رؤى

وليد الخشاب

المثلية على يسار المجتمع

2018.05.01

المثلية على يسار المجتمع

هناك أزمة معرفية داخل التيارات الديمقراطية المصرية التي بدأت ملامحها في التشكل (والتي لم تتبلور بعد) بعد ثورة يناير 2011. من ناحية، تحمل التيارات الديمقراطية -بمعناها الواسع جدًا- هاجس الدفاع عن الطبقات المقهورة، لكن يتناسى بعض أفرادها أن هذا المنطق لا يضمن لفئات مهمشة تاريخيًّا حقوقها. والأمثلة الواضحة على هذه الفئات هي: النساء، المثليون، ذوي الاحتياجات الخاصة، وأصحاب الديانات المختلفة عن دين الأغلبية. ومن ناحية أخرى، تظهر أزمة مقابلة: أن الانغماس في سياسات الهوية التي تعنى بفئات اجتماعية بعينها، لا بطبقات اجتماعية، يمكن أن يعمي عن التفاوتات الاجتماعية الأساسية، كالتفاوت في الدخول.

نظريًّا، من الغريب أن يكون المرء يساريًّا أو ليبراليًّا ومع ذلك لا يؤيد حقوق المثليين. فاليسار، باعتباره معسكر الدفاع عن المقهورين، والليبرالية، باعتبارها معقل المدافعين عن الحريات كافة، بما فيها حرية الفرد، ينبغي أن يكونا في صف فئة اجتماعية مقهورة ومهددة  في حرياتها. لكن الواقع في المشهد السياسي/الاجتماعي المصري هو أن الكثير ممن يرون أنفسهم يساريين أو ممن يتصورون أنفسهم ليبراليين سياسيًّا هم في الواقع محافظون أخلاقيًّا. وبالتالي ليس غريبًا ألا يتعاطف بعضهم مع المثليين، بل ويكرههم، من منطلقات مختلفة:

1- من منطلق أنهم محافظون أخلاقيًّا، يرفضون ممارسات اجتماعية وجنسية تخرج عن التيار الغالب في المجتمع، لأن تلك الممارسات تعتبر “عيبًا” و“خطأً”. (مع أن تحرير المجتمع من الاستغلال الذي تفرضه علاقات الإنتاج الرأسمالي يستتبع تحرير الأخلاق من علاقات القوة التي تحكمها في الإطار نفسه).

2- ينطلق بعضهم من منطلق أن المثلية مرض، ومع ذلك لا يلتفتون إلى أن النظم الفاشية وحدها التي تعاقب الإنسان بسبب حالته الصحية، على نحو ما كانت تفعل النازية في ألمانيا من إعدام الأطفال والشباب المصابين بإعاقات بدنية أو ذهنية (مع أن الدراسات الطبية عن المثلية في العالم كله تكاد تجمع على أن المثلية تشكل حالة من حالات الميل الجنسي لدى الإنسان، وأن 10 % من البشرية مثليون).

3- هناك أيضًا قسم من الليبراليين بل ومن اليساريين ينتمي إلى معسكر المتدينين الذين يتصورون أن الإسلام قد حرَم العلاقات المثلية، وبالتالي فموقفهم الأخلاقي -والسياسي- محسوم بسبب ما يتصورونه تعاليم دينهم. (مع أننا لم نقرأ كلمة واحدة في كتب التراث والأحاديث عن أن النبي محمد عاقب فردًا واحدًا، أو حتى نهره، بسبب علاقة مثلية).

هذه تذكرة بأن مجتمعنا مليء بالأفراد المحافظين أخلاقيًّا، وبأن المحافظين أخلاقيًّا موجودون في جميع الأطياف السياسية بالمجتمع، بما فيها اليسار. المشكلة الأكبر هي أن قسمًا من هؤلاء المحافظين أخلاقيًّا -حتى ممن يعتبرون أنفسهم على يسار المجتمع- لا يمانعون أن تطحن الدولة أية أقلية، طالما أنهم يرون هذه الأقلية في ضلال.

