دراسات

كارل كورش

الماركسية والفلسفة

2019.10.01

ترجمة: أمير زكي

الماركسية والفلسفة 

حتى وقت قريب، لم يكن لدى المفكرين البرجوازيين ولا الماركسيين تقدير كبير لحقيقة أن العلاقة بين الماركسية والفلسفة يمكن أن تطرح إشكالية نظرية وعملية غاية في الأهمية. لدى أساتذة الفلسفة، تعتبر الماركسية، في أفضل مكانة لها، أقرب إلى قسم فرعي صغير بداخل تاريخ فلسفة القرن التاسع عشر، إذ تعتبر تعبيرًا عن "انحلال الهيجلية". ولكن "الماركسيين" بدورهم مالوا إلى عدم وضع تشديد كبير على "الجانب الفلسفي" من نظريتهم، وإن رجع ذلك إلى العديد من الأسباب المتباينة.

 صحيح أن ماركس وإنجلز كثيرًا ما أشارا بفخر كبير إلى أنه من الوجهة التاريخية، ورثت حركة العمال الألمانية ميراث الفلسفة الألمانية الكلاسيكية بـ"الاشتراكية العلمية"، لكنهما لم يعنيا بذلك أن الاشتراكية العلمية أو الشيوعية هي من حيث المبدأ "فلسفة". بالأحرى رأيا أن مهمة "اشتراكيتهما العملية" هي التجاوز الكامل، من حيث الشكل والمضمون، ليس فقط لكل الفلسفة المثالية البرجوازية السابقة، ولكن للفلسفة ككل، وأن تستبدل بها الاشتراكية العلمية. لاحقًا سوف أشرح بتفصيل أكبر ما طبيعة هذا الاستبدال أو غرضه، وفقًا للمفهوم الأصلي لدى ماركس وإنجلز. والآن سأكتفي بتسجيل أنه من الوجهة التاريخية، لم تعد هذه المسألة تمثل مشكلة بداخل اهتمامات الماركسيين اللاحقين. الطريقة التي تعاملوا بها مع مسألة الفلسفة يمكن أن توصف بأفضل شكل، وبمصطلحات حية، بالاستعانة بوصف إنجلز لموقف فيورباخ من الفلسفة الهيجلية: ببساطة "أزاحها فيورباخ جانبًا دون أن يوليها الكثير من التقدير". في الحقيقة، تعامل العديد من الماركسيين اللاحقين، وكما يبدو في خضوع أرثوذوكسي كبير لتعليمات المعلمين الاثنين، بالطريقة نفسها الخالية من التقدير، ليس فقط تجاه الفلسفة الهيجلية، بل تجاه الفلسفة ككل. 

هكذا على سبيل المثال وصف فرانز ميرينج بإيجاز، وأكثر من مرة، موقفه الماركسي الأرثوذوكسي من مسألة الفلسفة، قائلًا إنه تقبل فكرة "رفض كل الخيالات الفلسفية، هذه الفكرة التي تعتبر الشرط القبلي لإنجازات المعلمين (ماركس وإنجلز) الخالدة". خرج هذا التصريح من رجل استطاع أن يقول، عن حق، إنه "اهتم بالأصول الفلسفية لماركس وإنجلز، وذلك بانتباه شديد بتجاوز أي شخص آخر"، وهو تصريح جدير بالاهتمام بالنسبة للموقف المهيمن العام على كل المشكلات الفلسفية المطروحة بين المنظرين الماركسيين للأممية الثانية (1889-1914). اعتبر المنظرون الماركسيون البارزون لهذه الحقبة الاهتمام بتلك المسائل، التي لا تعتبر فلسفية بالفعل بالمعنى الضيق، ولكن المرتبطة فحسب بأسس الإبستمولوجية والمنهجية للنظرية الماركسية، تضييعًا كاملًا للوقت والمجهود، وهذا في أفضل حالاتها. بالطبع سواءً رغبوا في ذلك أم لا، اضطروا إلى السماح بمناقشة تلك المسائل الفلسفية بداخل المعسكر الماركسي، وفي بعض الظروف اشتركوا فيها بأنفسهم. ولكن حين فعلوا ذلك، أوضحوا تمام الوضوح أن تلك المسائل غير مناسبة على الإطلاق لممارسات النضال الطبقي البروليتاري، وسوف تظل هكذا على الدوام. ولكن مثل هذا المفهوم يكون واضحًا ذاتيًّا ومبررًا منطقيًّا فحسب إذا وضعنا في الاعتبار الفرضية التي تقول إن الماركسية كنظرية وتطبيق كانت في أساسها ثابتة تمامًا ولم تتضمن موقفًا محددًا تجاه أي أسئلة فلسفية أيًا كانت. 

كان هذا يعني أنه لا يعد من المستحيل على منظر ماركسي بارز أن يكون متبعًا لآرثر شوبنهاور في حياته الفلسفية الخاصة على سبيل المثال.

هكذا وخلال تلك الحقبة، وبغض النظر عن عَظَم التناقضات بين النظريتين الماركسية والبرجوازية في كل الجوانب الأخرى، كان هناك اتفاقًا بينًا على هذه النقطة تحديدًا بين المعسكرين المتطرفين. طمأن أساتذة الفلسفة البرجوازيون أنفسهم بقولهم إن الماركسية لا تحتوي على مضمون فلسفي يخصها، وظنوا بذلك إنهم يقولون شيئًا مهمًا ضدها. وكذلك طمأن الماركسيون الأرثوذوكس أنفسهم بقولهم إن ماركسيتهم بطبيعتها لا علاقة لها بالفلسفة -وظنوا أنهم يقولون شيئًا مهمًا لصالحها. ولكن مع ذلك بدأ تيار ثالث يتشكل من الموقف المبدئي نفسه، وخلال تلك الحقبة كان التيار الوحيد الذي أولى اهتمامًا شديدًا للجانب الفلسفي من الاشتراكية يتشكَّل من هؤلاء "الاشتراكيين المتفلسفين" من العديد من الأنواع الذين رأوا أن مهمتهم هي "إكمال" النسق الماركسي بأفكار من "فلسفة الثقافة" Kulturphilosophie، أو بمفاهيم من كانط أو ديتسيجين أو ماخ أو الفلسفات الأخرى. وبالتحديد لأنهم اعتقدوا أن النسق الماركسي بحاجة إلى إضافات فلسفية، أوضحوا تمام الوضوح أنه في أعينهم أيضًا، كانت الماركسية تفتقد إلى المضمون الفلسفي. 

في أيامنا هذه، من السهل للغاية أن نظهر أن هذا المفهوم السلبي الخالص للعلاقة بين الماركسية والفلسفة، والذي أظهرنا أن الأكاديميين البرجوازيين مجمعون عليه إلى جانب الماركسيين الأرثوذوكسيين، صعد في الحالتين من منطلق تحليل ناقص وشديد الخرافية للتطور التاريخي والمنطقي. ولكن الظروف التي من خلالها وصلوا إلى هذه النتيجة تتشعب –جزئيًّا- بشكل عظيم، ولهذا أريد أن أصفها بشكل منفصل. ساعتها سيكون من الواضح أنه على الرغم من الاختلاف العظيم بين دافع كل فريق، فمجموع القضايا يتفق في موضع مهم بعينه. بين "الأكاديميين البرجوازيين" في النصف الثاني من القرن العشرين، كان هناك عدم اعتبار تام لفلسفة هيجل، وتصادف ذلك مع عدم فهم للعلاقة بين الفلسفة والواقع والنظرية والتطبيق، التي شكلت المبدأ الحي لكل الفلسفات والعلوم في زمن هيجل. من جهة أخرى، مال الماركسيون في الوقت نفسه، وبالطريقة نفسها، وبشكل متزايد، لنسيان المعنى الأصلي للمبدأ الديالكتيكي. إلا أن الهيجليين الشابين الاثنين، ماركس وإنجلز، حين تخليا عن هيجل في الأربعينيات من القرن التاسع عشر، كانا قد أُنقذا عن عمد من الفلسفة المثالية الألمانية، وانتقلا إلى المفهوم المادي للنظرية والمجمتع. 

أولًا سأوجز الأسباب التي جعلت الفلاسفة والمؤرخين البرجوازيين، منذ منتصف القرن التاسع عشر، يتخلون بشكل متزايد عن المفهوم الديالكتيكي لتاريخ الفلسفة؛ ولم بالتالي كانوا غير قادرين على التحليل المنضبط وعرض الماهية المستقلة للفلسفة الماركسية وأهميتها بداخل التطور العام لفلسفة القرن التاسع عشر. 

يمكن للمرء أن يذهب إلى أن هناك أسبابًا أكثر مباشرة لهذا التخلي وسوء التفسير للفلسفة الماركسية، وأنه بالتالي لا توجد بالتأكيد حاجة لنا لشرح قمعها بالإشارة إلى التخلي عن الديالكتيك. صحيح أن في كتابات القرن التاسع عشر في تاريخ الفلسفة، أسهمت غريزة طبقية واعية بشكل لا يمكن إنكاره في التعامل السطحي مع الماركسية، والأدهى، في تعامل مشابه مع "الملحدين" و"الماديين" البرجوازيين كديفيد فريدريش شتراوس وبرونو باور ولودفيج فويرباخ. ولكن سيكون لدينا فحسب فكرة شديد الفجاجة عما هو يشكل في الواقع موقفًا شديد التعقيد، إذا اكتفينا باتهام الفلاسفة البرجوازيين أنهم أخضعوا فلسفتهم أو تاريخهم للفلسفة، عن وعي، للمصلحة الطبقية. بالطبع توجد حالات يمكن أن توافق هذا الطرح الفج. ولكن في العموم، علاقة التمثيلات الفلسفية لطبقة بالطبقة التي يمثلونها هي أمر معقد بشكل كبير. في كتابه "الثامن عشر من برومير" يتعامل ماركس بشكل خاص مع الروابط من هذا النوع. يقول إن هناك طبقة ككل تخلق وتشكل “بنية فوقية كاملة من المشاعر والأوهام وأنساق الفكر والآراء تجاه الحياة، مميزة وخاصة"، وذلك من منطلق "أسسها المادية". جزء من البنية الفوقية التي "تحددها الطبقة" بهذه الطريقة، إلا أنه بعيد بشكل خاص عن "أساسها المادي والاقتصادي"، هو فلسفة الطبقة محل السؤال. هذا يتضح تمام الوضوح فيما يتعلق بمضمون ماركس؛ ولكنه ينطبق أيضًا، في النهاية، على جوانبه الشكلانية. إذا أردنا أن نفهم انعدام الفهم الكامل للمضمون الفلسفي لماركس من قبل مؤرخي الفلسفة البرجوازيين، وأن نفهمه بحق، بمعنى ماركس للكلمة – أي ماديًّا وبالتالي علميًّا، علينا ألا نكتفي بشرح الظاهرة مباشرة وفورًا من منطلق "نواتها الأرضية" (أي الوعي الطبقي والمصالح الاقتصادية التي تخفي "الحالة النهائية"). مهمتنا هي العرض التفصيلي لوسائط العملية، إذ يحاول حتى هؤلاء الفلاسفة والمؤرخين البرجوازيين بإخلاص فحص الحقيقة "الخالصة" بأعظم "موضوعية"، وهم مضطرون تمامًا إلى تجاهل المضمون الفلسفي للماركسية، أو غير قادرين سوى على تفسيرها بطريقة غير مناسبة وخرافية. من منطلق أغراضنا، فإن الأكثر أهمية ضمن تلك الوسائل الوسيطة هي بلا شك حقيقة أنه منذ منتصف القرن التاسع عشر، تخلت الفلسفة البرجوازية كلها، وخصوصًا الكتابة البرجوازية لتاريخ الفلسفة، عن الفلسفة الهيجلية والمنهج الديالكتيكي، وذلك لأسباب اقتصادية واجتماعية. وعادت إلى منهج فلسفي، وكتابة لتاريخ الفلسفة، تجعل من المستحيل تقريبًا الاستفادة من أي شي "فلسفي" من منطلق ظاهرة مثل اشتراكية ماركس العلمية. 

في العروض العادية لفلسفة القرن التاسع عشر، المتخذة من كتابات المؤلفين البرجوازيين، توجد هوة عند نقطة بعينها لا يمكن تجاوزها إلا بطريقة مصطنعة، وذلك إذا كانت هناك فرصة لتجاوزها من الأساس. يريد هؤلاء المؤرخون أن يعرضوا تطور الفكر الفلسفي بطريقة أيديولوجية تمامًا وغير ديالكتيكية بشكل مثير لليأس، وذلك باعتبارها عملية خالصة لـ "تاريخ الأفكار". هكذا كان من المستحيل أن ترى كيف استطاعوا إيجاد تفسير عقلي لحقيقة أنه بحلول الخمسينيات من القرن التاسع عشر، لم يعد لفلسفة هيجل العظيم أتباع متبقون في ألمانيا، وكان يساء فهمهم إلى حد كبير بعد ذلك، بينما في وقت متأخر مثل الثلاثينيات من القرن التاسع عشر، كان حتى أكثر أعداءها عظمة (شوبنهاور أو هربرت) غير قادرين على التخلص من تأثيرها الفكري الطاغي. معظمهم لم يحاولوا حتى أن يقدموا مثل هذا التفسير، ولكن بدلاً من ذلك اكتفوا بالإشارة في كتاباتهم إلى الجدالات التي تلت وفاة هيجل، وذلك تحت العنوان شديد السلبية "انحلال الهيجلية". إلا أن مضمون تلك الجدالات كان دالاً للغاية، ولقد كانوا أيضًا، بمعايير اليوم، ذوي مستوى فلسفي شكلي شديد السمو. لقد اتخذوا مكانهم بين ميول متنوعة في مدرسة هيجل، اليمين، والوسط، والميول المتباينة لليسار، خصوصًا شتراوس وباور وفيورباخ وماركس وإنجلز. ولإنهاء هذه الحقبة، وضع مؤرخو الفلسفة هؤلاء ببساطة نوعًا من "الخاتمة" المطلقة للحركة الفلسفية الهيجلية. ساعتها بدأوا في الستينيات من القرن الثامن عشر بالعودة إلى كانط (هلمهولتس، زيلر، ليبمان، لانج) ذلك الذي بدا كبداية عصر التطور الفلسفي، دون أي اتصال مباشر مع أي شيء آخر. لهذا النوع من التاريخ الفلسفي حدود ثلاثة عظمى، اثنان منهما يمكن أن يُكشفا بالمراجعة النقدية التي تظل في ذاتها بداخل مملكة تاريخ الأفكار تمامًا، وإن كان بشكل متباين. في الحقيقة، في السنوات الأخيرة وَسَّع فلاسفة شاملون متزايدون، ديلثي بشكل خاص ومدرسته، وبشكل كبير، المنظور المحدود لتواريخ الفلسفة العادية من جانبين. هكذا يمكن لهذين الحدين أن يعتبرا أنهما تم تجاوزهما من حيث المبدأ، على الرغم من أنهما من حيث التطبيق نجيا حتى هذا اليوم، ومن المتوقع أن يستمرا كذلك لفترة طويلة للغاية. ولكن الحد الثالث لا يمكن على الإطلاق أن يُنتَزَع من مملكة تاريخ الأفكار، وبالتالي لم يُتجاوزه حتى من حيث المبدأ من قبل المؤرخين البرجوازيين المعاصرين للفلسفة. 

