مراجعات

أميمة صبحي

المرأة المقدسة.. النهر أسفل النهر

2021.03.01

مصدر الصورة : ويكيبديا

المرأة المقدسة..  النهر أسفل النهر

تحكي كلاريسا بنكولا في كتابها "إطلاق الروح البرية للمرأة"، الصادر أخيرًا عن دار العين، عن انتشائها لحظة رؤية السيدة للمرة الأولى، كأنها ممتلئة بالأرواح البدائية، تحملها وتسير بها نحونا لترشدنا إليها وتجعلنا نرى معها لمرة أولى وليست أخيرة. كانت طفلة صغيرة بصحبة عائلتها، متجهين إلى شاطيء البحيرة، تقول "لم أعد صغيرة لأرتدي ملابسي على اللحم، فبعد أربع سنوات من العمر، تعيَّن أن ألبس ملابس غريبة غير مريحة. تضمنت ملابسي المستخدمة من قبل، وتنورات تتدلى حتى كاحلي، أو مشدودة بإحكام على الرقبة والذراعين. كأنك حورية البحر تقعين في شبكة تقيدك، تطحنك، تخنقك، تكبِّلك، تترك دوائر حمراء عميقة على معصميك وكاحليك، وسطك ورقبتك". 

تلك القيود في مقابل ركضها نحو الشاطيء بلا اكتراث، تغوص أقدامها في القاع البني الرطب والأمواج الهائلة تزاحمها، والسيدة الآتية نحوها من الماء. السماء خلفها حمراء مع غروب الشمس، ترتدي عباءة حمراء طويلة يزيِّنها الكثير والكثير من الأقراص الذهبية المتلألئة، وفوق رأسها تاج ذهبي جميل. كانت هذه هي المرة الأولى التي رأتها بها ولم تكف بعدها عن رؤيتها، رغم تأكيد عائلتها أن ما هي سوى منارة قديمة بقلب البحيرة.. تردد "لكنني رأيتها.. وهي أيضا قد رأتني".

كتابات كلاريسا بنكولا ليست مجرد كتابات عن النساء وكيفية مواجهة الحياة بروح أنثوية عصية على الخضوع للمجتمع ومقايسه. إنما نجد أنفسنا أمام كل شيء في الحياة قد نتعرض له نحن النسوة ونضطر إلى معايشته في صمت، بمفردنا دون دعم أو مساندة. 

يقولون لفيلومينا: "لا تجرؤي على إلقاء اللوم على الراهبات، أنتِ السبب في هذا العار". فيتبع هذا الاعتقاد الشابة الصغيرة إلى أن تتحول امرأة عجوز، هذا الخنوع للمصير الإنساني البائس الذي فُرض عليها بسبب التذمت الديني واللا غفران. لكنها لا تهدأ، تبحث عن ابنها بدءًا من الدير الذي أُلحقت به لتلد طفلها الأول وهي ما تزال طفلة مراهقة ثم أُجبرت على التنازل عنه فور ولادته. إنه فيلم يحمل نفس اسم المرأة "فيلومينا"، ويحكي حكاية مأساوية عن إجبار الأمهات الصغيرات على التنازل عن رضعهن لأنهن حملن خارج نطاق الزواج. 

أطلقت عليهم كلاريسا بنكولا "ذوي الأرواح المجروحة والمهملة" في كتابها، هؤلاء الذين عانوا من الإجهاض، أو من فقدوا أطفالهم بعد ولادتهم أيًّا كانت أعمارهم. أخبروا فيلومينا أنها ستنسى لكن ذلك لم يحدث، وظلت تعاني حتى استجمعت قواها، وبدأت رحلة البحث عن الطفل الذي لا بد صار رجلاً ولا تعرف عنه أي شيء. لنصل إلى النهاية الحتمية، مات طفلها أو الرجل الذي كان طفلها، وفي أثناء حياته القصيرة رفضت الراهبة تمامًا أن تصله بأمه أو أن تصل أمه به، في إنكار أمام كليهما أنها تعرف شيئًا عن الآخر.