موقف اليسار من القمع على الهوية

في مطلع النصف الثاني من عام 2017، دارت حوارات علنية وسرية في أوساط اليسار عن الموقف اليساري الأمثل الواجب اتخاذه حيال قمع الدولة للمثليين، بعد أن قام بعض الشباب برفع علم المثلية المعتمد عالميًّا -علم قوس قزح- تعبيرًا عن النشوة في أثناء حفل فريق “مشروع ليلى” اللبناني بالقاهرة. بلغ قمع الدولة المصرية للمثليين وقتها حدًا غير مسبوق، تجلى على سبيل المثال، في القبض على شباب من منازلهم، أي أنه كان إيقافًا على الهوية، وليس لأن هؤلاء المتهمين بالمثلية كانوا “يؤذون مشاعر المجتمع” بتعبيرهم عن هوياتهم في المجال العام. وبذلك، صارت الدولة تعامل المثليين معاملتها للمعارضين السياسيين من الشباب، فهي لا تكتفي بالقمع بممارسة القبض على الشباب من مظاهرات في الشارع، بل تتبعهم إلى منازلهم وتقبض عليهم، ليس بسبب فعل أدوه ولكن بسبب هوية شخصية.

بين صفوف اليسار، برز تيار يتلخص خطابه في وجود رأي عام قوي في المجتمع رافض للمثليين، أو على الأقل رافض لأن يعتبر قضيتهم تستحق التضامن. ويرى أصحاب هذا الخطاب أن اليسار سوف يخسر أرضية جماهيرية كبيرة لو اتخذ موقفًا علنيًّا بالتضامن مع المثليين. يمكن وصف هذا الخطاب بالبراجماتية. وإن افترضنا وجاهته، فهي مشروطة بتصور للسياسة على أنها نفعية وليست فقط أخلاقية.

الموقف من قضايا المثليين هو عَرَضٌ لمشكلة أكبر، يندر أن يعي بها الأفراد الذين يتصورون أنفسهم جزءًا من اليسار: وهي أن قطاعات كبيرة ممن يصنفون في الخطاب العام على أنهم يساريين هم في الواقع على يسار القوميين، وفي السياق المصري: هم ليسوا يساريين بقدر ما هم مؤمنون بشكل من أشكال الانشغال بالعدالة والمساواة من منطقة تقع على يسار الناصرية. ليس المقصود هنا هو افتراض أن من يرفض التضامن مع المثليين يخرج من دائرة اليسار، ولكن التنبيه على أن الخلط بين تيارات اليسار المختلفة وبين يسار التيارات القومية يسبب التباسًا معرفيًّا لا يفضه إلا تحليل مادي تاريخي متحرر من الأحكام الأخلاقية المسبقة ومن التصورات المثالية عن الهوية.

لكن التيار الآخر الذي يتلخص خطابه في كون قضية المثليين قضية فئوية أو هامشية أو هوياتية، وبالتالي لا تدخل في صلب اهتمامات وانحيازات اليسار، هو الذي يبدو لي حاملاً لتناقض أساسي معرفي وسياس. فالمضمر هنا هو أن اليسار يعنى بالقضايا السياسية/الاقتصادية، وبالتقدم على هذين الصعيدين، لكن لا يعنى بالتقدم الاجتماعي إلا في حدود (يحكمها التيار الغالب أخلاقيًّا وعاداتيًّا).

قد يبدو من السذاجة أن أكرر أن اليسار بشكل عام ينحاز للعدالة، وأن العدالة المادية لا تقتصر على توزيع عادل للأجور وعلى تحديد الملكية الخاصة. وبالتالي أن اليسار ينتصر دائمًا للمضطهدين، سواء كانوا مضطهدين يتعرضون لظلم بسبب رفض رأس المال لدفع أجور عادلة لهم، أو كانوا مضطهدين لأسباب هوياتية.

ليس المنطق المطروح هنا منطق “أحب لأخيك ما تحب لنفسك”، ولكن منطق الاتساق المعرفي والحركي: إن كان اليسار معنيًّا بالدفاع عن حقوق العمال الذين يتعرضون للظلم المتمثل في الأجور المتدنية والقمع البوليسي، فمن الطبيعي أن يدافع اليسار عن جميع الأقليات الاجتماعية التي تتعرض للظلم المتمثل في ظروف المعيشة المتدنية والقمع البوليسي. يستوي في هذا الدفاع عن العمال والسيدات والمثليين والأقباط والمعوقين والفلسطينيين، إلى آخر الفئات المقموعة سياسيًّا في مجتمعاتنا العربية، وفي مصر تحديدًا. اللافت للنظر أن اليسار يتضامن تلقائيًّا مع جميع الأقليات المذكورة في الجملة السابقة، ولا يتخلخل إجماعه إلا حيال المثليين.