الحد الأول من بين تلك الحدود الثلاثة في التاريخ البرجوازي للفلسفة خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، يمكن أن يوصف بأنه حد "فلسفي خالص". أيديولوجيو ذلك الزمن لم يروا أن الأفكار المتضمنة في فلسفة ما يمكن أن تحيا، ليس فقط في الفلسفات، ولكن بالقدر نفسه في العلوم الوضعية والممارسة الاجتماعية، وأن هذه العملية بالضبط بدأت على نطاق كبير بفلسفة هيجل. أما الحد الثاني فهو حد "محلي"، وهو نموذجي بشكل أكبر لدى أساتذة الفلسفة الألمان في النصف الثاني من القرن التاسع عشر: تجاهل هؤلاء الألمان الموقرون حقيقة أن هناك فلاسفة آخرين خارج حدود ألمانيا. هكذا، ورغم وجود استثناءات قليلة، أخفقوا تمامًا في رؤية أن النسق الهيجلي، الذي أُعلن وفاته في ألمانيا منذ عقود، استمر في الازدهار في العديد من البلاد الأجنبية، ليس فقط في مضمونه، ولكن أيضًا كنسق ومنهج. خلال تطور تاريخ الفلسفة في العقود السابقة، تم تجاوز هذين الحدين ومنظورهما من حيث المبدأ، والصورة التي رُسمَت فوق التواريخ النموذجية للفلسفة منذ عام 1850 مرت مؤخرًا بتطور كبير. ولكن الفلاسفة والمؤرخين البرجوازيين كانوا غير قادرين على الإطلاق على تجاوز الحد الثالث من منطلق موقفهم التاريخي، لأن هذا كان سيشتمل على أن يتخلى هؤلاء الفلاسفة ومؤرخي الفلسفة "البرجوازيون" عن الموقف الطبقي البرجوازي، الذي يشكل الشرط القبلي الأكثر جوهرية لعلمهم التاريخي والفلسفي كله. لأن ما يبدو كتطور "مثالي" خالص للفلسفة في القرن التاسع عشر، يمكن في الحقيقية أن يُدرك كليًّا وجوهريًّا بربطه بالتطور التاريخي الراسخ للمجتمع البرجوازي ككل. هذا الرابط بالتحديد هو ما يجعل المؤرخين البرجوزايين للفلسفة، في المرحلة الراهنة لتطورهم، غير قادرين على ممارسة الدراسة الفلسفية بدقة ونزاهة.

هذا يفسر السبب الذي يجعل مراحل بعينها من التطور العام للفلسفة في القرن التاسع عشر، وحتى الوقت الحالي، عليها أن تظل "متعالية" لدى هؤلاء المؤرخين البرجوازيين للفلسفة. تفسر أيضًا لم تظل هناك "لطخات بيضاء" معينة مثيرة للفضول على خرائط تواريخ الفلسفة البرجوازية المعاصرة (والتي وُصفت بالفعل باتصالها "بنهاية" الحركة الهيجلية في الأربعينيات من القرن التاسع عشر، والمساحة الفارغة بعدها، قبل "إعادة إحياء" الفلسفة في الستينيات من القرن التاسع عشر). ويصبح من المفهوم لمِ لَم يعُد لدى تواريخ الفلسفة البرجوازية أي استيعاب متماسك حتى لحقبة الفلسفة الألمانية التي كانوا قد نجحوا في فهم ماهيتها المتماسكة. بمعنى آخر، لا تطور الفكر الفلسفي بعد هيجل، ولا التقدم السابق للفلسفة بداية من كانط وحتى هيجل، يمكن أن يُفهم كمجرد سلسلة من الأفكار. أي محاولة لفهم الطبيعة والمعنى الكاملين لتلك الحقبة المتأخرة –التي يشار إليها عادة في كتب التاريخ على أنها عصر "المثالية الألمانية"– سوف تخفق، دون أي أمل في النجاح، ما دامت روابطها الحية لشكلها ومسارها الكاملين غير معترف بهما، أو معترف بهما فقط بشكل خرافي أو متأخر. إنها الروابط بين "الحركة الفكرية" لتلك الحقبة و"الحركة الثورية" المعاصرة لها. 

في كتاب هيجل "فلسفة التاريخ" وفي أعمال أخرى، توجد فقرات تصف طبيعة فلسفة أسلافه المباشرين –كانط وفشته وشيلينج– المناسبة لكل الحقبة التي يُطلَق عليها "المثالية الألمانية" ومن ضمنها "خاتمتها" المتوجة، أي النسق الهيجلي نفسه. وهي تنطبق أيضًا على الصراعات اللاحقة في الأربعينيات من القرن التاسع عشر بين الاتجاهات الهيجلية المتباينة. كتب هيجل أنه في الأنساق الفلسفية لهذا العصر الثوري الأساسي، "سكنت الفلسفة وتم التعبير عنها بداخل شكل أفكارهم، وكأنها في حقيقتها كذلك". مقولات هيجل المصاحبة توضح تمام الوضوح أنه لم يكن يتحدث عما يحب المؤرخون البرجوازيون المعاصرون أن يطلقوا عليه ثورة الفكر – وهي العملية اللطيفة الهادئة التي تجري في مملكة الدرس الخالص وبعيدة عن مملكة النضالات الواقعية الفجة. أعظم مفكر أنتجه المجتمع البرجوزاي في حقبته الثورية اعتبر "الثورة في شكل الفكر" عنصرًا موضوعيًّا في العملية الاجتماعية الشاملة للثورة الواقعية. شعبان فقط، الألماني والفرنسي –على الرغم من اختلافاتهما، أو تحديدًا بسبب تلك الاختلافات– انضما لهذا العهد العظيم من تاريخ العالم، الذي استوعبت فلسفة التاريخ جوهره الأعمق.

 أما الأمم الأخرى فلم يكن لها دور داخلي فيها: أدت حكوماتها وشعبها دورًا سياسيًّا فحسب. اجتاح هذا المبدأ ألمانيا كفكر وروح ومبدأ، وفي فرنسا تجلى في الواقع المؤثر. مع ذلك ما كان عليه الواقع في ألمانيا تبدَّى كنتيجة عنيفة للظروف الخارجية وكرد فعل عليها. بعد أربع صفحات، حين قدم فلسفة كانط، عاد هيجل للفكرة نفسها:

وضع روسو مفهوم المطلق في الحرية بالفعل؛ وكان لدى كانط المبدأ نفسه، ولكن فقط بنسخة أكثر نظرية. نظر الفرنسيون للأمر من منظور الإرادة، لأن لديهم المثل القائل ‘Il a la tête pres du bonnet’  (هو سريع الغضب). لدى فرنسا حس الواقع، حس الإنجاز، لأن الأفكار هناك تتُرجم مباشرة إلى أفعال، هكذا يقوم الناس هناك بتطبيق النظرية على الواقع. بغض النظر إن كانت الحرية الأكبر في ذاتها متماسكة، في فرنسا تطبق على الواقع بشكل غير ناضج ومجرد، ومعنى أن تؤسس التجريد في الواقع يعني أن تدمر هذا الواقع. يصبح التعصب من أجل الحرية، حين يستحوذ على الناس، أمرًا بشعًا. في ألمانيا أثار المبدأ نفسه اهتمام الوعي، ولكنه تطور فقط بالطريقة النظرية. لدينا كل أنواع الاضطرابات بداخلنا وعنا، ولكن خلالها، يفضل الرأس الألماني أن يترك القبعة موضوعة بهدوء مكانها، وتحتفظ في داخلها لكل العمليات – ولد إيمانويل كانط في كونيجسبرج عام 1724» وهكذا.

تؤكد تلك الفقرات المستمدة من هيجل مبدأ يجعل الطبيعة الداخلية لهذه الحقبة العظيمة من تاريخ العالم مفهومة: العلاقة الديالكتيكية بين الفلسفة والواقع. في مكان آخر يصوغ هيجل هذا المبدأ بشكل أعم، حين كتب أن كل فلسفة لا يمكن أن تكون سوى «عصرها الذي يفهمه الفكر». هذه البديهية الجوهرية لأي حدث من أجل الفهم الواقعي لتطور الفكر الفلسفي، تصير ملائمة أكثر في الحقبة الثورية للتطور الاشتراكي. في الحقيقة، هذا هو بالضبط ما يشرح المصير الذي يتولى بشكل لا يمكن مقاومته التطور الأبعد للفلسفة ودراسة الطبقة البرجوازية لتاريخ الفلسفة في القرن التاسع عشر. في منتصف القرن التاسع عشر، توقفت هذه الطبقة عن أن تكون ثورية في ممارستها الاجتماعية، ومن خلال الضرورة الداخلية فقدت أيضًا، ولهذا السبب، القدرة على الاستيعاب الفكري للتشابك الديالكتيكي للأفكار والتطورات التاريخية الواقعية، المفارق لكل الفلسفات والثورات. في الممارسة الاجتماعية، رُفض التطور الثوري للبرجوازية وتَوقَّف في منتصف القرن التاسع عشر. وجدت هذه العملية تعبيرها الأيديولوجي في الانهيار الظاهر ونهاية التطور الفلسفي، الذي يسكن فيه المؤرخون البرجوازيون حتى يومنا هذا. المثال النموذجي على هذا النوع من التفكير هو تعليق أوبرفيج وهاينزه، اللذين بدآ القسم المتعلق بالمسألة في كتابهما بذكرهما إن الفلسفة وجدت نفسها في ذلك الوقت «في حالة إنهاك عام»، «وفقدت تدريجيًا تأثيرها على النشاط الثقافي». وفقًا لأوبرفيج، هذا الحدث الحزين يعود في الأساس إلى «ميول القرف النفسية»، حيث كل «اللحظات الخارجية» يكون لها «تأثير ثانوي» فحسب. يشرح هذا المؤرخ البرجوازي طبيعة «ميول الاشمئزاز النفسية» تلك لنفسه وللقراء كالتالي: «صار الناس ضجرين من كل من المثالية المتضخمة والتخمينات الميتافيزيقية! وأرادوا غذاء روحيًا يكون له أساس». التطورات الفلسفية للقرن التاسع عشر تبدو في الوقت نفسه في شكل مختلف كلية (حتى من موقف تاريخ الأفكار يكون شكلًا أكثر مناسبة) إذا واجهوا عن قصد وبشكل شامل المنهج الديالكتيكي، حتى في الشكل غير المطور، والواعي جزئيًا فحسب، ذلك الذي استخدمه هيجل، بمعنى آخر، في شكل الديالكتيك المثالي الهيجلي، في مواجهة الديالكتيك المادي الماركسي. 

من منطلق هذا المنظور، بدلاً من أن تنحسر الحركة الثورية في مملكة الأفكار، وتتوقف نهائيًّا في الأربعينيات من القرن التاسع عشر، مرت فحسب بتغيير عميق وكبير في طبيعتها. بدلاً من أن «تغادرنا» الفلسفة الألمانية الكلاسيكية، انتقل التعبير الأيديولوجي للحركة الثورية للبرجوازية إلى علم جديد ظهر بعدها في تاريخ الأفكار كتعبير عام على الحركة الثورية للبروليتاريا: تأسست نظرية «الاشتراكية العلمية» وصاغها ماركس وإنجلز للمرة الأولى في الأربعينيات من القرن التاسع عشر.

هكذا تجاهل المؤرخون البرجوازيون للفلسفة تمامًا هذه العلاقة الجوهرية والضرورية بين المثالية الألمانية والماركسية، أو تصوروها وقدموها بشكل غير مناسب وبانعدام فهم. ومن أجل استيعاب ذلك بشكل صحيح، من الضروري التخلي عن المقاربة المجردة العادية والأيديولوجية للمؤرخين المحدثين للفلسفة وذلك لصالح مقاربة ليست بحاجة إلى أن تكون ماركسية على وجه الخصوص، ولكن أن تكون ديالكتيكية بوضوح بالمعنى الهيجلي والماركسي للكلمة. إذا قمنا بذلك، يمكن أن نرى في الوقت نفسه، ليس فقط العلاقة المتبادلة بين الفلسفة المثالية الألمانية والماركسية، ولكن أيضًا ضرورتهما الداخلية. ما دام النسق الماركسي هو التعبير النظري عن الحركة الثورية للبروليتاريا، والفلسفة المثالية الألمانية هي التعبير النظري عن الحركة الثورية للبرجوازية، ينبغي أن يكونا عقليًّا وتاريخيًّا (أي أيديولوجيا) في العلاقة نفسها من بعضهما كحركة ثورية للبروليتاريا، مثلما تعتبر الطبقة حركة ثورية للبرجوازية، وذلك في مملكة الممارسة الاجتماعية والسياسية. توجد عملية تاريخية موحدة للتطور التاريخي فيه تنبثق الحركة الطبقية البروليتارية (المستقلة) عن الحركة الثورية من الطبقة الثالثة (الناس العاديين من غير الكهنة أو النبلاء) والنظرية المادية للماركسية تواجه (مستقلة) الفلسفة المثالية البرجوازية. تؤثر كل تلك العمليات على نفسها بالتبادل. ظهور النظرية الماركسية يمثل، بالمعاني الهيجلية والماركسية، مجرد "الجانب الآخر" من ظهور الحركة البروليتارية الواقعية، كل من الجانبين يوجزان الكلية الراسخة للعملية التاريخية. 

