مراجعات

شيرين أبو النجا

المدينة دائمًا تنتصر ولو بعد حين للكاتب: عمر روبرت هاملتون

2018.01.01

المدينة دائمًا تنتصر ولو بعد حين للكاتب: عمر روبرت هاملتون

في عمله الروائي الأول يقرر عمر روبرت هاملتون أن يواسي المدينة وأهلها، أن يمنحها قوة وصوتًا، فيُعلن في العنوان أن «المدينة دائمًا تنتصر». يبدو العنوان مفعمًا بالأمل، مبنيًّا على ثقة راسخة يؤشر عليها ظرف الزمان «دائمًا»، وتتسع دلالة فعل الانتصار لتطرح أسئلة عديدة في ظل ما شهدته القاهرة منذ 25 يناير 2011، تنتصر على من؟ على ماذا؟ لصالح أي طرف؟ ومن ناحية أخرى، ففي مقابل الانتصار، هناك دائمًا هزيمة، فمن الذي سيُهزم أو ماذا؟ على مدار الرواية تطرح الشخصيات هذه الأسئلة وتدور في فلكها، تُشكل أزمتها، وكل يخرج من الأزمة بطريقته، والكتابة هي واحدة من أكثر الطرق فاعلية للخروج من الأزمة أو مواجهتها.

ينتمي هاملتون للجيل الذي تشكل وعيه السياسي في قلب الميدان، ونسج موقفه من تفاصيل الحراك السياسي العنيف في المجال العام والذي انفجر في 2011 وتم قمعه وإخراسه (وأحيانًا قتلة) في منتصف 2013 . فقد كان موجودًا من خلال عدسة الكاميرا التي تُقرب التفاصيل فتكون الصدمة أكبر. هي تلك الكاميرا التي دخلت المشرحة، وتتبعت أهالي الشهداء، وشهدت علامات التعذيب، واستمعت لشهادات ضحايا، سجلت الهتافات واستنشقت دفقات الغاز، عانت السحل والطعن، والأهم أن تلك العدسة التقطت التفنن في الإهانة ومحاولات كسر الإرادة. إنها الكاميرا التي كشفت المسكوت عنه، أو بالأحرى ما تم إسكاته. تتحول كل هذه الصور والأصوات إلى كلمات ومشاهد في «المدينة دائمًا تنتصر»، والتي كٌتبت باللغة الإنجليزية. قد يتبادر إلى ذهن القارئ أن العمل يتوجه إلى قارئ معين، وعلى الرغم من أنني لا أرى غضاضة في ذلك، إلا أن العمل يتوجه لفئات واسعة بوصفه يُسجل حقبة من تاريخ المدينة لا يجب أن ننساها ولا يجب أن نهمل السعي الحثيث للطرف الآخر (المنتصر شكليًّا في هذه اللحظة) لمحوها من الذاكرة تماما. تجيء هذه الرواية لتثبت اللحظة وتجعلها حاضرة في الذاكرة، لحظة مؤلمة تبدأ من مذبحة ماسبيرو التي وقعت في 9 أكتوبر 2011.

قد يقول قائل إن الروايات التي سجلت ما وقع كثيرة، وهذا حقيقي، فالعديد من الكتاب لم يتمكنوا من مغادرة الحدث بدون تسجيله. لكن المختلف في هذه الرواية هي أنها لا تتبنى صوتًا واحدًا، فلا يتشكل العالم بصوت أحادي. في البحث عن الديمقراطية المفقودة، تتبنى الرواية تعددية الأصوات، فتمنح شخصيات مُهمشة ومُهملة (عمدًا) صوتًا وتجعل من التغريدات على موقع تويتر مصدرًا مرجعيًّا للتوثيق، بالإضافة إلى الأخبار التي نُشرت في مواقع إخبارية وحقوقية محددة (تم حجبها الآن بالطبع). يثبت الكاتب كل هذه الحسابات على تويتر والمواقع في نهاية الرواية في شكل شكر لكل من استعان بتغريداتهم. في الوقت ذاته، يجيء الإهداء في البداية واضحًا لا لبس فيه «إلى علاء: كان يمكن لهذا الكتاب أن يكون أفضل لو كنت قادرًا على التحدث معك»، والمقصود هو علاء عبد الفتاح الذي يقضى الآن عقوبة ظالمة في السجن لأنه تجرأ على الحلم، وفي توجيه التهم له كانت تغريداته على تويتر واحدة من الحجج التي زجت به في السجن. وكأن الرواية في استعادتها لكل هذه التغريدات المنسية تمنح المدينة وأهلها قوة المضي إلى الأمام، الذاكرة سلاح مقاومة في وجه حاضر مظلم.