الذات الفاعلة والذات الخاضعة

من ناحية الممارسة والنظرية الماركسية، هناك العديد من إسهامات المناضلين والمفكرين والمنظرين الماركسيين التي تناولت قضايا حقوق المثليين منذ منتصف القرن العشرين على الأقل. من أبرز وأول من تعرض لهذه القضايا من المعسكر الماركسي، المحلل النفسي والمفكر والمناضل فليكس قطاري -الذي عادة ما يكتب اسمه بالعربية “جاتاري” أو “غواتاري”- والذي يشتهر في أوساط المثقفين العرب بوصفه المؤلف المشارك للعديد من كتب الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز. فمثلًا كتاب دولوز الأشهر “الرأسمالية والفصام” هو في الواقع عمل مشترك لدولوز وقطاري. على أن لقطاري إنجازات فكرية وتنظيرية ونضالية هامة منشورة في كتب هو مؤلفها الوحيد.

في كتاباته النضالية، يتناول قطاري نشاط بعض منظمات الدفاع عن المثليين. لكن يمكننا استشفاف الأساس النظري لموقفه في كتابه “التحليل النفسي متقاطعًا مع مجالات أخرى” (Psychanalyse et transversalité). في هذا الكتاب، يطرح قطاري مفهومي «الجماعة الفاعلة» و«الجماعة الخاضعة»، ويقترح تصور الجماعات الاجتماعية بوصفها مجموعات من البشر لا ترتبط فحسب بروابط هوية ومصلحة اجتماعية وطبقية، بل بوصفها جماعات تتخذ موقفًا موحدًا من عملية تشكيل ذاتيتها.

إن تلقت الجماعة محددات ذاتيتها (وبالتالي عوامل خطابها وحركتها) من داخل الجماعة نفسها، فهي جماعة فاعلة، تتولى بنفسها أمور رغبتها الجماعية. وذلك -على سبيل المثال- حال طبقة عاملة تشكل ذاتيتها الثورية من خلال تولي الطبقة بنفسها مسؤولية السعي لممارسة رغبتها في التحرر. أما الجماعة الخاضعة، فهي جماعة تتلقى محددات ذاتيتها من خارجها، وتخضع لرغبة وقرارات ذوات أو طبقات أو مؤسسات تتحكم فيها.

نلاحظ هنا أن قطاري يربط المصلحة الطبقية والظروف المادية لتفاعل الطبقة مع سياقها التاريخي، من خلال مفهوم أوسع من مفهوم الجدل التاريخي السائد في الماركسية التقليدية، ألا وهو مفهوم «الرغبة». ثم إنه لا يقصر الذاتية الجماعية على مفهوم «الطبقة»، لأنه يعي تشكل ذوات جماعية على أصعدة تتجاوز التصنيف الطبقي بمفرده. وتعليقي هو أن تصور ذوات جماعية مثلية تربط بين «أفرادها» مواقف محددة لخطابها وفاعليتها بوصفها ذواتًا جماعية -سواء كانت فاعلة أو خاضعة- هو نموذج لتشكل ذوات جماعية تتجاوز المعيار الطبقي. فلا جدال في وجود جماعات مثلية لها مواقف جماعية مبنية على توليها أو تخليها عن رغبتها. إلا إن هذه الذوات قد تتجاوز المحددات الطبقية، لأن جماعات المثليين قد تضم في ذات جماعية واحدة مثليين ينتمون إلى طبقات عليا أو وسطى أو عاملة، رغم تطابق رغبة هؤلاء الأفراد –مثلاً- في مقاومة القمع البوليسي أو رفض السرية في ممارساتهم الحياتية.

الرغبة وعلاقات الإنتاج

يلائم هذا الطرح النظري موقف ماركسي لا يقتصر على مقاربة ميكانيكية للتناقضات الطبقية في المجتمع، ويفسح المجال لتمثل تناقضات الرغبة التي تعقد التحليل المادي التاريخي وتجعله أكثر اقترابًا من التحديات المادية اليومية التي تواجه الكثير من الجماعات في المجتمع –ومنها الجماعات المثلية وذات الجنس غير المألوف (Queer).

1 - فالجماعات المثلية تسعى للتفاعل مع رغبتها في الحياة العادلة التي تكفل لها المساواة بالجماعات الأخرى في المجتمع، بل وبالجماعة الغالبة غيرية الجنس. وهذه الرغبة تتماثل من حيث المبدأ مع رغبة جماعات أخرى تشترك مع الجماعات المثلية في كونها أقليات تواجه تحديات مشابهة، من حيث تعرضها لرفض الجماعات الغالبة وعسف الدولة تجاهها.