تمكننا المقاربة الديالكتيكية من أن نستوعب الاتجاهات الأربعة المتباينة التي ذكرناها –الاتجاه الثوري للبرجوازية، والفلسفة المثالية بداية من كانط وحتى هيجل، والحركة الطبقية الثورية للبروليتاريا، والفلسفة المادية لماركس– كلحظات أربع لعملية تاريخية واحدة. يسمح لنا هذا أن نفهم الطبيعة الواقعية للعلم الجديد، الذي صاغه نظريًّا ماركس وإنجلز، والذي يشكل التعبير العام عن الحركة الثورية المستقلة للبروليتاريا. انبثقت هذه الفلسفة المادية من أكثر الأنساق تقدمًا للمثالية البرجوازية الثورية، والآن يصبح من المفهوم، لم كان على التواريخ الفلسفية البرجوازية، إما أن تتجاهلها كلية، وإما لا تستطيع أن تفهم طبيعتها سوى بشكل سلبي، أو بالمعني الحرفي، تفهمها بشكل معكوس. لا يمكن إدراك الأهداف العملية الجوهرية للحركة البروليتارية بداخل المجتمع البرجوازي والدولة البرجوازية. وبشكل مشابه، فلسفة هذا المجتمع البرجوازي غير قادرة على فهم طبيعة الافتراضات العامة التي وجدت فيها الحركة الثورية للبروليتاريا تعبيرها المستقل والواعي ذاتيًّا. على الموقف البرجوازي أن يتوقف نظريًّا إذ عليه أن يتوقف عند الممارسة الاجتماعية، ما دام لا يريد أن يتوقف عن كونه موقفًا "برجوازيًا" بكليته، بمعنى آخر أن يستبدل ذاته. فقط حين يتجاوز تاريخ الفلسفة هذا الحاجز، تتوقف الاشتراكية العلمية على أن تكون متعالية، وتصبح موضوعًا ممكنًا للفهم. ولكن الشيء الغريب الذي يعقد بشكل كبير أي فهم صحيح لمشكلة "الماركسية والفلسفة" هو الآتي: يبدو وكأن في فعل تجاوز الحدود نفسه للموقف البرجوازي – الفعل الذي لا يمكن الاستغناء عنه لاستيعاب المضمون الفلسفي الجديد الجوهري للماركسية– الماركسية نفسها تُستَبدَل وتُعدم كموضوع فلسفي. 

في بداية هذا البحث، ذكرنا أن ماركس وإنجلز، مؤسسي الاشتراكية العلمية، لم تكن رغبتهما بناء فلسفة جديدة. من جهة أخرى، وفي مقابل المفكرين البرجوازيين، كان الاثنان واعيين تمامًا بالرابط التاريخي الوثيق بين نظريتهما المادية والفلسفة المثالية البرجوازية. وفقًا لإنجلز، الاشتراكية من حيث "مضمونها" هي نتاج مفاهيم "جديدة" ظهرت بالضرورة في مرحلة محددة من التطور الاجتماعي بداخل البروليتاريا كنتيجة لموقفها المادي. ولكنها خلقت "شكلها" العلمي المحدد (الذي يميزها عن الاشتراكية اليوتوبية) بربطها بالمثالية الألمانية، خاصة نسق هيجل الفلسفي. من جهة الشكل، "انبثقت" الاشتراكية، التي تطورت من كونها يوتوبيا إلى كونها علمًا، عن الفلسفة المثالية الألمانية. بشكل طبيعي، هذا "الأصل" الفلسفي (الشكلاني) لم يعن أن الاشتراكية ينبغي أن تظل فلسفة في "شكلها المستقل وتطورها اللاحق". بداية من عام 1845، وليس قبل ذلك، وصف ماركس وإنجلز موقفهما المادي والعلمي بأنه لم يعد فلسفيًّا. لا بد أن نذكر هنا أن الفلسفة كلها بالنسبة لهما كانت مكافئة للفلسفة البرجوازية. ولكن تحديدًا هذه المساواة بين كل الفلسفة والفلسفة البرجوازية هو ما نحتاج إلى التشديد عليه. لأن ذلك يشتمل بشكل كبير على العلاقة نفسها التي تربط الماركسية بالدولة. لم يناهض ماركس وإنجلز شكلًا تاريخيًّا محددًا من الدولة، ولكنهما ساويا تاريخيًّا وماديًّا بين الدولة في حد ذاتها، والدولة البرجوازية. وهكذا أعلنا أن إلغاء الدولة هو الهدف السياسي للشيوعية. بشكل مشابه، لم يناهضا فقط أنساقًا فلسفية محددة، وإنما أرادا في النهاية أن تُتجاوز الفلسفة وتستبدل بها الاشتراكية العلمية. هنا نجد التناقض الرئيسي بين المفهوم "الواقعي" (أي المادي الجدلي) للماركسية، و"الهراء الأيديولوجي للمشرعين وغيرهم" (ماركس) من سمات اللاسالية، والنسخ المبكرة والمتأخرة من "الاشتراكية المبتذلة". والأخيرة في الأساس لم تتجاوز قط "المستوى البرجوازي"، أي موقف المجتمع البرجوازي.

أي توضيح مفصل للعلاقة بين الماركسية والفلسفة ينبغي أن يبدأ بالتصريحات الجلية لماركس وإنجلز نفسيهما بأن النتيجة الضرورية لموقفهما المادي الجدلي هي استبدال، لا الفلسفة المثالية البرجوازية فقط، ولكن في الوقت نفسه، الفلسفة بمجملها بما هي كذلك. من الأمور الأساسية ألا نقلل من الأهمية المحورية لهذا الموقف الماركسي حيال الفلسفة باعتبار كل هذا الجدل مجرد جدل لفظي فحسب – بالإشارة إلى أن إنجلز أضفى فحسب اسمًا جديدًا على المبادئ الإبستمولوجية المعروفة في المصطلحات الهيجلية على أنها "الجانب الفلسفي من العلوم"، والتي كانت كذلك، والتي حُفظت في الأساس في التحول المادي للجدل الهيجلي. بالطبع توجد بعض الصيغ لدى ماركس، وخصوصًا لدى إنجلز المتأخر، تبدو أنها توحي بذلك. ولكن من السهل أن نرى أن الفلسفة نفسها لن تختفي بإخفاء اسمها. تلك النقاط الاصطلاحية المجردة لا بد أن توضع جانبًا في أثناء القيام بأي عملية مرتبطة بالعلاقة بين الماركسية والفلسفة. المشكلة بالأحرى هي كيف ينبغي علينا أن نفهم إلغاء الفلسفة التي تحدث عنها ماركس وإنجلز – في الأربعينيات من القرن التاسع عشر في الأساس، ولكن في العديد من المناسبات الأخرى أيضًا. كيف يمكن تحقيق هذه العملية؟ أو هل حققت بالفعل؟ وبأي أفعال؟ وبأي سرعة؟ ولمن؟ هل يمكن اعتبار هذا الإلغاء للفلسفة مكتملاً تمامًا ونهائيًّا بفعل عقلي وحيد من قبل ماركس وإنجلز؟ هل يمكن أن يعتبر مكتملًا فقط لدى الماركسيين، أم للبروليتاريا كلها، أم للإنسانية لكها؟ أم ينبغي علينا أنا نراها (كما نرى إلغاء الدولة)، كعملية ثورية شديدة الطول والثقل، تتكشف خلال مراحل متنوعة؟ ولو كان الأمر كذلك، ما هي العلاقة بين الماركسية والفلسفة ما دامت هذه العملية الشاقة لم تصل إلى هدفها الأخير، ألا وهو إلغاء الفلسفة؟

إذا طُرح سؤال العلاقة بين الماركسية والفلسفة بهذه الطريقة، يصبح من الواضح أننا لا نتعامل مع تأملات بلا معنى أو هدف تخص قضايا جرى حلها منذ وقت طويل. على العكس، تظل المشكلة ذات أهمية نظرية وعملية عظيمة. في الحقيقة هي مهمة على وجه الخصوص في المرحلة القائمة للنضال الطبقي البروليتاري. تصرف الماركسيون الأرثوذوكس لعدة عقود وكأنه لا توجد مشكلة على الإطلاق، أو على أقصى تقدير توجد مشكلة ولكنها سوف تظل دومًا تافهة بالنسبة لممارسة النضال الطبقي. الآن هذه المشكلة نفسها التي تبدو مريبة بشكل كبير – تزداد ريبتها في ضوء التوازي الغريب بين مشكلتي الماركسية والفلسفة والماركسية والدولة. من المعروف أن مشكلة الماركسية والدولة، كما شرحها لينين في "الدولة والثورة"، لم تكن متعلقة كثيرًا "بالمنظرين والدعاة للأممية الثانية". هذا يطرح سؤالًا: إذا كان هناك اتصال تام بين إلغاء الدولة وإلغاء الفلسفة، هل هناك أيضًا رابط بين تجاهل ماركسيي الأممية الثانية للمشكلتين؟ يمكن طرح المشكلة بدقة أكبير. نقد لينين المرير لإهانة الماركسية عن طريق الانتهازية يربط تجاهل مشكلة الدولة من قبل ماركسيي الأممية الثانية بسياق أعم. هل هذا السياق قائم أيضًا في حالة الماركسية والفلسفة. بمعنى آخر، هل تجاهل ماركسيو الأممية الثانية لمشكلة الفلسفة مرتبط بحقيقة أن "مشكلات الثورة على وجه العموم لا تهمهم بشكل كبير"؟

لتوضيح هذه المسألة، علينا أن نقدم تحليلًا أكثر تفصيلًا لطبيعة الأزمة وأسبابها، تلك الأزمة الأعظم التي جرت في تاريخ النظرية الماركسية، والتي قسمت الماركسيين في العقد الماضي إلى ثلاثة معسكرات متعادية.  

في بداية القرن التاسع عشر، حلت نهاية الحقبة الطويلة من النمو التطوري الخالص للرأسمالية، وبدأ عهد جديد من النضال الثوري. بسبب هذا التغير في الظروف العملية للنضال الطبقي، كانت هناك علامات متزايدة على أن النظرية الماركسية دخلت مرحلة حرجة. صار من الواضح أن الماركسية المبتذلة للتابعين، تلك المفرطة في تفاهتها وبدائيتها، لديها وعي غير ملائم على الإطلاق حتى لشمولية مشكلاتها، دعك بالمواقف المحددة حيال نطاق كامل من الأسئلة خارجها. أظهرت أزمة النظرية الماركسية نفسها بأوضح شكل في مشكلة موقف الثورة الاشتراكية تجاه الدولة. لم توضع القضية الرئيسية قط موضع الممارسة بجدية منذ هزيمة الحركة الثورية البروليتارية الأولى عام 1848، وقمع ثورة الكميونة في عام 1871. ولكنها وُضعت على الأجندة مجددًا وبشكل ملموس بحلول الحرب العالمية، والثورتين الروسيتين الأولى والثانية عام 1917، وانهيار القوى الرئيسية في عام 1918. لقد صار الآن من الواضح أنه لا يوجد أي نوع من الإجماع داخل معسكر الماركسية حيال تلك القضايا الرئيسية المتعلقة بالانتقال والهدف؛ مثل استيلاء البروليتاريا على سلطة الدولة، و"ديكتاتورية البروليتاريا"، و"أفول الدولة" في المجتمع الشيوعي. على العكس، سرعان ما طُرحت تلك الأسئلة بطريقة ملموسة ولا يمكن تجنبها، ومنها انبثقت على الأقل ثلاثة مواقف نظرية مختلفة، ادعت كل منها أنها ماركسية. إلا أنه في حقبة ما قبل الحرب، لم يعتبر الممثلون الأبرز لتلك الاتجاهات الثلاثة –على الترتيب رينير وكاوتسكي ولينين– ماركسيين فحسب، بل وماركسيين أرثوذوكسيين. لعدة عقود، كانت توجد أزمة بين معسكر الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية ونقابات الأممية الثانية؛ اتخذ هذا شكل الصراع بين الماركسية الأرثوذوكسية والمراجعاتية. ولكن مع ظهور الاتجاهات الاشتراكية المختلفة من منطلق تلك الأسئلة، صار من الواضح أن هذه الأزمة البينة لم تكن سوى أزمة مؤقتة ومتوهمة لشقاق أعمق يتخلل الجبهة الماركسية الأرثوذوكسية نفسها. على أحد جانبي هذا الشقاق، توجد الإصلاحية الجديدة الماركسية التي اندمجت بمستوى ما بالمراجعاتية الأبكر. على الجانب الآخر، أطلق الممثلون النظريون للحزب البروليتاري الثوري الجديد نضالًا ضد كل من الإصلاح القديم للمراجعاتيين وإصلاحية "الوسط"، تحت صيحة المعارك التي تدعو لاستعادة الماركسية الخالصة أو الثورية.

اندلعت الأزمة بداخل المعسكر الماركسي مع اندلاع الحرب العالمية. ولكن سيكون من المفرط في الخرافية وانعدام الديالكتيكية لمفهوم العملية التاريخية، التي هي ليست بماركسية ولا مادية، وفي الحقيقة ليست حتى هيجلية على الإطلاق، أن ننسبها فحسب إلى الجبن، أو القناعات الثورية الناقصة، للمنظرين والمروجين المسؤولين عن هذا الإفقار والانتقاص من النظرية الماركسية إلى الماركسية المبتذلة الأرثوذوكسية للأممية الثانية. إلا أنه سيكون من الخرافي وغير الديالكتيكي بالقدر نفسه أن نتخيل أن الجدالات العظيمة بين لينين وكاوتسكي و"الماركسيين" الآخرين كان غرضها فحسب استعادة الماركسية، بإعادة تثبيت العقيدة الماركسية بإخلاص. حتى ذلك الوقت كانا قد استخدما فحسب المنهج الديالكتيكي، الذي قدمه كل من هيجل وماركس إلى دراسة التاريخ، لتحليل فلسفة المثالية الألمانية، والنظرية الماركسية التي "انبثقت عنها". ولكن المنهج المادي الحقيقي الوحيد، وبالتالي المنهج العلمي (ماركس) للسعي وراء هذا التحليل هو تطبيقه على التطور الأكبر للماركسية حتى الوقت الحالي. يعني هذا أنه علينا أن نحاول فهم كل تغيير وتطور ومراجعة للنظرية الماركسية، منذ ظهورها الأصلي – منذ الفلسفة المثالية الألمانية، كنتيجة ضرورية لعصرها (هيجل). وبشكل أكثر دقة، علينا أن نسعى لفهم تحديدها لشمولية العملية التاريخية الاجتماعية، التي تعتبر التغيرات والتطورات تعبيرها العام (ماركس). سنكون ساعتها قادرين على استيعاب الأصول الواقعية لانحطاط النظرية الماركسية إلى الماركسية المبتذلة. يمكن أيضًا أن نميز معنى الجهود الشغوفة ولكنها "الأيديولوجية" كما يبدو للمنظرين الماركسيين للأممية الثالثة اليوم، لاستعادة "عقيدة ماركس الحية".

هكذا إذا طبقنا مبدأ ماركس عن المادية الديالكتيكية على كل تاريخ الماركسية، يمكن أن نميز مراحل رئيسية ثلاث للتطور مرت بها النظرية الماركسية منذ ميلادها، هذا محتم في سياق التطور الاجتماعي الراسخ لهذا العصر. تبدأ المرحلة الأولى نحو عام 1843، وتتوافق في تاريخ الأفكار مع "نقد فلسفة الحق لدى هيجل". وتنتهي مع ثورة عام 1848، وتتوافق في "البيان الشيوعي". 