امتلئت فيلومينا بالحب، حتى إنها سامحت الراهبة. لقد كان حبها لابنها هو الطاغي، لا شيء يهم سوى الحب المقدس بداخلها نحو المولود الذي أُجهض من حياتها. تقول بنكولا: "وجدت خلال سني خبرتي وإنصاتى العميق إلى الناس الذين يتحدثون عن رحلة النفس، أن الروح تظهر متى امتلأت بحب وشيك. وتعني كلمة "وشيك" أننا "محملون بالربيع" لنحب، أن ربيعنا "على وشك أن يحدث" في أي لحظة. فمعظمنا مجهز داخليًّا على أن يقفز إلى الحب، وعلى وجه الخصوص للضعفاء والجميلين والمحتاجين والأقوياء والمتحدين وأي شيء وكل شيء. يقول البعض إننا مختلفون عن الحيوانات بسبب قدرتنا على التفكير أو الضحك. ربما أوافق. لكن الأمر أبعد من ذلك، فنحن ربما نكون المخلوق الوحيد ــ إلى جانب الكلاب ــ الذي لديه القدرة الداخلية والطاقة أن يحب فجأة وبصدق وإخلاص وعمق وقوة الحياة في أية لحظة. فبالرجوع إلى الصدق مع النفس، نحن نحب بسهولة جدًا".

بنكولا ذاتها، كما ذكرت بالكتاب، عانت من حمل غير متوقع خارج إطار الزواج في بداية حياتها واضطرت إلى الاستسلام القسري بتسليم طفلها فور ولادته. تحكي عن مقابلتها للشاعرة الأمريكية جويندولين بروكس في رحلة على الطائرة، سيدة ضئيلة الجسد، كبيرة السن، حاصلة على جائزى إلينويز لكن الأكثر من هذا، شاعرة الشعب. كتبت عن أناس يشبهوننا، محملين بالفقد والخسارة، أناس من طين، لديهم نظارة مكسورة وأحلام ضخمة. تكلما معا والتقطا أطراف الحديث عن كل ما يخص هموم المرأة، قرأت عليها بروكس قصيدة "الأم" وهي القصيدة التي كهربتها وعنت قدرًا عظيمًا للأمهات غير المتزوجات اللواتي قرأتها لهن، لأنهن تعرضن لنفس الضغوط القاسية لتسليم أطفالهن. كلهن فيلومينا بتجارب وأشكال مختلفة.

أصدق أن بنكولا مسكونة بتلك الأرواح. عملت طول حياتها أخصائية اجتماعية وقصاصة تجمع الحكايات من أقاصي الأرض وأدناها. في كتابها "نساء يركضن مع الذئاب" تحكي "لقد تعلمت من حياتي أنه من الممكن استرجاع الحيوية الواهنة في النساء بالدراسة والفحص الدقيق لحفريات الروح والنفاذ إلى الحطام الباقي لعالم المرأة السفلي.. بحثت عن الأرواح عبر الزمن وتتبعت الأساطير والحكايات فعرفت أن المرأة البرية كانت "النهر أسفل النهر" في الثقافة الإسبانية، وهي "لا لوبا - المرأة الذئبة" في المكسيك، و"أنثى الغابات والذئبة" في المجرية، وفي نفاجو هي "المرأة العنكبوت التي تنسج قدر البشر والحيوانات والنباتات والجماد"، وفي جواتيمالا هي "المرأة التي تعيش إلى الأبد"، وهي "المقدسة" في اليابانية مصدر كل الضياء وكل الوعي، وفي التبت هي "القوة الراقصة" صاحبة البصيرة الثاقبة داخل المرأة. 

سكنت كل هذه الأرواح وبحثت عن الحكايات على موائد الطعام وتحت أشجار العنب وفي مزارع الدواجن وحظائر الماشية وفي أثناء ضرب عجينة الفطائر وهي تقتفي آثار الحياة البرية، كذلك وهي تلضم بإبرة التريكو الغرزة المليون".