وبهذا المعنى، فانخراط بعض المثليين في جروبات فيس بوك خاصة بثقافتهم، وقيام البعض برفع العلم الدولي للمثلية علنًا، وحرص بعض المثليين على المواظبة على السهر في بعض البارات المشهورة باستقبال المثليين، هي كلها ممارسات تؤسس ذاتًا جماعية فاعلة، تُفَعِلُ حقها في عمل ما يحق لجماعات أخرى في المجتمع –على سبيل المثال، الحق في ارتياد بارات دون التعرض لمضايقات.

وبهذا المعنى أيضًا، فالجماعات المثلية التي لا تمارس أنشطة تشكلها كذات فاعلة بوصفها جماعات، قد يمكن تعريفها على أنها ذوات “خاضعة”، تشبه في قبولها “المشي جنب الحيط” بالتعبير العامي، قطاعات من الطبقة العاملة تقبل بالخضوع لشروط رأس المال وقيود القمع البوليسي، دون أن تتشكل كذات متمردة على الاستغلال أو على عنف المؤسسات تجاهها.

2 - إلا إن تلك المقاربة لا تنفي أهمية التفكير في التناقضات الطبقية داخل الجماعة المثلية الواحدة -وهذا تعليق أطرحه أنا. فتصور الأفراد المنخرطين في ذات مثلية على أنهم جماعة فاعلة، لا ينفي أن هناك في دائرة الثقافة المثلية أفرادًا آخرين يشكلون “ذواتٍ” مختلفة على أصعدة أخرى. فالمثليون المنتمون للشرائح العليا من الطبقة الوسطى لا يعانون المعاناة نفسها التي يتعرض لها المثليون من الفئات الشعبية، من الطبقة العاملة، أو من الشرائح الأبسط في الطبقة الوسطى. هنا كما في كل مجالات الحياة في المجتمع، عندما يقع قمع بوليسي ما، يتدخل الوضع الطبقي وشبكة العلاقات داخل دوائر السلطة –بالمعنى العام للسلطة- ليحميا من هم في أوضاع اجتماعية “متميزة”، حتى وإن كانوا يتعرضون للتمييز أو للمضايقة على بعض الأصعدة.

طرحت الملاحظة السابقة لأن قطاري كان يعيش في سياق ثقافي لا يحتاج للتنبيه على التباينات الطبقية بين جماعات المثليين، بحكم كتابته عن الذات الفاعلة والذات الخاضعة وقت نشوء تحالف تلقائي بين جماعات مختلفة تطالب بتحرير الرغبة من سيطرة رأس المال في إطار ثورة مايو 1968 الثقافية في أوروبا. منذ ذلك التاريخ، تضافرت جهود جماعات الطلبة والعمال والنساء والمثليين وجماعات أخرى في أوروبا، ثم في أمريكا، للتمرد على تشكيل رأس المال للسلوكيات والرغبات “المقبولة” في المجتمع. وتنظير قطاري عن الذاتية وعن الرغبة كدافع للحركة الجماعية في المجتمع –بما يجاوز المنظور الماركسي التقليدي لفهم هذه الحركة بوصفها محددة بعلاقات الإنتاج- هو تنظير وليد لسياق مايو 1968.

إذن، حتى وإن افتقر نضال المثليين للمصداقية في نظر بعض تيارات اليسار-باعتباره نضالاً فئويًّا وهوياتيًا- فهو على الأقل في جانب منه، فيما يخص المثليين من الطبقة العاملة مثلاً، نضال طبقي. يكفي أن نراجع الوضع الطبقي للشباب الذين تعرضوا للاعتقال والمطاردات الأمنية بمناسبة رفع العلم المثلي في أثناء حفل “مشروع ليلى” لنفهم الطبيعة الطبقية للقمع الذي يتعرض له المثليون المنتمون للشرائح المهمشة اجتماعيًّا واقتصاديًّا، من حيث دخولها ومهنها. فمعظم الشباب من ضحايا هذه الحملة لا ينتمون للشرائح العليا من الطبقة الوسطى. لكن، لو أَقَرَ المتأمل بواجب اليسار في الدفاع عن رغبة العامل المثلي في أجور أفضل وفي ممارسة الحب بالشكل الذي يميل إليه، فلا يسعه إلا أن يقر بواجب اليسار في الدفاع عن رغبة أي فرد في ممارسة الحب بالطريقة التي يريدها.