تبدأ المرحلة الثانية بالقمع الملعون للبروليتاريا الباريسية في معركة يونيو عام 1848، وما نتج عنها من سحق لكل منظمات الطبقة العاملة وأحلام التحرر "في حقبة النشاط الصناعي المحموم، والانحطاط الأخلاقي والرجعية السياسية"، كما يصف ماركس بشكل قدير في خطابه الافتتاحي عام 1864. لسنا معنيين هنا بالتاريخ الاجتماعي للطبقة العاملة ككل، ولكننا معنيون فحسب بالتطور الداخلي للنظرية الماركسية بعلاقتها مع التاريخ الطبقي العام للبروليتاريا. هكذا في الحقبة الثانية يمكن أن نقول إنها استمرت تقريبًا حتى نهاية القرن، تاركة خلفها كل القطاعات الأقل أهمية (تأسيس الأممية الثانية وانهيارها، فاصل الكميونة، النضال بين الماركسيين واللاسانيين، القوانين المناهضة للاشتراكية في ألمانيا، النقابات، تأسيس الأممية الثانية). وتمتد المرحلة الثالثة منذ بداية هذا القرن إلى الحاضر، وستستمر حتى المستقبل غير المحدد.

وفقًا لهذا الترتيب، يقدم التطور التاريخي للنظرية الماركسية الصورة اللاحقة. التعبير الأول عنها يظل بشكل طبيعي وجوهري غير متغير في ذهني ماركس وإنجلز نفسيهما خلال الفترة اللاحقة، على الرغم من أنه في كتاباتهما لم تظل غير متغيرة تمامًا. على الرغم من إنكارهما للفلسفة، تخللت تلك النسخة الأولى من النظرية فكرهما الفلسفي. إنها نظرية "تطور اجتماعي" يتم رؤيتها وفهمها ككل حي، أو بشكل أدق، إنها نظرية ثورة اشتراكية، تُفهم وتمارس ككل حي. عند هذه المرحلة لا يوجد على الإطلاق تساؤل عن انقسام اللحظات الاقتصادية والسياسية والفكرية لهذا الكل، إلى أفرع للمعرفة، حتى حين يتم فهم كل غرابة متماسكة لكل لحظة منفصلة وتحليلها وانتقادها بنزاهة تاريخية. بالطبع، ليس الاقتصاد والسياسة والأيديولوجيا فحسب، ولكن أيضًا العملية التاريخية والفعل الاجتماعي الواعي هو الذي يستمر في صناعة الوحدة الحية لـ "الممارسة الثورية" (أطروحة عن فيورباخ). المثال الأفضل لهذا الشكل المبكر والشاب للنظرية الماركسية باعتبارها نظرية الثورية الاشتراكية واضح في "البيان الشيوعي".

من المفهوم تمامًا، من منطلق الديالكتيك المادي، أن هذا الشكل الأصلي من النظرية الماركسية، لا يمكن أن يظل ثابتًا خلال السنوات الطويلة للنصف الثاني من القرن التاسع عشر (والذي كان من جهة الممارسة غير ثوري على الإطلاق). ملاحظات ماركس في "مقدمة نقد الاقتصاد السياسي" عن البشرية ككل، تصدق بالضرورة أيضًا على الطبقة العاملة، والتي تنضج ببطء وعدوانية نحو تحريرها: "دائمًا ما تضع نفسها في مثل تلك المشكلات التي يمكنها حلها، إذ أنه بالنظر إلى المسألة عن قرب، سنجد على الدوام أن المشكلة نفسها لا تظهر سوى حين تكون الظروف المادية لحلها حاضرة بالفعل، أو على الأقل يُفهم أنها تمر بعملية الانبثاق". هذه العقيدة لم تتأثر بحقيقة أن المشكلة التي تحل محل العلاقات القائمة يمكن أن تكون قد تشكلت في عصر سابق. سيكون من الواضح أن نَسْب النظرية وجودًا مستقلاً خارج الحركة الموضوعية للتاريخ سيكون أمرًا لا ماديًّا ولا ديالكتيكيًّا بالمعنى الهيجلي. ستكون مجرد ميتافيزيقا مثالية. يستوعب المفهوم الديالكتيكي كل شكل دون استثناء بمصطلحات مسار تلك الحركة، ويتبع ذلك بالضرورة أن نظرية ماركس وإنجلز عن الثورة الاشتراكية مرت حتمًا بتغيرات كبيرة في مسار تطورها التالي. حين صاغ ماركس عام 1864 "الخطاب الافتتاحي" وقانون الأممية الأولى، كان شديد الوعي بحقيقة أنه توجد حاجة للوقت، للحركة المعاد إيقاظها للسماح بجرأة قديمة للغاية. وهذا بالطبع لا يصدق على اللغة فحسب ولكن على كل العناصر النظرية الأخرى للحركة. 

هكذا تمثل الاشتراكية العلمية لكتاب رأس المال بين عامي 1867 و1894، والكتابات اللاحقة الأخرى لماركس وإنجلز تعبيرًا عن النظرية العامة للماركسية، والتي هي بالعديد من الطرق نظرية مختلفة وأكثر تطورًا من الشيوعية الثورية المباشرة للمانيفستو الذي كتب بين عامي 1847 و1848، أو من هذه الجهة، كتب "بؤس الفلسفة" و"الصراع الطبقي في فرنسا"، و"الثامن عشر من برومير". ومع ذلك فإن السمة المركزية للنظرية الماركسية تظل في الأساس غير متغيرة في الكتابات اللاحقة لماركس وإنجلز. لأنه في النسخة اللاحقة، من جهة الاشتراكية العلمية، تظل ماركسية ماركس وإنجلز مشتملة على كل نظرية الثورة الاشتراكية. يتمثل الاختلاف في أنه في المرحلة اللاحقة زاد الانفصال في العناصر المتنوعة لهذا الكل، أي عناصره الاقتصادية والسياسية والأيديولوجية، والنظرية العملية والممارسة الاشتراكية. يمكن أن نستعين بتعبير ماركس ونقول إن الحبل السري الذي يمثل الرابطة الطبيعية بينهما انقطع. ولكن لدى ماركس وإنجلز، لا يؤدي ذلك على الإطلاق إلى تنوع العناصر المستقلة بدلاً عن الكل. 

يقتصر الأمر على وجود مزيج آخر من العناصر في النظام الذي يتبدى والذي يتطور بدقة علمية أكبر ويُبنى على البنة التحتية لنقد الاقتصاد السياسي. في كتابات مبتكريه، لم يذب النسق الماركسي نفسه في مجموع الأفرع المنفصلة من المعرفة، على الرغم من التوظيف العملي والخارجي لنتائجه التي توحي بتلك الخاتمة. على سبيل المثال، اعتقد العديد من المفسرين البرجوازيين لماركس وبعض الماركسيين المتأخرين إنهم قادرون على التمييز بين المادية التاريخية والاقتصادية النظرية في عمل ماركس الرئيسي "رأس المال"، ولكن ثبت بذلك أنهم جميعًا لم يفهموا شيئًا عن المنهج الحقيقي لنقد ماركس للاقتصاد السياسي. لأنه من العلامات الأساسية على منهجه المادي الديالكتيكي أن هذا التمييز لا يوجد لهذا السبب، في الحقيقة السبب هو بالتحديد الفهم النظري للتاريخ. بالإضافة إلى ذلك فالترابط الذي لا ينقطع بين النظرية والممارسة، والذي شكل العلامة المميزة لأول نسخة شيوعية من مادية ماركس، لم يُلغ بأي الأحوال في الشكل اللاحق من نسقه. إنها فحسب النظرة الخرافية التي ترى أن النظرية الخالصة للفكرة تبدو أنها حلت محل ممارسة الإرادة الثورية. هذه الإرادة الثورية كامنة، إلا أنها موجودة، في كل جملة في أعمال ماركس، وتصعد مرارًا وتكرارًا في كل فقرة مهمة، خصوصًا في المجلد الأول من "رأس المال"  لا يحتاج المرء سوى أن يفكر في القسم السابع الشهير من الفصل الرابع والعشرين عن الميل التاريخي للتراكم الرأسمالي.

من جهة أخرى، لا بد أن نقول إن داعمي ماركس وأتباعه، وعلى الرغم من كل إخلاصهم النظري والمنهجي للمادية الديالكتيكية، قسموا في الحقيقة نظرية الثورة الاشتراكية إلى أجزاء. المفهوم المادي الصحيح للتاريخ، الذي يجري فهمه نظريًّا بطريقة ديالكتيكية، وعمليًّا بطريقة ثورية، غير متوافق مع الأفرع المنفصلة للمعرفة المنعزلة والمستقلة، وبفحوص نظرية خالصة تكون موضوعية علميًا بشكل منفصل عن الممارسة الثورية. إلا أن الماركسيين اللاحقين صاروا يعتبرون الاشتراكية العلمية بشكل متزايد كمجموعة من الملاحظات العملية الخالصة، دون اتصال مباشر بالممارسات السياسية أو غيرها من ممارسات النضال الطبقي. الدليل الكافي لذلك هو سرد أحد الكتاب لطبيعة العلاقة بين العلم الماركسي والسياسة، وقد كان بأفضل المعاني مُنظرًا ممثلًا للماركسية في الأممية الثانية. في عام 1909، نشر رودولف هلفردنج كتابه "رأس المال المالي" الذي يحاول أن "يفهم علميًا" الجوانب الاقتصادية لأكثر التطورات الحديثة للرأسمالية "من خلال دمج هذه الظاهرة في النسق النظري للاقتصاد السياسي الكلاسيكي". كتب في المقدمة:

"هنا لا نحتاج سوى أن نقول إنه بالنسبة للماركسية فدراسة السياسة في حد ذاتها لا تستهدف سوى اكتشاف الرابط السببي. تكشف معرفة القوانين التي تحكم مجتمعًا لإنتاج السلع في الوقت نفسه محددات إرادة طبقات هذا المجتمع. بالنسبة للماركسي، فمهمة السياسة العلمية –السياسة التي تصف الروابط السببية– هي اكتشاف تلك المحددات لإرادة الطبقات. إن السياسة الماركسية أشبه بالنظرية الماركسية، متحررة من الأحكام القيمية. هكذا من الزائف أن نطابق الماركسية ببساطة بالاشتراكية، على الرغم من أن هذا يشيع فعله لدى الماركسيين وغير الماركسيين. منطقيًا، فالماركسية، التي تُرى فحسب كنسق علمي، وبالتالي منفصلة عن تأثيراتها التاريخية، هي فقط نظرية قوانين حركة المجتمع، التي صاغها المفهوم الماركسي على وجه العموم، بينما طبقها الاقتصاد الماركسي على عصر الإنتاج السلعي. قدوم الاشتراكية هو نتيجة الميول التي تتطور في مجتمع ما ينتج السلع. ولكن التبصر في صحة الماركسية، ذلك الذي يشتمل على التبصر في ضرورة الاشتراكية، لا يعتبر على الإطلاق نتيجة الأحكام القيمية، وليس له دلالات على السلوك العملي. أن تقتنع بالضرورة هي مسألة تختلف تمامًا عن أن تضع نفسك في خدمة هذه الضرورة. من الممكن جدًا أن يقتنع المرء بالانتصار النهائي للاشتراكية، إلا أنه يقرر محاربتها. التبصر في قوانين حركة الاشتراكية التي تقدمها الماركسية، يؤكد على تفوق أي شخص يتقنها. أكثر المنافسين خطورة على الاشتراكية هم بلا شك الذين استفادوا بأكبر قدر من خبرتها".

وفقًا لهلفردنج، الماركسية نظرية تعتبر منطقيًا "علمية وموضوعية وعلمًا حرًا، دون أحكام قيمية". لم يجابه صعوبة في شرح الحقيقة المهمة وهي أن الناس عادة ما يطابقونها بالنضال من أجل الاشتراكية باستدعاء "التحفظ المستحيل للطبقة الحاكمة لقبول نتائج الماركسية وبالتالي أن يمروا بمشكلة دراسة هذا (النسق المعقد)". "بهذا المعنى فقط هي علم للبروليتاريا، ومنافس للاقتصاد البرجوازي، لأنها بخلاف ذلك تتمسك بالزعم الذي يطلقه كل علم عن الصحة الموضوعية والعامة لاستنتاجاتها". هكذا صار المفهوم المادي للتاريخ، الذي كان ديالكتيكيًا في جوهره لدى ماركس وإنجلز، صار في النهاية شيئًا غير ديالكتيكي لدى مقلديهم. من أحد الاتجاهات، لقد تغير ذلك إلى نوع من المبدأ الاستكشافي للبحث النظري المتخصص. وبالنسبة لاتجاه آخر، يتجمد المنهج الديالكتيكي الماركسي الفياض إلى عدد من الصياغات النظرية عن الترابط السببي للظواهر التاريخية في مناطق مختلفة من المجتمع، بمعنى آخر، تصبح شيئًا يمكن وصفه بأفضل شكل على أنه علم اجتماع نسقي عام. تُعامِل المدرسة الأولى مبدأ ماركس المادي على أساس ذاتي من أجل حكم تأملي بالمعنى الكانطي، بينما تعتبر المدرسة الثانية، من منطلق دوجمائي، تعاليم "علم الاجتماع" الماركسي، في الأساس، على أنه نسق اقتصادي، أو حتى نسق جغرافي وبيولوجي. كل هذه التشويهات وغيرها من التشويهات الأقل أهمية أصابت الماركسية بسبب مقلديها في المرحلة الثانية من تطورها، ويمكن أن نوجزها في صيغة جامعة: نظرية عامة موحدة عن الثورة الاشتراكية تحولت إلى انتقادات للنظام الاقتصادي البرجوازي، وللدولة البرجوازية، ولنسق التعليم البرجوازي، وللدين والفن والعلم والثقافة البرجوازيين. تلك الانتقادات لم تعد بالضرورة تتطور من منطلق طبيعتها إلى ممارسات ثورية يمكنها أن تتطور بدورها، إلى جميع أنواع محاولات "الإصلاح"، الذي يظل في الأساس بداخل حدود المجتمع البرجوازي والدولة البرجوازية، وفي الممارسة الواقعية عادة ما يجري ذلك. هذا التشويه لعقيدة الماركسية الثورية نفسها – وتحويلها إلى نقد نظري خالص لم يعد يؤدي إلى فعل ثوري عملي، أو يؤدي إلى ذلك بشكل اعتباطي فحسب، يتضح بشكل كامل إذا قارن المرء "البيان الشيوعي"، أو حتى "قانون الأممية الأولى" الذي صاغه ماركس عام 1864، ببرنامج الأحزاب الاشتراكية لأوروبا الوسطى والغربية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وخصوصًا الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني.

