أرشيفات الوزارات والجهات الحكومية؛ ثالثًا العمل على استقلال دار الوثائق وتحويلها إلى هيئة عامة ذات ميزانية مستقلة وغير خاضعة لأي جهة أخرى؛ رابعًا العمل على إصدار التشريعات التي أشرت إليها، خاصة قانون حرية تداول المعلومات، الذي يسمح بإتاحة الوثائق للاطلاع والبحث، بشروط أمنية موضوعية؛ خامسًا، توفير تجهيزات متنوعة داخل الدار تضمن حماية الوثائق، فلو اتسعت فرص الاطلاع، لابد من ضمان أن أحدًا لن يتلف شيئًا، كأن يقطع ورقة أو يكشط وثيقة.. 

وأخيرًا، وهذا من أهم الأمور بالنسبة لي، ضرورة تطوير النظرة المجتمعية لدار الوثائق، أن يراها الجميع -الأفراد والمؤسسات- ملكهم وتخصهم، هذه الوثائق وثائقهم، ومن حق كل مواطن الاطلاع عليها وليس فقط الباحثين.. لو هناك مواطن يرغب في التعرف على تاريخ عائلته، أو مسؤول حكومي يبحث عن معلومات تخص إدارته، إلخ، يجب أن يدركوا جميعًا أن هناك مؤسسة تقدم لهم هذه الخدمة.. هذا هو الهدف الأسمى، أن يشعر كل مواطن بأهمية هذه الوثائق وأنها ملكه، وأن تفتخر دار الوثائق بأنها ملك للشعب، وبالتالي يسعى الجميع إلى حفظ وثائقهم داخلها، لأنها الوعاء الذي يختزن تاريخ الأمة، بمعنى الشعب وليس الدولة.. 

- عظيم، سؤالي الأخير.. أعلم أنك خلال ثورة يناير كنت مسؤولًا عن مجموعة تُؤرشف وتوثق للثورة.. وبمناسبة مرور عشر سنوات عليها، هل نجحنا في توثيقها؟ 

 دعنا نفرق أولًا بين التوثيق والتأريخ.. التأريخ هو كتابة تاريخ واقعة ما، وهذا يمكن عمله بطرق متعددة، أما التوثيق فهو توفير الوثائق التي تدعم الوقائع المكتوبة.. وبالمناسبة هذا منهج المدرسة التاريخية الأكاديمية المصرية.. كان الرافعي مثلًا يكتب التاريخ، وتلقى كتبه رواجًا، لكنه تاريخ غير موثق.. وأيضًا محمد حسنين هيكل.. كل كتاباته التاريخية مبنية على خبرته كصحفي، وتعتمد على الخبطات الصحفية، كأن فلانًا أخبره كذا وكيت، وهي مادة كتاب في التاريخ يعتمد على مدى مصداقية هيكل كصحفي، لكنه ليس تاريخًا موثقًا.. والوثائق ليست بالضرورة وثائق الدولة.. 

مثلًا ما تحدثنا عنه بخصوص جريدة مصر السينمائية، بالنسبة لي كمؤرخ ليس المهم الاطلاع على النسخ النهائية منها، وإنما الاطلاع على سياستها التحريرية، محاضر الاجتماعات التي قرروا فيها إذاعة هذا الخبر أو منعه، كواليسهم وأرشيفهم، الأهم ليس ما نُشر ولكن ما لم يُنشر.. ويمكن قول الشيء نفسه عن مداولات مجلس الوزراء، وأمثلة أخرى عديدة.. 

مثال آخر شديد الأهمية، حول ما جرى في يونيو عام 1967.. نحن نعرف ما قاله عبد الناصر في خطاب التنحي، لكن ماذا دار بينه وبين عامر يوم 8 يونيو؟ ماذا جرى في قيادة القوات المسلحة يوم 5 يونيو؟ دعنا من البحث عن محاضر اجتماعاتهم، فربما قد أصابهم الارتباك فلم يسجلوا محاضر، لكن مؤكد هناك سجلات، فالجيش مؤسسة بيروقراطية، لا يمكن أن يصدر داخله أمر لا يستند على أوراق.. وأنا كمؤرخ عندما اطلع على هذه الأوراق سأتمكن من الخروج بسردية حول ما جرى.. يمكن أيضًا الاعتماد على الشهادات الشفوية وتنقيحها وبيان توافقها أو تضاربها، وهكذا.. هذا ما أقصده بالتوثيق..

وبخصوص ثورة يناير، كثيرًا ما أواجه كمؤرخ بسؤال: أخبرنا ماذا جرى؟! والحقيقة أن الثورة مثل الحروب وكل الأحداث الكبرى ليس لها رواية واحدة.. الثورة تحديدًا فيها تشظي للروايات، أي لها روايات متعددة، خصوصًا عندما نواجه كما هو حالنا بثورة مضادة.. الثورة المضادة لديها سردية تنفي حدوث ثورة من الأصل.. ورأيي علينا ألا نقدم في مواجهتها سردية واحدة، وإنما نقدم سرديات مختلفة.. وغالبًا ستعتمد رواياتنا على رؤى ذاتية، رواية كل منَّا لتجربته مع الثورة، ومن مجمل هذه الروايات سنصنع قصة الثورة.. وهذا تحديدًا ما كنا نحاول عمله في اللجنة..

المهمة هي تجميع المادة الخام، ولأن ثورة يناير - كأي ثورة - قام بها بشر، فمادتها الخام هي شهادات هؤلاء البشر.. ماذا فعلوا بأنفسهم؟ وماذا شاهدوا من أفعال الآخرين؟ نقوم بتجميع هذه الشهادات ونتركها هكذا دون تفسير، حتى يأتي مؤرخون بعد عشرة أو عشرين عامًا ويطلعون عليها، ويخرجون منها بسرديات متنوعة.. واعتقد أن هذا يحدث الآن، فهناك جهود عديدة لتجميع وثائق الثورة: أوراق الصحف، البيانات، المدونات، التويتات، الصور، المواد الفيلمية، إلخ.. 

وعمومًا لديَّ يقين أن حدثًا بضخامة ثورة يناير لمسَ وأثرَ بالضرورة بشكل عميق على كل من شاركوا فيه.. وأن الأمر يحتاج إلى وقت -وهذا طبيعي- حتى تختمر الذكرى، وتخرج في أشعار وروايات وأفلام، وبالتأكيد ستخرج في سرديات وكتب تاريخية..