تخبرنا عن الأم المقدسة، حيث كانت الآلهة صورًا مختلفة من الأم الكبرى في العصر الحجري، ومع تعلم الإنسان الكتابة أخبرنا بأسمائها، وقدمها في فنونه بطرق مختلفة، مرة أم حبلى ومرة أخرى سيدة تمسك صدرها مصدر العطاء. تلك المرأة التي كانت منبع الحب والحياة والخصوبة هي منبع كل الديانات، وظهرت في عدد من الأساطير القديمة، في بابل كانت عشتار، ولدى الإغريق كانت جيا ورحيا وأفروديت، وعند العرب اللات والعزى ومناة وفي مصر القديمة نوت وإيزيس وسخمت. 

يقول فراس السواح "أما الأم الكبرى أو القوة الإخصابية الكبرى المتمثلة بإلهة الحب العذراء، فقد حلت محلَّها مريم العذراء، التي سميت بسيدة السماء، وهو اللقب الرئيسي للإلهة عشتار. وحتى وقت قريب كانت السيدة مريم تدعى في بعض المناطق الريفية في إيطاليا الجنوبية بـ "أفروديتا" نسبة إلى أفروديت (وهو اسم الزهرة عند الرومان)، كما كانت تماثيل الإلهة ديمتر (اسم الزهرة عند اليونان)، تُعبد على أنها السيدة مريم ذاتها.

والغريب أننا إذا اتبعنا اسم السيدة مريم عند الرومان، سنجده لقب كوكب الزهرة "ماري"، فقد اعتبرها هؤلاء نقلا عن الفينيقيين آلهة البحر في اللاتينية. وأشار العقاد إلى أن "ماريا" و"ماري" و"مار" واللغات المشتقة منها هو اسم عام يطلق على آلهات الخصوبة. فهو ذاته "مايا" في الهند و"ميرها" في اليونان، وجميعهم يبدأون بميم الأمومة، رمز الأمومة الأكبر.

وبالعودة إلى "إطلاق الروح البرية للمرأة"، تحكي بنكولا عن معجزات الأم المباركة، معجزات صغيرة وكبيرة توزعها هنا وهناك على طول الطريق. البنّاء الأخرق السكير التي استعانت به لبناء تمثال صغير رمزي للأم المباركة بحديقة منزلها. كان رجل لا تكف قدماه عن الاهتزاز، يبلغ من العمر نحو خمسة وأربعين عامًا، على الرغم من أنه بدا وكأن عمره تسعمئة سنة، له بشرة مثل فطيرة معجونة وشعر قذر، وشعيرات لحية رمادية وبنية غير محلوقة نبتت جميعها في اتجاهات مختلفة. ومثل كل الرجال السكارى المزمنين، هو أيضًا تفوح من مسامِّه رائحة الخمر القوية، حتى حينما يكون متزنًا اتزانًا متفاوتًا لبضع ساعات. فالأجساد العجوز لا تستطيع في الغالب أن تتطهر بسرعة كما كانت تفعل من قبل، فتعلق رائحة عفن التربة مع عفن أوراق الشجر بالشخص، مثل سحابة محملة بعرق حمضي مختلط برائحة الويسكي. 

شرب كل شيء: بلكي وتيكيلا وروم وشوتس وشوترز وكيجرز ومونشاين. ومثل كل الأرواح المصابة بهذا الداء، لم يقابل أبدا شيطان الكحول ليتحدث بالكلام المعسول من داخله ولو ساعة بنصف وعي.

بدءا العمل بتبادل الحديث والحكي، تقول بعد عدة لقاءات: "عندما أخبرته بالقصص عن "أمنا المباركة أو جوادالوبي"، غيرنا طريقنا بدلًا من المقابلة في بار "الجراح القديم" إلى المقابلة على مائدة من خشب البلوط الأصفر في مطعم بجوار الحانة. أستطيع رؤية أن الحديث عن "سيدتنا"، كان هو سبب هذا التقدم الصغير من الشرب فقط إلى الطعام الفعلي والشراب".