من المعروف تمامًا، كيف انتقد ماركس وإنجلز بمرارة الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني الذي صاغ مطالب إصلاحية تمامًا على الجانب السياسي إلى جانب المجالين الثقافي والأيديولوجي، في برنامجي جوتا (1875)، وإيرفورت (1891). لم تحتو تلك الوثائق على أي أثر للمبدأ المادي والثوري الحي للماركسية. في الحقيقة، وعند نهاية القرن أدى ذلك الموقف إلى انتهاكات للمراجاعاتية عند الماركسية الأرثوذوكسية. أخيرًا، وعند بداية القرن العشرين، أدت العلامات الأولى على اقتراب العاصفة إلى حقبة جديدة من الصراعات والمعارك الثورية، وهكذ أدت إلى أزمة هامة في الماركسية ما زلنا نجد أنفسنا فيها اليوم.

كل من العمليتين يمكن أن يُنظر إليهما باعتبارهما مرحلة ضرورية للتطور الأيديولوجي والمادي الكامل، في الوقت الذي نفهم فيه انحدار النظرية الماركسية الأصلية للثورة الاشتراكية إلى نقد نظري للمجتمع دون أي نتائج ثورية هو بالنسبة للمادية الديالكتيكية تعبير ضروري على التغيرات المتوازية للممارسة الاشتراكية للنضال البروليتاري. تبدو المراجعاتية كمحاولة للتعبير عن شكل من النظرية المتماسكة التي حصلت عليها شخصية الإصلاحي من خلال النضالات الاقتصادية للنقابات، والنضالات السياسية لأحزاب الطبقة العاملة، تحت تأثير الظروف التاريخية المتغيرة. ما يُطلق عليه الماركسية الأرثوذوكسية لتلك الحقبة (التي تعتبر الآن مجرد ماركسية مبتذلة)، تبدو بشكل كبير كمحاولة للمنظرين، الذين يضغط عليهم التقليد، للحفاظ على ثورة اشتراكية تشكل النسخة الأولى من الماركسية في هيئة النظرية الخالصة. هذه النظرية مجردة تمامًا، ولم يكن لها نتائج عملية، كانت تسعى فقط لرفض النظريات الإصلاحية الجديدة، التي بها وُصفت السمة الواقعية للحركة التاريخية بأنها غير ماركسية. هذا هو بالتحديد سبب أنه في الحقبة الثورية الجديدة، كان الماركسيون الأرثوذوكسيون للأممية الثانية هم من كانوا حتمًا الأقل قدرة على التعامل مع أمثال تلك الأسئلة؛ كسؤال العلاقة بين الدولة والثورة البروليتارية. على الأقل كان لدى المراجعين نظرية عن العلاقة بين "العمال" والدولة، على الرغم من أن هذه النظرية لم تكن ماركسية بأي شكل من الأشكال. نظريتهم وممارستهم منذ ذلك الوقت، استبدلت بالإصلاحات السياسية والاجتماعية والثقافية بداخل الدولة البرجوازية، ثورة اشتراكية ستستولي على الدولة وتسحقها وتحل محلها دكتاتورية البروليتاريا. كان من المُرضي للماركسيين الأرثوذوكسيين أن يرفضوا هذا الحل لمشكلات الحقبة الانتقالية، باعتباره انتهاكًا للمبادئ الماركسية. إلا أنه بكل هوسهم الأرثوذوكسي مع الحرفية المجردة للنظرية الماركسية، كانوا غير قادرين على الحفاظ على طابعها الثوري الأصيل، اشتراكيتهم العلمية نفسها توقفت حتمًا عن أن تكون نظرية ثورية اشتراكية. 

على مدار حقبة طويلة، حين كانت الماركسية تنتشر ببطء في أنحاء أوروبا، لم يكن لديها في الحقيقة مهمة ثورية عملية تسعى لتحقيقها. هكذا توقفت مشكلات الثورة، حتى من حيث النظرية، في الوجود كمشكلات العالم الواقعي بالنسبة للغالبية العظمى من الماركسيين، سواء كانوا أرثوذوكسيين أو مراجعاتيين. بقدر اهتمام الإصلاحيين، تلاشت تلك المشكلات نهائيًا. ولكن حتى الماركسيين الأرثوذوكس كانوا قد فقدوا راهنيتهم كليًا، وبها واجههم مؤلفا "البيان الشيوعي"، وتراجعوا نحو الاهتمام بالمستقبل البعيد وشديد التعالي. في تلك الحقبة، اعتاد الناس السعي نحو السياسات الآنية والفورية الذي يمكن اعتبار المراجاعاتية تعبيرها النظري. هذه المراجعاتية التي أدانتها رسميًا مؤتمرات الحزب، لم تُقبل بشكل أقل رسمية في النقابات. بحلول بداية القرن، طرحت حقبة جديدة من التطور سؤال الثورة الاشتراكية على الأجندة كسؤال واقعي وحيّ بكل أبعاده الحيوية. بعدها انهارت الماركسية الأرثوذوكسية النظرية الخالصة نهائيًا وتفسخت، حتى اندلاع الحرب العالمية كانت النسخة الرسمية الراسخة من الماركسية في الأممية الثانية. بالطبع كانت هذه هي النتيجة الحتمية لانحلالها الداخلي الطويل. في تلك الفترة يمكننا أن نرى في العديد من البلاد بدايات "الحقبة الثالثة من التطور"، ممثلة قبل كل شيء عن طريق الماركسيين الروس، وكثيرًا ما كان يصفها ممثلوها الرئيسيون كـ "استعادة الماركسية". 

تحقق هذا التحول والتطور للنظرية الماركسية خلف القناع الأيديولوجي الغريب المتعلق بالعودة إلى التعاليم النقية للماركسية الأصيلة أو الصحيحة. إلا أنه من السهل فهم أسباب كل من هذا القناع، والطبيعة الواقعية للعملية المختبئة من خلفه. ما فعله ويفعله منظران مثل روزا لوكسمبورج في ألمانيا، ولينين في روسيا في مجال النظرية الماركسية هو تحريرها من التقاليد الكابحة للاشتراكية الديمقراطية للحقبة الثانية. هكذا أجابا على احتياجات المرحلة الثورية الجديدة للنضال الطبقي البروليتاري، لأن هذه التقاليد تجثم "كالكابوس" على عقل الجماهير العاملة، تلك الجماهير التي لم يعد موقفها الاجتماعي الاقتصادي الثوري الموضوعي مطابقًا لتلك العقائد التطورية. يعتبر الإحياء المتجلي للنظرية الماركسية الأصيلة في الأممية الثالثة هو مجرد نتيجة لحقيقة أنه في الحقبة الثورية الجديدة ليس فقط حركة العمال نفسها، ولكن المفاهيم النظرية للشيوعيين الذين يعبرون عنها، لا بد أن تفترض شكلاً ثوريًّا صريحًا. هذا هو سبب أن القطاعات الكبيرة للنسق الماركسي، التي يبدو أنها من المفترض نُسيت في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر، عادت الآن للحياة من جديد. هذا يشرح أيضًا السبب الذي جعل زعيم الثورة الروسية يكتب كتابًا قبل عدة أشهر من أكتوبر، صرَّح فيه أن هدفه كان "استعادة النظرية الماركسية الصحيحة للدولة في المقام الأول". الأحداث نفسها طرحت سؤال دكتاتورية البروليتاريا على الأجندة كمشكلة عملية. حين طرح لينين السؤال نفسها نظريًّا على الأجندة، في لحظة شديدة الأهمية، كانت هذه إشارة مبكرة على أن الاتصال الداخلي بين النظرية والممارسة بداخل النظرية الماركسية أعيد بناءه عن وعي. كذلك سيبدو الفحص الجديد لمشكلة الماركسية والفلسفة جزءًا مهمًا لهذه الاستعادة. الحكم السلبي واضح منذ البداية. 

تقليل معظم المنظرين الماركسيين للأممية الثانية من المشكلات الفلسفية كان مجرد تعبير جزئي عن فقدان الطابع العملي والثوري من الحركة الماركسية، والذي يوجد في "التعبير العام" عن الانحلال المصاحب للمبادئ الحية للمادية الديالكتيكية في الماركسية المبتذلة للمقلدين. لقد ذكرنا بالفعل أن ماركس وإنجلز نفسيهما أنكرا أن الاشتراكية العلمية تظل فلسفة. ولكن من السهل أن نظهر، بشكل لا يمكن تفنيده، وبالإحالة للمصادر، أن ما كان يعنيه ماركس وإنجلز، الديالكتيكيان الثوريان، بالشيء المناهض للفلسفة، كان شيئًا شديد الاختلاف عما تعنيه الماركسية المبتذلة لاحقًا. لا يوجد شيء بعيد عن فكرها بقدر الزعم الذي وضعه هلفردنج ومعظم الماركسيين الآخرين في الأممية الثانية، بالدراسة النظرية النزيهة والنقية، التي تفوق كل الاختلافات الطبقية. توجد الاشتراكية العلمية لماركس وإنجلز، حين تُفهم على الوجه الصحيح، في موقف مناقض للعلم البحت للمجتمع البرجوازي (الاقتصاد أو التاريخ أو علم الاجتماع)، أكثر مما تقف في تناقض مع الفلسفة التي وجدتها الحركة الثورية للعوام من قبل في تعبيرها النظري الأسمى، ومن ثم يمكن للمرء أن يتعجب من التبصر لدى الماركسيين، الذين ضللتهم عدة تعبيرات ماركسية معروفة، وعدة تعبيرات من إنجلز المتأخر، في تفسير إلغاء الماركسية للفلسفة على أنه استبدال لهذه الفلسفة، وأن يحل محلها نسق من العلوم الوضعية المجردة وغير الديالكتيكية. التناقض الواقعي بين اشتراكية ماركس العلمية وكل الفلسفة والعلوم البرجوازية يتشكل كاملاً على أساس حقيقة أن الاشتراكية العلمية هي التعبير النظري عن عملية ثورية، والتي ستنتهي بالإلغاء التام لتلك الفلسفات والعلوم البرجوازية، مع إلغاء العلاقات المادية التي تجد فيها تعبيرها الأيديولوجي.

هكذا تعتبر إعادة فحص مشكلة الماركسية والفلسفة مسألة شديدة الضرورة، حتى على المستوى النظري، من أجل استعادة المعنى الصحيح والكامل لنظرية ماركس، الذي غيره المقلدون وبدلوه. ولكن حتى في حالة الماركسية والدولة، تظهر تلك المهمة العملية من احتياجات الممارسة الثورية وضغوطها. في حقبة الانتقال الثوري، وبعد استيلائها على السلطة، لا بد أن تحقق البروليتاريا المهام الثورية المجددة في المجال الأيديولوجي، بقدر لا يقل عن المجالين الاقتصادي والسياسي، تلك المهام تتقاطع باستمرار مع بعضها. لا بد أن تصبح النظرية العلمية للماركسية مجددًا ما كانت عليه بالنسبة لمؤلفي "البيان الشيوعي" – ليس كعودة بسيطة ولكن كتطور ديالكتيكي: نظرية ثورة اشتراكية تشتمل على كل جوانب المجتمع ككل. هكذا علينا أن نحل بطريقة مادية ديالكتيكية ليس فقط "سؤال العلاقة بين الدولة والثورة الاشتراكية، والثورة الاشتراكية والدولة" (لينين)، ولكن أيضًا "سؤال العلاقة بين الأيديولوجيا والثورة الاشتراكية، والثورة الاشتراكية والأيديولوجيا". تجنب تلك الأسئلة في الحقبة السابقة للثورة البروليتارية يؤدي إلى الانتهازية ويخلق أزمة بداخل الماركسية، مثلما أدى تجنب مشكلة الدولة والثورة في الأممية الثانية إلى الانتهازية، وفي الواقع أثار أزمة في معسكر الماركسية. التهرب من الموقف المحدد حيال تلك المسائل الأيديولوجية في فترة الانتقال يمكن أن يكون له نتائج سياسية كارثية على الحقبة التي تلي استيلاء البروليتاريا على سلطة الدولة، لأن الغموض والتشتت النظري يمكن أن يعوق بحق المقاربة الفورية والحية تجاه المشكلات التي ستثار في المجال الأيديولوجي. القضية الرئيسية للعلاقة بين الثورة البروليتارية والأيديولوجية، تجاهلها المنظرون الاشتراكيون الديمقراطيون بقدر تجاهلهم المشكلة السياسية للدكتاتورية الثورية للبروليتاريا. نتاج ذلك في هذه الحقبة الثورية الجديدة للنضال، لا بد من طرح مفهوم جديد وصحيح –ديالكتيكي وثوري– للماركسية، ولا بد من استعادته. لا يمكن تجاوز تلك المهمة سوى بأن نبدأ بفحص المشكلة التي قادت ماركس وإنجلز إلى مسألة الأيديولوجيا: كيف ترتبط "الفلسفة" بالثورة الاشتراكية للبروليتاريا، وكيف أن الثورة الاشتراكية للبروليتاريا مرتبطة بالفلسفة؟ أشار ماركس وإنجلز نفسيهما لإجابة هذا السؤال، ويمكن استنتاج الإجابة من ديالكتيك ماركس المادي. وسوف يقودنا ذلك إلى سؤال أكبر: كيف ارتبطت المادية الماركسية بـ "الأيديولوجيا" على وجه العموم؟

ما العلاقة بين الاشتراكية العلمية لدى ماركس وإنجلز والفلسفة؟ تجيب الماركسية المبتذلة: "لا توجد علاقة". من هذا المنطلق، فتحديدًا الموقف المادي والعلمي الجديد للماركسية هو الذي فنَّد الموقف الفلسفي المثالي القديم وحل محله. بالتالي بدت كل الأفكار والتخمينات الفلسفية على أنها غير واقعية. خيالات غبية، ما تزال تطارد عدة عقول كنوع من الخرافة، ولدى الطبقة الحاكمة مصلحة مادية راسخة للحفاظ عليها. وفي الوقت الذي سيطاح فيه بالرأسمالية، ستتلاشى بقايا تلك الخيالات في الحال.