المثليون تحت النظر

الواقع أن قضية المثلين جزء من جدل اجتماعي وسياسي واسع عن “البصرية في المجال العام”. لقد كان هناك اتفاق ضمني غير مكتوب بين أجهزة الدولة والمثليين، بمقتضاه يمارس المثليون حياتهم ما شاؤوا، بشرط أن “يستتروا”، في مقابل أن لا تضايقهم الدولة. ويمثل هذا الاتفاق خلاصة المفاوضات بين الدولة المصرية الحديثة والفئات الجنسية المهمشة منذ عصر محمد علي إلى عصر مبارك. فقد شرعت الدولة منذ القرن التاسع عشر في منع الرقص النسائي (رقص الغوازي) في الطريق العام، ثم في منع وقوف العاملات بالجنس (الغواني) في الطريق العام في القرن العشرين، ثم جرَّمت الدعارة عشية يوليو 1952، وهي بهذا تدخلت في المجال الخاص، لأن الدعارة كانت وقتها تمارس في بيوت ولم يكن مسموحًا للغانية قانونًا أن تجذب الزبائن من الشارع.

في الإطار نفسه، مُنع الرقص العلني في الشارع، الذي كان يمارسه من كان أهل القرن التاسع عشر يسمونهم بـ “المخنثين”، أي الرجال الذين يطيلون شعورهم ويرتدون ملابس نسائية ويرقصون كالنساء. لكن لم تكن الدولة تدخل إلى غرف نوم المواطنين أو إلى حرم بيوتهم لتشرف على ممارساتهم الجنسية الفردية الشخصية، لأن ما كان يعنيها هو منع آثار هذه الممارسات في العلن وعلى قارعة الطريق -أي في الفضاء العام الذي تحكمه الدولة. ويستهدف هذا المنع حرمان السلوك الذي تراه الدولة غير أخلاقي من امتياز “البصرية” ومن حق “الشهود”، أي من الحق في الظهور العلني تحت عيون الآخرين.

في المقابل، لم تجرم الدولة الممارسات الجنسية خارج الزواج، ولا الممارسات الجنسية المثلية، لكن كانت تعاقب من يمارسها أو يظهر آثارها في المجال العام؛ وهذا هو المعنى الفضفاض لتهم الفسق والتحريض على الفجور وخدش الحياء التي تستخدم لمعاقبة المثليين إذا قاموا بممارسات تعلن عن ميلهم الجنسي في الفضاء العام.

تغير هذا الاتفاق غير المكتوب في عصر مبارك، عندما هاجم البوليس حفلًا على العوامة “كوين بوت” واتهم المشاركين فيه بالمثلية. فقد كانت هذه المرة الأولى التي تدخل فيها الشرطة إلى حرم المجال الخاص لتراقب وتعاقب السلوك الذي لا تتقبله، على الرغم من غياب أي أساس قانوني لتلك الهجمة. أقيس هنا تمدد قمع الدولة للحريات بمدى تدخلها في المجال الخاص بالمعني المادي البسيط، أي دخول ممثليها بدون استئذان إلى حرم ملكية خاصة لا يمارس فيها نشاط يجرمه القانون.

لذلك يمكن فهم إصرار بعض الجماعات المثلية المصرية على تحدي خطوط الدولة الحمراء وعلى أداء ينتج هويتها المغايرة للسائد في الفضاء العام –الافتراضي والمادي في الشارع- على أنه رد فعل لنقض الدولة اتفاقها مع المثليين، الذي يمكن صوغه على النحو التالي “أخلوا الفضاء العام ونترك لكم الحرية في الفضاء الخاص”. بما أن الدولة سمحت لنفسها باقتحام الفضاء الخاص، فرد بعض الجماعات المثلية كان “باقتحام” الفضاء العام، مثلاً برفع علم المثلية في استاد رياضي.

سواء تناول المتأمل قضية المثليين من زاوية الحريات ومن موقف ليبرالي، أو من زاوية الدفاع عن تحرير الرغبة على جميع الأصعدة، ومن موقف يسار ما بعد مايو 1968. من العبث أن نتصور أن الجدار الذي هدمته انتفاضة يناير 2011  في مصر سيرتفع ثانية بحيث يعود بالتاريخ إلى 24 يناير 2011، وأن الأقليات التي مارست حرية غير مسبوقة خلال الأسابيع التي تلت ذلك التاريخ سوف تعود إلى جيتوهاتها إلى الأبد، سواء كانت تلك الأقليات هي جماعات الأقباط أو السيدات أو الشباب أو المثليين.