تحمل بنية الرواية طبقات دلالية تُعبر عن الرؤية للواقع السياسي وتأثيره على المجال الخاص والشخصي. تنقسم الرواية إلى ثلاثة أجزاء: الجزء الأول عنوانه «الغد» ويبدأ من أكتوبر 2011 وينتهي في فبراير 2012، إنه الحلم بغد أفضل، التحضير لتحقق الحلم، الانتظار من أجل «هاتلي يا بكرة صفحة جديدة» على حد قول الشاعر أحمد حداد. يحمل الجزء الثاني عنوان «اليوم» بمعنى الحاضر وهو أول نتيجة ملموسة تحققت بعد الحلم فقد صعد الإخوان المسلمون إلى الحكم وتشكلت تفاصيل المجال السياسي بشكل يخالف الحلم تمامًا ومنح الرئيس محمد مرسي نفسه صلاحيات مهولة عبر تعديل الدستور. في الحاضر نشهد 30 يونيو وطلب تفويض بمحاربة الإرهاب وينتهي الأمر بفض رابعة الشهير الذي وقع في 14 أغسطس. في الجزء الثالث والأخير يعود «الأمس» بكل ثقله وظلامه وخوائه السياسي. وكأن كل ما وقع كان تحضيرًا للعودة إلى الماضي ليس إلا. يتعاظم تواشج العام والخاص في هذا الجزء، فتنفرط العلاقة بين مريم وخليل، لم تعد الأرواح قادرة على الاستمرار في تصديق الأمل في المستقبل، مع الصعود الثوري توطدت العلاقة ومع أفولها انفرطت. تحول الاتساق بين الشخصي/الخاص والعام/السياسي إلى سمة مميزة لكل من شارك بكُليته في فعل الثورة، واختلفت المصاير: فهناك من انقلب على موقفه الأولي تمامًا مثل رانيا، وهناك من عاد من حيث أتى كما فعل خليل الذي كان قد جاء من أمريكا ليشارك في الحلم، وهناك من مات من التعذيب بعد أن كان قد سجل بالكاميرا كل شاردة وواردة مثل حافظ، وهناك من وقع فريسة للاكتئاب مثل مريم. انطفأت الأرواح وعادت إلى أمسٍ أشد قسوة.

إذا كانت الثورة هي الإطار العام الذي تنطلق منه الرواية فإن هناك خيط ينظم الحبكة الروائية. يتتبع الكاتب تجربة مجموعة «مُصرين» (من الإصرار) التي كان واحدًا من مؤسسيها، وكان لها قناة على يوتيوب ترفع عليها كل ما يتم تصويره وتسجيله. اعتمدت هذه المجموعةالإعلامية على مبدأ صحافة المواطن ونجحت في توثيق كافة الانتهاكات التي وقعت في الفترة من 2011 وحتى تقريبًا 2014 وهي اللحظة التي توقف فيها العمل (هل تلاشى الإصرار؟). عملت المجموعة عبر التمويل الذاتي وتبرعات الأصدقاء وبذلت مجهودًا مضنيًا في منح صوت لمن لا صوت لهم (ضحايا التعذيب وأهالي الشهداء)، وهي الأصوات التي تظهر في الرواية في شكل فصول مستقلة تحمل اسمها مثل أبو باسم وأم أيمن. وكما صعدت المجموعة مع الفعل الثوري كان أفولها وانفراط عقدها، تمامًا كأفول العلاقة بين مريم وخليل، وكاستشهاد حافظ على يد زبانية التعذيب. لا يستخدم الكاتب الاسم الحقيقي للمجموعة بل يمنحها في الرواية اسمًا آخر وهو «فوضى»، فقد كانت المجموعة تعمل على تسجيل الفوضى السياسية التي تمارسها السلطة: كل أشكال الفوضى والسقوط، كل شيء يسقط كما ارتأى خليل، حتى أن المصعد يمكن أن يسقط به في أي لحظة توافقًا مع الواقع. لا أحبذ تحميل العمل أكثر من طاقته لكن لابد من التذكير أن «الأناركية» كانت واحدة من التهم التي يتم توجيهها للحراك السياسي الشبابي.

لكن الكاتب لا يسمح للسقوط أن يكون هو خاتمة الرواية، فالمدينة لا تنهزم بسهولة. وهو ما يدركه خليل فيعود من أمريكا، وفي أثناء استغراقه في مونولوج داخلي طويل يستعيد فيه أسماء الشهداء (وهي تقنية سائدة في العمل) تطالعه لافتة على باب شقة جيرانه «افرجوا عن علاء»! يعود الأمل وإن كان طفيفًا، فهؤلاء الجيران- مثل الكثيرين- كانوا معارضين تمامًا لأي فعل أو قول يخالف السلطة، كانوا من ضمن هؤلاء الذين وقعوا في فخ التصديق. يجيء المشهد الختامي في الرواية ليُعلن بشكل غير مباشر عن حتمية الانتصار. يذهب خليل لحضور جلسة محاكمة روزا بتهمة تكدير السلم العام والمشاركة في مظاهرة بدون ترخيص وإعاقة حركة المرور (تكررت هذه الجلسات آلاف المرات لآلاف الأشخاص)، فيجدها قوية، وحاسمة، وباقية على الإصرار من أجل الحلم المنشود، وعندما تخبره أن الإضراب عن الطعام سيبدأ في سجن القناطر نتأكد أن الثورة مستمرة وأن المدينة لابد وأن تنتصر ولو بعد حين. كأن الرواية امتداد لروح «مُصرِّين» وتخليد للعمل الذي قدمته.