ليس لدى المرء سوى أن يتأمل في هذه المقاربة للفلسفة بكل ضحالتها، كما حاولنا أن نفعل، من أجل أن يدرك على الفور أن مثل ذلك الحل لمشكلة الفلسفة لا يقترب في شيء من روح المادية الديالكتيكية الحديثة لماركس. إنه ينتمي لعصر شرح فيه "عبقري الغباء البرجوازي"، جيريمي بنتام، "الدين" في موسوعته بوضع عنوان "الآراء الخرافية الفجة". هذا جزء من مناخ خُلق في القرنين السابع عشر والثامن عشر، ألهم يوجين دوهرينج لكتابة أنه في مجتمع المستقبل، المبني وفقًا لخططه، لن تكون هناك طوائف دينية – لأن النسق المفهوم بحق من الحس الاجتماعي سيقمع كل الأجهزة التي تحتاج للسحر الروحاني، وبكل العناصر الجوهرية التي تتسم بها تلك الطوائف. النظرة التي بها تواجه المادية الحديثة والديالكتيكية – النظرة الحديثة والعلمية فحسب للعالم وفقًا لماركس وإنجلز –تلك الأسئلة، تقع في تناقض كامل مع المقاربة السلبية والعقلانية والضحلة للظواهر الأيديولوجية مثل الدين والفلسفة. لتقدم هذه المفارقة بكل وضوحها يمكن أن نقول: من الضروري للمادية الديالكتيكية استيعاب الفلسفات والأنساق الأيديولوجية الأخرى في النظرية مثلما في الواقع، ومعاملتها في الممارسات بالقدر نفسه. في حقبتهما المبكرة، بدأ ماركس وإنجلز نشاطهما الثوري الكامل بالنضال ضد واقع الفلسفة، سوف يُظهِر ذلك أنه على الرغم من أنهما غيرا راديكاليًّا نظرتهما إلي كيفية ارتباط الأيديولوجيات الفلسفية بالأشكال الأخرى بداخل الأيديولوجيا ككل، طالما عاملا الأيديولوجيات –ومنها الفلسفة– كواقع متماسك وليس فقط كخيالات فارغة. 

في الأربعينيات من القرن التاسع عشر، بدأ ماركس وإنجلز النضال الثوري –بشكل مبدئي على أساس نظري وفلسفي لتحرير الطبقة التي تقف "ليس في صف المعارضة الجزئية للنتائج، ولكن في صف المعارضة الكاملة لافتراضات– المجتمع القائم ككل". كانا مقتنعين أنهما هكذا يهاجمان جزءًا شديد الأهمية من النظام الاجتماعي القائم. في افتتاحية "راينيتش زايتونج" في عام 1842، صرح ماركس بالفعل أن "الفلسفة لا توجد خارج العالم، بالضبط مثلما لا يوجد المخ خارج الإنسان لمجرد إنه غير موجود في معدته". كرر ذلك في مقدمة "نقد فلسفة الحق لدي هيجل": "الفلسفة السابقة نفسها تنتمي إلى هذا العالم وهي بمثابة تفسيره، رغم مثاليتها". هذا هو العمل الذي بعد خمسة عشر عامًا، في مقدمة "نقد الاقتصاد السياسي" قال ماركس إنه أكمل فيه تمامًا الانتقال إلى موقفه المادي اللاحق. بالتحديد، حيت أجرى ماركس، الديالكيتيكي، هذا الانتقال من المفهوم المثالي إلى المادة، أوضح تمامًا أن الحزب السياسي ذا الاتجاه العملي في ألمانيا في ذلك الوقت، الذي رفض كل الفلسفة، يرتكب خطأ كبيرًا مثل الحزب السياسي ذو ميل نظري، الذي يفشل في إدانة الفلسفة على ما هي عليه. يؤمن الأخير أنه يمكن مواجهة واقع العالم الألماني من منطلق فلسفي بحت، أي بافتراضات متخذة بطريقة أو بأخرى من الفلسفة (مثلما فعل لاسال بعد ذلك باستدعاء فخته). لقد نسي أن وجهة النظر الفلسفية نفسها كانت جزءًا من العالم الألماني المهيمن. ولكن الحزب السياسي ذا الميل العملي كان في الأساس واقع في شراك هذه الحدود نفسها، لأنه اعتقد أن نفي الفلسفة "يمكن تحقيقه بأن تتخلى عن الفلسفة، وأن تنظر في الاتجاه المعاكس وأن تتمتم ببعض الملاحظات المنفعلة والتافهة". إنه لم يتعامل مع "الفلسفة كجزء من الواقع الألماني". الحزب ذو الميل النظري آمن بالخطأ بأنه يمكن إدراك الفلسفة عمليًّا دون تخطيها نظريًّا". الحزب ذو الميل العملي أخطأ خطأً مشابهًا بمحاولة تخطي الفلسفة عمليًّا دون استيعابها نظريًّا، بمعنى آخر دون استيعابها باعتبارها واقعًا.

من الواضح الآن بحق بأي معنى تخطى ماركس (وإنجلز الذي أجرى تطورًا مطابقًا في الوقت نفسه –كما شرح هو وماركس لاحقًا) الموقف الفلسفي المجرد الذي كان عليه في أيام تلمذته؛ ولكن يمكن للمرء أن يرى أيضًا كيف أن هذه العملية نفسها تتسم بالسمة الفلسفية. توجد أسباب ثلاثة تجعلنا نتحدث عن تخطي الموقف الفلسفي. أولًا، موقف ماركس النظري هنا لا يواجه جزئيًا فحسب نتائج كل الفلسفة الألمانية القائمة، ولكن يواجه كل افتراضاتها (لدى ماركس وإنجلز، كانت هذه الفلسفة يمثلها هيجل بشكل كاف على الدوام). ثانيًا، لا يواجه ماركس الفلسفة فحسب، التي ليست سوى التفسير الرئيسي أو المثالي للعالم القائم، ولكنه يواجه العالم ككل. ثالثًا، والأهم، هذه المواجهة ليست مجرد مواجهة نظرية، وإنما مواجهة عملية ونشطة. يصرِّح ماركس في الأطروحة الأخيرة عن فيورباخ: "اكتفى الفلاسفة بتفسير العالم، ومهمتنا تغييره". ومع ذلك فهذا التخطي العام للموقف الفلسفي الخالص ما زال يضم سمة فلسفية. يصير ذلك واضحًا في اللحظة التي يدرك فيها المرء المقدار الضئيل الذي تختلف فيه هذه العلوم البروليتارية الجديدة عن الفلسفة السابقة بسمتها النظري، حتى لو جعلها ماركس بديلاً عن الفلسفة المثالية البرجوازية كنسق مميز راديكاليًّا عن اتجاهه وأهدافه. لطالما نزعت المثالية الألمانية، حتى على المستوى النظري، إلى أن تتجاوز كونها نظرية أو فلسفة. يعتبر هذا مفهومًا في ضوء علاقتها بالحركة الثورية للبرجوازية (التي ناقشناها سابقًا)، وسوف تُدرَس بشكل أكبر في عمل لاحق. كان هذا النزوع نموذجيًا لدى أسلاف هيجل: كانط وشيلينج وفخته على وجه الخصوص. على الرغم من أن هيجل نفسه قَلَب كل المظاهر، هو في الحقيقة أيضًا أضفى على الفلسفة مهمة تجاوزت مملكة النظرية وصارت عملية بقدر ما. بالطبع لم تكن هذه المهمة هي تغيير العالم، كما الحال لدى ماركس، ولكن بالأحرى أن يوفِّق بين العقل كروح واعية ذاتيًا والعقل كواقع حي، من خلال وسائل المفاهيم والفهم. لم تتوقف المثالية الألمانية من كانط إلى هيجل عن أن تتفلسف حين أكدت على هذا الدور الكلي (الذي يُعتقد بشكل عام أنه جوهر أي فلسفة). بشكل مشابه، من الخطأ القول إن النظرية المادية الماركسية لم تعد فلسفية لمجرد أن هدفها ليس مجرد نظري، ولكنه عملي وثوري كذلك. على العكس من ذلك، تعتبر المادية الديالكتيكية لدى ماركس وإنجلز بطبيعتها فلسفة كاملة، كما صيغت في الأطروحة الحادية عشر عن فيورباخ والكتابات الأخرى المنشورة وغير المنشورة في تلك الحقبة. إنها فلسفة ثورية مهتمها هي المشاركة في النضالات الثورية التي تبادر بها كل أطياف المجتمع ضد النظام القائم كله، وذلك بالقتال في منطقة محددة وهي الفلسفة. أخيرًا، هي تستهدف الإلغاء التام للفلسفة، كجزء من إلغاء الواقع الاجتماعي البرجوازي ككل، التي تعتبر الفلسفة جانبًا مثاليًا منه. بتعبير ماركس: "لا يمكن للفلسفة أن تُلغى قبل أن تُدرك". هكذا حين كان ماركس وإنجلز يتجاوزان مثالية هيجل الديالكتيكية نحو المادية الديالكتيكية، يتضح أن إلغاء الفلسفة بالنسبة لهما لم يعن مجرد الرفض البسيط لها. حتى حين نفحص مواقفهما اللاحقة، من الضروري أن تكون نقطة الانطلاق الثابتة هي أن ماركس وإنجلز كانا ديالكتيكيين قبل أن يكونا ماديين. إذا نسينا أن المادية الماركسية ديالكيتيكية منذ البداية، سيعتبر معنى المادية لديهما مشوهًا بشكل كارثي وغير قابل للإصلاح. لطالما ظلت مادية تاريخية وديالكتيكية، في مقابل مادية فيورباخ العلمية المجردة وكل مظاهر المادية المجردة الأخرى، سواء كانت مبكرة أو متأخرة، برجوازية أو ماركسية مبتذلة. بمعان أخرى، كانت مادية فهمت نظريتها كلية المجتمع والتاريخ، وتركزت ممارستها على الإطاحة بهما. هكذا كان من الممكن للفلسفة أن تصبح عنصرًا أقل مركزية في العملية الاجتماعية التاريخية لدى ماركس وإنجلز، في مدار تطور ماديتهما أكثر مما بدا في البداية. لقد حدث ذلك في الحقيقة. ولكن لا يوجد حقًا مفهوم مادي ديالكتيكي للتاريخ (بالتأكيد ليس لدى ماركس وإنجلز) يمكن أن يتوقف عن اعتبار الأيديولوجيا الفلسفية، أو الأيديولوجيا بوجه عام، عنصرًا ماديًّا للواقع الاجتماعي التاريخي العام، أي جانبًا واقعيًا لا بد من استيعابه في النظرية المادية، ويُطاح به بالممارسة المادية.

في كتابه "أطروحة عن فيورباخ" يضع ماركس ماديته الجديدة ليس فقط مقابل مثاليته الفلسفية، ولكن بالقوة نفسها مقابل كل مادية قائمة. وبشكل مشابه، في كل كتاباتهما اللاحقة، أكد ماركس وإنجلز على التقابل بين ماديتهما الديالكتيكية والنسخة المجردة والعادية وغير الديالكتيكية من المادية. كانا واعين بشكل خاص بأن هذا التقابل له أهمية عظيمة لأي تفسير نظري لما يطلق عليه الواقع العقلي أو الأيديولوجي، وتعاملهما مع الممارسة: ماركس وهو يناقش التمثيلات العقلية بشكل عام، والمنهج الضروري للتاريخ المتماسك والنقدي للدين على وجه الخصوص، يكتب قائلًا:

"في الحقيقة من السهل للغاية كشف النواة الأرضية بداخل الأفكار الدينية الواضحة، من خلال التحليل، بدلًا من أن تقوم بالعكس، أن نرى كيف تطورت تلك الأشكال السماوية المفارقة من العلاقات الواقعية الراسخة".

الأخير هو منهج مادي فحسب، وبالتالي منهج علمي. المنهج النظري، الذي يكون مضمونه، بأفضل طريقة فيورباخية، أن يقلص كل التمثيلات الأيديولوجية إلى نواتها المادية والأرضية، سيكون تجريدًا ومنهجًا غير ديالكتيكي. وسيكون الأمر بالقدر نفسه مع الممارسة الثورية المقتصرة على الفعل المباشر ضد النواة الأرضية للأفكار الدينية الغامضة، والتي لا تأبه بالإطاحة بتلك الأيديولوجيات نفسها وتخطيها. حين تتبنى الماركسية المبتذلة ذلك الموقف المجرد والسلبي لواقع الأيديولوجيا، ترتكب تحديدًا الخطأ نفسه الذي ارتكبه المنظرون البروليتاريون، سواء في الماضي أو الحاضر، هؤلاء الذين يستخدمون الأطروحة الماركسية للتحديد الاقتصادي للعلاقات التشريعية وأشكال الدولة والفعل السياسي، ليذهبوا إلى فكرة أن البروليتاريا يمكن، بل ولا بد، أن تقصر نفسها على الفعل الاقتصادي المباشر وحده. من المعروف أن ماركس هاجم بقوة الاتجاهات من هذا النوع في مجادلاته ضد برودون وآخرين. في مراحل مختلفة من حياته، وفي أي مكان صادف فيه آراء كهذه الآراء، والتي ستظل حاضرة في السينديكالية المعاصرة، ظل ماركس على الدوام يؤكد أن هذا "الخط الترانسندنتالي" من شأن الدولة والفعل السياسي، يعتبر تصرف غير مادي كلية. هكذا يعتبر غير مناسب نظريًّا وخطير عمليًّا.

هذا المفهوم الديالكتيكي لعلاقة الاقتصاد بالسياسة صار جزءًا راسخًا من النظرية الماركسية، حتى أن الماركسيين المبتذلين في الأممية الثانية كانوا غير قادرين على إنكار أن مشكلة الانتقال الثوري موجودة، على الأقل من حيث النظرية، على الرغم من أنهم تجاهلوا المشكلة من حيث "التطبيق". لا يمكن لماركسي أرثوذوكسي أن يزعم من حيث المبدأ أن الاهتمام النظري والعملي بالسياسة غير ضروري في الماركسية. تُرك هذا للسيندكاليين، وبعضهم استدعى ماركس، ولكن لا يوجد أحد منهم زعم أنه ماركسي أرثوذوكسي. ولكن العديد من الماركسيين الجيدين تبنوا موقفًا نظريًّا وعمليًّا حيال واقع الأيديولوجيا الذي كان مطابقًا لموقف السينديكاليين. هؤلاء الماديين وقفوا إلى جانب ماركس في إدانة الرفض السينديكالي للفعل السياسي، وفي إعلان أن الحركة الاشتراكية لا بد أن تشتمل على حركة سياسية. عادة ما يجادلون موقف الأناركيين، من جهة أنه حتى بعد الثورة البروليتاريا المنتصرة، وعلى الرغم من جميع التغييرات التي تجريها الدولة البرجوازية، سوف تستمر السياسة على حالها كأمر واقع. إلا أن هؤلاء الناس يصطفون في موقف "التقليل الترانسندنتالي" الأناركي السينديكالي من شأن الأيديولوجيا حين يعرفون أن النضال الفكري في المجال الأيديولوجي لا يمكن أن تحل محله الحركة الاشتراكية للبروليتاريا وحدها ولا أن تلغيها، وكذلك لا يمكن أن تقوم بها الحركتين الاشتراكية والسياسية مجتمعتين. حتى اليوم يصوغ معظم المنظرين الماركسيين ما يُطلق عليه الظواهر الفكرية بمعنى سلبي ومجرد تمامًا، في حين أنه ينبغي أن يصوغوا ذلك بدمج الحياة الاجتماعية والسياسية، والكينونة والصيرورة الاشتراكيتين (بالمعنى الأوسع، كاقتصاد وسياسة وقانون) وينبغي أن تُدرس بدمج الوعي الاشتراكي بتبدياته المختلفة العديدة، كعنصر واقعي، إلى أنه مثالي (أو أيديولوجي) للعملية التاريخية على وجه العموم. على الرغم من أنه يمكن مقاربة كل أشكال الوعي بثنائية مجردة تمامًا وميتافيزيقية في الأساس، وإعلان أنها انعكاس لعملية تطورية راسخة ومادية، تكون معتمدة عليها كليًا (وحتى لو كانت مستقلة نسبيًا، تظل معتمدة عليها في المرحلة الأخيرة).