 "وبمجرد أن أضئت نور ألغاز قصص "جوادالوبي"، اتخذ البنَّاء المظهر الحقيقي لطفل بدلًا من دب السيرك المدحور. هذا الحب. كنت فوق رأسه حينما كان يهمس للأحجار وهو يمدِّدها: "هذا من أجلنا، من أجلها". وها هو ذا الآن يتحدث إليها بعد ما أبدعها: "هناك يا عزيزتي... هناك وهناك"، وهو يربت بالجص فوقها برفق، وينحت منها بملعقة خشبية صغيرة حينما يحتاج إلى تشكيل الأجزاء الأكثر جمالًا. لقد اجتاحته الرقة. الكبرياء. الرغبة في أن يُرى بكل جروحه، الشجاعة في أن يُرَى في لينه. كانت هذه هي دواخله، التغيرات المحققة التي بدأت تتوهج فيه نحو الخارج حينئذ". 

كما تحكي عن تجربتها بالعمل في السجن برهافة شديدة "كنت سأعمل هناك مستشارة جديدة للمرة الأولى، ومدرسة لثلاثة فصول تعليمية في السجن للمراهقات، أعلمهن الشعر، والطهو، والعلاقات الجنسية. كنت أبلغ من العمر ستة وعشرين عامًا، والسجينات ما بين اثنتي عشرة وثمانية عشرة. كانت الطفلات محبوسات بسبب السرقة والمخدرات، أو لأنهن هاربات مزمنات. كان بعضهن خطيرات على أنفسهن، وبعضهن الآخر خطيرات على الآخرين. وأخبروني أن الكثيرات منهن كن قساة باردات تمامًا. لكن حينما نظرت حولي، رأيت أن معظمهن طفلات كسيرات القلوب، مجرد أطفال". حاولن تخويفها، وأدارت الفتيات الموشيات بالتاتو على أجسامهن ظهورهن لها وأطلقن أصوات نعيق الغربان حين أشارت لهن بالانتباه. فبدأت معهن بقراءة الشعر الصوفي والقراءة عن النساء المقدسات، طال الوقت لكنهن في النهاية كتبن عن الطيور والحرية وعن اليوم الذي سيغادرن المؤسسة. كانت الروح تنساب من كلماتهن وخطوطهن اليدوية.

استطاعت من خلال السيدة المباركة الحفر في نفوسهن وتعليمهن الجنس عن طريق الشعر والطهو وتحرير أرواحهن وأنفسهن من السجن، بعد أن كانت فاقدة الأمل وحزينة. مشت مع جوادالوبي عبر الطريق السريع حيث ثمانية ممرات للسيارات غير واضحة بعد جسر عتيق. وهناك أتمت صلاتها وتشاورها مع الأم، ثم عادت مفعمة بالأمل لمساعدتهن.

أنه كتاب عن الطفولة المرعبة، المراهقة التي عانينا منها ونزفت داخلنا، والحياة التي أغرقتنا تمامًا. تقول بنكولا:

الغريق في جب صخري

غطسنا هناك... 

آلاف المرات،

كنا فتيات صغيرات

جلسنا هناك على شعاع

من أشعة الشمس، أفخاذ متجمدة،

مايوهات باردة 

مثل الطين الرطب. 

راقبنا

كيف تجنح الرمال، 

كيف تتحول المنخفضات، 

كيف يتحول كل شيء وكل فرد

أسفل الشاطئ في المياه. 

لكن في يوم من الأيام، جرى رجل ـ 

غريب على المياه الكبيرة ـ

حافي القدمين 

وغاص الرجل رأسًا 

إلى مياه البحيرة المتغيرة والمتبدلة. 

فجأة، انطلقت مني صلاة شرسة

وألقيت مسبحتي بكل قوتي

عبر الأمواج...

وفي لحظات خاطفة، تعلقت الأم العذراء 

بالهواء.

أخيرًا، الحارسة الوحيدة،

عريضة مثل شريحة شواء، 

أخيرًا بحثت،

حمت عينيه. 

قفزت من برجها الخشبي الطويل، 

تجري في الماء، 

لتصل إلى الغريب الذي 

طفا مع رأسه

حاولت كبيراتنا إبعادنا سريعًا 

كي لا نرى 

أي شيء ـ 

بعد أن رأيت تمامًا

كل شيء. 

كنت الروح الأخيرة على الأرض

التي رأت هذا الرجل يجري

على قدميه قبل الغرق..

توسلت إليها: دعي الغريب

يبقى فوق الماء

حتى تأتي المساعدة!