إذا أخذنا هذا الموقف بعين الاعتبار، فأي محاولة نظرية لاستعادة ما اعتبره ماركس مجرد مفهوم علمي ومادي ديالكتيكي وتعامُل مع الواقع الأيديولوجي، يُقابِل حتمًا عوائق نظرية أكبر من محاولة استعادة النظرية الماركسية الصحيحة للدولة. تشويه المقلدين للماركسية في مسألة "الدولة والسياسة"، يتأسس على حقيقة أن المنظرين الأكثر بروزًا في الأممية الثانية لم يتعاملوا برسوخ كاف مع المشكلات السياسية الأكثر حيوية في الانتقال الثوري. ولكنهم على الأقل اتفقوا على المجردات، وأكدوا بقوة في نضالاتهم الطويلة ضد الأناركيين والسيندكاليين أنه، بالنسبة للمادية، ليست فقط البنية الاقتصادية للمجتمع، هي التي تتخلل كل الظواهر الاجتماعية التاريخية الأخرى، ولكن أيضًا البنية الفوقية التشريعية والسياسية للقانون والدولة تعتبر واقعًا. نتيجة ذلك، لا يمكن أن يتم تجاهلها أو إهمالها بالأسلوب الأناركي السينديكالي؛ لا بد أن يطاح بها في الواقع من خلال الثورة السياسية. على الرغم من ذلك، لم يعترف العديد من الماركسيين المبتذلين قط حتى الآن، وحتى على المستوى النظري، بأن الحياة الفكرية وأشكال الوعي الاجتماعي هي أشكال من الواقع يمكن مقارنتها. بالاقتباس بمقولات بعينها من ماركس، وكذلك من إنجلز على وجه الخصوص، يشرحون ببساطة البنى الفكرية "الأيديولوجية" للمجتمع باعتبارها مجرد "شبه واقع"، لا يوجد سوى في أذهان المؤدلجين، كخطأ وخيال ووهم، خال من الموضوع الحي. على أي حال، هذا من المفترض أن يكون صحيحًا لكل ما يطلق عليه الأيديولوجيات "السامية". من جهة هذا المبدأ ربما يكون لدى التمثيلات السياسية والقانونية طابعًا غير واقعي، ولكنها على الأقل مرتبطة بشيء واقعي؛ مؤسسات القانون والدولة، التي تشتمل على البنية الفوقية للمجتمع محل التساؤل. من جهة أخرى، التمثيلات الأيديولوجية "السامية" (أديان البشر، والمفاهيم الاستطيقية والفلسفية) لا تصل إلى مرتبة الموضوع الواقعي. يمكن صياغة ذلك بإيجاز، بالاستعانة بتعبير كاريكاتيري بسيط، بالقول إنه بالنسبة للماركسية المبتذلة توجد ثلاثة مستويات من الواقع: (1) الاقتصاد، الذي في النموذج الأخير هو الموضوع الوحيد والواقع غير الأيديولوجي الشامل، (2) القانون والدولة، والذي هو بالفعل أقل واقعية بسبب الزي الأيديولوجي و(3) الأيديولوجيا الخالية من الموضوع وغير الحقيقية (القمامة الخالصة). 

من أجل استعادة المفهوم المادي الديالكيتيكي الحي للواقع الفكري، من الضروري أولاً أن نؤكد على عدة نقاط اصطلاحية أساسية. المسألة الرئيسية التي ينبغي تسويتها هنا هي كيف نتعامل في العموم مع العلاقة بين الوعي وموضوعه. اصطلاحًا، لا بد أن نقول إنه لم يراود ماركس إو إنجلز على الإطلاق أن وصفوا الوعي الاجتماعي والحياة الفكرية كأيديولوجيا فحسب. الأيديولوجيا هي وعي زائف فحسب، خصوصًا الشخص الذي ينسب خطأ الطابع المستقل إلى ظاهرة جزئية في الحياة الاجتماعية. التمثيلات القانونية والسياسية التي تتصور القانون والدولة على أنهما قوتين مستقلتين أعلى المجتمع هي مسائل تخص الموضوع. في الفقرة التي كان فيها ماركس دقيقًا للغاية في مصطلحاته، قال بوضوح إنه بداخل العلاقات المادية التي دعاها هيجل بالمجتمع المدني: "تشكل العلاقات الاجتماعية للإنتاج... والبنية الاقتصادية للمجتمع الأساس الواقعي الذي يرفع البنى الفوقية التشريعية والسياسية، والتي تتوافق معها أشكال الوعي الاجتماعي". تلك الأشكال من الوعي الاجتماعي على وجه الخصوص لا تعتبر واقعية أكثر من القانون والدولة، تشتمل على فيتشية السلع، ومفهوم القيمة، والتمثيلات الاقتصادية الأخرى المتخذة منهما. حلل ماركس وإنجلز ذلك في نقدهما للاقتصاد السياسي. السمة المذهلة لمعالجتهما هي أنهما لم يحيلا قط إلى هذه الأيديولوجيا الاقتصادية للمجتمع البرجوازي باعتبارها أيديولوجيا. في مصطلحاتهما فقط "الأشكال التشريعية أو السياسية أو الدينية أو الجمالية أو الفلسفية للوعي" هي الأيديولوجية. وحتى تلك الأشكال ليست هكذا بالضرورة في كل المواقف، ولكنها تصبح كذلك فقط وفقًا للظروف الخاصة التي تم التحدث عنها بالفعل. الموقف الخاص المنسوب الآن لأشكال الوعي الاقتصادي يبرز المفهوم الجديد للفلسفة التي تميز المادية الديالكتيكية المكتملة النضج في الحقبة المتأخرة، عن النسخة المبكرة غير المطورة. هكذا تراجعت الانتقادات النظرية والعملية للفلسفة إلى المرتبة الثانية أو الثالثة أو الرابعة أو حتى الأخيرة، ولكنها لم تحل في المرتبة الأولى في نقدهما للمجتمع. "الفلسفة النقدية" التي رآها ماركس في "الحوليات الألمانية الفرنسية" على أنها مهمته الأساسية، صارت بشكل أكبر نقدًا راديكاليًّا للمجتمع، وقد ذهب إلى جذورها من خلال نقد الاقتصاد السياسي. قال ماركس في إحدى المرات إن "النقد يمكن أن يبدأ من أي شكل من أشكال الوعي الفلسفية أو الاجتماعية"، ويتطور من أشكال محددة من الواقع الموجود؛ واقعها الحقيقي وغايتها النهائية". ولكن لاحقًا صار واعيًا بأنه لا توجد علاقات تشريعية أو بنى دستورية أو أشكال من الوعي الاشتراكي يمكن أن تُفهم في ذاتها، أو حتى بالمصطلحات الهيجلية أو ما بعد الهيجلية للتطور العام للروح الإنسانية. لأنها متجذرة في الظروف المادية للحياة التي تشكل "الأساس والهيكل المادي" للتنظيم الاجتماعي ككل. لم يعد يمكن للنقد الراديكالي للمجتمع البرجوازي أن يبدأ من "أي" شكل من أشكال الوعي النظري أو العملي أيًا كان، كما كان ماركس يظن في وقت متأخر كعام 1843. لا بد أن تبدأ من الأشكال الخاصة للوعي، التي تجد تعبيرها العلمي في الاقتصاد السياسي للمجتمع البرجوازي.نتيجة لذلك يعتبر نقد الاقتصاد السياسي الأولوية القصوى نظريًّا وعمليًّا. إلا أنه حتى في هذه النسخة الأعمق والأكثر راديكالية من نقد ماركس الثوري للمجتمع لا يتوقف عن كونه نقدًا للمجتمع البرجوازي كله، وهذا لكل أشكال الوعي. ربما يبدو وكأن ماركس وإنجلز بعد ذلك سينتقدان الفلسفة فحسب بطريقة عابرة واعتباطية. في الحقيقة، وبعيدًا عن تجاهل الموضوع، لقد طورا في الواقع نقدهما لها في اتجاه أعمق وأكثر راديكالية. ودليل ذلك أنه من الضروري فحسب إعادة بناء المعنى الثوري المكتمل لنقد ماركس للاقتصاد السياسي، مثلما هو ضد الأفكار المختلقة عنها، والشائعة اليوم. ربما يساعد ذلك أيضًا على توضيح كل من مكانها في النسق الكامل لنقد ماركس للمجتمع وكذلك علاقتها بنقده للأيديولوجيات المماثلة للفلسفة. 

من المقبول عمومًا أن نقد الاقتصاد السياسي، وهو العنصر النظري والعملي الأهم في النظرية الماركسية عن المجتمع، لا يشتمل فقط على نقد العلاقات المادية للإنتاج في العهد الرأسمالي، ولكن أيضًا نقد أشكالها المحددة للوعي الاجتماعي. حتى "العلم العلمي" النزيه والخالص للماركسية المبتذلة يعترف بذلك. يعترف هلفردنج أن المعرفة العلمية للقوانين الاقتصادية في أحد المجتمعات هو أيضًا "سياسة علمية" ما دامت تُظهِر "العوامل المحددة التي تعرف إرادة الطبقات في ذلك المجتمع". ولكن على الرغم من هذه العلاقة بين الاقتصاد  والسياسة، في المفهوم المجرد وغير الديالكتيكي الشامل للماركسية المبتذلة، لنقد الاقتصاد السياسي دور نظري خالص كـ "علم". وظيفته أن ينتقد أخطاء الاقتصاد البرجوازي، سواء كان كلاسيكيًا أو مبتذلاً. في المقابل، يستخدم الحزب البروليتاري السياسي نتائج البحث النقدي والعلمي من أجل غاياته العملية في النهاية، للإطاحة بالبنية الاقتصادية الواقعية للمجتمع الرأسمالي لعلاقات إنتاجه. (في إحدى المناسبات، نتائج هذه الرأسمالية يمكن أن تستخدم ضد الحزب البروليتاري نفسه، كما لدى سيمخوفيتش أو بول لينش). 

نقطة الضعف الرئيسية في الاشتراكية المبتذلة هي أنها، بالمصطلحات الماركسية، تتمسك بشكل "غير علمي" بالواقعية الساذجة، التي يطلق عليها الطرفان "الحس المشترك"، التي فيها يرسم "الميتافيزيقي" الأسوأ، والعلم الوضعي العادي في المجتمع البرجوازي، خطًا فاصلًا يقسم بين الوعي وموضوعه. كل منهما لا يعي أن هذا التمييز لم يعد سليمًا على الإطلاق، حتى من المنطلق الترانسندنتالي للفلسفة النقدية، وأن تم تخطيه تمامًا في الفلسفة الديالكتيكية. يتخيلون، بافترض حسن النية، أن شيئًا كهذا يمكن أن يصح على الديالكتيك المثالي الهيجلي. يعتقدون أن هذا تحديدًا هو ما يشكل "الغموض" الذي عانى منه الديالكتيك "على يديَّ" هيجل، وذلك وفقًا لماركس. هكذا يتبع ذلك، بالنسبة لهم، أنه ينبغي إنهاء الغموض تمامًا من الشكل العقلي للديالكتيك: الديالكتيك المادي لماركس. في الحقيقة، سوف نُظهر أن ماركس وإنجلز كانا بعيدين كل البعد عن أن يكون لديهما هذا المفهوم الميتافزيقي الثنائي عن علاقة الوعي بالواقع - ليس فقط في حقبتهما (الفلسفية) الأولى ولكن أيضًا في حقبتهما (الوضعية العلمية) الثانية. لم يراودهما قط أنه يمكن أن يساء فهمهما بشكل خطير. وتحديدًا لذلك، في بعض الأحيان قدما تمهيدات معقولة لمثل هذه الأشكال من سوء التفاهم في بعض صياغاتهما (على الرغم من ذلك يمكن أن يجري تصحيحه بسهولة لمئة مرة مثل الصياغات الأخرى. لأن اتفاق الوعي والواقع هو سمة كل ديالكتيك، ومنها مادية ماركس الديالكتيكية. ونتائج ذلك هو أن علاقات الإنتاج المادية للعصر الرأسمالي تكون على ما هي عليه بالامتزاج بالأشكال المنعكسة في الوعي ما قبل العلمي والبرجوازي العلمي لتلك الحقبة؛ ولم تستطع العيش في الواقع دون تلك الأشكال من الوعي. لو وضعنا جانبًا أي اعتبارات فلسفية، يصير من الواضح أنه دون هذا التوفيق بين الوعي والعقل، لا يمكن لنقد الاقتصاد السياسي أن يصبح عنصرًا رئيسيًّا لنظرية الثورة الاشتراكية. يستمر النقاش. هؤلاء المنظرون الماركسيون، الذين بالنسبة لهم لم تعد الماركسية في الأساس نظرية الثورة الاشتراكية، لم يعودوا يروا حاجة لهذا المفهوم الديالكتيكي للتوفيق بين العقل والوعي. سيكون من الضروري أن يبدو لهم هذا زائفًا وغير علمي من الجهة النظرية.

في حقب مختلفة لنشاطهما الثوري، تحدث ماركس وإنجلز عن العلاقة بين الوعي والواقع على المستوى الاقتصادي، أو المستويات العليا من السياسة والقانون، أو على المستويات الأعلى للفن والدين والفلسفة. من الضروري دومًا أن نسأل إلى أي اتجاه تشير تلك الملاحظات (وهي على الدوام تظل تقريبًا ملاحظات)، وخصوصًا في المرحلة المتأخرة. لأن قصدهما مختلفًا تمامًا، يعتمد على إنهما كانا يستهدفان منهج هيجل المثالي والتأملي أو يستهدفان "المنهج العادي"، خصوصًا منهج وولف الميتافيزيقي، الذي صار رائجًا من جديد.بعدما تخلى فيورباخ عن "المفاهيم التأملية"، عادت مجددًا في المادية الطبيعية العلمية الجديدة لدى بوخنر وفوجت وموليشوت (وحتى الاقتصاديين البرجوازيين ألفوا كتبًا مفككة كبيرة مستلهمين هذا المنهج). منذ البداية، كان على ماركس وإنجلز توضيح موقفهما فقط مع الوضع في الاعتبار المنهج الهيجلي أولًا. لم يُشككا قط في أنهما انطلقا منه. كانت مشكلتهما الوحيدة هي كيفية تغيير الديالكتيك الهيجلي، من منهج مناسب للمثالي الخرافي، وفي الوقت نفسه المفهوم المادي سرًا للعالم، إلى مبدأ مرشد للنظرة المادية الصريحة للتاريخ والمجتمع. لقد علَّم هيجل بالفعل أن المنهج الفلسفي العلمي ليس مجرد شكل الفكر الذي يمكن أن ينطبق على كل مضمون دون تمييز. لقد كان بالأحرى "بنية للكل، مُقَدَّمة في ماهيتها الخالصة". أكد ماركس على النقطة نفسها في نص مبكر: "ليس للشكل قيمة إذا لم يكن للشكل مضمون". كما قال ماركس وإنجلز، ساعتها صار الأمر هو السؤال المنطقي والمنهجي لـ "استخراج المنهج الديالكتيكي من قشرته المثالية، وتقديمه في شكل بسيط، وهو الشكل الصحيح الوحيد للتطور الفكري". ووجه ماركس وإنجلز بالشكل التأملي المجرد الذي أورثه هيجل للمنهج الديالكتيكي، والذي كانت المدارس الهيجلية المختلفة قد طورته بطريقة أكثر تجريدية وشكلانية. هكذا أطلقوا مقولات مضادة وقوية: كل أشكال الفكر ليست سوى "تحويل للمدركات والتمثيلات إلى مفاهيم"؛ حتى أكثر أقسام الفكر عمومية هي فقط "علاقات مجردة أحادية لكل حي معطى بالفعل"؛ وهو موضوع يفهمه الفكر كواقع "يظل كالسابق، مستقلًا وخارجيًا عن الذهن". ومع ذلك رفضا طوال حياتهما المقاربة غير الديالكتيكية التي تضغ الفكر والملاحظة والإدراك للواقع في مقابل المعطى المباشر لهذا الواقع، وكأن الأولون كانوا في أنفسهم أيضًا ماهيات مستقلة معطاة بشكل مباشر. يظهر هذا بأفضل شكل في الجملة المتخذة من هجوم إنجلز على دوهرينج، وهي جملة قاطعة بشكل مزدوج، لأنه من المصدق على نطاق واسع أن إنجلز المتأخر تدنى إلى نظرة مادية طبيعية شاملة للعالم، في مقابل ماركس، رفيقه المثقف المتفلسف. تحديدًا في واحدة من كتاباته المتأخرة وفي السياق نفسه الذي كان يصف فيه الفكر والوعي كمنتجين للعقل الإنساني، والإنسان نفسه كنتاج للطبيعة، عارض أيضًا بوضوح الموقف "الطبيعي" الشامل، الذي يعتبر الوعي والفكر "شيء معطى، شيء يواجه مباشرة الوجود والطبيعة". منهج ماركس وإنجلز ليس منهج مادية مجردة، وإنما مادية ديالكتيكية: هكذا يعتبر المنهج العلمي الوحيد.

 لدى الماركسية، لم يعد الوعي ما قبل العلمي،  والمجاوز للعلمي، والعلمي، موجودين فوق وضد العالم الطبيعي (وقبل كل شيء) العالم الاجتماعي التاريخي. إنه يوجد أيضًا بداخل هذا العالم كعنصر واقعي وموضوعي، ويمكن أيضًا أن نقول العالم "المثالي". هذا هو الاختلاف المحدد الأول بين ديالكتيك ماركس وإنجلز المادي، وديالكتيك هيجل المثالي. قال هيجل إن الوعي النظري للفرد لا يمكن أن "يقفز" على عصره، على العالم في زمنه. ومع ذلك دَمَج العالم إلى الفلسفة بشكل يتجاوز ما فعل من جهة دَمْج الفلسفة في العالم. الاختلاف الأول بين الديالكتيك الهيجلي والماركسي مرتبط بشدة بالأمر الثاني. في فترة مبكرة في عام 1844، كتب ماركس في كتاب "العائلة المقدسة":

"العمال الشيوعيون يعرفون جيدًا أن الملكية ورأس المال والمال، والعمل المأجور وأمثال ذلك، بعيدًا عن كونها خيالات مثالية، هي منتجات عملية وموضوعية لاغترابهم؛ لا بد من التسامي عليها بطريقة عملية وموضوعية، وهكذا يمكن للإنسان أن يصبح إنسانًا، ليس فقط من جهة الفكر ومن جهة الوعي، ولكن في وجوده (الاجتماعي) وحياته".

تبين هذه الفقرة الوضوح المادي الكامل – إذا وضعنا في الاعتبار الارتباط الذي لا ينفصم بين الظواهر الواقعية في المجتمع البرجوازي ككل – الذي لا يمكن لأشكال وعيه أن تُلغى من خلال الفكر وحده. يمكن لتلك الأشكال أن تُلغى فحسب في الفكر والوعي من خلال الإطاحة العملية الموضوعية بعلاقات الإنتاج المادية نفسها، والتي تُفهم حتى اليوم من خلال تلك الأشكال. يصح هذا أيضًا على الأشكال العليا من الوعي الاجتماعي، كحال الدين، والمستويات الوسطى من الكيانات والوعي الاجتماعي، مثل الأسرة. هذا الناتج عن المادية الجديدة متضمن فيه "نقد فلسفة الحق لدى هيجل"، وطٌوِّر بوضوح وشمول في "أطروحات عن فيورباخ" التي كتبها ماركس عام 1845 لتوضيح أفكاره. 

"مسألة إذا كانت الحقيقة الموضوعية لا تتفق مع الفكر الإنساني ليست مسألة نظرية، ولكنها مسألة عملية. لا بد أن يثبت الإنسان الحقيقة -أي الواقع، القوة، ومحايثة فكره- عمليًّا. النزاع حول الواقع أو عدم الواقع في الفكر، وأن الفكر منفصل عن الممارسة، هو نزاع مدرسي خالص". 

سيكون التفكير بأن هذا يعني أن النقد العملي يحل محل النقد النظري فحسب بمثابة سوء فهم خطير. مثل هذه الأفكار تقتصر على أن تضع التجريد الفلسفي للنظرية الخالصة في مقابل التجريد المناهض للفلسفة الذي يتسم بأنه ممارسة خالصة بالقدر نفسه. ماركس، كمادي ديالكتيكي، وضع الحل العقلي لكل مظاهر الغموض التي "تغوي النظرية نحو الغموض"، هذا ليس في "الممارسة الإنسانية" فحسب، ولكن أيضًا في "الممارسة الإنسانية وفي فهم هذه الممارسة". ترجمة الديالكتيكي عن غوامضه التي وضعها هيجل، إلى "الشكل العقلي" للديالكتيك المادي الماركسي، يعني في الأساس أنه صار المبدأ الإرشادي لنشاط نظري وعملي ونقدي وثوري واحد. إنه منهج يعتبر "بطبيعته نقديًا وثوريًا".

حتى لدى هيجل "النظري محتوى من حيث المبدأ داخل العملي".. "لا ينبغي على المرء أن يتخيل أن الإنسان يفكر من جهة، ويرغب من جهة أخرى، أي أي لديه الفكر في جيب، والإرادة في الجيب الآخر. ستكون هذه فكرة فارغة". لدى هيجل، لا تقع المهمة العملية للمفهوم في "نشاطه الفكري" (أي الفلسفة) في نطاق "النشاط الإنساني والحسي العملي العادي" (ماركس)الأمر بالأحرى هو "أن تستوعب ما العقل، على ما هو عليه". في المقابل يختتم ماركس الوضوح الذاتي لمنهجه الديالكتيكي بالأطروحة الحادية عشر عن فيورباخ:

"اكتفى الفلاسفة بتفسير العالم، والمسألة الآن هي تغييره".

هذا لا يعني، كما يتخيل المقلدون، أن كل الفلسفة محض أخيلة. هذا يعبر فقط عن الرفض الصريح لكل النظريات، سواء كانت فلسفية أو علمية، والتي لا تعتبر في الوقت نفسه عملية – الممارسة الواقعية الأرضية والأرضية المحايثة والإنسانية والحسية، وليست النشاط التأملي للفكرة الفلسفية، التي لا تقوم في الأساس بشيء سوى أن تفهم نفسها. مسألة الإطاحة النقدية والعملية هنا لا تعتبر نشاطات منفصلة، ليس بالمعنى التجريدي فحسب، ولكنه استبدال متماسك واقعي للعالم المتماسك والواقعي في المجتمع البرجوازي. يعتبر هذا هو التعبير الأكثر دقة عن المبدأ المادي الجديد للاشتراكية العلمية لدى ماركس وإنجلز.

لقد أظهرنا الآن النتائج الواقعية للمبدأ المادي الديالكتيكي لمفهوم ماركس عن العلاقة بين الوعي والواقع. بالطريقة نفسها أظهرنا الخطأ في كل المفاهيم المجردة وغير الديالكتيكية الموجودة ضمن الأنواع المتباينة من الماركسيين المبتذلين في مواقفهم النظرية والعملية مما يدعى الواقع. طرح ماركس صحيح، ليس فقط في أشكال الوعي الاقتصادي بالمعنى الضيق، ولكن في كل أشكال الوعي الاجتماعي: هي ليست مجرد أوهام، ولكنها واقع "موضوعي بشكل عال وعملي بشكل عال"، وبالتالي "لا بد أن تُلغى بطريقة عملية وموضوعية". الموقف الميتافيزيقي الساذج للحس المشترك البرجوازي المتسق، يعتبر الفكر مستقلًا عن الوجود، ويُعَرِّف الحقيقة كناقل للفكر إلى موضوع خارجي عليها، موضوع "يعكسها". هذه النظرة فحسب هي التي يمكن أن تحتمل النظرة التي ترى أن كل أشكال الوعي الاقتصادي (المفاهيم الاقتصادية للوعي ما قبل العلمي وغير العلمية، إلى جانب الاقتصاد العلمي نفسه) لها معنى موضوعي لأنها تنتنقل إلى الواقع (العلاقات المادية للإنتاج التي تفهمها)، بينما كل الأشكال العليا من التمثيل هي مجرد خيالات خالية من الموضوعية، والتي ستذوب تلقائيًّا إلى لا شيئيتها الأساسية بعد الإطاحة بالبنية الاقتصادية للمجتمع، وإلغاء بنيته الفوقية التشريعية والسياسية. تبدو الأفكار الاقتصادية نفسها أنها تقتصر على ارتباطها بعلاقات الإنتاج المادية للمجتمع البرجوازي، بطريقة ارتباط صورة ما بالموضوع الذي تعكسه. في الحقيقة، هي مرتبطة بها، بطريقة ارتباط جزء محدد وخاص من كل، بالأجزاء الأخرى من ذلك الكل. ينتمي الاقتصاد البرجوازي، بالعلاقات المادية، إلى المجتمع البرجوازي ككل. تشتمل هذه الكلية أيضًا على تمثيلات سياسية وقانونية وعلى موضوعاتها المتبدية، التي يعاملها السياسيون والمشرعون البرجوازيون – "أيديولوجيو الملكية الخاصة" (ماركس) - بأسلوب مقلوب أيديولوجيا كماهيات مستقلة. وأخيرًا هي تشتمل أيضًا على أيديولوجيات أعلى من الفن والدين والفلسفة للمجتمع البرجوازي. 

إذا بدا أنه ليست هناك موضوعات يمكن لتلك التمثيلات عكسها، بشكل صحيح أو غير صحيح، فذلك لأن التمثيلات الاقتصادية أو السياسية أو التشريعية ليس لديها موضوعات خاصة توجد بشكل مستقل أيضًا ومنعزل عن الظواهر الأخرى للمجتمع البرجوازي. وأن تواجه تلك الموضوعات بتلك التمثيلات يعتبر إجراء برجوازي مجرد وأيديولوجي. إنها تعبر فحسب عن المجتمع البرجوازي ككل بطريقة خاصة، كما يحدث في الفن والدين والفلسفة. إنها تجمع أشكال "البنية الروحية" للمجتمع البرجوازي، التي تتفق مع بنيتها الاقتصادية، مثلما تتفق بنيتها الفوقية التشريعية والسياسية مع الأساس نفسه. كل تلك الأشكال لا بد أن تخضع للنقد الاجتماعي الثوري للاشتراكية العلمية، التي تعتنق كل الواقع الاجتماعي. لا بد أن تتلقى الانتقاد النظري ويطاح بها عمليًّا، إلى جانب الإطاحة بالبنى الاقتصادية والقانونية والسياسية للمجتمع في نفسه. مثلما لا يمكن الاستغناء عن الفعل السياسي بسبب الفعل الاقتصادي للطبقة الثورية، هكذا لا يمكن الاستغناء عن الفعل الفكري بسبب الفعل السياسي أو الاقتصادي. على العكس من ذلك، لا بد من تحقيق ذلك حتى نهاية النظرية والممارسة، كنقد علمي ثوري، وعمل مهيج قبل استيلاء الطبقة العاملة على سلطة الدولة، وتنظيم علمي وديكتاتورية أيديولوجية بعد الاستيلاء على سلطة الدولة. إذا صح ذلك للفعل الفكري ضد أشكال الوعي التي تعرِّف المجتمع البرجوازي في العموم، يكون صحيحًا بشكل خاص مع الفعل الفلسفي. يرى الوعي البرجوازي نفسه بالضرورة كوعي منفصل عن العالم ومستقل عنه، كفلسفة نقدية خالصة وعلم نزيه، مثلما أن الدولة البرجوازية والقانون البرجوازي يبدوان أنهما مفارقان للمجتمع. لا بد من مقاومة هذا الوعي فلسفيًّا من خلال الديالكتيك المادي الثوري، أي فلسفة الطبقة العاملة. لا ينتهي هذا النضال إلا حين تتم الإطاحة بكل المجتمع القائم وأساسه الاقتصادي كليًّا بالممارسة، وأن يتم تجاوز وعيها تمامًا ويُلغى نظريًّا – "لا يمكن إلغاء الفلسفة دون أن تُدرَك".